أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون النص الكامل النهائي















المزيد.....



الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون النص الكامل النهائي


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4768 - 2015 / 4 / 4 - 19:31
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الروايات (18)



د. أفنان القاسم


الحياة والمغامرات الغريبة
لجون روبنسون
LA VIE ET LES ETRANGES AVENTURES
DE JOHN ROBINSON

رواية جديدة لحي بن يقظان


المِصراع الثاني من رواية أبو بكر الآشي
وارث الحب الخالد


صدرت بالفرنسية دار لارماطان باريس 2003





















إلى ميشيل سير
إلى جورج زيناتي























في روبنسون كروزو، يتناول دانيال دوفو موضوعة استوحاها من حي بن يقظان، غير أنه يبقى متأثرًا بطهرية عصره، ونبقى سجناء المغزى الفلسفي للحكاية الهندية، الأساس الأول للرواية، فما تبدل إلا الديكور.


























القسم الأول











1

اسمي جون روبنسون. لا أعرف من أين جاء هذا الاسم، ولا من أين جئت. قيل لي إن أمي ماتت يوم مولدي، وإن أبي كان مطاردًا من طرف الشرطة قبل أن يُقتل في ظروف غامضة. لم يكن موت أبي شيئًا كبيرًا، شيئًا كثيرًا، وعلى العكس، كان موت أمي أمرًا لا يحتمل، بسببي ماتت، وبسببه مات. حقدت عليه لأنه تركني أقتل أمي ليبقى حيًا، فيفعل ما يفعل. كم مرة تمنيت موته. كم مرة حاولت قتله. كم مرة أجلت قتله. كان أبي عاري إلى درجة كنت فيها فخورًا، وهو يسطو على البنوك، وهو يمارس الفجور، وهو يخضع النجوم. على الرغم من سلوكه المقزز، لم يكن شخصًا عاديًا. كانت غلطته الوحيدة، الكبيرة، الفظيعة، أنه جعلني أقتل أمي يوم مولدي، وأن يذلني طوال حياتي. أمي! كانت أمي كل العاهرات، كل الخنزيرات، كل القاضيات، كل أفخاذ الهوى في مانهاتن، وكل الأحلام التي ذبحتُها في المواخير، وكل الأمنيات التي خنقتُها في السرير، وكل التنهدات التي شنقتها في المراحيض، وكل الدمعات، وكل البصقات، وكل الصفعات، وكل الركلات، وكل الطعنات، وكل المخدرات، وكل المسدسات، وكل المؤامرات، وكل العناقات في كل الأوضاع، وكل تعذيبات الجسد حتى الإنهاك، وكل تدميرات الروح إلى أن ينطفئ لهبها في شرخ الإنسان، ينطفئ الإنسان، يبقى بشرًا دون أن يكون بشرًا، حيوانًا يبقى أو لطخة من لطخات رسام، وكل، وكل، وكل الأفعال الأخرى التي يخجل المرء عن ذكرها.
في حربي الأخيرة، أبليت بلاء حسنًا. قتلت من البشر كثيرًا، أكثر مما يلزم، كيلا أتسربل بعار الهزيمة. كان الخوف من الإخفاق هو الذي يدفعني إلى القتل، فالمجد كالعار، في حالة الهزيمة أو الانتصار، تتغطى بهما النفوس الضعيفة. لم أكن مطبوعًا على الشر، كنت الروح الشريرة. سفحت الدم، وجعلت من دم الأعداء نهرًا عمت فيه، وعام فيه معي العالم، فللعالم معي وللعالم ضدي نفس اللَّذة التي لي. لم يكن الانتصار غايتي، كنت بكل بساطة لا أريد الموت، هذا الجحيم الأبيض ليس جحيمي، فالجحيم أسود وأبيض وأزرق وتوت وكمثرى وفستق حلبي، والموت جحيم غائطي. لم أكن أريد الموت الآن، لم يكن الوقت للموت، فماذا أفعل بموتي ومتعة القتل كانت كبيرة، والحياة لابن العاهرة الذي كنته كانت تفتح ذراعيها على سعتهما. لماذا الموت إذن، وفي نعيم الدنيا يعيش القوادون أمتع حياة، وتكون للسفلة أعلى المراتب. لم يكن المال هدف حياتي، ولا أعمدة الكونغرس، كانت الأفخاذ التي تفتح الطريق لفحولتي.
وأنا أذهب من انتصار إلى انتصار، تركني الشعور بالخوف من التسربل بالعار ومن الموت، وأخذني الشعور بالمتعة عند الخطر. الرجل الكبير والقوي اللا يمكن التغلب عليه اللا يمكن ترويضه اللا يمكن قهره كان بالطبع أنا. كان العالم ساحة وغاي. تحت إمرة قوتي وبأسي، كان الناس غنيمتي وسَلَبي. كمن صَدَقَ الوَّد، كمن صَدَقَ الوعد. كنت كالولد الصعب المراس، الصعب الإرضاء، الصعب للغاية. لهذا كانت كل ضحاياي، وكانت ضحاياي معجزاتي. بدأتُ ابنًا للحرب، وانتهيتُ إلهًا للمحاربين.
رُقيت إلى رتبة كولونيل، لكني استقلت، وتركت الجيش. ليس هذا لأنني غدوت أكره السلطة والنفوذ، وإنما بسبب نظرة أحد الذين قتلتهم. كانت عيناه تصرخان بهول الحرب. كانتا تصرخان بكوني المسئول، الممقوت، المرعب. أشعرتني عيناه بذنب لن أقوم منه. حولتني عيناه من مدافع عن الحق إلى مغتصب له. وضعتني عيناه في موقع المسبب للآلام بينما حربي كانت لأجل الحد منها: "أنت المدافع عن الحق، صرختْ بي عيناه اللتان تتعذبان أقسى عذاب، لا تفعل شيئًا آخر غير التمادي في اغتصابه".
كرهت نفسي، وكرهت العالم. بسببي كان العالم يرزح تحت ثقل الخطيئة. قلبت معايير البشر دون أن أرغب. حطمت موازين القوى دون أن أشاء. سحقت نسق القيم دون أن أتمنى. أعمى البصيرة الذي كنت، أعدمت البصائر، قوضت الآمال، ودفعت الناس إلى الاقتتال، في الوقت الذي أوهمتهم فيه بنبل القضية. حرب عادلة، كنت أقول، لمحارب عادل، ابن مومس!
أعطيت نفسي للنبيذ وللهوى. كان سحر النبيذ عليّ عابرًا، وسحر المرأة خالدًا. كان جسدها عبادتي، عناقها صلاتي. كان الثغر والسرة سببيْ وجودي، الساق والثدي ترسي في وجه الحقد والبغض، الاشمئزاز والاحتقار. لم تكن المرأة المتحضرة قادرة على التخفيف عني شيئًا من عبء ذنوبي. كان شَرطي اللازم للخروج مما أنا فيه امرأة متوحشة، شرسة، بربرية، تُرضي شهواتي، تُبقي لَذاتي، تُنهي حسراتي. امرأة تطارد الإله الذي فيّ، وتصرعه، تذله، تجعله قيئًا، تنشره منيًا، تنعظه بولاً، فَتُزكي العفونة. ولكن أين أجدها؟
كان عليّ أن أهجر العالم. كان عليّ أن أهجر العالم الذي كنت أعيش فيه. لم أكن أستطيع التخلص من ضِغني لنفسي قبل التخلص من حقيقتي، ولم أكن أستطيع التخلص من حقيقتي السوداء إلا بالتخلص من عالمي. هجرت العالم إلى إحدى جزر هاواي، هناك حيث يقال إن الأشجار تلد النساء، وليس للنساء من أخوات غير المهوات. مع ذلك، كانت جزيرتي خالية من السكان، ولم تكن للأشجار بطون. لم ألتق فيها سوى بحيوانات أليفة، من بينها الشُّقر مما ندعو، الفهود والأسود واللبؤات، فعجبت لألفة من ورائها الإنسان، ولم يكن في الجزيرة إنسان. لم تتركني الوساوس من الخطأ ولا الجزع من الشُّقر. وحدي في الجزيرة، أحسست بنفسي صغيرًا وضعيفًا. الصخرة التي كنت أستطيع سحقها بإصبع ديناميت بدت لي ضخمة، هائلة الضخامة، حتى أن كومة حصى على الشاطئ كانت أقوى مني. كانت قوة العالم تتجسد في الحجر، وكان الحجر هو العالم، كان وسيكون. كان يهيمن على كل شيء في الجزيرة. كان يهيمن عليّ. أحسست بنوع من الإجلال تجاهه، إجلال ممتزج بالخوف. كان الإنسان والحيوان والحجر خصومي المحتملة، فبنيت بصعوبة تفوق كل صعوبة ملجأ في أعالي "سِكوا"، إحدى الأشجار الحُرْجية. كان الجذع المزدوج لهذه الشجرة عظيمًا، على صورة إله، وكان في غاية القدم، مما أعطاني انطباعًا بوجوده قبل الحجر، غير أنه كان ينحدر بجذره بعيدًا في قلب الحجر نفسه. في الليل، كانت الأمواج توصل إليّ صراخ البشر على الأرض، وكانت الحيوانات تفزع من الصراخ، فتأتي باحثة عن الاطمئنان والأمان تحت جناحي. بعد ذلك، كانت تعود إلى جحورها ومآويها آمنة مطمئنة. أما الطيور، فقد بنت أعشاشها تحت قدميّ. لم أكن أفسر رغبة الحيوانات في حماية سيد لها إلا بالفزع الذي يعتريها، وكنت هذا السيد على الرغم مني. كنت أعالج الحيوانات التي تسقط مريضة، وكنت أغيث منها ما يحتاج إلى عون، وكنت الحَكَمَ في كل نزاع.
شيئًا فشيئًا، نسيت العالم القابع هناك، وجعلت من أقرب الآفاق حدود عالمي. نسيت حربي الأخيرة، ولكني لم أنس الجسد المغري للمرأة. كيف لي أن أنساه؟ رحت أرصد أجساد السماء. لم أعد أنام في الليل، وأنا أراقب النجوم. لم أكن أغمض عينيّ، وأنا أتسلق السلالم المؤدية إليها. لم أكن أخفض عينيّ، وأنا أعوم في بحيراتها. لكني لم أستطع نسيان جسد المرأة. كانت النجوم تذكرني بسرتها، وكانت سرتها تذكرني بثغرها، وكان ثغرها يذكرني بثدييها، وكان ثدياها يذكرانني بساقيها، وكانت ساقاها تذكرانني بسرتها، وكانت سرتها تذكرني بالنجوم. كففت عن النظر إلى النجوم، وأخذت أنظر إلى الأمواج. تابعتها بنظرتي، وهي ترتمي في أحضان الرمل، فثارت فيّ شهوة المرأة المجنونة تلك. أنا الرمل، وهي البحر.
في أحد المساءات، سمعت صوت امرأة تناديني. كان يأتي من البحر، فعدوت باتجاهه، لكنه أتاني من الرمل. التفت إليها، والماء يصل إلى خاصرتيّ، فرأيتها عند ذلك، وهي تقف صامتة. انسكب عليها لجين نجمة تائهة، وأنا لم أعد أنا. كان سواد شعرها يضطرم على كتفيها، فتمنيت لو أَنمحقُ في نار الليل. وكانت لها عين زرقاء وأخرى خضراء، ومن اشتعال الأزرق والأخضر كان لون الجمر. هب الهواء فجأة، فانطفأت، وتحولت إلى تمثال من الحزن. اقتربتُ منها بذراعيّ، فارتعشتْ خائفةً من ذراعيّ. أخذتها بين ذراعيّ، وأنا أحملها، فرأيتني أحمل موتي الذي تركني خلال الحرب. أردت الولادة بين ذراعيها، لكنها كانت بين ذراعيّ جسدًا جامدًا. فتنني جمال الوهم جمالها، فوقعت في غرامها. أردت أن أسأل النار تحت الرماد ما مصير الغرام الذي تحضنُ، لكني خشيت أن أفقدها إلى الأبد. اقتربت بشفتيّ من شفتيها، فذبلت شفتاها، وذابت قبلتي في الهواء.
حيرتني هذه المرأة التي وجدت، امرأتي. كانت حيرتي تأتي من لون وجنتيها الأبيض. أقلقتني هذه المليكة التي استعدت، مليكتي. كان القلق يأتي من لون ثوبها الأسود. سألتها عن اسمها، فقالت "عيون المها الوحشية"، ولم يكن هناك ما هو وحشيّ غير نظرتي إليها. تركتها إلى وحشتي، وقلت هذه المرأة ليست لي، بعد أن غدت كما يشاء لها الغير. جلست وحدي، وبكيت لست أدري من أجلها أم من أجلي. كانت عيون المها الوحشية، ولم تكنها. أما عني، فلم أتوقف عن الحلم بثديي المرأة وشفتيها برقًا ينقض عليّ. كان حلمي الذي من المستحيل تحقيقه في جزيرتي النائية، ومع امرأة جرى ترويضها ترويض اللبؤة السادرة.
للمرة الأولى منذ وصولي، أحسست بحاجتي إلى العودة إلى العالم الذي هجرت. كان وضعي دون القدرة على إشباع رغبتي فيها قد ضاعف عندي من القوة ما يدفعني إلى البحث عن متعتي في الآلام. أردت الهرب من حزن لوني عينيها الأزرق الأخضر إلى عاصفة من كحل كل النساء. عزمت على الإبحار إلى عالمِ متعةِ الجسدِ قبل الهلاك قربها قنديلاً أنفخ عليه بشفتيّ. كانت عيون المها الوحشية أليفة مثل قطة ولها في الوقت ذاته قلق كل الأيامى. كانت خائفة مني. كانت خائفة منها. كانوا قد حذروها من الإنسان الذي في ثوبي، صاحب الجنس القوي. كانوا قد قالوا لها إن حالي من حال الطبيعة، وأنا أدّعي أني ملك الطبيعة المدرَكة بالحواس. كانوا قد قالوا لها إني الذكر الآدميّ الرهيب لمّا تخضعه وحشية الرغبات. كانوا قد قالوا لها إني الغريب القادم من غير هذا المكان ومن غير هذا المحيط ومن غير هذا القوم، وإنها صلاة الصباح والمساء.
لم أنم في تلك الليلة. نظرت إلى النجوم طويلاً، أنا المحروم جنسيًا في ويل الحرمان. كنت دومًا ما أقارن أجساد السماء بأجساد النساء. استنبطت أن من المستحيل إشباع كل غرائزي. عزمت على أن أقيم علاقات ود حميمة أكثر مع امرأة الجزيرة الوحيدة. أوسعت معرفتي باقترابي أكثر من أسرار الحجر وبتقويتي لما يعرف بالفطرة. هذه الحال الطبيعية لمعرفة الكون، لتفسير أصله، ولفهمه. في الصباح، تأكد لي أني نسيت التفكير في ثغر المرأة وثدييها. لم أكن سعيدًا. كنت أريد ألا تكون المرأة عنصر معرفة العالم فقط ولكن أيضًا وسيلة الوصول إلى ذلك. ذهبت إذن إلى عيون المها الوحشية، وكلي عزم ومضاء على تحريرها من الألفة. كانت تصلي لإله قوي جعلني أفكر في إله الحرب. قالت لي إنه قوي بفضل عدالته وإرادة الحب التي له والسلام بين البشر. لم أصدقها. بالنسبة لي، كانت الطبيعة إلهة العدالة والسلام الوحيدة، حتى في اللحظات القاسية التي كابدتها مذ وضعت القدم في هذه الجزيرة. دخلت في ظلها، وأردت أن أنتزعها من عاصفة التقوى، فهبت بالجزيرة عاصفة جبارة رفعتنا عن الأرض، ودفعت الواحد منا بين ذراعي الآخر حتى غدونا جسدًا واحدًا. ودون أن نشاء، اتفقت طبيعتي وإلهها على أن نتحد لَمّا فجأة أَخَذْنا نسمع مزامير الهُبْلِ تعلو مع الموج. كانت الأناشيد تعظّم إله الموت والحرب، وكادت نفسانا تضيعان في صداها، كادتا تغدوان صدى من الأصداء. لم يكن أمامي غير الهرب إلى عالمٍ حُلْمِيّ تحلق النفس فيه، من حلم إلى حلم، بكل حرية. كانت الوسيلة الوحيدة التي تحول دون تحوّل النفس إلى ارتداد صوت. وبين الصاحي والغافي، حلمت بها، وهي تسوق سيارة فولسكفاجن مكشوفة. إلى جانبها، بدلاً من المقعد، كان هناك دَسْت ماء كنت أجلس فيه، وكانت تنزهني على الشاطئ دائرةً بي حول الجزيرة.
بعد ذلك بقليل، حلمت حلمًا آخر. كانت تقود سيارة أولدزموبيل هرمة، وهي في ثياب العرس، وأنا قتيل إلى جانبها. كنت بأناقة لا تصدق: اخترقت جبيني رصاصة جعلتني أبتسم. خلفها، كانت بناتنا الثلاث مثلي في آخر أناقة. كن كتماثيل الشمع، وكن يبتسمن. قادتنا حتى ساحة كبيرة، وهناك طرقت باب أحد البيوت. فتحت لنا أمها، وعاتبتها لأنها انتظرتنا إلى تلك الساعة البعيدة من الليل. حملتنا كالدمى، وصعدت درجًا خفيف الضوء.
في المرة الثالثة التي حلمت بها، كانت تناديني من الساحة الكبيرة، وهي خائفة مضطربة. ركضتُ لأرى ما بها. قالت لي إني تحولت إلى عُقاب أسود، وإني أفلتُّ من يديها طائرًا فوق العالم موغلاً في أعماق السماء. رفعتُ رأسي، فرأيت ملايين النجوم التي كانت تراني، وبحثتُ عني. كنت أحس باختناق هائل أثناء نومي. كنت ألهث كالملتاث ظانًا أن قلبي على وشك الوثوب خارج صدري. حاولت أن أنقُبَ حجب الليل ما وراء النجوم لَمّا فجأة ميزتُ نقطة ضوء أسود: كان العُقاب الذي أصبحت. بفضل حدة التركيز التي لي، نجحت في جذبه إليّ. سقط عليّ بقدرة من يفلق الجبل نصفين، قاذفًا إياي عدة أمتار إلى الوراء، وأنا أصرخ في نومي مرتين: "روبنسون! روبنسون!" كان العُقاب، بين ذراعيّ، ميتًا.
صحوت، وأنا لم أزل أصرخ، من شدة الرعب، فأخذتني عيون المها الوحشية بين ذراعيها بكل حنان الأم التي أبدًا لم أعرفها، وتركتني أضع خدي على ثديها الأيسر، كرسي النفس، وغفوت.








