|
الإسلام .. والعنف!! الحلقة الثالثة _ بدايات الرسالة
بير رستم
كاتب
(Pir Rustem)
الحوار المتمدن-العدد: 4842 - 2015 / 6 / 19 - 13:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن المجتمع القريشي وكما رأينا سابقاً قد عرف عدد من الديانات والثقافات والآلهة؛ حيث كانت الكعبة تضم أكثر من ثلاثمائة إله/صنم حيث يقول (د. راغب السرجاني) في دراسة له بعنوان "إسلام مكة" التالي؛ "كانت الأصنام كثيرة حول الكعبة، فقد كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وكانت موزَّعة حول الكعبة وفوقها وداخلها، غير هُبَل أعظم آلهتهم"(8) وأيضاً كان (اللات والعزة ومناة) وكذلك "الله" نفسه كان من أحد آلهة الكعبة وعلينا أن لا ننسى بأن والد صاحب الرسالة المحمدية كان من أتباع ذاك الإله وقد كني به وسمي بـ"عبد الله" كما إخوته وأبناء قبيلته ممن سموا بـ(عبد الصمد وعبد العزة وعبد اللات) وذلك بحسب الولاء والإتباع للإله الذي تختاره. وهكذا فقد تعددت تلك الديانات والآلهة بين التوحيد مثل الحنيفية الإبراهيمية والطوطمية إلى الأصنام وعبادة الكواكب والنجوم وقد كان المجتمع القريشي وبحكم موقعه الجغرافي ووقوعها _أي مكة_ على طرق القوافل التجارية مرشحة لأن تكون مركزاً لتلاقح الثقافات والمعتقدات الدينية وبذلك فقد إجتمعت في هذه الحاضرة ما لم تجتمع في أي مدينة أخرى حيث تلاقحت معتقداتها الدينية الطوطمية الأولية مع عدد من الديانات الوافدة عليها لتكون مركزاً حضارياً آخر في العالم القديم .. وهكذا فإنه يتأكد لنا بأن حياة قريش، لم تكن حياة جافة "جاهلية" كما يروّج لها بعض علماء الإسلام للتقليل من شأنها وليرفعوا من شأن ومكانة الرسالة المحمدية، بل كانت حياة ثقافية زاخرة بالكثير من الأديان والمعتقدات والثقافات المتنوعة. وبالتالي كانت مرشحة لأن تكون لها دوراً حضارياً مهماً في تاريخ المنطقة _والعالم لاحقاً_ ومن المعلوم كذلك؛ فقد سبقت الرسالة المحمدية عدد من المحاولات النبوية لكن ولضعف الظروف الموضوعية ولأسباب تتعلق بالكاريزمات الشخصية لم تكتب لها النجاح، إلى أن جاءت تلك الكاريزما القادرة على حمل العبأ الثقافي الديني لمجتمع يتوق إلى تبوأ مركز حضاري بعد أن توفرت الشروط الموضوعية من إقتصاد مديني مركزي ونخبة ثقافية كهنوتية مع السيادة القريشية والتي أجتمعت في لحظة تاريخية وشخصية ملحمية فذة ستثبت الأيام بأنه كان الأكثر قدرةً وتأهيلاً لحمل العبأ وذلك بعد أن تشبع بثقافة البداوة وحياة الصحراء والبلاغة في طفولته وتوّجها بثقافة دينية في مرحلة الشباب من خلال عدد من المعلمين؛ مثل الراهب بحيرا والذي تعرف عليه من خلال رحلات التجارة لبلاد الشام عندما كان يقوم وكيلاً على تجارة "خديجة"؛ زوجته الأولى _لاحقاً_ وكذلك الدور المحوري الذي سوف يلعبه القس (ورقة بن نوفل) في حياة "النبوة والرسالة"، وإننا سوف نجد الدور المحوري لهذا الأخير مع السيدة والزوجة الأولى (خديجة) في قضايا الوحي والرسالة. بالتأكيد أن هكذا مجتمع متعدد الآلهة/الأصنام والأفخاذ سيكون من الصعوبة أن تلغي كل هذا الإختلاف والتنوع دفعةً واحدة وبالتالي لا بد من أن تكون مقارباتك له؛ أي لذاك المجتمع ولتغيير معتقدات