حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4832 - 2015 / 6 / 9 - 12:48
المحور:
مقابلات و حوارات
العلاقة العائلية مع نصير السلام العلامة الشيخ عبد الكريم رضا الماشطة (1881-1959)
كان أبي يرتبط بعلاقة صداقة و جيرة حميمية و وثيقة مع الشيخ الجليل العلامة عبد الكريم الماشطة ، جارنا في محلة جبران ، و أحد مؤسسي حركة أنصار السلام في العراق ، و الذي كان لديه ديوان أدبي عامر في نفس المحلة تتوافد عليه العديد من الشخصيات الوطنية العراقية من مختلف أرجاء العراق . و في مثل هذه المناسبات ، كان الشيخ - و هو الخطيب المفوَّه - يُخصص أمسية في ديوانه للضيف الكريم الوافد عليه ، يجري خلالها الترحيب و التعريف به أولاً ، ثم يُعطى له المجال للكلام في الموضوع أو الحقل العلمي أو الأدبي أو السياسي الذي يبرع فيه ، و من بعده يتداخل المتداخلون من الحضور في مناقشات و حوارات ثرية و رائقة و واسعة الأفق . و كان من عادة الشيخ اختتام تلك الأمسيات بكلمة يوجز فيها بذكاء هادئ عجيب زبدة الموضوع و استنتاجاته . رحم الله الشيخ عبد الكريم الماشطة ، رائد السلام و التقدم ، ذا العقل الجبار .
و بحُكم صلات الجيرة ، و تطبيقاً للعرف الاجتماعي القائل بأن "صغير القوم خادمهم" ، فقد كنت أتولى بنفسي - خلال الأعوام 1952-1956 - المساهمة في خدمة ضيوف الشيخ بتوزيع الماء عليهم في مثل هذه المناسبات . و من الشخصيات العراقية العديدة جداً التي أذكر زيارتها لمضيفه خلال الفترة المذكورة : الزعيم الوطني العراقي كامل الجادرجي ، و الشاعر حسين مردان ، و عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي ، و الرفيق الدكتور رحيم عجينة ، و عالم الآثار الحلي الدكتور طه باقر .
و كان رجال الأمن يلازمون الشيخ عبد الكريم الماشطة كظله في حِلِّه و ترحاله . و حيث أن الشيخ كان حريصاَ على تولى التسوق لعائلته بنفسه يومياً ؛ لذا ، فقد كان مضطراً للذهاب صباح كل يوم للسوق الكبير يحيط به رجال الأمن . و عندما ينتهي من شراء اللحوم و الفواكه و الخضر ، فقد كان يعمد إلى الطلب الأبوي من رجال الأمن أنفسهم توصيله مع سلال مشترياته إلى داره كما لو كانوا أبناءه أو أصدقاءه ، فيتولى هؤلاء راغمين حمل السلال له احتراماً منهم لشخصه المهيب .
الاعتقال الثاني
بعد خروجي من المعتقل ، بدأت بخط شعارات الحزب بالزيت و الطباشير على جدران البيوت الحلية ، يساعدني في ذلك الرفيق المرحوم صاحب نزر الذي كان يتولى حمل "العدة" ( و تشتمل على السلم خشبي و علب الأصباغ و الطباشير و الفرش ) و مراقبة خلو "الجو" من الجواسيس . و أتفقنا على أن ندَّعي بكوننا عامِلَي صباغة ذاهبين للمَسْطر ـ في حالة اشتباه أحدهم بنا . و كنت أستمتع خلال تلك الطلعات بالتمرن على الخط على الحيطان ، حيث كنت قد اجتزت بنجاح قبلها - خلال العطل الصيفية - دورتين تعليميتين في الخط العربي نظمها مجاناً لعدد من الطلاب المتميزين معلم الخط الفذ الأستاذ الفنان المرحوم : عبد الله السِنْجاري .
كنا نخرج معاً قبل الفجر حسب الموعد المتفق عليه كي لا ينتبه إلينا أحد ، و الناس نيام . و نختار محلة بعيدة عن محلة الطاق للكتابة على الجدران الملساء و البارزة لدوْرِها و مَحالِّها التجارية ، مثل : عقد الكيّالين أو التَّعيس أو الجامعين أو جبران ، لكي نُبعد الشُبهة عنّا . و كانت الشعارات التي أخطُّها متنوعة و حسب المناسبة ، و منها : "لمن نريد الخبز ؟ لمن نريد الحياة ؟ للناس الجياع !" ، و "تسقط الأحلاف العسكريّة الاستعماريّة " ، و "تسقط حكومة نوري السعيد" .. الخ .