2

مضت الأيام، على غير ما كانت عليه، بعد أن وجدتُ في عيون المها الوحشية أمي. أصبح لوجودي، في تلك الجزيرة، ذلك الأمان النفسي الذي بحثت عنه طوال حياتي. كانت امرأتي تقضي معظم أوقاتها في تعظيم الله، وتحثني على الذهاب إلى حقيقة أخرى غير حقيقة الأجرام السماوية التي كانت تهزني وتقلقني، الحقيقة المجردة للنجوم وللعالم. كنت أحسدها على محيطات الاطمئنان التي تموج فيها، وعلى الرغم من كونها هزيلة، فهمتُ من أين تأتي قوة الهدوء التي تسكنها، لكني لم أكن أقدر على الاستسلام لقوة النفس تلك. كنت أخشى إله الحرب دائمًا، ولم يكن لي من حليف وحيد سوى الطبيعة. كانت هي التي أمدتني بما كنت أحتاج إليه من قوة فيزيقية بعد أن خانني عُقابي، وبفضل هذه القوة بنيت لها كوخًا من خشب الصنوبر، وزرعت القمح والبقول. عملت كل ما يمكن أن يكون جيدًا لها.
كانت الجزيرة، كل الجزيرة، مغطاة بالحدائق الغناء، نجد فيها كل شيء، العنب والتين، التفاح والأجّاص. وكان النهر الذي يعبر وركيها ينبع من خاصرتيها ويلقي بنفسه من وراء سياج. صنعتُ لي ثيابًا من أجنحة الطير، ولها من جلود الوعول. أخذت أصغي إلى صلواتها، وأتأمل في دعواتها. ومع ذلك، لم أجعل من إخلاصها إخلاصي، كان إخلاصي للعقل، وإخلاصها للروح.
في أحد الأيام، وجدت آثار أقدام على الطريق المؤدية إلى الجبل، الطريق التي لم أسلكها منذ الشتاء الماضي. سألتُ عيون المها الوحشية إذا ما كانت آثار الأقدام آثارها، لكنها كانت كبيرة أمام قدمها الصغيرة. أخافتنا تلك الآثار كثيرًا. كان رسول إله الحرب ما بيننا، وبسرعة عدنا إلى الكوخ، وأوصدناه علينا. عبأت بندقيتي، وجلست كالعُقاب أعسُّ. أخذت امرأتي تدعو وتبتهل، وهي ترفع يديها إلى السماء، والسماء قدم تضغط على صدرنا بثقلها. انتظرنا يومين كاملين دون أن يأتي أحد لمفاجأتنا، فخرجنا نقطف فاكهةً، ونذبح أرنبًا. وبينا كنا على حالنا، إذا بسرب من النوارس الفزعة يقطع سماء الجزيرة. ربما كانت سفينة ضائعة. فحصت البحر من فوق تل، ولم أعثر على صارية. جاء رهط من الأسود يجري على الرمل، وقد استبد به الخوف. تبعه قطيع من الوعول، فأحمرة الوحش، فالفهود. أخذتُ امرأتي من يدها، وعدت راكضًا إلى البيت. عند وصولنا، كانت المفاجأة عندما وجدنا أثار أقدام في كل مكان، فأرتجت الباب، وقعدت أنتظر قدوم الزائر الغريب، والبندقية بيدي. إلى جانبي، كانت عيون المها الوحشية تدعو، وتبتهل. انتظرنا ثلاثة أيام، ولا من زائر غير مرغوب فيه، فخرجنا إلى النهر لنستحم، ولأول مرة منذ حياتنا معًا، سمعت امرأتي تضحك ضحكًا رقراقًا أرق وأشجى من كل الأصوات التي سمعتها في الجزيرة. نادتني، وهي تمد ذراعيها إليّ، فذهبت إليها كجواد الماء العاشق لسمكة بيضاء، وأنا أرفع الموج حتى أديم السماء. عانقتها بحرارة كل المدن التي هجرت، وجعلتني أذوق عسل لسانها، فعضضت لسانها، وبدورها عضت لساني، عضة الموت والحياة. دفعتني في الماء، وهربتْ، وهي تضحك، تاركة إياي أحيل بالماء جمر الرغبة إلى رماد. عندما خرجت من النهر في طلبها لم أجدها، ولم أجد أي أثر لها.
جن جنوني! أخذت أبحث عنها. بحثت عنها حيث كان، حتى في أماكن في الجزيرة لم تطأها أبدًا قدماي. أين كان من الممكن أن تكون؟ سألت السهل والجبل، الطير والحيوان. بحثت عنها في أعماق النهر، وفي أعماق البحر، ولم أكف عن النداء لا في الليل ولا في النهار. وعندما يئست من الوقوع عليها، أخذت بالبكاء. بكيت كثيرًا. ذرفت عيناي دموع كل عيون العالم. بكت كل كائنات الجزيرة معي حتى الشجر. نُحنا طوال الليل، وكانت أصوات العالم تصلنا، وتسألنا: لماذا تنوحون؟ هذا العالم الذي كنت أظنه قاسي القلب أبدى من الشفقة علينا ما لم أعهده فيه، مما جعل روحي تغير من أرواح ناسه. أردت أن أعود من حيث أتيت لشن حرب جديدة. أردت أن أذهب إلى القتال لتكون هزيمتهم الجديدة مسعاي. أردت أن أقتل بشرًا بريئًا، أن أعبث عبث إله الحرب الدمويّ عند الوثنيين، أن أنشر من حولي الدياجير، فأضيع إلى الأبد. لن تشير لي امرأتي إلى الطريق عندما أغدو أعمى، ولن تسقيني الماء عندما أموت ظمأً، ولن تتركني أحيا عندما يجرحني سلاح. غير أني لم أنجح في الوقوع على طريقة تسمح لي بأن أغادر الجزيرة، لم أجد سوى ظلي، ظل بلا روح ولا جسد، لا يدرَكُ باللمس، لا يقدِرُ على فعل شيء، لكنه مخلص للموت، وأنا من يمقت الإخلاص. لم أجد سوى أحمرتي الوحشية وأسودي وفهودي. كانت كلها أليفة طيبة كالأطفال، وأنا من يكره الطيبة. وأنا أهرب من كل هذه الأحاسيس اللامجدية بعيدًا عن امرأتي، عدت إلى البحث عنها لأنقذ روحي، لأنقذ حياتي. كانت عيون المها الوحشية حياتي، حياة المنفيّ، كل حياتي. كانت جزيرتي. فأينها؟ وأين جزيرتي؟
تذكرت ما كانت تقول في دعواتها، إن هذه الجزيرة إصبع رِجل الله، إنه في كل مكان، إنه يسهر على كل شيء، إن اسمه يقظان، إنه يستجيب لكل دعاء، لكل ابتهال. ذهبت إلى حيث كانت تصلي لأتحقق من وجوده، لأكلمه، وأبتهل إليه أن يردها إليّ. لم يكن هناك. لم أكن أعلم أن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكلام مع حجر كما لو كان مع العناية الإلهية. كانت لي ولعيون المها الوحشية طريقتان مختلفتان نرى فيهما الأشياء. لم يكن يمكنني الوصول إلى فهم حقيقتها، فأضعتها، ومع غيابها غابت حقيقتي معها. لم يعد حقي يعطيني حقًا. كانت السماء والأرض موجودتين، النجوم والحجارة، الدموع واللآلئ، ولكن في حال من التخلي. كانت طبيعتي وإله عيون المها الوحشية دون إله. التنافر حل محل انسجام الكون. كانت الحياة ذات الحياة مهددة. انفجرتُ باكيًا، بما أن للعيش كان الهدم واجبًا. كان عليّ أن أجد الطاغية الذي كنت. لن يكون إلا بإعادة بناء العالم تفسير وجوده، استدراك الوقت الضائع، الالتحاق بأقدارنا. كانت عيون المها الوحشية قدري. مسحت دمعي، وجلست على صخرة، وأنا أنظر إلى البحر، من المشرق إلى المغرب، بانتظار أن أهدم كل شيء. التحقت الوعول بي، وراحت تنظر إلى البحر مثلي. هذا السلوك المتطور لكائنات من المفترض أن تكون وحشية حيرني منذ اليوم الأول لوصولي إلى هذه الجزيرة. كانت اللحظة المناسبة لمعرفة سرها، فذبحت عددًا منها، ثم دفعت يدي في صدورها، واقتلعت قلوبها. دفعت يدي في محاجرها، واقتلعت عيونها. دفعت يدي في مهابلها، واقتلعت أجنتها. لم تكن صدورها تخفي الغموض ولا العيون ولا المهابل، ولم يكن كل ذلك سوى لامنطق وميتافيزيقيا. إن لم يكن الإنسان هو المسئول عن ألفة الحيوان، فمن ذا الذي من غير قوة إلهية يمكنه ذلك؟ أخذت بالارتعاش، وهربت من المجزرة التي ارتكبتُها في الحيوان إلى مجزرة أرتكبُها في الأشياء. كانت الطريقة الوحيدة لأمتلك الحقيقة.
ذهبت إلى حدائقي الغناء، وهدمتها. انهارت الطبيعة، ولكنها ظلت ها هنا دميمة ممسوخة مشوهة، تنظر إليّ، تلاحقني، تخيفني.
حولت مجرى النهر، فمنحته قوة غريبة، وكأنه كان منذ آلاف السنين بانتظار الحرية. تفجر من حولي، ولولا الجبل الذي أنقذني لجرفني التيار. سقطت على قدم الجبل، وشكرته، وصليت لقوته ورحمته. ودفعني صوت إلى إكمال الفعل التالي:
هدمت كل ما بنيت، والطيور بدهشةٍ تنظر إليّ. أمسكت بعضها، واقتلعت أجنحتها. نظرتْ تلك الكائنات الناحلة إليّ بِحِلمٍ، على الرغم من شراستي، فرأيت في عينيها نظرة امرأتي التي كانت تنعكس فيها سماء الجزيرة. كانت كل سماء العالم فيها ضوءًا. تعجبت من عيونٍ للعصافيرِ صغيرة وقادرة على احتواء العالم. كان عليّ أن أكمل فعلي الأخير.
هدمت الملجأ، الكوخ على الخصوص، لأطرد ظل عيون المها الوحشية، وأخنق ضحكها. كان ذلك من أجل أن تعود، إلا أن ظلها لم يشأ الذهاب، وضحكها لم يشأ الإيقاف. احتل ظلها وضحكها دماغي.
صنعت نبيذًا، وأخذت أشرب، ليل نهار، حتى غدوت مريضًا، كي أستطيع أن أبرأ منهما.
تمكنت من الخلاص من ظلها، وبقي ضحكها الأرقّ من ضحك طفل يطاردني، فقتلت ضحكها، وجعلت منه ضحك طفل معذب.
حقدت عليها، لأن ظلها قد ذهب، ولكنها هي، كانت تأتي حالما أخلع ثوب الثمل، كانت تأتي كقبس من نار دون أن أستطيع الإمساك بها. حقدت عليها أكثر، وحاولت الإمساك بها من جديد دون أن أفلح حتى في لمسها.
كرهتها لأني لم أعد أعرف كيف أحبها. نسيت الحب، ولم أعد أذكر غير الحقد.
حقدت عليها، والآخر الذي فيّ لم يزل باقيًا على حبها.
حقدت على الآخر الذي فيّ.
ظلمت عيون المها الوحشية. فكرت فيها كثيرًا، في خاطفيها، في شعرها الأسود بين قبضاتهم، في ليلها الأسود من كل شهواتهم. فكرت في دمعها، في ضحكها الأبيض من كل الموت. فكرت في كل هذا، وانكسرتُ لما فجأة فهمتُ أن من الحقد الكبير يولد الحب الكبير.
عند ذلك، وبكل هوى العالم، أخذت أعيد بناء كل ما هدمت، زراعة كل ما اقتلعت، مداواة كل الكائنات التي جرحت.
عدت أراقب النجوم، وأرى في النجوم امرأتي. كانت هناك النجوم وامرأتي وآخر لم أستطع تمييزه، اليقظان. كان شكله شكلي.
عدت أراقب الجذور كيف تشق لها دربًا في الصخور، وذلك مذ كانت هناك صخور، دربًا قصيرًا كان له عمر الإلوهية. كان عمره عمري.
عدت أعاون أُمّات الطيور في إطعام أفراخها التي تريد أن تكبر والتي لا تريد أن تكبر، فأجنحتها المنشورة في السماء كانت حريته. كانت حريته حريتي.
عدت أتأمل ألوان الكواكب من سقف ملجأ جديد بنيته على ظهر شجرة كستناء، كواكب حرة لا مثيل لحريتها، بعد أن اكتشفت أن اللون الفضيّ كان أحدها، وألوانها الأخرى ألوانه. كانت ألوانه ألواني.
عدت أتأمل شفاه الثمر بعد أن اكتشفت أن لها ثغورًا، وهو شفتها العليا. كانت شفته شفتي.
عدت أداعب أجنحة الطير بعد أن اكتشفت أن لبعضها أربعة، وهو جناحاها الآخران. كان جناحاه جناحيّ.
الماء؟ النار؟ أيهما أختار؟ كنت مترددًا بين عشقي للماء وعشقي للنار ثم تعلقت بالنار وبالماء.
كنت مترددًا بين جمال العقل وجمال النفس ثم تعلقت بالجمالين.
كنت مترددًا بين الخشية من الشتاء الفاتك للنبات والرغبة في الربيع المحافظ على النبات ثم لجأت إلى أسرار الصيف.
ذات يوم، وأنا أتمشى، وأتأمل الكون، جاءني صوت عيون المها الوحشية، وكأنه نغم ناي سحري، فقفز قلبي، وقفزت أجري صوب الصوت، فإذا بي أمام العُقاب الذي ارتدى وجهي.







3

لاحظت أن لعيني العُقاب لوني عيني عيون المها الوحشية، وعلى الرغم من أنهما أزرق وأخضر، كانا يتقدان كالنار، وكان الطائر ينظر بانتباه عظيم إلى كل شيء، وينظر إلى الشمس ما شاء.
وقفت أمامه، وأنا أتابع نظرته. في البداية، كان يضاعف عندي الشوق إلى امرأتي، فيمور في قلبي هواها. ثم أخذت أرى من عينيه ما لا أراه بعينيّ. رأيتني أولاً كما أراني في مرآة، وبعد ذلك، رأيتني أرى ما يراه.
إذا ما طار إلى سمت شجرة تحاذي النهر، وسبر أغوار الماء، رأيت السمك الذي يراه. وإذا ما ترصد قوافل الدلافين في البحر، رأيتها، وهي تعبر. وإذا ما تابع أسراب الطيور في السماء، رأيتها، وهي تبتعد.
إذا ما أصغى إلى أصوات كائنات الجزيرة، سمعتها واحدًا واحدًا. وإذا ما التقط الكلمات التي تهمس بها شفة الظبي للعشب قبل قضمه، ميزتها معه.
إذا ما طار عاليًا في السماء، ونظر إلى الأرض، رأيت، بعينيه، الصراع الذي يدور بين ثور وليث أو بين ثعلب وذئب أو بين عقرب وأفعى، فأذهب إليها، وأضع العدل في نصابه.
أخذت أرسله منذرًا الحيوانات الوحشية ألا تختصم، وإذا ما لم تستجب، تركته ينقض عليها ليفرض قوانيني.
أخذت أصلح بمخالبه المرتفعات، أنقل بمنقاره الأعشاش.
بفضل يقظته وشرفه، حافظت على شرف الحيوانات.
أرسلته إلى السماء، إلى أعلى نقطة في السماء، ودعوته إلى النظر من حوله، ففهمتُ ما هي السماء، وجددت في السعي لمشاهدة وجه اليقظان لبلوغ غاية الغايات.
كانت مشاهدة اليقظان تحاصرني، رغم بلوغ عُقابي أعماق السماء.
في أحد الأيام، اختفى العُقاب، ولطمني نور اليقظان. كاد يغشى عليّ، واليقظان برق النيازك والأفلاك. وقع الحدث الذي كنت بانتظاره منذ اليوم الذي تركتني فيه عيون المها الوحشية. تحولتُ إلى قطعة من لهب أبيض، وأخذتُ أتوهج، ومحبوبتي معي تتوهج، كالجذع المحترق. استعليتُ العالم، وصفوتُ أعلى صفاء. تفجرتُ من نبع النقاء، وتجسدتُ بصورة العُقاب المحلق فوق الناس والأشياء، أقرب ما يكون من اليقظان، فعزم لي على ما عزمت من الوفاء. غدا الوفاء غاية من أجل الغاية بعد أن كان الوسيلة من أجل الوصول إليه.
بعد ذلك، لم أعد وحدي في الجزيرة. كنت أحس بوجود اليقظان أينما ذهبت. كنت أسمع نَفَسَه في الحجر. كنت أرى ذراعه في البحر. كان يضحك معي عندما أكون محبورًا، ويبكي معي على ظبية ماتت، ويكون مغمومًا. نسيت جسد المرأة، ولم أنس أبدًا امرأتي، عيون المها الوحشية. ولأحتمل غيابها، كنت أمضي وقتي في العمل وفي الصلاة. كان العمل في جزيرتي صلاة. كان عالم جزيرتي عالمه أولاً ثم عالمي بعد أن غدوت ظلاً في ضوئه. لم أعد أشعر بتغيير النهار إلى ليل والليل إلى نهار. كنت أنام في أي وقت وأعمل وقتما أشاء. كنت أعرف أن النهار نهار عندما أرى فراشات النهار وأن الليل ليل عندما ينام النحل أو عندما يطلب القمر إليّ النوم بين ذراعيه. حتى الفصول كانت تذهب وتؤوب، ولا أفرق بين الربيع والخريف، الصيف والشتاء. هكذا اتخذت معرفتي للأشياء وجهًا جديدًا، وفهمتها بطريقة جديدة.
في أحد الصباحات، نهضت، والرعب يدقني، على سماع جرافات تقتلع الأشجار، وتتقدم باتجاه مأواي. كانت إحدى السفن ترسو على الشاطئ، ورجال معتمرون بخوذات هنا وهناك، بأيديهم خرائط. كانوا يدخنون، ويصرخون عندما يتكلمون. رأيتهم يفجرون الصخور. لم تنته حربهم فيهم بالتفكك، ولم تلق أوزارها. عدت إلى حيث أقيم، ولا يوصف كان غضبي منهم. كانوا يرمون إلى هدم عالمي، وجودي، اعتقادي. معاناتي كانت أقسى معاناة. هل يريد اليقظان امتحاني؟ ولماذا الآن بعد كل تلك الأيام التي قضيتها قربه بكامل إخلاصي؟ ألم أعامله كما يستحق المعاملة؟ هل حلمت بحبيبتي دون إذنه؟ هل أردت أن تكون جسدًا وسيطًا بيني وبينه دون رضاه؟ هو الذي كان غايتي، غاية الغايات. ألم أكن أول المنادين بهذه الفكرة؟
تذكرت آثار الأقدام التي سبقت اختفاء عيون المها الوحشية. لم يكن الله يريد امتحاني، على العكس، كان يريد بيديّ معاقبة الذين اختطفوها. لهذا السبب أرسلهم، بعد أن منحني ثقته، بعد أن راز تفانيّ من أجله.
قررت أن أواجه أولئك الدخلاء لأستعيد امرأتي ولأمنعهم من اغتيال الجزيرة، هذا المكان النقيّ. كانوا يريدون تدميرها ببناء فنادق سياحية. في الليل، جعلت من الظلام رداء ومن الإرادة، وتسللت إلى الورشة: جدران مفبركة وصناديق ديناميت كانت الورشة. فجأة، دوت طلقات تبعتها صرخات وحوش. كان باستطاعتي تفجير كل ما بنوه، فلن يلبثوا أن يكتشفوا وجودي، ويجهزوا عليّ. زيادة على ذلك، لن يمنعهم هدم الجدران من بناء غيرها. قررت أن أفجر السفينة التي يقضون الليل فيها. خبأت صندوقًا من الديناميت في غار ثم ذهبت لأراقب السفينة: أضواء من الكوات كانت تتسلل. كان بعضهم يعود من الصيد. سمعتهم يتكلمون عن بيع الجلود بأثمان مغرية. كان عليهم أن يبيدوا كل حيوانات الجزيرة من أجل "حماية" السياح.
أضاءت كشافات النور سطح السفينة، فرأيت نساء اختُطِفن بالقوة من الجزر المجاورة. كان لدي انطباع أن عيون المها الوحشية بينهن. اقتربت من السفينة لأتأكد من ذلك، فدوت طلقة نار ثم صرخة حادة وبكاء. لم أكن أنا المعني. ألقوا بامرأة في البحر.
بعد كل ما جرى، وجدت نفسي مضطرًا إلى اللجوء إلى غار. كان عليهم ألا يعلموا بوجودي. وقبل أن أقوم بتفجير السفينة، كان عليّ أن أعلم إذا ما كانت امرأتي على متنها. وعلى كل حال، لم يكن باستطاعتي ذلك طالما بقيت نساء الشمس رهنًا لجليد الحضارة.
في اليوم الذي نقلت فيه إلى الغار أمتعتي اكتشفوا ملجأي في أعالي شجرة الكستناء، فاقتلعوها من جذورها، وانتشروا في الجزيرة بحثًا عني دون أن يجدوني. عندما عدت إلى الورشة، في الليلة التالية، كانوا قد وضعوا صناديق الديناميت تحت الحراسة. دوت طلقات نار تبعتها صرخات حيوانات الجزيرة، وما لبثوا أن عادوا بصيدهم الليلي. انتزعوا جلود فرائسهم، وألقوا بجثثها في مركب دفعوه إلى عرض البحر. للاحتفال بما فعلوا، أحضروا نساء الجزر، ووضعوا أسطوانة، وأجبروهن على الرقص. كانوا يشربون، ويأخذونهن في أحضانهم، وكانت فرصتي لأصعد على ظهر السفينة، وأبحث عن امرأتي. دخلت إلى القمريات كلها دون أن أجدها. عندما عدت إلى الشاطئ، تعثرت بجثة إحدى النساء، ورأيت على طرف ناء امرأةً أخرى يغتصبها أحدهم. هاجمت المغتصِب، وهربت مع المرأة. أكدت المرأة لي، في الغار، أن عيون المها الوحشية ليست على متن السفينة، فعزمت على العودة إلى السفينة في الليلة نفسها لإنقاذ باقي النساء، وتفجيرها بمن فيها من الجناة.
وهذا ما وقع.
بعد أن حررت ست نساء من نساء الشمس، فجرت السفينة، ثم فجرت الورشة. كان ذلك كما لو أني حررت امرأتي، وكان ذلك برهان الوفي لمن له الوفاء. أعانتني تلك الجزيريات في بناء مأوى، وغدت كل الجزيرة بيتي الهادئ. عدن، بعد ذلك، إلى جزيرتهن على مركب صنعنه من أغصان الشجر، وقطعن عهدًا بإعادة امرأتي ذات يوم.
في أحد الأيام، شاهدت آثار أقدام على بعد وجيز من مأواي، فلم آبه بها. لم تعد مصدرًا للخوف، واليقظان يمر أصابعه عليها. تعبدت بصوت عال، دون أن تصلني أقل إشارة. ثم، فجأة من ورائي، سمعت صوتًا يشبه صوتي. استدرت، ورأيت رجلاً على صورتي. كان يتعبد هو كذلك، فخاف الواحد من الآخر. عقدت الدهشة لساننا، حاولنا النطق، فلم نستطع. وفي الأخير، استطاع الرجل لفظ اسمه، كان اسمه "أبسال".
تذكرت من هو، ولم يتذكر من أنا. لم يعرفني بسبب لحيتي الكثة، ولم أستطع قول اسمي. تركته يحكي حكايته، قال إنه شارك في الحرب الأخيرة إلى جانب جون روبنسون، وإن القيادة كلفته بالبحث عنه. ذهب إلى جزر هاواي واحدة واحدة، ولم يعثر عليه. بالمقابل، عثر على نفسه التي أضاعها خلال الحرب. ضيّع عالمُ المادة الناسَ، فأحيلت القيم الحقيقية إلى رغام، واستحالت الأرض إلى قفص ضخم يضاهي فيه الإنسان كل وحوش الغاب.
حاولت سؤاله عن أسباب بحثه عني، فلم أستطع النطق من الكلام أصغره. كتبت اسمي بعودٍ على الرمل، فنهض، وعانقني. قال عني قديسًا، وهو، كما كان في الماضي تابعي، سيكون في المستقبل تابعي.
كتبت على الرمل هذه الكلمات: "لماذا تبحث عني؟"
أوضح لي أن حربًا أخرى على وشك الاندلاع، وهم في القيادة في أمس الحاجة إليّ.
عدت أكتب على الرمل: "ألم تكن حربنا الأخيرة؟"
"الحرب القادمة ستكون الأخيرة، قال، لأنها ستكون الحرب المدمرة الأكثر في التاريخ. ستكون الحرب الوحيدة التي ستستعمل فيها كل أنواع الأسلحة الساحقة، أسلحة لم يعرفها من قبل إنسان."
"أين سيكون مكانها؟" كتبت.
"في جزيرة العرب"، أجاب.
طلبت إليه الصلاة من أجل نجاة الإنسانية، فالصلاة كانت سلاحنا الوحيد في تلك الجزيرة. صلى، ثم طعم لحم جديٍ مقددًا، أما أنا، فشربت لبن شاة.
علّمته كل شيء: الزراعة والصيد وهوى النفس. تعلم ببطء هذا صحيح، لكنه أبدى نضجًا وعقلاً وذكاءً استثنائيًا. وبدوره، علمني النطق، فأخذت أستذكر كيف ألفظ الحروف والكلمات، وشيئًا فشيئًا امتلكت من جديد اللغة التي فقدت.
حدثته عن المبدأ الأول، العلم الإلهي، والكائن الأسمى، اليقظان، ورؤيته التي هي رؤيتي. حكيت له كيف تم لي ذلك، وأنا أحلق كالعُقاب، وأنا أحترق في ضوئه. كشفت له ما يشدني أكثر ما يشدني فيه: لونا الأزرق والأخضر لعينيه، لونا عيني امرأتي التي فقدتها ووجدتها فيه.
قضيت كل الليالي مع أبسال، ونحن نبتهل ونتعبد، وهو لا يبدي تأففًا أو تعبًا. كان يتأمل في الكينونة كينونة ما فوق الوجود المادي، حتى أنه كان مفتونًا بذلك.
في أحد الأيام، عاد يشكو من مصائر البشر، ويحثني على فعل شيء من أجل إنقاذ النفوس، أنا التجسيد للعقل، ابن يقظان والطبيعة، رجل الخير.
في البداية، لم أبال بما يقول، ثم أخذت أصغي إليه، وأفكر في ملايين الناس الذين يعمرون الأرض. بحذر ونعومة، طلب مني الذهاب لنشر حقيقتي، وذلك بالمساهمة في الحرب القادمة، فصفعته بعنفٍ يكادُ يشقُّ الحجرَ كما يشق الماء. اعتذر موضحًا أن دوري سينحصر في العمل من أجل السلام ومن أجل المعرفة ذات المعرفتين التي هي معرفتي. أخبرني أن في الطرف الآخر حاكمًا عربيًا اسمه "سلامان"، حاكمًا عُرف بإرادة العدل وقوة التوحيد بين الشعوب، باستطاعتي أن أفاوضه. من جهته، سيتكلم مع القيادة، ويقنعها بالتفاهم مع سلامان من حول طاولة المفاوضات.
بعد فيض من النقاش والتأمل، النور والدموع، نجح في إقناعي بالذهاب إلى جزيرة العرب، وشرطي الوحيد كان عدم شن الحرب قبل وصولي. وافق، فوافقت.

