الآباء والأجداد من خلال القول الحسن والكلمة الطيبة والحوار الفكري العقلاني _وخاصةً في بدايات الحركة الجديدة_ بل وسوف تتحمل الكثير من الإهانات والتحقير وذلك لكي تزرع بذور فكرتك ودينك الجديد داخل الكيان الإجتماعي المتحصن بالكثير من القيم والقناعات الدينية المتجذرة، وإننا سوف نجد الكثير من الأمثلة على هذا النهج في الخطاب والشخصية المحمدية في بداية "الرسالة النبوية" كما نجدها في الآية التالية؛ "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا" (سورة المزمل - الآية7)(9) وهي من الآيات والسور الأولى والتي "نزلت" في مكة أو قُرِأَت على لسان الوحي حيث نجد هنا كم هو خطاب مرن ومهادن، بل ربما البعض يسميه خطاباً إنهزامياً بلغة العصر والسياسة حيث الصوت الخافت والضعيف والدعوة إلى الصبر على ما يقولون، بل الهجران عنهم وحتى في ذاك _أي الهجران_ يجب أن يكون هجراناً جميلاً لا فجاً غليظاً. بل إليكم مثالاً أخراً عن خطاب المهادنة والقبول بالرأي الآخر ووجوده وفي أكثر صور التجلي عن القبول بالتعددية العقائدية والإلهية في المجتمع القريشي وقبول المحمدية بذلك حيث تقول الآية؛ "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (سورة الكافرون - الآيات 1_6)(10). فهل هناك أكثر من هكذا حرية في الرأي والتعبير والقناعات الدينية؛ "لكم دينكم ولي ديني" وهي إحدى أبرز التجليات الديمقراطية بتعبير اليوم حيث لا عنف ولا إكراه ولا "تكفير" للآخر وبالتالي لا حدود ولا نحر للكافر والمشرك فلهم "دينهم" ولا يجبر الآخر على إعتناق الإسلام .. وللعلم هناك فرق بين الإسلام والمحمدية؛ حيث الفترة الأولى تميزت بالتبشير والدعوة المحمدية وعندما أنتقلت الدعوة للمدينة وأصبح الدين الجديد يؤسس لمرحلة الدولة، أنتقلت الدعوة من التبشير إلى الإكراه والتسليم له وبالتالي تنتهي المرحلة المحمدية لتبدأ المرحلة الإسلامية. وهكذا وعندما ننظر لهذه الآيات التي جاءت في بداية الرسالة والدعوة سوف نجد أن الخطاب يتمتع بالكثير من المرونة وتقبل الرأي الآخر وذلك دون إكراهٍ للمشركين لترك "دين الآباء والآجداد" وإجبارهم على الدخول إلى الدين الجديد، بل إنه يدعو إلى نوع من التعايش السلمي والقبول به كجزء من الثقافة الدينية ومبشراً لعقيدة جديدة وبالتالي لا "إسلام ولا تسليم ومسلمين" حيث ليس هناك القدرة على إكراه الآخرين بحد السيف لكونه لم يكن قد ملكها بعد، بل إنه يتركهم على دينهم القديم ويطلب أن يقبلوا به كما هو يقبل بهم وفي ذلك يقول (تفسير الجلالين): "لكم دينكم (الشرك) ولي دين (الإسلام) وهذا قبل أن يؤمر بالحرب وحذف ياء الإضافة القراء السبعة وقفاً ووصلاً وأثبتها يعقوب في الحالين"(11). وبهذا يفسر الجلالين وبما معناه؛ بأن الآية كانت صحيحة لمرحلة ولظروف معينة وقد نسخت بما جاءت بعدها من آيات تأمر بالجهاد والحرب. وبهذا المعنى فلا قدسية وقداسة للنص القرآني وذلك عندما نقول؛ بأن تلك الآيات كانت صحيحة فقط لمرحلة تاريخية مع العلم أن المسلمين قد برروها من خلال قضية النسخ في القرآن والتي تقول؛ "النسخ في اللغة لمعنيين : أحدهما : التحويل والنقل ، ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب . والثاني: الرفع ، يقال نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته . والنسخ في الاصطلاح : هو إزالة ما استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخياً لولاه لكان السابق ثابتاً والنسخ في القرآن على وجوه ، أحدهما : أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال ومنها أن ترفع تلاوتها أصلاً عن المصحف وعن القلوب ، كما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن قوماً من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم : "تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها"(12). وهكذا فقد أنطلق المسلمين من تلك القاعدة الفقهية والتي تعطيهم الحِلَ عن الإلتزام ببعض الأيات وذلك من خلال قضبة النسخ والتي هي أساساً إحدى الإشكاليات العقائدية والفقهية حيث تعني في إحدى معانيها ومدلولاتها _عندما نقبل بالنسخ_ بأن الإله نفسه يقع في القراءات والأحكام الخاطئة وبالتالي يستدعي النسخ والتراجع عن بعض الأحكام السابقة بأحكام جديدة وهذه منافية للذات الإلهية وفق التعبير اللاهوتي الكهنوتي حيث عندها يكون؛ لا فرق بين الرب والإنسان. الهوامش: 8- دراسة للدكتور راغب السرجاني بعنوان "إسلام مكة" منشور على موقع (قصة الإسلام). 9- كتاب المصحف القرآني (سورة المزمل - الآية7). 10- كتاب المصحف القرآني (سورة الكافرون - الآيات 1_6). 11- كتاب "تفسير الجلالين" لمؤلفيهما؛ جلال الدين أحمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. 12- موقع إسلام ويب؛ "معنى النسخ وأنواعه في القرآن الكريم".
#بير_رستم (هاشتاغ)
Pir_Rustem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الانتخابات البرلمانية
-
صراع على السلطة أم اختلافٌ في الرؤى والبرامج
-
القيادة.. هل هي سلطة أم مسؤولية؟
-
لوثة الكتابة
-
زمن الإنقلابات
-
حزب العمال الكردستاني بين -دار السلم والحرب-
-
المخاض والولادة(بعد 11 سبتمبر)
-
الأوطان أم الأوثان
-
الخطاب العربي والقضية الكردية- 7
-
حوار مع الكاتب الكردي بير رستم
-
قراءة في منهاج البارتي
-
إعلان دمشق والمسألة الكوردية
-
القيادات الكورية والقراءات السياسية
-
المجتمع المدني بين الثقافي والسلطوي
-
وطن وقضايا
-
قضية وحوار
-
تحية حب للأخضر العفيف
-
الخطاب العربي والقضية الكوردية
المزيد.....
-
الإدارة الروحية لمسلمي روسيا: الهجوم على أفراد الشرطة في داغ
...
-
قائد الثورة الإسلامية يعود آية الله نوري همداني
-
من سيكون بابا الفاتيكان المقبل؟ ترقب قبل أيام من بدء أعمال م
...
-
البابا فرانسيس أوصى بتحويل -عربته- إلى عيادة لعلاج أطفال غزة
...
-
الحاج بدر أبو اسنينة.. 47 عاما في حراسة المسجد الأقصى
-
مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية يدعو مجلس النواب للتصويت ب
...
-
صحيفة روسية: باريس وواشنطن تخوضان صراعا في الفاتيكان
-
تنزيل أحدث تردد قناة طيور الجنة 2025 DOWNLOAD TOYOUR EL-JAN
...
-
’إيهود باراك’ يدعو إلى عصيان مدني لإنقاذ الأسرى والكيان من ’
...
-
ما قصة الحرس السويسري ذي الملابس الغريبة؟ وكيف وصل إلى الفات
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|