و في فجر يوم عيد العمال لعام 1957، توجَّهت أنا و الرفيق صاحب نزر في الساعة الرابعة و النصف نحو محلة التعيس البعيدة بغية خط شعارات الحزب على جدران بيوتها ؛ و ذلك بعد قيامي باستطلاع حيطان المحلة في اليوم السابق ، و اكتشافي وجود ثلاثة جدران "متميزة" فيها خالية من شعارات الحزب تناديني لتطريزها بهتافات الحرية . و فيما أنا منهمك بالخط على آخر تلك الحيطان متسلقاً السلَّم ؛ فجأة ، تناهى إلى سمعي خطى شخصين يخرجان مهرولين من زقاق جانبي قريب جداً و يصرخان بنا : قف ! سلِّم نفسك للشرطة !
عندها ، قام الرفيق صاحب نزر برمي علبة البوية الحمراء باتجاههما ، و لاذ بالفرار كما لو كان أسرع العدائين في سباقات المائة متر . و ما أن نزلت من السلم ، و بدأت بالركض ، حتى قام رجل الأمن : عمران السرّي - الذي كان متنكراً في حينها بالزبون والعقال و العباءة ، و يتمنطق بالمسدس - برمي عصاه بين ساقيَّ ، فتعثرت بها ، و انكببت أرضاً على وجهي ؛ فامسك بتلابيبي هو و مساعده مسلم السرّي ، و راحا يوسعاني ضرباً و شتماً ، و اقتاداني إلى المعتقل ، حيث قام هناك أحد جلاميز الأمن بضربي على أصابع يدي اليمنى بالعصا جزاءً قيامي بالخط بها . و بقيت في المعتقل ستة عشر يوماً . و قد قام خلالها كل من رجلي الأمن : رشيد الأدمس و فاضل جرادة بدهم دارنا ، وصادرا و مزَّقا بعض الكتب في مكتبتنا ، على نحو كيفي ، و منها مؤلفات الدكتور علي الوردي و روايات الأدب الروسي . و لحسن الحظ ، فإنهما لم يعثرا على الأدبيات الماركسية و الشيوعية في دارنا ، حيث كان شقيقي المرحوم طالب قد سبق له و أن تولى إخفاءها بمعرفته في حينها تحسباً لعمليات الدهم ، بعد أن أصبحت المحلة كلها تعرف بأن بيتنا هو : "بيت شيوعيين" .
و منذ اليوم الأول لتوقيفي الثاني ، إكتشفت أن رجال الأمن كانوا متيقنين من هوية رفيقي و صاحبي المرحوم صاحب نزر الذي أفلت يومها من قبضتهم ، و سألوني عنه ، فأنكرت معرفتي بي . و بعد يومين ، اعتقلوه هو الآخر ، و جلبوه أمامي للتعرف علي ، فأنكر معرفته بي تماماً بعد أن بحلق أمامهم بوجهي طويلاً ، للتمويه .
ثم عمد والدي إلى ترجّي جارنا التاجر الحلي المعروف المرحوم : عبد الغفار الشهيِّب - والد : الأستاذ وليد الحلي - للتوسط في كفالتي و إطلاق سراحي من المعتقل ، و هذا ما حصل ، و أنا شاكر لصنيعه الجميل و وفائه لحق الجيرة . أما الرفيق البطل صاحب نزر ، فقد تأخر إطلاق سراحه بعدي بإسبوع .