القسم الثاني














4

تركني أبسال أتابع السير وحدي في منتصف الطريق بين الظهران والخفجي بعد أن قال لي بلؤم مفاجئ: اسأل أي بدوي يدلك على سلامان، وابتلعته الشمس. كان لتغيير سلوك حَواريّ المفاجئ تفسير واحد ألا وهو الشمس، شمس ليست كغيرها من الشموس، شمس النفس. ما أن غادر جزيرتي حتى تبخر كل شيء علمته إياه مع أشعة شمسه، فهل سأقوى على الاحتفاظ بجزيرتي في لحمي، على مقاومة الجحيم الذي يحدق بي؟ مشيت أكثر من ساعة، والشمس الشرسة تسوطني بلهبها. في البداية، كنت أقاومها بقوة النظر في عينيها، ثم ما لبثت أن أحسست بالعياء. نظرت نظرة الشاكي إلى المشيئة الحمقاء، ولشد ما كانت خيبتي. كانت الصحراء، الصحراء الحقيقية، لم تبدأ بعد. حاولت تسلق الجناحين العملاقين للرمل، لكني فشلت. كانت السماء أعلى مما تصورت، وأكبر: لؤلؤة ضخمة من اللهب الأزرق معلقة على باب الصحراء.
طرقت باب الصحراء، فانفتحت أمامي أكثر من طريق. أي الطرق كان عليّ أن آخذ إلى سلامان؟ كانت سياط الشمس لا تتوقف لحظة واحدة عن لسع ظهري، ومن أفواه الرمل كنتُ بصعوبةٍ أنزع قدمي. عرقت عرق سَرِيّة، وجرعت آخر قطرة من ماء القِرْبَة. ابتلعتُهَا بظمأ العائد من الجحيم، وتذكرت على فمي قبلة عيون المها الوحشية. تأجج فجأة شوقي إليها، لكن أشعة الشمس المحرقة أطفأت هذا الشوق، ومنعتني من التفكير فيها أو في أي شيء آخر غيرها، حتى أن جزيرتي التي تركتها منذ أيام قريبة لم تعد سوى ذكرى بعيدة.
اجتاح جسدي ضعف شديد، وشعرت بتفكك كل علاقاتي بعالمي الذي صنعت، بتخلي الموجود الأول الواجب الوجود. كل هذا، بالطبع، كان مجرد شعور. لم أزل أقاوم سياطَ سكرِ الشمس وَفَكَّ ملحِ الصحراء. تمنيت لو تعض المرأة التي أحبها شفتيّ، ويُهْرَقُ دمي للتخفيف من ظمأي. هاجم الجفاف فمي، واجتاح جسدي ورأسي. ضعفت مقاومتي، وهربت مني إرادتي تاركةً إياي ترك السلحفاة، إلا أني لم أستطع الإمساك بها.
ومع ذلك، لم تخني الشجاعة.
مضيت بعقارب سوداء قاتلة دون أن أخاف. قفزت عن صخرات شاهقة دون أن أتردد. نثرت أسرار الكثبان دون أن أبالي. كنت ذاهبًا إلى سلامان أقرب الناس، ومع ذلك، أبعد الناس.
لم يكن السراب فقط التجلي المغري والخادع.
رأيت جملاً تائهًا، فجريت كي أمسك به، فإذا بالجمل تل.
رأيت بغلاً تائهًا، فجريت كي أمسك به، فإذا بالبغل حجر.
رأيت ثعلبًا تائهًا، فجريت كي أمسك به، فإذا بالثعلب بقايا نبتة. عرفت في النبتة بعض العصيريات، فمزقت أنسجتها، وشربت الماء فيها حتى ارتويت. استعدت قواي، لكن الشمس واصلت جلدي. كانت الشمس ألد أعدائي. رفعت رأسي للتحديق فيها، ومن حدقتها سقط عليّ عُقاب الحُلم قتيلاً. صرخت، وأنا أقذفه عني بعيدًا. عندما جاءني رجع صدى صرختي، عرفت أني ناديت عيون المها الوحشية.
رأيتها في ثياب العرس، في سيارة الأولدزموبيل، تأتي من قلب الصحراء إليّ... إلى جانبها قتيل، كان أنا. في الخلف، بناتنا الثلاث الشبيهات بتماثيل الشمع. أعنتها على دفنهن، وبناتنا الثلاث يبتسمن. ثم، ذهبت عيون المها الوحشية على نداء أمها.
رأيتني أقطع الصحراء معها في سيارتها الفولكسفاغن المكشوفة، وأنا أجلس في دَسْت الماء إلى جانبها. ثم فجأة، وجدتني أركض من ورائها، أناديها وأناديها، وهي لا ترد.
سببت لي أشعة الشمس المحرقة ألمًا في رأسي وفي معدتي، فأخذت أرشق الرمل في كل الاتجاهات، أضرب نفسي، أمزق ثيابي. لعنت الشمس، العالم، سلامان. اختل عقلي. غدوت مجنونًا. لم أعد أسيطر على ظلالي. هربت ظلالي. عدوت من ورائها طالبًا منها التوقف. شيء غير معقول. ما لا يدركه العقل. ما لا يدرك سره. من غير الممكن إدراكه. تعثرت بحجر، وسقطت فاقدًا الوعي.

سقطت في بئر نفط مهجورة: رأسي تحت، والعالم بالمقلوب. كنت أسقط. لم أكن أصرخ كما هو عهدي في كوابيسي. كنت أسقط، والريح تحملني: شعري كالحمام كان يطير. كنت أبتسم. سقوطي. سعادتي. شممت، في البداية، رائحة نفط خفيفة، ثم رائحة غبار اختلطت بالعفونة، فوجدت نفسي في سدوم، مدينة النيران والأسوار. حسبتني النساء ابن أخ أبي البشر، ودعونني حبيب سدوم. احتفلن بوصولي: كان الكأس بيد الواحدة يحوي ماضي كل البشر، والقبلة من فم الأخرى توجز تاريخ كل الأنبياء. لم أكن أعلم أن الزمان كان قد بدأ قبل زماني، وأن سدوم لم تكن كل الكون. لم تكن تلك المدينة سوى محطة من بين محطات في تلك الهاوية الداكنة لعالم منقلب يبدأ من فم بئر النفط المهجورة، وينتهي في اللحظة التي تكون فيها نهاية التاريخ. سيتوقف الزمان عند آخر عتبة للماضي، غير تارك أية فرصة للمستقبل، كطفل في بطن امرأة ميتة.
تذكرت أني كنت ذلك الطفل، أن أمي ماتت يوم مولدي. كنت المستقبل الماضي. لم أكن أعلم أن كل سقوط كان ينطوي على العودة إلى بداية العالم. كانت بداية بعيدة. سدوم كانت بداية بعيدة، ولم تكن البدايات تزود بالفرح. كانت تزود بالغضب. كان النكاح نوعًا من الغضب، وكل فعل دافعه الشهوة. في البكاء وفي الضحك، كانت هناك سعادة أحد الغاضبين من كل شيء، وفي الدرجة الأولى من وجوده. لهذا لم يكن غضب السماء على سدوم سوى محض خيال. وُلد الغضب مع هذه المدينة، وكنت سعادتها الوحيدة. كنت تلك السعادة حتى عندما كان سكانها العاصون الفاسقون الأحرار يحولونها بدافع الغضب إلى مدينة للنساء، وفي النهاية، إلى مدينة للخراب.
بعد ذلك، ذهبت في هاوية بئر النفط المهجورة إلى مكان آخر، هنالك حيث كنت المعرفة والإرادة. في ذلك العصر، كان القدامى يكتبون على ورق البَرديّ، وكانت حروفهم تشبه خدش مخالب العصافير. كان أبي نعشًا لأوزيريس، ولم تكن أمي يهودية أو مصرية، وإنما حزمة قمح لإيزيس. لم تكن حياة كل الأطفال ثمنًا لإنقاذ حياتي. ذلك ما كان يقوله الخيال في اللحظة التي يصبح فيها حقيقة. أما الحقيقة الحقيقية، فقد كانت أخرى بوجه آخر. كنا أحرارًا كلنا. لم أرفع هرمًا بقوة السوط، ولم أرق قطرة دم واحدة. كانت الشمس للجميع، ولأن الكل كان حرًا تحت الشمس، بنيت الأهرامات مع الكل، وبمحض إرادتي. كنت في كل نفس، ولم أكن النفس الحرة الوحيدة. كان كل أفراد أمتي مثلي أحرارًا. بدافع هذه الحرية، قررنا الذهاب إلى إخضاع حرية أخرى أكثر اتساعًا في السماء، هناك حيث كانت الحياة الأخرى، هناك حيث كانت السعادة الأخيرة. كان خيالنا الذي يغدو حقيقة مع مسلاتنا وأهراماتنا. كان الخيال نفسه الذي عاش عبر الأعمار غير بعيد عن نهر النيل على أكف الرمل. بفضل خيالنا الخالد وقعت عذراء حبلى من الجليل في غرام إله من أجل أن تأتي بفرعون، بمنقذ. في تلك اللحظة، عرفت لماذا لم أكن المنقذ لعصرنا، لأن أبي، القتيل في ظروف غامضة، لم يكن إلهًا.
خلال سقوطي، لم أتوقف في القدس، المدينة المدنسة، غرب جزيرة العرب. كانت أسوارها قد تهدمت كأسوار سدوم، حتى الريح هجرتها. لم يكن فيها موت ولا حياة، كالدمل على خد، كجناح الذبابة. وفي اللحظة التي كنت فيها أستعد للسفر إلى القدس الأخرى، الخيالية، لأشرب من مائها، وأطعم من عسلها ولبنها، أوقفني في قلب الجزيرة رجل طويل القامة، جميل الوجه، قوي البنية، وقال لي: "قل لي". رأيت العُقاب على صورته، وبين يديه خررت. أخذني من يدي، وطلب مني: "رافقني في الطريق إلى دمشق، وقل لي". رافقته، وقلت له. حدثته عن قصص الماضي والمستقبل. من الماضي أعجبته قصص داوود، ومن المستقبل قصص فتحه لبلاد فارس. قال: "سيكون ديني دين العدالة، وفي عام ألفين، ستكون أحد أبنائي، قبل أن يتم سقوطك". تركني في عصر متقدم عن عصره، وذهب.
وجدت نفسي في بلدٍ البحر فيه يملأه الأزرق والقروش، لم يكن سكانه يخشونها، ومن أجل لؤلؤة في محارة، كانوا يلقون بأنفسهم في الأمواج. كانوا يغطسون أقزامًا، ويطفون عمالقة، فأخافني مظهرهم، وأضاقتني رائحتهم. كأنها رائحة نفط. لم يكشفوا لي عن سرها، ولم أكن أعلم أن حربي القادمة سيكون سببها هذا السر، حربي القادمة والأخيرة التي سيكتمل فيها سقوطي والكل معي، إلا إذا ما تحولت إلى عملاق أكثر عملقة منهم. وضعت قدمًا في طهران وأخرى في بغداد، وأخذت أعدو باتجاه شعب العمالقة الصغار، وأنا أكنسهم بلحيتي، وأنا أعقدهم برباطي. جذبتهم إلى أعماق الهاوية في الوقت الذي كانت فيه سفني تمتلئ بنفطهم لمائة عام على الأقل قبل أن تجف آبارهم.
بعد قرن من سقوطي، وصلت إلى قعر بئر النفط المهجورة، فخرجت من باب مكسور لأجد نفسي في قلب الصحراء. كانت ناطحات سحاب مهجورة تنبثق من الرمل، وليست للحياة فيها أية إشارة، وكانت الريح تصفر على الأرصفة قبل أن تغادر إلى الشمال دونما عودة. فجأة، كالشبح بدا لي رجل قال إنه أنا، إنه محرر العرب في العقبة وفي دمشق، وقال لي أيضًا قرونًا فيما مضى إنه من انتصر في اليرموك. عرفت فيه خالد بن الوليد، ولم أعرف الآخر الذي كنته. قال لي: "في اللحظة التي سأتركك فيها ستتذكر كل شيء". لم تسعفني الذاكرة بشيء. صعدت على سطح ناطحة سحاب، ورأيت نيويورك تحت قدميّ. سمعت الكِنْجْ يغني، ثم بدأ كل شيء يهتز: تهدمت ناطحات السحاب، وما فعلتُ غير البكاء ومناداة عيون المها الوحشية. جاء البيتلز، وأخذوني من يدي. قالوا إنهم سيهدونني أغنيتهم القادمة لأنهم معجبون بي، وذهبنا كلنا نبحث عن آلة موسيقية في الأنقاض دون جدوى، فحملنا النوم على جناحيه إلى بلد الأحلام الاضطرارية.

عندما فتحت عينيّ، وجدت امرأتي، عيون المها الوحشية، تقف أمامي في ثوب مزركش لبدوية، وتنظر إليّ. هببت بوسطي العلوي منتصبًا، فأعادتني بيد خشنة إلى الاستلقاء. أخذت تلصق على جبهتي بعض الأعشاب، وهي تقول إن حرارتي انخفضت، فأكدتُ آلام بطني. كشفت عن بطني، وقالت الحجامة هي العلاج الوحيد.
أحرقت شفرة بالنار، ثم بدأت تبضع بطني، وأنا أصرخ. أشعلت شحم بعير في أكواب صغيرة، وعند انطفاء اللهب، صفتها على بطني المبضوع، وضغطت عليها بقوة إلى أن امتلأت بالدم، وأنا أصرخ من شدة الألم حتى غبت عن الوعي.
عندما فتحتُ عينيّ من جديد، وجدت امرأتي، عيون المها الوحشية، تجلس إلى جانبي. كان الليل قد غطى برمله الكون، فمددت لها يدي لتجيء قربي، لكنها دفعت عنها يدي بعيدًا، وصاحت بي: "أيها الكافر، الزم مكانك!" لم تكن عيون المها، المرأة المدجنة التي عرفتها. كانت بالفعل "وحشية"، لونا عينيها الأزرق الأخضر كانا يصرخان. تابعتْ: "أنتم الأمريكان، سنلقنكم درسًا لن تنسوه أبدًا!" رفعت الأعشاب عن جبهتي، ولمست خدي بتحنان. قالت: "أنت جميل أيها الكافر! اسمي عيون المها البدوية، وأنت، ما هو اسمك؟" كنت قد نسيت اسمي. ابتسمت عيون المها البدوية، وضوت بالبياض أسنانها. قالت: "سأسميك "حي". ألم أنقذ لك حياتك؟ هل تعرف "حي" ما تعنيه؟" قلت لا أعرف. قالت بالإنجليزية: "آلايف".
رفعت ثوبها عن فخذيها، وتمددت عليّ. رجوتها ألا تفعل، فأنا مريض، لكنها أصرت على ذلك مقابل ما قامت به من أجل شفائي. طلبت منها أن تنتظر، وأخرجت من جيب بنطالي كيسًا واقيًا. جامعتني، وهي تهمر، وتقفز، وتصفر، وكأنها قبيلة من الثعابين. متعتني حركاتها حركات القوة الطبيعية، وهبّت عليّ من جدائل شعرها الأسود رائحة النفط. تذكرت المهمة التي جئت من أجلها، فسألتها، وهي لم تنته بعد من فعل التوله والافتتان، إن كانت تعرف سلامان. قالت إنها تعرفه، وهي تذهب وتجيء. طلبت منها أن تأخذني إليه، فقالت، ولهثاتها تتخلل كلماتها، إن كان ذلك من أجل الحرب، فالحرب قد نشبت، والسماء كلها أضواء زرقاء وأقواس خضراء.
دفعتها بعيدًا عني، وأنا أعجل خروجي من الخيمة. كانت السماء بالفعل كلها أضواءً وأقواسًا، وكانت طائراتنا تمر من فوق رؤوسنا عاليةً جدًا، كما تمر أصابع عيون المها البدوية على جبهة زحل وعُطارِد، كما يمر شعرها على هضاب نجران، المخترِقة للنجوم الأكثر غورًا لليمن العاشق.




















5

كنت غاضبًا من أبسال أشد غضب، فما هذا الذي اتفقنا عليه، وما كان عليه أن يقبل بشن الحرب قبل أن أقابل سلامان. كانت الشمس تقول وداعًا للنهار لما قادتني عيون المها البدوية عند سيد العرب، وكانت رائحة النفط المحترق تنتشر في الأجواء لما غار العطر من الثدي تحت حرير الهوى، فتغلق ابنة الصحراء أنفها: "هؤلاء هم رجالك، يا آلايف! قالت لي، انظر كيف يحرقون الصحراء!" "الصحراء لا شيء فيها، أجبتها، الصحراء رمل!" ضحكت مني، ونعتتني بالأعمى الذي لا يرى شيئًا: "في جزيرة العرب تحترق الآن كل الحضارات!"
لم أتوقع ذلك من امرأة حسبتها جاهلة، قالت لي إننا لا نعرف أية حرب هي حربنا، وهذه الحرب لن تكون آخر حرب! "ستكون الأخيرة!"، صحت. قالت معارك اليرموك وحطين وعين جالوت، هذه المعارك الشهيرة التي حررت الشعوب، غدًا معارك أخرى ستكون. لأول مرة، حلمت بالانتصار دون أن أخشى الموت أو الشعور بالعار. هذه البدوية التي أنقذتني من الموت بعثت في نفسي رغبة خالصة في الانتصار، الانتصار من أجل العبادة والحرية. "سأقاتل إلى جانب العرب، قلت لها، غدًا ستكون أعظم معركة فقط من أجل عينيك، غدًا ستكون معركة الخفجي التي ستضع حدًا لهذه الحرب ولكل الحروب". صاحت من عظيم الفرح، وهي تحلف بحياة آلايف. أشغل بالي وفي آنٍ واحدٍ أدهشني أن أرى سيفًا يومض في قبضتها.
استقبلنا رجال مسلحون على باب سلامان. أعلمتهم برغبتي في مقابلته، فأدخلوني وحدي، ولم يكن وحده. حياني بحرارة، وأجلسني على وسائد حريرية مناديني آلايف، كما رغبت عليه، واعتذرت عن نشوب الحرب قبل قدومي.
عبّر سلامان بالأحرى عن رضائه: "بفضل هذه الحرب، وبعون الله، ستشع العدالة أبعد وأبعد، قال، أريد أن أبسط نفوذي على كل جزيرة العرب، وسأوحدها لأول مرة في تاريخها." كلفني بحمل رسالة للقيادة الأمريكية: "واصلوا الحرب!" أكربني منطقه، فلم يكن ذلك حلمي. "ستهدم الحرب قلاع العرب منذ فجر الإسلام، قلت له، ولن يسمح النفط بإعادة بناء ما نكون قد هدمناه."
لم يعكر كلامي سلامان من التعكير أقله، سيترك الأمريكان يأخذون البترول مقابل أن يحقق بالحرب معجزتين: معجزة العدل في صحراء الظلم ومعجزة الوحدة في صحراء القبائل. "شعبك لن يكون معك"، قلت له. "شعبي سيكون معي إن كنت أنت معي." وأضاف: "ستكون معي، وسيكتب التاريخ اسمك بحروف من ذهب، عندما يعرفك العالم أجمع تحت لقب آلايف العرب!"
هتف كل من كان حاضرًا باسمي، وأرادوا رفعي على أكتافهم، لكني رفضت. "لن أحارب إلى جانب من ليس لهم ذات الحلم الذي لي"، قلت لهم، وأنا أفكر في كبير خيبة عيون المها البدوية. تجاهلوا كلامي، فنهضت لأحتج، ولا أثر لاحتجاجاتي عليهم. تقدمت من منقل مليء بالجمر، وأطبقت كفي عليه. صرخت من الألم، وانتشرت في الأجواء رائحة لحمي المحترق. توقفوا مصعوقين لما فعلت، فتركتهم، وخرجت. لم تكن ابنة الصحراء هناك. غرقت في الليل باحثًا عن عينيها، من أجل أن أخفف عني الألم. كانت عيناها أجمل شيء في الوجود، الأكثر رحمة، والأكثر بلسمًا. عينا حورية وحشية أم بدوية لم يكن الأمر ذا أهمية، كانت عينا امرأتي، المرأة التي اختطفوها مني.
رَفَعَتْ يدي إلى شفتيها، وقبّلتها. أخذت تتلو بعض آيات القرآن، وبعد ذلك، قادتني تحت خيمتها. رشّت كفي بمسحوق قالت إنه لجلد حنش أسود، ثم ضمدتها برباط مزقته من ثوبها. سألت عن المجرم الذي أحرقني، فتنتقم لي منه، وهي تشهر سيفها. قلت أنا. أخذت تصهل: "أنت مجنون، أيها الأمريكي! أنت أمريكي من عندنا، أيها الآلايف!" سألتها عن رأيها فيما قاله سلامان: " سلامان مجنون بقدر ما أنت مجنون، القتال إلى جانبه خير ألف مرة من القتال إلى جانب أعدائه، ومعركة الخفجي معركتك." "معركة الخفجي معركتي." "إذن ماذا ستخسر في القتال إلى جانب سلامان؟ على أي حال، سيموت جنودك بالأسلحة الكيماوية. التحق بسلامان، فتحقق ما تشاء، وتترك من ورائك مأثرة تخلدك." "ما أكثر ما أهزأ من أن أترك من ورائي ما يخلدني، خسرت جزيرتي وامرأتي وعقيدتي، باختصار كل حياتي. لا شيء جدير بالاهتمام، بعد هذا، غير الانتصار لأجل العبادة والحرية اللتين جعلتِني أحلم بهما."
نظرتُ إلى عيون المها البدوية في عينيها، وقلت لها إنها تشبه امرأتي إلى حد بعيد، فابتسمت، سعيدة. نصحتني بالنوم، وأضافت أننا سنفكر معًا في معركتي غدًا.
كنتُ في فراشها، وهي، كانت تنام على الأرض، عند قدميّ. فكرت في رجالي، حيوانات المختبرات، وفي التجارب على مستوى كل جزيرة العرب، في الأطفال الذين سيموتون بالغازات، وعزمت على خوض معركة الخفجي إلى جانب سلامان. إضافة إلى هذا الحلم الذي كنت أريد تحقيقه، كنت أريد الحيلولة دون ما سَيُرتكب من جرائم في المعسكرين من أجل إرضاء الجنرالات. كان خوفي الأعظم طوال حياتي، كل حياتي، أن أصاب بالبرد خلال نزهتي الصباحية. كان الندى، حبيب الورد، ألد أعدائي. ولسوء حظي، أيًا كان المكان الذي كنت أوجد فيه، ما عدا جزيرتي، كانت الشمس نادرة، وكان الضباب المشبع بالرطوبة، الذي كان الحياة ذاتها، يمثل الموت بالنسبة لي. لهذا السبب، أردت خوض معركة الخفجي من أجل أن أقدم نصري للعبادة وللحرية، وأُمَتِّع الرمل الظامئ. كان يعني إسعاد الرمل وضع حدٍ لحلم الجنرالات الرهيب: أكثر مخترعات التدمير هولاً، وإنقاذ ما يمكنني إنقاذه، في غروب الحضارة.
على حين غِرة، علا صوت عيون المها البدوية:
- أنت تنام، يا آلايف؟
- أنا لا أنام. كنت أظنكِ تنامين، أنت.
- أنا لا أنام أيضًا. أفكر في معركتك القادمة. أنا بدوية حقًا، لكني أعرف التفكير.
سألتها إذا كانت قد زارت الخفجي.
- ذهبت إليها مع أبي وأمي عندما كنت صغيرة لبيع الماشية، فاختطف رئيس إحدى القبائل أمي. عندما أراد أبي استرجاعها، قتله رجاله بوحشية. منذ ذلك الوقت، لم أر أمي ثانية، ولا أدري إذا كانت حية أم ميتة.
كان لي ولهذه البدوية ماض مشترك! تركت السرير، ولحقت بها على الأرض.
- ألهذا السبب تريدينني أن أخوض هذه المعركة؟ لأنتقم لأبويك؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- لحلم كبير، غال على أبي، لكنه مستحيل.
- ما هو؟
- سافر أبي كثيرًا، زار العديد من المدن، وعرف الكثير من الناس. كبر دون أن يفضي إلى المعرفة، ولكن عظيمًا كان في عينيه صاحبُ العلم. كان امرأ بسيطًا وما يقوله صحيحًا. كان يقول إن العالِمَ والبدويَّ قد صُنعا من طينة واحدة وإلا كيف كان يمكنهما معرفة أسرار الصحراء التي لم تكن غير أسرار الكون؟
- كل الأسرار أنتِ، يا ابنة الصحراء!
كانت سعيدة لكلماتي:
- أنا كبرت وعرفت الضراء دون أن يمكنني تحقيق ما أراده أبي، وما أتمناه عليك أن تحققه أنت، وأن تنتصر من أجل المعرفة.
- أنتِ سر الكون، سر الحياة! سأقاتل، وسأنتصر من أجلك! هل تريدين أن أقول لك شيئًا؟ في نيويورك، يكبر الناس مع المعرفة، ورغم ذلك، كثير منهم يعرف القليل من أسرار الحياة. أما أنتِ، أنتِ سر الوجود! سر الكون، الرمل، والحجر! المرأة فيك هي هذا السر، نعم أنتِ، يا من لها الشراسة أنعم من كل النساء المتحضرات اللاتي عرفتهن في الماضي.
- أنت تبالغ، يا آلايف! أنت عاشق! لتترك كل هذا إلى الغد، ولتفكر في معركتك القادمة، فلن تكون الأشياء سهلة.
- على العكس، ستكون أكثر سهولة مما هو متوقع، لأني عاشقٌ حقًا.
أسعدها كلامي، فعانقتني، وقبلتني، وأنا أفكر في أمها. لم تكن تعلم إذا ما كانت حية أم ميتة. نهضتُ. كان هناك صرصار في زاوية. قتلته بعنف أذهل عيون المها، وجمدها. بعد ذلك، خرجت أتمشى في الليل تحت سماء ملأى بالأضواء الزرقاء والأقواس الخضراء. كان الرمل يخفق كالقلب لحرارة النهار، وكانت تفجرات القنابل تأتي من بعيد. كان احتفالاً وثنيًا عليّ واجب الاشتراك فيه، بكل قوة حبي لها.







6

كلفنا أنا وسلامان عيون المها البدوية بالذهاب إلى أبسال لتطلب دعمه لنا من جبهة الغرب. نشرنا قواتنا من الشرق، وسرنا دون أدنى مقاومة حتى مدينة الخفجي. دخلنا المدينة التي أخليت من سكانها، وأقمنا في فندقها السياحي الوحيد مقرنا لقيادة العمليات. كنت أعرف أن القوات الأمريكية ستهاجم مع هبوط الليل، وكنت أثق بأبسال، أبسال الآخر، أبسال الذي لم تحرقه الشمس بعد. سيفك الحصار، فهو ذراعي الأيمن قبل كل شيء، وهو يعلم أن كل ما أعمله في صالحه، ومن أجل الحقيقة التي يؤمن بها. حقيقته. حقيقتي. حقيقتنا. كنا أنا وإياه مع السلام، هذا السلام الذي لن نستطيع فرضه إلا بقوة السلاح.
تفاجأت بهجوم على نطاق واسع، استعملوا فيه شتى أنواع الأسلحة، أسلحة الليزر كانت أفتكها، فأيقنت أن عيون المها البدوية لم تنجح في إيصال الرسالة. شغلت بالي عيون المها البدوية، كانت امرأتي بعد أن فقدت امرأتي، وكانت ماء الصحراء التي تحرق الشمس فيها كل حياة.
قاتلنا أنا وسلامان جنبًا إلى جنب، جعل الخوف بعض رجاله يهربون، وقاتل الآخرون بشجاعة فائقة. قاتل كل واحد منهم كمائة. كان الحلم يوجه فوهات المدافع. حلمهم. نجحنا في الاحتفاظ بالمدينة، فشد سلامان على يدي: "إذا حررنا الخفجي حررنا القدس!" هتف. على هذه الكلمات، رأيتني أدخل القدس كعمر بن الخطاب فاتحًا! شككت في أصلي، وأنا أتذكر أني لا أعرف أمي ولا أعرف أبي، فهل كان في عرقي دم عربي؟ كنت سعيدًا بقدر ما كان سلامان سعيدًا. اجتاحني حلمه. غدت القدس هدفي الثاني. خلتني على براقٍ قادمًا عندما شعرت بالفراغ فجأة. عُقابي كان ميتًا. اشتقت إليه، واشتقت إلى أمي وامرأتي وابنتي المتجسدات في عيون مهاي. كنت حزينًا. كنت حزينًا جدًا. كنت حزينًا وغاضبًا.
وبينا كنت أنتظر هجومًا جديدًا للأمريكيين، جاء سلامان يخبرني أن كل رؤساء عشائر الخفجي يجتمعون في قاعة الفندق ليقسموا لي يمين الولاء، فرفضت استقبالهم:
- طالما بقيت الخفجي تحت قيادتي، أنا لا أحتاج إلى يمين ولاء من أحد، عليهم أن يعتادوا على الوضع الجديد للمدينة دون أن يشعروا باضطرارهم إلى إبداء مثل علامات النفاق هذه.
- ولكنها العادات هنا!
- عليهم أن يبدلوا عاداتهم. أنا هنا من أجل انتصار المعرفة، أنا هنا من أجل صالح أطفالهم، يعني مستقبل البلد.
كنت أقول لنفسي: "إنها رغبة عيون المها...". في الواقع، كان ذلك الهدف الأول لانتصاري: المعرفة، والتي ستكون مستقبل الصحراء. كل ما كنا ننتظره من فتح العالم كان يُختصر بإرساء قواعد المعرفة وإقامة موضة جديدة للحياة، حيث يكون المرء حرًا في اختياره وفي تفكيره. لم يكن هذا يعارض في شيء حقيقتي.
- آلايف! صاح سلامان. ليس هذا ما اتفقنا عليه!
- ما الذي اتفقنا عليه؟
- اتفقنا على أن تساعدني على توحيد هذا البلد وإقامة العدالة فيه، ويمين الولاء لرؤساء العشائر هو المرحلة الأولى لتحقيق ذلك.
- هل تعرف أكثر ما يشغلني في هذه اللحظة؟ كيف نرد الهجوم الأمريكي الجديد الذي لن يتأخر عن الوقوع، وإقامة السلام الذي لن يكون ممكنًا دون تأمين الحد الأقصى الأمني.
قال سلامان حائرًا:
- سأقول لهم إنك تحضّر معركتك القادمة، وسأطلب منهم العودة بعد معرفتنا لنتائج القتال.
- لا. سيشكّون في قوتنا وفي عزمنا على الاحتفاظ بالخفجي. خذ يمين ولائهم عني.
- ولكن لن يكون لهذا أي قدر يذكر، فالكل يعلم أنك أنت العقل المدبر للعملية.
أراد الذهاب، فأوقفته:
- طيب. سأستقبلهم. ومع ذلك، اعلم أنني ضد هذه البروتوكولات التي لا فائدة منها.
- بروتوكولات هي في غاية الأهمية لهم، فهم من خلالك سيحسون بأنفسهم أقوياء كالآلهة، وسيخضعون لي فيما بعد دون أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً واحدًا. في الوقت الحاضر، أنا في حاجة ماسة إليك، وفي المستقبل القريب، ستكون أنت في حاجة إليّ. إذن، لن أتردد قيد أنملة، إذا ما كان الأمر ضروريًا لنا جميعًا، عن ذبحهم من أجل أن يتوحدوا تحت رايتك.
- ولكن ليست هذه عدالتي!
- في هذه الحال، سنقول إنها عدالة سلامان، وليغفر الله لنا!
انفجر ضاحكًا، وأنا معه. كان المنطق ذاته من وراء مأساة أبوي عيون المها البدوية. وبينما كان رؤساء العشائر يجثون على قدميّ، ويهمسون يمين الولاء، كنت أبحث بينهم عن خاطف أمها وقاتل أبيها. كنت أنْهَمُ في الوقوع عليه. وأنا أنظر إلى أحدهم، كنت أقول لنفسي ها هو ذا، فقط لأن له حاجبين كثين. لا، بل هذا، لِنَدَبَةٍ في شفتيه. لا، لا، لا الواحد ولا الآخر، بالأحرى هذا. لأنه أشقر مثلي، وعينيه زرقاوان. لم يكن الجمال الغربي مقدسًا، من الممكن أن يكون مجرمًا وبدويًا في الوقت نفسه.
انتزعتني صرخات رؤساء العشائر من أفكاري، كانوا على وشك القتال ما بينهم بالسيف والنار من أجل أن يحظوا بالقرب أكثر ما يكون مني، وكل واحد يكره الآخر كره النار للماء. نظرت إلى سلامان، وأنا أغلي من فورة الغضب:
- إذا كان هذا هو ثمن الإخلاص، فإني تاركهم لك جميعًا! وحّدهم كما يروق لك، مهمات أخرى بانتظاري!
من نافذة الفندق، رأيت الدبابات الأمريكية وهي تتقدم بحذر. كانوا قد قضوا على معظمنا، فاضمحلت كل أحلامي، كل آمالي. قررت القيام بهجوم مضاد مع من تبقى لنا من رجال وعتاد. بدون أحلام ولا آمال، نزلت إلى شارع المدينة العام، وأخذت أزحف في بحيرات الدم. بَرَقَ الدم في عروقي لَذة، فغمست أصابعي المجنونة فيه. جاء سلامان، وأخذ يمسحه بكوفيته، لكني خلصته إياها، ووضعتها ملطخة بالدم على رأسي. قال لي إن معاوني قد تم أسره، فامتطيت دبابة كانت لنا، وأنا أرفع رأسي عاليًا. قدت فيلقنا المدرع باتجاه الأمريكان لأحرر معاوني، وأجبرهم على التراجع. حررت معاوني، وأثار تراجع العدو اللامنتظم ضحكي. عندما كنت أحرك ذراعي مشيرًا إلى الأمام، إلى الأمام، إلى الأمام، كانت الصواريخ تتفجر من حولي. كانت رائحة الحرب، في تلك اللحظة، ألذ رائحة، ورائحة الدم المحترق، القمر المحترق، وكانت رائحة شعر عيون المها الأسود من كل الموت المشتعل أسوغ رائحة. أثارت في نفسي رائحة شعر امرأتي المحترق فجأة شعورًا بربريًا، فأمرت بتشديد القتال. كنت أتشهى رؤية الأشلاء والحطام، وارتقاء قمم المجد على مرأى احتراق النجوم في ساحات المجازر. رفعت رأسي إلى السماء. كانت نجوم أخرى ترقص في أبهى الحلل. كانت تتألق، تقفز، تثرثر، تعلق بسعادة على عيد الموت الذي كان يدور على الأرض. كانت تتنفس بفرح الأطفال الخارجين من المدرسة. كانت تحس بمتعة أصابع عيون المها البدوية حول عنقي المُسْتَرَقّ. كنت السماء والأرض، الحب والموت، الضحك والبكاء، اللذة والقيء... حتى اللحظة التي وقفتُ فيها على أن الأمريكان قد قلبوا الأدوار، وأننا نخسر بالتدريج المعركة. انتهى حبوري المُسَلْسِل. لم تصل رسالتنا بالفعل إلى عنوانها. سألت سلامان أين كانت امرأتي. لم يكن يعلم. سألت عنها معاوني. هو أيضًا لم يكن يعلم. قبل أن نسلم أنفسنا، عرفت أن معاوني، هذا الذي حررته، قد حال دون ذهابها إلى أبسال، وقد اغتصبها. أخرجت مسدسي، ورميت رأسه بسبع رصاصات هشمت جمجمته. عجنت دماغه. أردت أن آكل منه، لأسكّن روعي، فمنعني سلامان. انتهى جنودي من تسليم أنفسهم، وأعادوا إليّ امرأتي، فركضت لأجدها، ولأشدها على قلبي. جففت دمعها بشفتيّ، وألبستها سترتي. أخذتها من كتفيها، وذهبت بها إلى صفوف الأمريكان بوصفها جنرالتي.