الانتقال إلى بغداد
و بغية الابتعاد عن عيون رجال الأمن الذين باتوا يعرفونني حق المعرفة ، فقد تركت الحلة إلى بغداد في نهاية عام 1957 ، للسكن مع شقيقتي الكبيرة (أم أحلام) في محلة الوشاش أولاً ، و من بعدها في محلة الشوّاكة . و اشتغلت عاملاً مؤقتاً بإجور يومية في محطة الإذاعة و التلفزيون العراقي ، وذلك بفضل وساطة قريبي و زوج شقيقتي ، مأمور مخزن الإذاعة ، المرحوم : جاسم حكمت الأسدي . أما مساءً ، فقد كنت أواصل دراستي المتوسطة . و في دار الإذاعة العراقية تعرفت على الغالبية العظمى من الفنانين العراقيين من المطربين و الملحنين و الموسيقيين و المذيعين و المخرجين و العاملين فيها آنذاك . و لكنني ارتبطت بعلاقة صداقة وثيقة مع الموسيقار الكبير المرحوم أحمد الخليل (ملحِّن النشيد الوطني العراقي الحالي : موطني) الذي كان يستضيفني في داره المطلة على دجلة في محلة الصالحية ، مقابل دار الإذاعة ، و الذي عرفت فيه مبدعاً شفَّافاً ، جمَّ الأخلاق ، و كريم النفس .
و في بغداد ، شاركت في كل المسيرات الضخمة للحزب و حركة أنصار السلام للفترة من 1958-1962. و اذكر أن من بين أهازيج المتظاهرين فيها أهزوجة تقول :
إحنا أنصار السلام ،
دوم ندعوا للوئام ؛
خبز للعالم نريد ،
تحرروا الـﭽ-;-انوا عبيد !
و كان تلك المسيرات الجماهيرية الضخمة يسودها الاندفاع و الحماس و التطلع المشروع إلى مستقبل أفضل لكل العراقيين ، و لهذا نجد أن المواطنين البسطاء المشاركين فيها كانوا يتوافدون على نفقتهم الخاصة من كل الألوية إلى بغداد ، فينصهرون معاً في بوتقة واحدة ، و يتبارى فيها الشعراء في ارتجال الأهازيج ، و منها :
علهودَلك ، علهودليّه :
ثورة كريم البلشفيّه .
ثورة كريم الجابته ؛
ثورة أكتوبر نادته :
لو ذبّوني بالقبر ،
أهتف : فلتحيا الشيوعيّه !
و أذكر أن المهوال الحلي / حسن الحاج شكر - و هو عامل خبازة - إرتجل الأهزوجة الذكية الآتية - و التي رددتها بعده الجماهير الصاخبة المحتشدة أمام المنصة عندما كان الزعيم عبد الكريم قاسم يخطب من فوقها في ساحة الميدان بداية عام 1960 :
كل ما نطالب بشغل ؛
كل ما نطالب بالعمل ؛
قالوا : شيوعي ، بالعجل !
لا إله إلا الله ؛
حيّا على خير العمل !
و هي توضح مدى عفوية الجماهير ، و كم يُحفِّز فضاء الحرية مَلَكة الإبداع عند البشر ، و كيفية أمكانية توظيف الجوانب التقدمية في الثقافة الدينية لخدمة قضية تحرير العمل .
عندما أستعرض في ذاكرتي ذلك الحلم الجبار للشعب العراقي في السلام و التقدم الذي حررته ثورة 14 تموز ؛ و هو الحلم الموؤود ظلماً و عدواناً ؛ و كم من الشهداء العراقيين الشرفاء الأبرياء الذين سقطوا و يسقطون ، و تهجَّروا و يتهجَّرون ، على مذبحه ؛ و حجم الدمار النفسي و المادي الذي حصل و يحصل للعراق منذ 1963 و لحد الآن ، أدرك مدى هول الجريمة المقترفة بحق ماضي و حاضر و مستقبل هذا الشعب الطيِّب المعطاء . و كلنا يعرف الآن من كانوا وراء تلك الجريمة التاريخية الكبرى المتوالية هندسياً : إنهم ليسوا سوى دمى الإمبريالية من إمَّعات حكام الجوار ، و تجار الحروب و أمراء الإبادة الجماعية من الفاشيين ، بغض النظر عن يافطاتهم المزورة : من البعث إلى الأمريكان إلى داعش و من لف لفهم ، و من سيأتي بعد داعش ، و الذين كنسهم و يكنسهم التاريخ بعد أن يجللهم بالعار و الشنار مثلما يحصل لكل أعداء الحرية و السلام و الحياة و التقدم للشعوب .
يُتبع ، لطفاً .
الحلة ، 8 حزيران ، 2015 .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