7

أراد الطبيب العسكري أن يضمد كفي المحترقة، فرفضت، وقلت هي التي عالجتها بمسحوق جلد حنش أسود، وأنا أشير إلى عيون المها البدوية، فأذهلته.
كان الجنود والضباط يرمون البدوية التي أجذبها بقوة من كتفيها بنظرات الازدراء والاستنكار. ركبنا سيارة عسكرية أوصلتنا إلى مركز القيادة في الظهران. دخلنا قاعة كبيرة، وعيون المها تسير إلى جانبي، ونحن نلوث الرخام بأقدامنا، والشرر من عينيّ يتطاير غضبًا في كل الاتجاهات. عند باب القاعة التي تجتمع فيها القيادة، أراد الحارس منعها من الدخول، فدفعت الباب بقدمي، ودفعتها إلى الداخل على احتجاج الحضور. جاء أبسال في لباس جنرال، ورجاني همسًا أن أخرجها في الحال، وهو يشدد على عبارة "روبنسون رجاء!" عند ذلك، عرفت أن أبسال الآخر كان خيمرًا، وأن في هذا العالم لم يكن يمكن أن توجد حقيقة أخرى غير حقيقة الحرب والحقد. صحت بهم، وأنا أصوب إصبعي نحو عيون المها: "بفضل هذا "الشيء" الذي تمجونه انتصرتم عليّ، أيها السادة!" أجلستها على رأس الطاولة، وصببت لها بيد ترتعش كأس ماء شربته، ولي أخرى شربتها، وكل جسدي أخذ يرتعش. طلبت من عيون المها البدوية أن تفتتح الجلسة، فابتسمت ابتسامة أضاءتها كلها، وصاحت: "يعيش آلايف جزيرة العرب!" كانت طريقتها في افتتاح الجلسة. انحنيت على أذنها، وعدت أطلب منها أن تنتظرني في الخارج واعدًا ألا أتأخر عليها. خرجت عيون المها البدوية تحت النظرات الحاقدة للجميع، و، في اللحظة التي انغلق فيها الباب من ورائها، تفجرت صيحات الاحتجاج من كل جانب. "بعد أن افتتحت عيون المها البدوية الجلسة، بدأت الكلام، يجدر بي أن أقول لكم إنكم قد ارتكبتم خطأ فاحشًا في أخذكم مدينة الخفجي. تحت قيادتي كانت الخفجي أمريكية، والآن هي غير ذلك، تحت قيادتي كان يمكن أن تكون نقطة الانطلاق لتوحيد كل جزيرة العرب، والآن هي غير ذلك. لكني لم آت هنا كي أقدم شرحًا لمسألة مرفوضة سلفًا من طرفكم، يا أدوات اقتصاد السوق! أنا هنا كي أقدم استقالتي."
علت جلبتهم من جديد، فأسكتهم أبسال. قال إن القيادة ترفض استقالتي ما بقيت الحرب دائرة، وقال إن الخفجي ليست مهمة، وهم ما ربحوا معركتها إلا لأجل أن ألتحق بصفوفهم، أضف إلى ذلك أن القيادة عينتني على رأس الجيش الذي سيدخل بغداد قبل الفرنسيين، وهذه عملية لها من الأهمية الشيء الكثير.
رفضت التعيين، ورفضت دخول بغداد على رأس القوات الأمريكية. صحت: "لقد فعلتم كل ما في وسعكم على تمزيق هذا البلد، ولكن اعلموا حتى ولو دخلتم بغداد، ستولد هذه الأمة من رمادها!" وتركتهم متجاهلاً احتجاجاتهم المحتدة.
أول ما رأتني عيون المها البدوية، اندفعت نحوي، وهي تبتسم. كانت تحزنني ابتسامتها. لم أكن أدري لماذا. كانت تبدو على الرغم من تعبها مشرقة كشمس صغيرة على كتف الربع الخالي. أخذتها من ذراعها، تحت كل هذه النظرات التي تشعر بوجودها كاعتداء، ولأضرم شعورهم العدائي أكثر، لففت خاصرتها بذراعي، وجذبتها إليّ. قادني أحد المارينز إلى شقة من شقق الضباط، فذهبت عيون المها البدوية أول ما ذهبت إلى قاعة الحمام. سألتني: "ماذا نفعل في قاعة الحمام؟" "نفعل هذا"، أجبت، وأنا أفتح الحنفيات، وأملأ الحوض بالماء. أخذت ترشقني بالماء، فحملتها، وأنا أقهقه من عظيم غبطتي، ورميتها في الماء بكامل ثيابها.
تركت بدويتي تستحم على هواها، ومن النافذة رأيت طائراتنا التي لا تتوقف عن الإغارة. لم أكن بعيدًا عنها، وكان الرجال يعدون إطلاق الصواريخ العملاقة الموجهة بالليزر. تساءلت إذا ما كان من الخطأ استقالتي. ستطلق استقالتي سراح أصابع الإخطبوط لسحق بغداد. كانوا يهدمونها قنطرة قنطرة وحجرًا حجرًا، وسيقضون عليها كطفلة مكززة من الرعب.
سمعت غناء عيون المها البدوية، وكأنها لا تسمع محركات الطائرات، وكأنها لا تريد سماعها. من هذه الناحية من خط القتال، لم تكن الحرب حربها. شدني جمال صوتها. ذكرني صوتها بمغنية في علبة ليل من علب شارع أبي نواس. كم من الوقت مضى منذ ذلك اليوم! كانت بغداد مدينة للسلام، وأنا، كنت سائحًا يحلم بألف ليلة ونهد.
سمعتها تردد "آلايف، آلايف، آلايف" مرات عديدة، وبإيقاعات مختلفة، ثم همست "آلايف، حبيبي!" تقدمت من الباب المنفرج، ورأيتها، وهي تخرج من الماء، فأذهلني جمالها. اكتشفت جسد زوجتي العاري. جمدني انسكاب ساقيها. سمرني انحدار خاصرتيها. دمرني كبرياء نهديها.
غادرت عيون المها البدوية الحمام، وهي ترتدي قميصًا عسكريًا، وتتلوى من كثرة الضحك على نفسها. قالت إنها وضعته بانتظار أن ينشف ثوبها. قلت: "إنه دوري"، وأنا أتجه إلى قاعة الحمام. قبل أن أغلق الباب، ناديتها. التفتتْ، فنظرتُ إليها دون أن أضيف شيئًا. قلت لنفسي: بعد الحرب، سأتزوج بك!
في اللحظة ذاتها، دوى انفجار قوي على مقربة من البناية التي كنا فيها. جرت عيون المها نحوي، بيضاء من الرعب، وارتمت بين ذراعيّ. طمأنتها: "لا تخافي!" مشيت بها إلى النافذة، فرأينا صاروخ سكود وآخر باتريوت متعانقين في ملحق للقيادة العامة، والدنيا قامت وقعدت، وسيارات الإسعاف زمرت وحذرت. أبعدت عيون المها عن النافذة لئلا ترى الأجساد الممزقة، فانفجرت تبكي. أخذت تجدف: "الصحراء كبيرة، لماذا لا نسكن فيها كلنا دون أن نتذابح؟" مسحتُ دمعها، وهمست لها: "أريد أن أجعل منك امرأتي". حيرتها رغبتي. رفرف رمشاها من الفرح، ولسانها لا يتوقف عن ترداد: "أنت مجنون، يا آلايف! ستتزوج من بدوية تأخذها إلى نيويورك! أنت مجنون بالفعل، يا آلايف! أنت مجنون، وأنا، أيضًا، مجنونة، مثلك!"
- لن نذهب إلى نيويورك.
- إلى أين سنذهب إذن؟
- إلى جزيرة مهجورة لن تكون إلا لنا، بحيواناتها وأشجارها وأنهارها.
سألت إذا ما كانت حيواناتها خطيرة.
- كل حيواناتها أليفة: الذئب ألطف من كلب، والأسد أجبن من أرنب، والثعلب صديق الدجاج.
- لن أذهب.
- لماذا؟ كل الحيوانات مسالمة، أؤكد لك، وستكون كلها تحت إمرتك.
- البلد الذي فيه الأسد جبان ليس بلدًا! لماذا تريد أن تتبدل الأشياء في طبيعتها، يا آلايف؟ لماذا تتجاهل أن الوحشية طريقة في الوجود؟ أنا شخصيًا لن أغادر الصحراء. كل شيء هنا بقي على حاله الطبيعية: الذئب ذئب والعقرب عقرب والقمر بربريّ. ستبقى معي في الصحراء، سنعيش على إيقاعنا ككل هذه الحيوانات، وسنكون أسعد الناس.
- لنكون الأسعد، علينا الابتعاد أكثر ما يكون عن الناس. انظري كيف يشنون الحروب من أجل البنزين، يتمزقون، يقتتلون. هل كانوا بحاجة إليه قبل مائة عام؟
- إنها المعرفة، يا آلايف، معرفتكم! معرفة لا تعرف سيدًا ولا إلهًا!
- هذه المعرفة لا أريدها. تبعدني هذه المعرفة عني. تجعلني إلى الأبد مستعبدًا. أريد أن أكون حرًا وليس مستعبدًا أو متوحشًا.
- وإذا كان التوحش وجهًا من وجوه شخصيتك، لم لا؟
- على حساب الآخرين؟
- هنا يكمن السؤال منذ آدم. لن تبدل شيئًا، لن يمكنك تبديل أي شيء في أخلاق البشر. أبدل الله طبائع الحيوان في جزيرتك وسمح لك بالعيش معها دون أن تعرف إذا كان يريد أن يجربك. أرادك أن تأتي هنا لتحفظ في صدرك أن صفة الشراسة للوحشيّ جزء من طبيعته، وأن لا قيمة له دون هذه الصفة. أراد أيضًا أن تسلم بأن في الوحشية ناحية جميلة. أراد في الأخير أن تفضي إلى الجميل في الإنسان، أيًا كان الشر الذي يفعله.
- عرفت في جزيرتي الجمال بعد أن عرّفني الله بجماله. كان معي طوال الوقت في عملي وتعبدي، وكان يرضيني كليًا.
- الله معنا في كل مكان. وجوده يبلغ الأوج هنا في الصحراء. وُلدت الأديان كلها هنا، ففي الرمل كُتبت أقدار البشر، وليس في السماء. الصحراء بيت الأمم. إنها بقدر نعومة المرأة وبقدر رعونة العاصفة. عرفتَ في جزيرتك الجمال، وعرّفك الله بجماله، لتأتي هنا، وتدرك جمال البشر على الرغم من الحروب، لتجعلهم يفضون إلى جماله. لا تعد إلى جزيرتك، وإلا عدت القهقرى. سترتكب معصية يكون ثمنها أقسى العقابات الربانية. كما أمكنه قلب الطبيعة لأجلك، سيمكنه قلبها ضدك. مهمتك هنا من أجل الجميع. سيكون الله معك، وأنا أيضًا، إن شاء الله. وستنتصر.



8

اختطفوا عيون المها البدوية. قال لي أبسال إنهم جنود سلامان. أعاد تنظيم جيشه، ورابض على الحدود الكويتية. لم أصدقه إلا بعد أن رأيت صورًا لاختطافها التقطتها الأقمار الصناعية. بعد هذا الحدث، قال لي أبسال، لم يعد هناك معنى لاستقالتي، فانفجرت باكيًا.
إذا رفضتُ مرة جديدة أن آخذ رأس الجيش الذي كان يستعد لدخول بغداد، وافقتُ، بالمقابل، على قيادة القوات التي ستغزو الكويت، فأقتل سلامان، وأحرر امرأتي من براثنه. "سلامان استقوى كثيرًا، قال أبسال لي، وسيكون لك من الصعوبة بمكان دخول الكويت." "الكويت ليست بغداد، سأهدمها حجرًا حجرًا!" ابتسم أبسال، وهمس في أذني: "ستكون لك عشرة بالمائة." لم أفهم ما يعني. "إذا هدمت الكويت ستستلم عشرة بالمائة من الشركات الأمريكية التي ستعيد بناءها." قمت، وطردته: "أنت لا تفكر في زوجتي المختطفة، أيها النذل!"
ونحن نزحف بدباباتنا التي ترى كل شيء في الليل كما في النهار، لمحت جوادًا أبيض ينبثق من قلب الظلام، ويقمص قمصًا، ثم وصلني صهيله الذي فيه بحة. ساعتئذ، أمرت بقصف مواقع سلامان، وأنا أحذر رجالي من إصابة الجواد. سألني معاوني الجديد عن أي جواد أتحدث، فليس من أحد على مرمى مدافعنا سوى سلامان. عدت أفحص الأفق، فلم يكن الجواد الأبيض هناك.
بدأنا في قصف كل شبر من الأرض التي كنا سنعبرها خوفًا من الألغام، وأحلنا طريق الكويت إلى جهنم. بصقت طائراتنا المروحية صواريخها الموجهة تلقائيًا مدمرةً أثناء عبورها كل شيء: الموانع والأخاديد والتحصينات. لم يطل بنا الأمر حتى وجدنا أنفسنا أمام جنود سلامان. من بينهم كان الذين هربوا، حسب اتفاق بين القيادة وضباطهم، في اللحظة التي وصلنا فيها. سمعنا سلامان يصرخ، ويرمي بالرصاص من أمسك بهم. لكن الأمور، رغم ذلك، لم تكن سهلة. كنت مصممًا على إلحاق الهزيمة به. لم أكن أقاتل من أجل أمريكا، كنت أقاتل من أجل عيون المها.
تذكرت ذلك الجندي الذي التقيته خلال إحدى حروبي الماضية، والذي كان يقاتل كأحسن ما يقاتل الرجال، ولم يضعف أبدًا. بقي صامدًا حتى آخر الحرب التي كسبها رغم الكمثرى وجهنم وموت معظم الجنود. فكرت أنه كان يقاتل من أجل أمريكا، أو، على الأقل لأنه كان يؤمن بالقضية التي يخاطر بحياته من أجلها بشجاعة لا توصف. في أحد الأيام، أراد جندي آخر أن يقطف وردة زرقاء، زنبقة، ليشكل بها خوذته، فاعترض طريقه، وهو يرمي إلى قتله. لما طلبت إليه تفسير رد فعله المفرط، قال لي إن زوجته ماتت في آخر فصل الورود قبل ذهابه إلى القتال، وإنه زرع حول قبرها زنابق مشابهة لهذه، وهو كان يقاتل بكل قواه للدفاع عنها. كانت الزنابق لامرأته، وكان من واجبه أن يحميها. لأول مرة منذ أيام من القتال طويلة، لاحظت الزنابق الزرقاء هنا وهناك، في حقل القتال.
حَمِيَ وطيس المعركة، فجاء أبسال يعتذر لي. دون توقع مني، أراد أن يسمع رأيي في لباسه العسكري الجديد.
- هل الوقت لهذا؟
- علينا أن نبدو في أبهى حللنا عندما نقتحم مواقع سلامان.
سألته ساخرًا إن كانت له نسبة مئوية من دار الخياطة.
- روبنسون، أنت لن تتبدل! يجب أن تربح الحرب أولاً، سنصفي حساباتنا فيما بعد.
أشار بإصبعه إلى حافلة ملأى بالبزات العسكرية الجديدة:
- كل هذا من أجل الرجال. عليهم أن يكونوا كاملين في أعين العالم. ستصورهم الكاميرات، وعليهم أن يثيروا الحسد في قلوب كل الأمم. يجب أن تنتصر على سلامان، وعندما سيبدو رجالك كأجمل الرجال ورجاله الأكثر دمامة، سيعرف العالم أجمع أن هزيمته ماحقة لا رجعة فيها.
تحدث أبسال عن وجوه رجال سلامان، البترول الأسود، الأسود الأشنع، أكثر منها حلاوة. تحدث أيضًا عن الأوكار القذرة للثعابين، الأقذر من أي شيء، والأنظف من خنادقهم. خلال ذلك، كنت أفكر في كل الأسلحة الكيماوية التي تهددنا. كان أبسال معتوهًا، واحدًا من الجنرالات الظامئين للدم. دفعني كلامه إلى الإجهاز على العدو، فأضع حدًا لكل هذا الموت، وأستعيد زوجتي.
جرفتُ إذن سلامان في طوفان من الصواعق والقنابل، فقاوم بشراسة. أرسل رسله الذين قالوا لي إن أبسال كذب عليّ، سلامان لم يختطف امرأتي، وما كل هذا إلا للإيقاع بينه وبيني. ليربحوا الحرب، كانوا بحاجة إلى استراتيجي استثناني وجدوه فيّ. كل هذا لم يكن سوى كذبة! قتلتُ الرسل. في تلك اللحظة، جعلتني ذكرى ابتسامة عيون المها البدوية مجنونًا، استبد بي جنون مدمر. في الوقت الماضي، كانت هذه الابتسامة نفسها تملأ قلبي بالحزن. في الوقت الحاضر، تولد هذه الابتسامة فيّ الرغبة في تحويل العالم أجمع إلى عدم. كنت أريد ارتكاب مذبحة من أجل شعرة واحدة لحبيبتي مقتلعة. كنت أرغب في قتل جميع البشر، البشر الذين معي والبشر الذين مع سلامان، من أجل خصلة ملوثة بوحل الحرب. كنت أود أن أكون الحي الوحيد معها في هذا الكون، ولا بأس أن تندق أركانه. لم أعد أريد الرحيل معها إلى جزيرتي. أردت أن أصنع من العالم جزيرة لكلينا.
سبرت الأفق من جديد، فرأيت الجواد الأبيض، وهو ينبثق من النار. سألت معاوني إذا كان يراه، فنفى. أكدت أنه هناك، وأنا أحدد موضعه، فألح معاوني: "من الهيكل الحربي الذي نحن فيه، نستطيع أن نرى كل شيء حتى الصراصير الخارجة من بيضها." "هل أحببت يومًا؟" فاجأه سؤالي. ابتسم. أحب أكثر من مرة. اتهمته بالكذب: "لو أحببت لرأيت الجواد الأبيض المنبثق من جحيم المعارك. إنه جواد عاشق لا يراه إلا شخص عاشق."
عند ذلك، اعترف معاوني أنه لم يحب أبدًا. ثم غدا حزينًا كما لو كان، غداة الحرب، غير قادر على القتال. اعتذرت، وطلبت منه أن يحاذر من إصابة الجواد الأبيض الذي هناك. كلمته عن زوجتي: "بدوية، لون عينيها أزرق-أخضر، أزرق-أخضر غامق! من أجل عينيها أحرق العالم!" فجأة، صاح معاوني. سمع صهيلاً شاكيًا، فابتسمت: "لقد وقعت في حب زوجتي! زوجتي لن تحب أحدًا غيري!" سمعت بدوري الصهيل. كان يشبه أنين أحدهم يحاولون خنقه. غير بعيد عن الجواد الأبيض الجنونيّ، رأيت حِجْرًا أصابتها قذيفة، وهي تضرب بجسدها الأرض في الدم، فاقتحمتُ آخر مواقع سلامان.


9

أحضروا لي سلامان. ألبسه المارينز الثياب الواقية من الغازات السامة. سقط على قدميّ، وأخذ يقبّل يديّ. كان وجهه وجهًا لطفل يختفي خلف القناع الذي يعطيه هيئة مرعبة. أمرتهم بنزعه، فاحتجوا متذرعين بأنه حاكم العرب، وكل احتياطات الأمن هذه ضرورية. "أنا آلايف العرب، صحت بهم، وكلمتي هي التي ستمشي!" نفذوا أمري، وخلعوا قناعه. كان التهديد الكيميائي تهديدًا للجميع عربًا وغير عرب، حاكمًا للعرب وحاكمًا للأمريكيين. وحتى تلك اللحظة، لم يكن هناك أي تهديد.
سألت سلامان في أي مكان يعتقل زوجتي رهينة، فأعاد أنه لم يختطفها. هددته بنسف دماغه، وأنا أدفعه إلى الخلف، وأدفع سلاحي تحت ذقنه. قَبّل يديّ من جديد، ورجاني ألا أفعل لأنه بريء. الله يعلم أنه بريء، وأنا، روبنسون، هل نسيت من أنا؟ أنا الأثير، كيف لا أعلم أنه بريء؟ "أنا آلايف العرب، إله الحرب ربما، وليس إلههم، صحت. أنا لا أعلم شيئًا!" "أبسال هو الذي دبر كل شيء، أكد. وإذا لم تسارع بالذهاب إليها، صار عليك من الصعب إنقاذها." لم يكن يكذب. حتى الماضي القريب، كان حليفي، وأبدًا لم يخني.
طلبت من مارينزيّ أن يحرسوه ريثما أتأكد من صحة كلامه، وأوصيتهم به خيرًا. تركت معاوني يقصف الكويت، ويهدمها شارعًا شارعًا، ليمحقها قبل أن ندخلها، وطرت في أسرع طائرة مروحية إلى أبسال. اعترف بكل شيء، بأنه هم من دبر أمر اختطاف عيون المها البدوية، لأني كنت أَضيع، وأنا معها. كان على أمريكا فقط الإفادة من ذكائي وكفاءتي. حسب ما قال، أنا استراتيجي منقطع النظير، ومخرج هذه الحرب يتوقف عليّ. شتم البادية وبدوها: "بيوت مائنا أنظف من شرفهم! وتلك البدوية هي خزيك، يا روبنسون!"
انقضضت عليه بسلاحي، ففصل بيننا جنوده. لم يترجَ، لم يرجُني ألا أفعل، بل على العكس. حثني على قتله، ليخلص من الزمن القذر الذي عاشه معي، في الجيش، وفي الجزيرة. سكّنْتُ روعي، وسألت أين توجد زوجتي. أردت أن آخذها، وأذهب بها بعيدًا إلى آخر الدنيا. طلب مني أبسال أن أصحو، وأن أتبع قدري. "إنها الحرب الأخيرة، قال، وقدرك اليوم هو أرض المعركة! عليك أن تثبت جدارتك في القتال. عليك أن تكون أنموذجًا للأجيال القادمة. أنت البطل الذي سيخلده التاريخ. عصرنا خاتمة العصور التي طبعها الأبطال. بعد هذا العصر لا أبطال هناك. أبطال اليوم وغدًا هم نحن، آخر الأبطال، سيدخل عالم الغد في عهد الصغار الخرعين!" أمسكته من خناقه: "إني أترك لك كل شيء، البطولة والشجاعة وشرف القتال، قلت، فقط أين امرأتي؟ سأهرب من هذا الكابوس، سأذهب معها إلى آخر الدنيا."
نجح في انتزاع نفسه من قبضتي، وأمر رجاله بتجريدي من سلاحي. بغطرسة، قال لي إنه صفاها حال اختطافها، فلم أصدقه. اتهمته بالكذب، وأنا أحاول الإفلات من قبضة جنوده. أخذ الجواد الأبيض الذي فيّ يصهل، ويبكي، وينادي امرأتي. فجأة، لمحت العينين الفارغتين لعيون المها قربي، بينما تبتسم شفتاها ابتسامة جامدة هزتني أكثر من كل الحروب. نَطّتْ على وجنتيها، وجاءت بذراعيها الممدودتين لتعانقني دون أن يتلامس جسدانا. سمعتها تهمس في أذنيّ بقدميها، وكانت تضحك من صدرها. صمدتُ أمام ضحكها، واستسلمتُ لابتسامتها. كنت أريد أن تقتلني بشفتيها، أن تصوبهما نحوي، وتطلق رصاصتها الأخيرة. كنت أريد أن تمزقني برقتها، كنت أريد أن تدمرني بحنانها. كنت أريد أن تخدعني بصدقها، كنت أريد أن تخلص لي بكذبها. كنت أريد أن تحولني بأشواقها إلى منقار عصفور ناعم، منقار منكسر، ولا بأس أن أموت غدًا بين ذراعيها. كنت أريد الموت من أجلها، لأنها بكل بساطة تريد الحياة، لكنها ماتت من أجلي، وتركتني وحيدًا مدى الحياة.
تمنيت على أبسال قتلي، لكنه رفض:
- لم تنته الحرب بعد، ونحن بحاجة إليك. حتى ولو لم نكن بحاجة إليك، أنا لا أستطيع قتل أمريكي من خِصلتك.
- اترك إذن رجال سلامان يقتلونني.
أجاب بلسانِ كمثرى:
- ألا تفهم؟ نحن بحاجة إليك ما احتاجت إليك الحرب.
- بعد كل ما فعلت، تعرف جيدًا أنني لن أقاتل إلى جانبك.
- سأجبرك على ذلك.
- لا أحد يستطيع إجباري على فعل ما لا أريد. تعرف كم أنا عنيد.
- أفهم عنادك عندما كان الكل معك. الآن، لا أحد غيري معك. أنت مضطرٌ إلى قبول كل شيء، فلا خيار لك: بين الحياة والحياة لن تختار الموت.
- دفعتَنِي إلى كره الحياة بعد مقتل امرأتي، أريد الموت من أجلها، أريد اللحاق بها.
- تلك البدوية لم تكن امرأتك! أتكون قد تزوجت من الجهل، يا روبنسون، وأنت لا تعلم؟
- تلك المرأة التي تدعوها بدوية كانت أكثر منك علمًا! لقد فهمت أن المعرفة سلوك قبل أن تكون مدفعًا فائق الحداثة لا يخطئ أبدًا هدفه.
عدت أرجوه أن يجهز عليّ، أن يضع حدًا لعذابي، فأتى بسلامان. كان من واجبه أن يقتله هو، فمنعته:
- إذا قتلت سلامان أضعت نفوذك على كل جزيرة العرب، سيتحد العرب حول خلفه، وسلامان سيفرقهم، سيهدم مدنهم، سيرمل نساءهم، وسيغتصب أموالهم. إنه الدموي لهم، سلامان الرهيب! وطالما بقي على قيد الحياة بقي العرب متفرقين وتحت قيادتك.
أقنعته. كنت أبحث فقط عن إنقاذ حليفي القديم. أعاده أبسال حاكمًا على بلده.
- شئت أم أبيت، يا روبنسون، ستدخل بغداد على رأس جيشنا. بعد ذلك، خذ الطريق التي تعجبك. لن أقتلك، ولن أتركك تقتل نفسك قبل أن تنتهي الحرب.











10

في الصحراء، همت على وجهي. أردت الموت للحاق بامرأتي في بلدِ أهوالِ الخلاص. رفض أبسال قتلي، ولم أستطع قتل نفسي. أحسستني في غاية الجبن. لا عجب في هذا، وهذه صفة من أقوى صفاتي، قبل حربي الأولى. مع ذلك، لم تشأ الصحراء الجحيمية أن تطمر جسدي الجهنميّ.
مشيت طويلاً، مشيت كثيرًا، باحثًا عن الابتعاد إلى الأبد عن ضوضاء الحرب. رغبت في الوصول إلى نقطة عذراء لم تفتضها المدافع. في ذلك المكان الأبيض من كشح امرأة، سينقض الموت عليّ كنمر وحشيّ بالفطرة. كانت الوحشية بالنسبة لي أصل الرفاهية. تمنيت أن أكون فريستها، أن أقدم نفسي تضحيةً لرفعتها.
لم أَخَفْ من وجودي وحيدًا تحت رحمة الشمس، بعيدًا عن الحضارة. لم تكن الكثبان تنفصل عن بعضها، كانت كالمرايا تفضي إلى بعضها. آه! كم كانت مرايا الصحراء خلابة! كانت الشمس بعنجهيتها الأجمل بين كل الكواكب التي تتلألأ في الطرف الآخر من العالم. كان صلفها وكبرياؤها يأسران فؤادي. لم أحلم يومًا بجرم أجمل من جرم الشمس التي ستقتلني. فقدت قوتي بالتدريج... بسعادة لا توصف. كنت أموت موتًا طبيعيًا، بقوة الطبيعة-الأم الوحيدة، بإرادة الشمس الوحيدة، في ذلك المكان البربريّ المنعزل عن العالم.
وبينما كنت على وشك الموت الذي أحلم به، سعيدًا كعُقابٍ تذيبُ الشمسُ جناحيه ذهبًا وشعاعًا أبديًا، إذا براعٍ بدويٍّ يعصر على فمي ضرع ماعز، ويعيدني إلى حديد الحياة من جديد. كان ذاهبًا إلى الحرب، فوجدني في طريقه. سألني إذا ما كنت ضابطًا عربيًا أو أمريكيًا، ورجاني أن آخذه إلى الجبهة التي أنتمي إليها: كان يريد القتال، فقط. "أنا لا أنتمي إلى أية جبهة... أنا ضد الحرب!" نعتني عندئذ بالجبان دون أن يعرف أنني أعتبر ذلك مدحًا. "أفضّل القتال إلى جانب الأمريكان، الوطنية اليوم أن تكسب الحرب بغض النظر عن هوية المقاتلين، والأمريكان وحدهم المؤهلون لفعل هذا." رجاني أن أساعده، فقررت أن أتكلم عنه مع أبسال. رجوته بدوري أن يساعدني، أن يقتلني بالطريقة التي تعجبه، فقط أن يقتلني.
خلع ثيابه، وانقض عليّ، فظًا كشمس وحشية. أمسكني من ظهري، حط يده على فمي، واستعد يريد خنقي. كان القليل ما يلزم، ليبعث بي إلى العالم الآخر، المرغوب فيه أكثر ما أرغب. لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، فخيب أملي بالموت على الفطرة، بوحشية أصلية، وحشية قصوى. جَعَلَتْهُ بربريته يفكر: "عليك أن تساعدني أولاً على تحقيق ما أتمنى، قال لي، أساعدك بعد ذلك على تحقيق ما تريد. بانتظار ذلك، خذ هذا!" وضربني بقدمه بين فخذيّ. "أحب الخصيان من الرجال، وإن شئت، الرجال-النساء!" وفي اللحظة ذاتها، قصفت الطائرات الأمريكية قطيعه. قتلت معظم أغنامه، والراعي البدوي يقهقه مفتونًا. أخيرًا جاءت حربه إليه. غاص في بحر الدم حتى عنقه، ولم يزل يقهقه مفتونًا. تناول مسدسي، وأخذ يطلق النار على الأغنام التي لم تصبها القنابل، فخلصته إياه، وقتلته دون رحمة.
كانت نظرة الحيوانات المنكل بها لم تزل ناعمة. أرعبتني هذه النعومة المشوهة في نظرة الحيوانات الذبيحة المزيجة بغضب الله أكثر من كل نظرات الرجال الذين كنت قد قتلتهم دون شفقة. كانت الحرب لعنتي. كانت تطاردني حيث أذهب. حتى هنا، في هذه الأرض العذراء التي لم تلوَّث أبدًا. لم يكن أمامي إلا الهرب منها، ولكن كيف؟ لم تكن هناك طرق في الصحراء ولا مخارج. كانت البحار من أديم الرمل والموانئ من بريق الضوء والسراب. ضغطتُ على المسدس بيدي، وإلى الأمام! كنت أريد من الشمس أن تذيبني بين ذراعيها، ومن سفن الرمل أن تقودني إلى ميناء الموت، هناك حيث رست أساطيل الملعونين.
ترنحت من التعب والظمأ، وفي وسط الرمل، بانت لي مدينة حسبتها سرابًا. ومع ذلك، كانت ناطحات سحابها حقيقية، وكانت أعمدة الرمل تغطيها. لم يكن هناك غير الكلاب الجائعة. كنت فريستها، فأطلقت الرصاص عليها. نبحت، وابتعدت.
سمعت، وأنا أدخل أحد الأزقة، لهاث كلب وكلبة يتضاجعان بضراوة، وما لبثا أن انفصلا. دفعهما الجوع إلى أن يعض أحدهما ذيل الآخر. فجأة، مزق أحدهما بطن الآخر، وأخذ كل منهما يمضغ لحم أخيه، ويلعق دمه، حتى سقطا على الأرض، ميتين.
أخافني المشهد خوفًا شديدًا. لم يكن الموت أمرًا سهلاً. لتموت يجب أن تكون لديك إرادة الحياة، وأنا، لم أعد قادرًا على ذلك. لم أكن أستطيع طلب العون من أحد. كان اليقظان غافيًا. في هذا العالم الظامئ للدم، ترك الكلاب والبشر وحدهم أمام قدرهم. كان البشر يستحقون الحرب والموت والدمار، ولكن الكلاب؟... تقدمت من دمها الذي لم يزل ساخنًا، ولعقته، ثم دفنت الكلبين كما لو كانا بشرين، بتقديرٍ واعتبار. بعد ذلك، عدت أدراجي عازمًا أشد العزم على ترك الصحراء بشكل نهائي. إذا ما رفض أبسال، لجأت إلى القيادة. خلفي، ألقت كوكبة من الطائرات قنابلها على المدينة المهجورة، فانهارت ناطحات السحاب، وشع كل شيء في محيطٍ من رملٍ لا يتوقف عن الامتداد إلى اللامنتهى...































القسم الثالث













11

خيرتني القيادة بين روما، باريس أو لندن، فاخترت باريس. لم أجد اليقظان في سمائها، فقلت أجده في مائها. بحثت عنه في نهر السين، وأنا أقف على القنطرة-الجديدة كل يوم، وأتابع بعيني عبور الأمواج، ولا أقع إلا على نفايات الصناعة. كنت أقف طوال ساعات، ثم، أعود إلى فندقي الصغير الكائن في شارع القنطرة-الصغيرة، وقلبي يكون حزينًا.
كانت كنيسة سان-سيفران على مرمى حجر، وكانت الحرب قد دفعت الناس إلى أخذ الطريق من جديد، إلى عالم الشموع والقديسين. عندما دخلتُها، كانت ملأى بالمصلين. كنت قد جئت لسماع موسيقى هندية، وقد أحسست، في ذلك الوقت البعيد، بروحي قريبة من روح ابن الله، وهي تحلق على أنغام القيثار ونواح الجانج واختناق الساري. كانت هناك لوحة تمثل الصعود إلى أعالي السماء، ولم تزل. وأنا أنظر إلى اللوحة، لم أشعر بالافتتان نفسه كالماضي. أزعجتني همهمات المصلين. كانت تصلني صاحلة ملأى بالخوف واليأس، خوف ويأس غير ما للمقاتلين. كانوا يعبدون إلهًا ساذجًا، بالأحرى غبيًا، على النقيض من إله الحرب. عجلت خروجي تاركهم مع زيف سلواهم، وعدت إلى القنطرة-الجديدة لأبحث بعيني عن اليقظان في أمواج نهر السين.
كانت أخبار الحرب تصلني بالصدفة، من كلام العابرين، من عناوين الصحف، من فلاشات التلفزيون. كان الناس مرتعبين، بعضهم يعتقد أن الصواريخ ستسقط على سطحه، وبعضهم الآخر يسمعها، وهي تنفجر، على الرغم من المسافة الهائلة التي تفصله عن ساحة الوغى. كم أصبح العالم صغيرًا! أصبح للعالم وطن واحد، وطن الشركات المتعددة الجنسيات، التي تجعل المدافع تجلجل من الشرفات، وعلى المخدات، وعند حواف الدفاتر.
أردت أن أرى في المعسكر الآخر كيف تعاش الحرب، فذهبت إلى الجامع، في الدائرة الخامسة. لم أجرؤ على الدخول إلى صحن المسجد، وبالمقابل، أخذت مكانًا على مقعد بين بعض الملتحين الموجودين في المقهى التابع للمكان المقدس. شربت شايًا بالنعنع، وأنا أصيخ السمع إلى الأحاديث المتراوحة بين النصر والهزيمة. وعلى كل حال، أشفقت على المنتصرين ممن يظنون. كنت على وشك مغادرة المكان، عندما دخلت فتاة تشبه زوجتي الأولى التي اختفت في الجزيرة، بصحبة رجل أشقر كان يعرف بعض الرواد. بعد أن حيا هنا وهناك، انزوى بالمرأة، وشرع في كلام لا ينتهي. كانت المرأة تهز رأسها، والرجل يشير بسبابته إلى جهاز التلفزيون، إلى الملتحين، وأحيانا إليّ. أنهت المرأة كأس شايها بالنعنع، ونهضت. كانت لها ابتسامة عيون المها الوحشية، فأهاجت في قلبي أمواج الحزن الماضي. بعد ذلك، غادرت المقهى تاركة الشاب يكلم نفسه، بين الأرائك والظلال.
تبعتها إلى المترو، وجلست مقابلها، وأنا لا أتوقف عن النظر إليها. لاحظتني، وبسمت لي بسمة خفيفة. توقف القطار في محطة الأوديون، والعجلات تصيح تعجبًا. نزلتْ، ونزلتُ. لم أستطع التحدث إليها. غادرتِ المحطة بسرعة، وصعدت شارع موسيو-لو-برانس لتدخل في علبة ليل قبل أن تغلق الباب من ورائها. كان المكان مقفلاً للزبائن، فعزمت على العودة في المساء، بعد أن كتبت في مفكرتي اسم العلبة: "الإسكال". فكرت في الكلمة، فارتعبت. كانت تعني التوقف القصير بين النهار والليل، بين الحياة والموت. ستكون هذه العلبة محطتي الأخيرة، سأجد فيها نهايتي، نهايتي السريعة. تمنيت أن يسقط الليل بغتة كسقوط قذيفة مدمرة على مدرسة في بغداد. كنت أرغب في رؤية امرأتي أو حتى خيالها. كانت رؤية خيالها تكفيني. بدا لي أن خيالها يضم بغداد ليرأف بجراحها. وتبدى لي الخيال ذاته، وهو ينكأ جراحها، ويجعل من دمها نهرًا أعظم من الفرات والسين ودجلة. آه، كم انتظرت بفارغ الصبر هبوط الليل! فقدتُ كل رغبة في طعام أو شراب، أردتُ فقط رؤية عيون المها.
وبينا كنت أنتظر في قاعة الفندق، كان شخصان يتحاوران:
- سيتأخر سفرك.
- حزرت أن كل شيء سيتأجل مرة أخرى.
- ستكون المرة الأخيرة. الأمور تتسارع، ونحن نريد أن نغتنم الفرصة.
- إذا لم تبت شركة تأمينك في القول من هنا إلى الغد أعددت حقائبي إلى لندن. لدينا لهذه المدينة مشاريع مشابهة ومشهية أكثر، وأتمنى ألا تفاجئ نهاية الحرب الجميع.
- لن تتوقف الحرب قبل عدة أسابيع. هذه المعلومات من مصادر عسكرية، فاطمئن. بانتظار ذلك، عليك أن تعيد تفتيش المكان، في حي لا ديفنس كل شيء يتغير يوميًا.
- لا تقلق من أجل هذا. أنا هناك كل يوم.
- لم يبق لي إذن إلا أن أقول لك إلى اللقاء. انتظرني غدًا على نفس الساعة.
وذهب.
نظرت إلى الآخر مباشرة في عينيه، فنهض، وصعد إلى غرفته. من العادة أن تجري تصفية واحد تعاقد مع شركة تأمين من أجل قبض المكافأة، هذه المرة الأمر يختلف. كانت شركة التأمين هي التي تريد التخلص من زبون في فوضى الحرب. ابتسمت، لأن كل شيء كان واضحًا لي، لكني لم أكن أهدف إلى فتح مكتب تحرٍّ. بعد ذلك اللقاء الطارئ مع فتاة الإسكال، كان مصير امرأتي الشيء الوحيد الذي يهمني. ربما كانتها. اختطفوها مني لأجل هذا: ليجعلوها تعمل في علبة ليل. بقيت في مكاني بلا حراك عازمًا على ألا أغادره إلا إليها. عاد رجل الديفنس إلى النزول، وهو يتحاشى النظر إليّ. بدل ثيابه، ووضع قبعة على رأسه. فكرت في اللحاق به لأعرف بالضبط ما يرمي إلى فعله. قمت، وأخذت الاتجاه المعاكس.














12

كنت من بين أوائل زبائن الإسكال، اخترت طاولة صغيرة في زاوية، وطلبت كأسًا من مشروب العلبة الوحيد: خمر البرتقال "السانغريا". كان المكان بسيطًا جدًا، والزبائن يتهامسون، ومسرحها لم يزل منطفئًا. بحثت عن المرأة التي تبعتها بين النادلات، فلم أجدها. لخيبتي، احتسيت كأسي دون أن أنظر إلى أحد. كنت لا أنتظر غير شيء واحد: المرأة التي تشبه امرأتي. انتظرت طويلاً، حتى منتصف الليل.
في اللحظة التي كنت أستعد فيها للذهاب، اشتعلت كشافات النور، وصعدت امرأة على الخشبة، كانت هي، بصحبة شابين يحمل كل منهما قيثارًا. بدأ الشابان بالعزف والغناء، والمرأة ترقص، وتضرب كعبها، طابعةً ثوبها المزركش بحركات الغجر.
طلبت كأسًا أخرى، وأنا أتأمل امرأتي، وهي ترقص. تابعت قامتها النحيلة، شعرها الأسود، عينيها الزرقاوين-الخضراوين. كنت أحبهما أكثر من أي شيء آخر فيها. دارت بين الطاولات، وهي ترقص. عندما وقع بصرها عليّ، عرفتني. سعت إلى الخلاص بالهرب، فابتسمت لي. لم يكن باستطاعتي إجمال أقل ابتسامة، كنت لم أزل أنوء بثقل المأساة التي عشتها خلال الحرب، لم يكن باستطاعتي نسيانها. اجتاحني القلق فجأة عندما عادت إلى المسرح، وكدت أختنق. خرجت، ورأسي يدور. رأيتها، وهي تلاحقني بنظرتها الحائرة. أخذتُ شارع الكوميديا القديمة، ومنه إلى الأزقة المتفرعة عنه. كان الحي اللاتيني مسكونًا بشبح الحرب، وكان الظلام حذاء الوقت، والعابرون قلة. كان الصمت المخيم أشبه بصمت المتاحف والكهوف ومقابر الزنابق. خفتُ فجأة. كان لدي انطباع أن شبح عيون المها البدوية يطاردني حتى هنا. لقد ماتت بسببي! كانت لعبة أبسال وضيعة، فذهبت امرأتي ضحيتها. كل هذا لأنه كان يريدني أن أكون بطلاً. هي من دفع ثمن بطولتي. ضحوا بها. لم تكن تعلم أني كنت جبانًا!
نضح جبيني بالعرق، وأخذتُ أتنفس بصعوبة. جررت نفسي حتى الفندق، وأنا أفك ربطة عنقي، وأنا أصطدم بعابر. حالما وصلت، صعدت درجات الفندق ثلاثًا ثلاثًا، ورميت بنفسي على سريري.
عندما فتحت عينيّ، لم أر إلا اللوحة المعلقة على الحائط. كانت لرتيلاء، وكانت تتحرك. تقدمت مني بأقدامها المشعرة. على الرغم من غياب اليقظان دومًا، ابتهلت إليه كي ينقذني منها. لجأت إلى زاوية من زوايا الغرفة، والرعب يدكني، فأخذت الرتيلاء مكانها فوقي، وبصقت على رأسي. قيدت يديّ، وأنا أصرخ طالبًا النجدة. لما اطمأنت الرتيلاء إلى استسلامي الكامل، قفزت على خيط حريري أسقطته من فمها، وجمدت عند مستوى عينيّ. ثم، أخرجت مخلبين، زرعتهما في عنقي.
هرعت صاحبة الفندق على صراخي المروع، فكلمتها من وراء الباب: "أنا مريض، والحرارة تجتاحني." أعلمتني أن الزبائن نيام، وأنني أزعجتهم. عليّ أن أعود طبيبًا عند الصباح الباكر. سألتْ إذا ما كانت حرارتي بسبب الحرب، وبما أنني لم أجبها، ألزمتني بعمل أقل حس ممكن قبل أن تبتعد في الممر.
أحسست بخيط دم يزلق على عنقي، فنظرت إلى نفسي في المرآة، وأنا ألمس آثار الخدش. والذعر يستولي عليّ، فحصت اللوحة. لم تتحرك الرتيلاء من مكانها. كان جبيني يتصبب عرقًا، وكنت أشعر بصداع مهول. رميت بنفسي على سريري، دون أن أستطيع إغلاق عينيّ. أعطيت ظهري إلى الرتيلاء، وبقيت هكذا دون حراك حتى الصباح. عبرت في رأسي كل الحروب الماضية لهذا القرن، كفيلم أخرس. باريس ولندن وبرلين مدمرة، وبقيت مدمرة. كانت الخدعة التي ملأت جيوب القلة بالمال. مع الحرب الأخيرة، سيهطل النفط على قباب برلين وباريس ولندن، ومن يقل نفطًا يقل مالاً! عند ذلك، ظننت أني أسمع الصياح المختنق لامرأتي، كان يأتيني من بغداد. وبشكل متناقض، بقيت دونما حراك، يسكن جسدي إله الجبن الغريزي.
على حين غرة، سمعت خطوات في الممر. فتح أحدهم باب الحجرة المحاذية لحجرتي، فهربت الحروب من رأسي، وكذلك صراخ امرأتي. حقًا كان الليل في نهايته، ولكن من المبكر جدًا أن تكون امرأة التنظيف. كان هناك باب اتصال بيني وبين الحجرة المجاورة، فترددت. نظرت إلى الرتيلاء بضعف أقل، فدفعني حضورها إلى النظر من خرم القفل. رأيت رجل الديفنس واقفًا أمام حقيبة ملأى بالمتفجرات. لعددها، لم يكن الأمر متعلقًا بتصفية أحد المؤمّنين. كان باستطاعة هذا الرجل أن يفجر أي شيء في أي مكان في باريس بما في ذلك علبة الليل تلك، فلم أتوقف عن التحرك في سريري دون أن أستطيع التخلص من الشعور بالقلق على فتاة الإسكال كما لو كانت امرأتي. ومن جديد، حدقت في اللوحة. رأيت في جسد الرتيلاء ذلك الرجل مع عدد لا يعد ولا يحصى من الأصابع، وهو يحمل أصابع الديناميت، ويحركها مهددًا بها. كان ذلك آخر هذيان لي قبل أن أذهب نائمًا.
ما أن نهضت، نظرت من خرم القفل، فلم أر الرجل ولا الحقيبة. تأسفت لأني لم أستطع فعل شيء. والحالة هذه، قررت أن أقول كل شيء للشرطة. وأنا أقطع قاعة الفندق، لمحت الرجل المعني جالسًا في زاوية مع صاحب البارحة. اقتربت منهما أكثر ما يكون، بعد أن لجأت إلى تكتيك يمشي بالأحرى جيدًا، للحيلولة دون رؤيتي، وسمعت رجل الديفنس يقول بقوة:
- اعتبر أن كل شيء قد انتهى ما بيننا. سأغادر باريس هذه الليلة، فجد لك شخصًا آخر يقبل بتأجيل "الشغل" إلى ما لا نهاية.
- لا نريد ضحايا! هذا الاجتماع الذي سيعقد ضد الحرب في "الآرش" الليلة لم يكن متوقعًا. نريد إحراق الأرشيف دون أن نؤذي أحدًا.
- كما سبق وقلت لك، ابحث عن شخص آخر. أنا مغادر.
نهض بفظاظة، فشعرت براحة عارمة. كان رجل الديفنس على وشك مغادرة باريس، وسيزول الخطر مع مغادرته، على الأقل مؤقتًا. على أي حال، كان عليّ واجب إخبار الشرطة، ولكن قبل كل شيء كنت أريد نسيان فتاة الإسكال، نسياني، وعدم التفكير في شيء.











13

اعتمدت بذراعيّ على حاجز القنطرة-الجديدة، وأنا أركز النظر في الموج المتموج دون أن أفكر في شيء، عندما سمعت فجأة صرخة ثاقبة، تبعها صوت مكتوم ند عن جسد وقع على الأرض بعد سقوط طويل. أضيفت إلى صيحات النساء صرخات كواسر نوتر-دام وصفارات الشرطة ونفير سيارات الإسعاف. ألقى أحدهم بنفسه من برج الكاتدرائية. تأملت الجثة التي تفجر الدم من جراحها، وعلى الخصوص من جمجمتها، فعاودتني نوبة عرق البارحة، وعدت أرى موتي. بدأ بعض المتجمهرين فجأة يهتف ضد الحرب، وسارع البعض الآخر إلى العودة إلى بيته.
مكثت في فندقي حتى المساء، ثم رجعت إلى الإسكال. وأنا أمضي بنافورة السان-ميشيل، سمعت أحدهم يناديني. اليقظان، أخيرًا! استدرت، لم يكن التنين الباصق للماء هناك. كان يطير فوق رأسي، ويبتسم، لأني لم أكن أراه. فقط وأنا أدخل علبة الليل رأيته يغيب عن الأبصار.
طلبت كأس السنغريا ذاتها، وبعد انتظار طويل، حوالي منتصف الليل، أضاء المسرح. كان عازفا القيثار الشابان هناك، لا الراقصة. نهضت إلى باب الخروج حانقًا لانتظاري إياها باطلاً. في الخارج، رأيتها تجيء بخطوات عجلى من نهاية شارع موسيو-لو-برانس. قبل أن تدخل العلبة، ألقت عليّ تحية المساء بصوت أشبه بصوت عيون المها، امرأتي. عدت أدخل عائدًا إلى طاولتي، وفي رأسي فكرة واحدة: أن أراها وهي ترقص بأسرع ما يمكن. لم يكن أحد من الرواد ليكترث بها بقدر ما كنت أكترث بها، كنت الوحيد الذي ينظر إليها بهيام، باشتهاء. بقيتُ هذه المرة إلى أن انتهت من كل رقصاتها. أردت التحدث إليها، إلا أنها ردتني بجفاف: "ماذا تريد مني؟ شخصيًا، ليس لدي شيء أقوله لك!" واختفت خلف الكواليس، ساخطة. لم تكن امرأتي مثلها، لم تكن تغضب أبدًا غضبها. كان تصرفها واضحًا، فنهضت، وأنا أفكر في عدم العودة.
على الرصيف، دار بي ثلاثة زقاقيين، وهم يشهرون في وجهي أمواسهم. طلبوا محفظتي، فأعطيتها لهم. انسحبوا كالكلاب المسعورة، ومن أعماق أحد الأزقة، سمعتهم يهتفون ضد الحرب وضد سلامان، فقذفتُ من ورائهم: "يعيش آلايف العرب!" وأخذتُ أضحك كالمعتوه.
بعد قليل، سمعت خطوات امرأة. كانت هي، الراقصة، يتبعها رجل ذو هيئة غريبة. جذبتني من ذراعي، وهي ترجو: "احمني أيها السيد، هذا الرجل يريدني أن أذهب معه عنوة!" أمسكتها من يدها، واندفعنا نركض. تبعنا الرجل في الأزقة المعتمة دون أن يجدنا. قرب فندقي، اقترحت على امرأة الإسكال الصعود إلى غرفتي: "باريس مدينة خطرة في ليالي الحرب، مدينة للظلام واللصوص! اطمئني! إنه عرض بريء خالٍ من أية فكرة مسبقة!" تأملتني بانتباه، وصعدت معي. لدهشتي الكبرى، ما أن أغلقنا الباب علينا حتى بدأت بخلع ثيابها. أوضحت لي أنها عذراء، وأنها تريد أن تفعل هذا معي، لأنه يجب ذلك.
تمددت على السرير عارية، ونادتني. نمت إلى جانبها بكامل ثيابي. أخذت تقبلني، وأنا أفتح عينيّ على سعتهما، وأحدق في الرتيلاء.
- لماذا أنت بارد برود الجليد؟ سألتني.
سالت دمعة ساخنة من عيني على خدها.
- لماذا تبكي؟ هذا ما كنتَ تريد، أليس كذلك؟
- كنت أريد امرأتي، همهمت.
بدا لي أنها لم تفهم:
- أنت تشبهين امرأتي التي فقدتها بشكل خارق للعادة.
جذبتني إليها بعنف:
- خلصني من المصيبة التي أنا فيها وكلمني بعد ذلك عن امرأتك.
أخذت الرتيلاء بالتحرك والعرق على جبهتي بالتلألؤ. شتمتني:
- أنت لست رجلاً!
- لم أعد رجلاً!
لكنها لم تفهم شيئًا، ولأزيل الشك:
- فقدت رجولتي... خلال الحرب.
تقدمت الرتيلاء. قهقهت، ثم غدت حزينة: "آه، يا للتعاسة!" سألتني عن اسمي، فقلت: "ديد العرب!" والرتيلاء كانت تتقدم، تتقدم... بدأت فتاة الإسكال ترتدي ثيابها، فرجوتها أن تمنع الرتيلاء من التقدم مني. ألقت نظرة إلى اللوحة: "ولكن ما هذه سوى صورة!" أخذتُ أصرخ، وأتوسل إليها أن تمنعها من الزحف بسيقانها المشعرة على عضوي. جمعتني بحنان بين ذراعيها لتهدئتي. شكرتها، وسألتها عن اسمها. "عيون المها الغولية." "أنت فرنسية إذن." نظرتُ إليها مباشرة في عينيها، كانتا سوداوين: "عيناك سوداوان!" "إنهما عدستان." وأزالتهما. عند ذلك رأيت أزرق وأخضر عينيها يومضان. كانتا عيني امرأتي. أكملت ارتداء ثيابها. "تستطيعين النوم هنا، الليلة"، قلت. "أمي بانتظاري"، أجابت.
في تلك اللحظة، تذكرت أبسال: "قتل أعز أصدقائي امرأتي." قرب الباب، ضحكت عيون المها الغولية ضحكة صغيرة: "كم امرأة لديك؟ ما فهمته أن لك زوجة اختفت." "التي اختفت كانت بالفعل زوجتي، والتي قُتلت كانت خطيبتي، كنا على وشك الزواج، فقتلها أعز أصدقائي، ضابط في الجيش." حزنتْ: "الحرب رهيبة!" أمسكتُ يدها، وأنا أشير إلى الرتيلاء: "صحيح، ما هي سوى صورة. أشكر كونك حنونة عليّ." شكرت هي أيضًا كوني عاجزًا، وذهبت. عندما نظرتُ في المرآة، كانت دومًا هناك. استدرتُ، لم يكن أحد هناك. فتحت النافذة. كانت باريس ترزح تحت تماثيل الظلام، ولم تكن في السماء نجمة واحدة. تركت النجوم للسماء حرية ارتداء أثواب الحداد. أحسست بالبرد. كان الضباب يكتسح الشارع. فجأة، حاول قط أسود الهرب من حشد من الكلاب البيض دون جدوى. صرخ القط، واستنجد. أحسست بنفسي كالمقيد، فأعدت إغلاق النافذة، وتمددت على السرير مديرًا ظهري للرتيلاء. عادت كل صور حروب هذا القرن تتحرك خرساء. كنت جسدًا بلا روح، أشعر بالبرد، ولا أقوى على صنع شيء من أجل إنقاذ أي شيء حتى ولا قط صغير تعس. أو ربما كنت روحًا بلا جسد حزينة على مصيرها ولا تقوى على إبداء أي شعورٍ أمام الألم. تذكرت رجل الديفنس الذي كان يريد تفجير إحدى أهم بنايات باريس. سأقوم بإفشال كل شيء لو عدل عن رأيه وألغى فجأة سفره. إذن لم تكن روحي ميتة تمامًا، ولم أخضع كاملاً لضعفي. كان من واجبي أن أحمي امرأة الإسكال لأنها تشبه زوجتي، وكان من حظها أن ناطحات سحاب لا ديفنس بعيدة عن الحي اللاتيني. لم تكن في بؤرة الخطر. ومن الناحية الرمزية، كنت أرى كل باريس فيها. مما يبرهن على أن روحي لم تُغتل، كانت مجروحة فقط.
وصلتني حركة من الحجرة المجاورة في تلك اللحظة، فسارعت إلى النظر من خرم القفل. لم يسافر رجل الديفنس بعد، كان على وشك مغادرة الغرفة مع حقيبة المتفجرات. تركته يقطع الممر، وتبعته. صعد في سيارة، فأخذت سيارة أجرة. كانت وجهته لا ديفنس. اتجه نحو الآرش حيث كانت شركة تأمين تحتل الطوابق الثلاثة الأولى. في الطابق الرابع، كانت خيالات تبدو من وراء النوافذ. توارى الرجل. حاولت الدخول إلى شقق شركة التأمين. كان بابها مقفلاً، وكان الهدوء يسيطر على كل ما يدور بالبناية. لم أجد أي أثر للرجل. وثبت نحو صندوق التلفون الأقرب لأخطر الشرطة، فإذا بمسدس مزروع في رأسي يفاجئني:
- قل للبوليس إن مفرزة من المغاوير العرب ستطيح بالآرش لتنتقم من مشاركة فرنسا في الحرب.
عندما أقفلت، لم يكن الرجل هناك. سمح لي زوجان مغادران باختراق البناية. سمعتهما يقولان منزعجين إن هذا كثير، وإنهما لن يقضيا الليل بأكمله في الثرثرة. رهانات الحرب هناك، في جزيرة العرب، وليس في الديفنس! ومع ذلك، كانت المتفجرات موضوعة في الطوابق الثلاثة الأولى، وقد بدأ العد العكسي. ترددت: مناسبتي الآن وليس في أي وقت آخر لأموت. لا، عليّ أن أحضّر موتي بنفسي، وأوقفت العداد. تعالت صفارات إنذار سيارات الشرطة. كان بعض موظفي شركة التأمين الكبار يسعى إلى إخفاء اختلاسات مالية بتلغيم الآرش، والمفردة آرش تعني سفينة نوح، سفينة نوح المعاصرة هذه التي ما كانت هنا من أجل إنقاذ أي نوع حي، بل على العكس، من أجل تأجيج أطماع كل الأحياء.









14

هز الصاروخ الذي انفجر في ملجأ العامرية العالم، هاجم سكان باريس المتاجر، وأفرغوها من البضائع. في العمل وفي المترو وفي الشارع، تصفحتُ الصمت على أفواههم، وقرأت الخوف على وجوههم. هل كانوا يتخيلون جثث الأطفال المحترقين، ويتذكرون أرانب الحرب البشرية؟ كان غاز الخردل يصنع عظمة أمريكا وسعادة الإنسانية! كان ساندويتش الهمبرجر يضاهي كل الساندويتشات الأخرى في الكون، ولهذا كان أبسال يقول: "لا نريد فرنسا أن تدخل بغداد قبلنا!" تذكرت أيضًا النسبة المئوية التي كانت ستعود عليّ إذا ما هدمت الكويت، ولماذا شاركت باريس ولندن في الحرب، في اللحظة التي يتدهور فيها اقتصادهما. عملوا على إفلاس كل بنوك العرب، ومن حيث لا يشاؤون إغلاق كل كباريهات العرب. تذكرت القُبلة التي افتكها باتريوت من سكود في الظهران ورعب عيون المها البدوية. اختلطت في رأسي الصور. عدت أرى خيبة عيون المها الغولية لعدم تحريرها من عذرتها. هل كانت عربية، تلك الغولية؟ ومرة أخرى، فكرت أن دمًا عربيًا يسيل ربما في عروقي، أنا أيضًا. في أعماقي، كنت أريد أن أحفظ هذه البكارة، كنت أدافع عنها حتى بين حيواناتي في جزيرتي. تذكرت كل هذا، إلا أنني نسيت كيف كان اسمي.
بعد العرض، جاءت عيون المها الغولية إلى طاولتي، وسألتني عن اسمي الحقيقي.
- لا اسم لي غير ديد العرب!
- آه! كم أنت تعيس، قالت وهي تداعب خدي.
- التعاسة نصيب الإنسان اليوم.
- أنت أمريكي، عد إلى أمريكا، ستكون أقل تعاسة من هنا.
- أحب باريس.
- لكن باريس لم تعد باريس.
- حتى نيويورك لم تعد نيويورك.
- وماذا تفعل في باريس؟
- أعد انتحاري.
انفجرت ضاحكة، كانت ضحكة زوجتي.
- قبل، كنت أعد الحروب ضد الآخرين، اليوم أعدها ضد شخصي.
- من لم تقتله الحروب مثلك يقول هذا الكلام!
أخذتُ أرتعش، وأسناني تصطك:
- أنا جبان! جرذان حي باربيس الجائعة أشجع مني!
ونهضتُ.
أمسكتني من ذراعي، واتجه كلانا نحو باب الخروج. مشينا في مدينة الفساتين القصيرة التي لا ضوء فيها ولا نار. كانت النوافذ مغلقة، والناس نيامًا، وكان الصمت حذاءًا. لم أدر ما الذي دفعني فجأة إلى الصياح: "الموت للنيام!" ولكن أحدًا لم يطلّ، وبقيت النوافذ والأبواب والأفواه مغلقة.
- أرأيتِ؟ لا أحد يأبه بأحد!
- ولكني أنا، قالت وهي تأخذني بين ذراعيها، آبه بك!
- تنسين أني...
- لا أنسى أنك...
وقبلتني قبلة كل نساء باريس اللواتي ينمن دون عناق كل ليلة بسبب الحرب.
- لقبلتكِ طعم مخلب الرتيلاء على فمي، وأنا لهذا أحبكِ!
ضحكت عيون المها الغولية، فأخذتها من خديها، وأدنيت خصلاتها السوداء من أنفي لأملأ برائحتها رئتيّ.
- لأجل هذه الرائحة سأنتحر!
وأخذتُ أركض كالمجنون، وهي من ورائي ترجوني أن أتوقف. لم أتوقف. خبأت نفسي في زقاق، فنادتني بصوتها المتهيب. صرختْ، ثم انفجرت تبكي. سارعتُ إلى الخروج من مخبأي كي آخذها بين ذراعيّ، وغطيتُ وجهها بالقبلات، فتعرت الأقاحي. أحطت خاصرتيها بذراعي، وذهبت بها إلى القنطرة-الجديدة. نظرنا طويلاً إلى نهر السين دون أن نراه. كان الليل عميقًا، ملكيًا، إمبراطوريًا، ولم نسمع سوى الخرير. فسّرت لي عيون المها الغولية ما كان يقوله نهر السين. كان يحكي عن العشاق الذين وقفوا هنا منذ أكثر من ألف عام، وهو لهذا لن ينضب ما بقي في الدنيا اثنان عاشقان. سال لجين نجمة تحدت الغيم على شعرها، قبل أن تنطفئ.
- قولي لي الصدق، ألستِ امرأتي؟
- ألم تعرف بعد؟
صحت متحديًا أبسال:
- إني عدلت عن الانتحار!
ثم إليها:
- إذن لماذا طلبت ما طلبت في الفندق، تلك الليلة؟
- لأتأكد من أنك رجلي. أنت رجلي، يا روبنسون! أنت روحي، في الحرب وفي السلم! أنت الروح! أنت الحب، جون روبنسون أو آلايف العرب، شخصان هما كلٌّ واحد!
قبلتني، قالت لي إنها تشتهيني. تركنا نهر السين يمضي خلفنا بحطام سفينة، وعدنا إلى الفندق. ونحن نخلع ثيابنا، لاحَظَتْ أني ألقي نظرات مرتابة نحو الرتيلاء، فقلبت اللوحة، وسحبتني من يدي إلى السرير. قبلت فمي، عنقي، ثديي، بطني، ساقي، قدمي. أعادت بناء قلاعي بقوة حبها، وأعلت أشرعتي بنار جسدها. لم تكن تريدني الإبحار عنها بعيدًا، كانت ترغب في إبقائي في قلعتها، لا شيء إلا لها. نجحت بهواها أن تلد هواي، وبعنفها أن تحرر عنفي. وقليلاً قليلاً رحت معها على الطريق القصير لإهراق الرغبة، فانقض أحدنا في فم الآخر ككلبين فتكت الحمى بهما. تسلقنا آخر قمم النشوة، ولم أكن أعلم أن فعل الموت يمضي بكل هذا العنف الجميل. لم أعد أحس بانتشاء الموت في اللحظة التي وضعنا فيها رأسًا لقدمين، لنجترح بأسناننا المعجزات، ثم ليسقط أحدنا على بطن الآخر. ولولا أننا سمعنا طرقات على الباب، لمزق أحدنا بأسنانه الآخر. نهضت لأفتح، فلم أجد أحدًا. تقدمت من اللوحة، وأدرتها، كانت الرتيلاء قد اختفت.





15


منذ اللحظة التي وجدت فيها زوجتي، عمت في بحور السعادة. انتهت الحرب بالنسبة لي، وعزمت على مغادرة باريس إلى جزيرتي لأبقى فيها إلى الأبد، قبل أن يجف نهر السين، وتتحول باريس إلى أعتى الصحاري.
حزمت حقائبي، وانتظرت أن تأتي عيون المها، فلم تأت. تخيلت الرتيلاء تزحف على بطنها، ولتمنعها من المجيء إليّ تدخل في مهبلها. تناولت اللوحة بيد مرتعشة، وحطمتها. ثم، نزلت أنهب الدرج نهبًا إلى الإسكال. كانت علبة الليل مغلقة. رأيت وجه امرأتي يختفي مع شمس باريس الخجولة، فرحت أبحث عنها في الحي اللاتيني كله دون أن أجدها.
عند هبوط الليل، عدت إلى الإسكال. حضر عازفا القيثار، ولم تحضر. بقيت أنتظرها حتى أغلقت علبة الليل أبوابها. كانت شوارع الظلام وعدم الوفاء والإخلال بالعهد يأسي، يأسي الأخير. ومن جديد، أحسست بقدم الحرب تسحق قلبي، وبدا لي أنني أسمع صوت امرأتي، وهي تستصرخني. لا بد أن حادثًا جسيمًا قد وقع لها، فالكل يتآمر عليّ، أبسال وسلامان والجنود والضباط ومدراء الشركات والقوادون وبائعو الزهور، كلهم، حتى ديدرو وشارلمان.
ذهبت إلى القنطرة-الجديدة لأطلب من اليقظان، لو كان هناك، إن كان يعرف أين امرأتي. كان نهر السين يواصل عبوره، وكانت خطواته تصفق، والحور في أعماقه تبصق السمك. جاء قارب حربي بأقصى سرعة، وبعد ذلك، انطلقت سلسلة من الطلقات، تبعتها صفارات الإنذار، وبكاء بعض الأطفال. لم أتحرك من مكاني. عزمت على ألا أتحرك من مكاني، فما فائدة العيش دونها؟ وحدي معها نعم، أما وحدي دونها، فالموت أفضل. قطع أحدهم القنطرة جريًا، وسمعت هرير هر جائع. أحسست بجسده يلتصق بساقي، فانحنيت، وحملته بين ذراعيّ. كان القط أسود. أخذ يموء متوسلاً لمساتي، بينما سقط فيض نجمة عليه، فلم أحتمل لجين جسده الأسود، ولا لون عينيه الأزرق-الأخضر. قبضت عليه من لبدته، وجعلته فوق أمواج نهر السين الضحلة. كان يخر، ويخدش، ويقاوم، فرميته.
عند رجوعي إلى الفندق، لفت انتباهي، لأول مرة، حارس الليل، الشاب العربي. كان يشبه عيون المها، وكان ينام، وابتسامة على شفتيه. اقتربت من وجهه الجميل، ولمست وجنته. أفاق، وهو يعتذر. غمرني شعور غريب وأنا أنظر في عينيه، فتمنيت أن أنسى امرأتي والعالم. سألني إذا ما سمعت عن القارب الحربي الذي فتح النار.
- كنت أقف على القنطرة-الجديدة، ورأيته بأم عيني.
قال الشاب العربي بفرح لا يصدق:
- أتمنى أن تصل الحرب إلى هنا لتدمر كل شيء.
لم أكن أهتم بما يقول، كان هو محور اهتمامي، فتساءلت إذا ما كنت قد أحببت امرأتي يومًا، إذا ما كنت قد صُنعت لها، إذا ما كان الحب سكينًا أم خِنجرًا. كنت في حالة من الغياب أشبه بالمخدَّر. خلال ذلك، كان الشاب العربي يحلم على طريقته. سمعته يقول:
- بغداد ستنتصر...
- نعم، بغداد!
- وعند ذلك لن أكون حارس الليل وإنما صاحب الفندق.
- بغداد ستنتصر!
- سيكون كل الفندق لي.
- بغداد...
- سأسير في شوارع باريس سيدًا كما حلمت دومًا.
- بغداد، الحلم!
- سأكون سيد أجمل مدينة في العالم.
- الحلم الأقدم!
- ستكون لي أجمل سيارة، وأجمل امرأة.
- أجمل الأحلام!
- وسيخضع الكل لي.
كان شغل حارس الليل يسئمه، ومن الواضح أنه لا يحتمل صراخ صاحبة الفندق. كان يريد أن يعمل شيئًا آخر، وهناك لم تكن سوى معجزة تخرجه من الحالة التي يوجد فيها: الحرب.
تركته دون أن يتركني حزني، كنت حزينًا، أحزن الرجال، وتمنيت أن يربح الحلفاء الحرب بسرعة، بسرعة كبيرة.
وأنا أدخل حجرتي، لمحت في النور الخفيف من حسبته عيون المها. أشعلت الضوء، وعرفت الشخص الذي كان ينقل الأوامر إلى رجل الديفنس. طلبت منه الخروج في الحال، وإلا سلمته إلى الشرطة. هدأني، فهو ما كان هنا إلا لشكري. كان ضد العنف الأعمى، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمسئولي شركة التأمين. لم يكن سوى وسيط.
- أنا رجل المهمات الصعبة مهما كانت، قال. باسمي، أكرر لك شكري.
- أقبل شكرك، والآن، اذهب!
لم يتحرك قيد أنملة.
- الأمر الذي أنا هنا من أجله يخصك، يا جون روبنسون.
- أنت تعرف من أنا!
- لدي مصادري الاستعلامية الخاصة. أنت الوحيد الذي يستطيع إنجاح القضية التي أنا هنا من أجلها.
- أية قضية؟
- فصل الألزاس عن اللورين، فالحرب الحالية تستأثر بالجيش، وليس هناك أحد غيرك قادر على الذهاب بالحركة الانفصالية إلى النصر. ماضيك المجيد يشهد على ذلك.
- أنا إنسان بلا ماض ولا مستقبل. تركت ماضيّ من ورائي، أبقى هنا، جامدًا جمود التماثيل. أخطأت العنوان! في الماضي، كنت من أجل توحيد جزيرة العرب على عكس الجنرالات الذين كانوا مع تفتيتها، من بينهم الجنرال أبسال، اذهب لتراه من طرفي، واطلب منه أن يقود حركتكم، سيقبل. أما أنا، فسأبقى ضائعًا في الحاضر طالما لم أجد امرأتي.
لم يشأ الفهم، جذبته من خناقه، وطردته.



























16

لم أعد أطيق صفارات الإنذار التي تصدع شاشات التلفزيون كلما أطلق سلامان صاروخًا. كنت أقفل أذنيّ بكلتا يديّ، وأصرخ من شدة الحنق. كانت باريس كلها ساحة وغى، مملكة يقتتل فيها الأمراء والرعاع. في الماضي، كان الناس يذهبون إلى الحرب، اليوم، صارت الحرب تجيء إلى الناس.
لم أعد أحتمل ردود فعلهم، المتحمس منها والساذج. لم أعد أحتمل ظلالهم أمام الشاشة الصغيرة، ولا همسهم أو صراخهم. لم أعد أحتمل كلامهم، بعد صمت طويل، وصمتهم، بعد كلام طويل. لم أعد أحتمل تعليقات المختصين، آراء المعلقين، الكذب في تنورة الصدق، لم أعد أحتمل سوء نية السفراء، الخبراء العسكريين، الأشاوس الورديين، تحليلهم "الموضوعي"، رؤيتهم "العلمية"، عقلانيتهم المصطنعة، وإنسانيتهم الزائفة. لم أعد أحتمل الفرق مما يقيمون بين سلامان موحد العرب وسلامان مدمر الغرب. لم أعد أحتمل ذكرى حروبي الماضية، ولا حياتي بين هذه الجدران.
كنت أريد فقط عيون المها، امرأتي، لأذهب معها إلى جزيرتي. كنت أريد الركوع بين يديها، والبقاء هكذا حتى نهاية الأزمان. كنت أريد الغرق في عينيها، والضياع في جبهتها، والموت فيها. كنت أريد أن أرتديها، أن أتقمصها، أن أمشي في قدميها، أن أرى من رمشيها، أن أشرب، أن آكل، أن أطبع آلاف القبلات على شفتيها. كنت أريد أن أنام في جسدها، وألا أستيقظ أبدًا. كنت أريد أن أصرخ في كوابيسها، وإذا ما لم تكن لها كوابيس، كنت أريد أن أصرخ مع ذلك، لأوقظ كل الغافين. كنت أريد كل هذا، ولكن شيئًا من هذا لم يقع. ذهبت عيون المها الغولية، وحدها، دوني، دون إشعاري.
استأجرت دراجة نارية لأجوب شوارع باريس، منتزهاتها، مقابرها، بحثًا عنها. فتشت في التوابيت، ولم أجدها. هزمني الموت. كانت حياتي. خرجت الحرب من شاشات التلفزيون، ودمرت كل شيء. بكى أهل باريس هزيمتهم. كانت هزيمتي. كانت الهزيمة أحد وجوه الشجاعة التي أحملها فيّ دون أن أعلم. جعلت من الهزيمة وجهي، فأشار الكل إليّ بالتبجيل والعرفان. عرضت هذا الوجه كي تعرفني امرأتي بين كل تلك الوجوه الخفية تحت قناع الحرب. كانت هي التي أفلتت الإنسان، ابن الإنسان. تمنيت لو أني كنت واحدًا من حيواناتي الأليفة لتميزني امرأتي بين باقي الناس. تمنيت لو أني كنت الكافر الوحيد في البلد بعد أن قلب اللغويون معاني الكلمات. تمنيت لو أني كنت أبشع الجنرالات، فأولئك المقنّعون كلهم كم كانوا جميلين إلى حد الفزع! كان صاروخ بلا هدف، أطلقه سلامان، يسمح لهم في الحلم بتحقيق كل أهدافهم المرعبة التي لم يحققوها. تمنيت أن ينتصر حليفي القديم فقط لأن أولئك الكريهين لم يعودوا يأكلون ستيك-فريتهم على العشاء بشهية. ولكن ما نفع التمني، وزوجتي قد ضيعتني، ولم تجدني؟
في الحروب لا توجد لقيا دون تحدٍ، فعزمت على قطع المسافة بين قوس النصر والقنطرة-الجديدة في زمن قياسي. كانت أيضًا طريقتي في مداعبة الموت. أسرعت إلى أقصى حد تاركًا باريس كلها من ورائي، بشوارعها، وساحاتها، وتوابيتها. وفي رأسي، امتطيت جِحري البيضاء الكريمة من أجل إعادة فتح الأندلس. انطلقت بمستقبلي المربوط كالصخرة بعنقي حتى حلقت في الأجواء. نبت للفرس جناحان، وحالت دون سقوطي في نهر السين، فأخذت كواسر النوتر-دام بمطاردتها. كانت لم تزل جائعة بعد أن أكلت كل زغاليل الحي اللاتيني وكل جراذينه. قاتلت فرسي ببسالة، وعند كل مرة كنت أريد فيها الموت، كانت قوة غريبة تتدخل لأبقى على قيد الحياة. خلال صراعها مع النسور، أخذت النجوم تتلألأ على سطح نهر السين. ثم، تجلى وجه اليقظان مبتسمًا، جاء تحت صورة تنين نافورة السان-ميشيل. استطاعت الكواسر بمخالبها ومناقيرها أن تجرح مطيتي في نقاط عديدة، فتمنيتُ استسلامها وتسليمي لطيور الموت، لكن التنين هرع لنجدتها. نفخ النار على كواسر الدين، فأحرقها جميعًا. وضعتني حِجري عند ذلك على الرصيف، وعانقت التنين تعبيرًا عن شكرها له. أبرقت ضربةُ برقٍ فيها، وجعلتها حاملاً في ساعتها. رأيتهما، وهما يغتسلان في نهر الحب، ثم طارا بعيدًا عاليًا نحو بيت بين الكواكب. مضت شهور من الضوء بلمح البصر، عندما عادا، كانت فرسي نتوجًا، وكان يوم وضعها. كانت سعادة التنين بالغة. سعادة اللهب لما يغدو أمة من نار. حملني على جناحيه ليرميني فوق نهر السين، وقبل أن أسقط في الماء التقطني. في إحدى المرات، رماني لزوجه، ولبطنها الثقيل، الثقيل جدًا، لم تستطع تلقفي، فسقطت في قعر النهر. قبل أن أفقد الوعي، سمعت صوت اليقظان يقول لي وداعًا. أخيرًا، نجح في التحرر مني. أحسست بخروجه من رأسي، وأنا أسمعه يصرخ:
- هذه الفرس هي كل المؤمنين!
وأغمي عليّ.



























17

أفقت في سرير أحد المستشفيات، وامرأتي تجلس قربي. عاتبتني لأني لم أعرف الانتحار.
- في المرة القادمة، عليك أن تنجح في رهان الموت، آلايف العرب؟
- من يكون، هذا آلايف العرب؟ أزرق عينك الأخضر الحزين هو أنا.
- أنت تبالغ!
- أسود شعرك الأدكن اللعين هو أنا.
- أنت تهلوس!
- أبيض خدك الأشد بياضًا من كل الشياطين هو أنا.
- وإذا ما كان لون أظافري نابليون؟
- سأكون نابليون.
دخلت الممرضة.
- تتكلم وحدك، يا موسيو روبنسون؟
- أتكلم مع زوجتي التي أقدمها لك.
ابتسمت الممرضة، وقهقهت عيون المها بطلاقة ساحرة بينما واصلت الممرضة تطبيبي. بعد رحيل اليقظان من رأسي إلى رؤوس أخرى ونفوس أخرى، لم يبق لي أحد سوى امرأتي. عندما غدت وهمًا، استعادت هويتها الحقيقية. وهم، رؤيا، طيف. كنت وحدي من يراها، من يسمعها، من يحكي معها.
- كل هذا جنون! قالت زوجتي.
- أنتِ جنوني الوحيد! وابتداء من اليوم لن أعيش إلا مع جنوني.
كانت الممرضة تبتسم ظنًا منها أني أتكلم دومًا مع نفسي.
عندما علمت القيادة بإفلاتي من الموت، أرسلت لي فاكس تهنئة من طائرة الأواكس التي تتابع منها دوران المعارك. طلب أبسال مني أن آخذ مكاني من جديد في ساحة الوغى، فسخرنا منه، أنا وزوجتي. لم يكن أبدًا مع الوحدة بين الشعوب. ولمناكدته، اقترحت عيون المها أن ألجم حركة الانشقاق في الألزاس واللورين. وافقت في الحال، وكان ذلك أيضًا لأفرغ نفسي من إله الحرب. كنت أريد الرجوع إلى نفسي، إلى إعادة امتلاكي لطبيعتي، الطبيعة. الطبيعة هي الطبيعة، والله هو الله. الخيال وحده ما يجد التشابه بينهما. لكلٍ جوهره الخالص، وجوده الخالص. وفي مكان آخر غير الرأس، هل يوجد الله حقًا؟ البعض يجيب بالإيجاب، والبعض يجيب بالنفي. في تلك اللحظة، كنت أريد التحرر من كل عدوانية كانت فيّ بالعدوانية، فاتصل الفرنسيون بي من أجل تكليفي بهذه المهمة.
- سنقمع اللورين أولاً، ثم سنسحق الألزاس، ونضم المنطقتين من جديد.
مما أسعد عيون المها.
غير أن الألزاس توحدت واللورين ضدي، فاضطررت إلى محاربتهما الاثنتين. استطاع جيشي سحق المتمردين في كلا المعسكرين، وتركت الألزاس واللورين من ورائي موحدتين حقًا، ولكن في النار والدم.
كان ضباطي يعتبرونني عبقريًا، ولكن عبقرًيا مجنونًا. وكانوا يفاجئونني، وأنا أتحدث مع زوجتي الخيالية. لم يكونوا يعلمون أنها كانت جنوني وإيماني، وأن هذا الإيمان كان يضيع من حرب إلى حرب.
قامت حركات أخرى في بريتانيا وكاتالانيا، فقمعتهما، هما أيضًا، بالحديد والنار. كانت زوجتي تدفعني إلى إحراق كل فرنسا لو يلزم، لتبقى موحدة.
أما كورسيكا، فقد حاصرتها بأساطيلي، وبمدمرتي فلقتها نصفين.
سألتُ زوجتي إذا ما كنت قد أتممت واجبي العسكري على أكمل وجه، فعانقتني تحت نظر جنودي الذين لا يرونها. ضمتني بين ذراعيها بشوقها المعتاد، ولولا حيائي الطبيعي لقمت بفعل التوله والافتتان معها أمامهم.
- لا أحد يراني غيرك، قالت شاكية.
لكني ثنيتها عما تريد بلطف.
ذاعت مآثري العسكرية في العالم أجمع، اعتبرني سلامان نموذجًا يريد الاحتذاء به. أراد توحيد جزيرة العرب، فرفض أبسال كل كلام حول الموضوع. اتصل سلامان بي، وطلب سلاحًا قويًا، أقوى سلاح يواجه به تفكك العرب، فحاول أبسال إقناعي بعدم تزويده إياه.
- يبقى سلامان حاكمًا عربيًا، وهو لا يستحق سلاحًا بهذا التطور، حتى ولو ادعى كونه حاكمًا عادلاً. وهل يعرف على الأقل كيف يستعمله؟
أكد، مرة أخرى، معارضته لكل توحيد لجزيرة العرب، هذه الصحراء من الرمل والسراب! على كل حاكم عربي أن تكون له واحته.
اتصل بي كل الدكتاتوريين "الوحدويين" في العالم كي أساعدهم في قمع الانتفاضات في بلدانهم، فقررت عونهم، على الرغم من رفض زوجتي، وإصرارها على دعم خصومهم. بالنسبة لها، كان من حق شعوب هذه البلدان، متوحدة أم متفرقة، أن تنعم بحلاوة الحياة، بحرير الحرية. ومع ذلك، طلبتُ من مصاصي الدماء أن يبعثوا إليّ بنعش، فبعثوا إليّ بنعش وضعت فيه ليس الانتفاضات القائمة فقط ولكن كل الانتفاضات السابقة واللاحقة، وجعلت رجالي يدقونه بالمسامير. زرعت المسمار الأخير بنفسي، وغرزته بقدمي.
























القسم الرابع
















18

رَقَّ ظمأي للدم وشغفي بفن الحروب، حاولت إقناع نفسي بعدم الخوض في حروب كانت تكشف عن ساقها هنا وهناك في أرجاء العالم. كلما عاد الهدوء إلى الأركان الأربعة للكون، كان أبسال يؤجج لهيب الشقاق بين الأمم، ليدفعني إلى القتال، لأعمل الشر هناك حيث أؤم، كي أفقد روحي إلى الأبد، بعيدًا عن الصفاء والنقاء والهناء، على طريق جهنم.
في أحد الأيام، عدت مثخنًا بالجراح. كان إله الحرب الذي أحمله في أناي على وشك الموت، وأنا معه. أخللت بالنواهي، وذهبت إلى جزيرتي في هاواي لأتعالج. لم تُرِدْ زوجتي أن أموت، لتسمح للوهم الذي كانته بالخلود في حياتي. برئ جسدي، لا إله الحرب. مات. دون آلهة ولا ملائكة، لم يكن باستطاعتي القتال وحدي ضد الطبيعة. كنت بالفعل وحيدًا. لم يبق لي سوى عيون المها، المجردة، اللاحسية، الخادعة، التي لا أستطيع نزعها من دماغي، والتي ما أكثر ما أحتاج إليها في جزيرة عادت حيواناتها إلى حالتها الوحشية. ليس لأن الله خلقها هكذا، ولكن لأنها تريد أن تكون على صورة الله، وهي وحشية، كما تريد أن تكون على صورة الله، وهي ليست وحشية. كان السلام ما بينها قصة قديمة، وما بينها وبين الإنسان. كان كل نوع يريد أن يقيم قانونه، وداخل كل نوع، كان كل حيوان يريد أن يسيطر على نظيره. كان باستطاعة التحضر فقط أن يجمعها على الرغم من تعددها، والتحضر كان أنا. تحضر استنفدت قواه، وتحطم، وتعب، أعطى كل شيء، وها هو يلهث تعبًا.
لم تعد الأسود تخضع لي كما كان عهدها في الماضي، ولا الفهود، ولا أحمرة الوحش، ولا الفيلة. تحدتني قوارض الجزيرة، ونعبت الغربان في وجهي. كانت قروش البحر مهدِّدة، دومًا مهدِّدة، ولكن الآن، حتى الدلافين تبدو مهدِّدة. عضت المحارات قدميّ، وتحالفت ضدي فراشات الزهر وحشرات الليل والحُباحِبات المجنحة اللماعة والنحل والنمل وكل أشباهها التي كانت تعيش بسلام وطمأنينة.
تضاعفت المركّبات السياحية على الساحل أثناء غيابي، ولم يقلع البشر عن الفتك بالحيوانات. لم أستطع فعل شيء، واستسلمت استسلامًا كاملاً. في الجزيرة أو في غيرها، لن أكون كما كنت في الماضي. مع ذلك، رفضت امرأتي أن أترك هذه الجزيرة نهائيًا، تحت ذريعة أنني سأبعث روح الحياة في صدرِ إلهِ حربي، وأحوّل العالم إلى جزيرة يغمرها الدم. كانت أوطد مني حكمًا، الآن وقد جعلتُ منها وهمًا قويًا. تمنيت لو أبعث بها إلى الباكستان أو الهند لتغدو امرأتي الأولى، فردًا إلى الأبد هشًا. كانت أمنية لن تتحقق أبدًا. وعلى العكس، كانت هشاشتي وضعفي وعجزي لا تتوقف عن التضخم.
في إحدى الليالي، وزوجتي نائمة قربي، هاجمتني جيوش النمل، وانقضت عليّ جماعات النحل. حيدتني منذ اللحظة الأولى، وأنا أصرخ بعيون المها مستنجدًا، وعيون المها تنام نومًا عميقًا.
بعد أن أشبعني فِرْقُ النحل لدغًا، رمتني كتائب النمل أرضًا، وأخذت بالتهامي. بح صوتي، ولم أعد أقوى على الصراخ. رأيت نهايتي تقترب. عندئذ، وروحي المعنوية في الحضيض، رفعت رأسي إلى السماء، وأخذت بالدعاء والابتهال. كانت نجوم الجزيرة قد تركتني أواجه مصيري الحزين، وبالدنس أحرقني لُجَيْنُها. نسيت كل كائنات الجزيرة الصراع ما بينها، وجاءت لتشاهد بسعادة عملية الإنهاء عليّ. لم تكن ترى مع الأسف امرأتي التي لا يراها أحد سواي، وامرأتي لا تراني. كان باستطاعتها أن تخيفها، كان باستطاعتها أن تحميني، كان باستطاعتها أن تدافع عني. كنت تلك الفلسفة الهجينة التي على وشك أن تكتمل. حاولت الخلاص بأزرق عينيها الأخضر الحزين، كل محاولاتي ذهبت هباء، وبقيت عيناها مغمضتين.
كانت جحافل النمل تنجز مهمتها بدقة وإتقان، وكانت أسراب الكلوريون، التي من طبيعتها تحب العزلة، قد خرجت عن عهدها في الحب والحرب. كما كنت كانت، بسحقها كانت تريد أن تعلو، أن تكون إلهية، كصفة مكتسبة للإنسان وللحيوان على حد سواء. الصراع إذن إنساني أو حيواني، ليست مهمة المسميات، الإذلال، الإجرام، الإفناء، القضاء على الإنسانية، القضاء على الحيوانية، القضاء على الكون. ضعفت أنفاسي، والجيوش من الحشرات تجتاحني، تتوافد من كل الجهات، تنتشر في كل الاتجاهات. ارتدت جسدي أجنحة سوداء وحمراء وخضراء، وأحسست فجأة بالارتفاع عن الأرض. كنت على وشك الموت، ولكني أهتز للقفزات، وكأني أنهض من العدم، وأحلق. راقصات هاواي استقبلنني، وعانقنني. رحت مع أجسادهن ذهابًا وإيابًا، وقمت بفعل التوله والافتتان مع الموت.
كانت امرأتي تنام ملء جفنيها، عالم النوم مملكتها، وسلطة النوم تاجها، كانت الغائب الحاضر اللذين لن أكونهما، الميت الحي، النائم اليقظان، وكانت آخر صورة لها انطبعت في دماغي. تمتمت "وداعًا" و، في تلك اللحظة، قطعت سماء الجزيرة طائرة مروحية. كالعُقاب الحديديّ. كالملاك الجهنميّ. كالبعيد المنال. كان أبسال، وكان حالي يغني عن السؤال.
ونحن نقلع في خط عمودي، أشرت إلى امرأتي. كانت تنام هناك. نظر أبسال إلى المكان الذي أشير إليه، ولم ير شيئًا. لا شيء. لا أحد. المكان الممتلئ بالمكان. قال لي: "أبوك لم يمت، وجدناه في مستشفى للمجانين، وهو حي يرزق." كنت على وشك أن أفارق الحياة، وها أنا حي ابن حي.


عمان السبت الموافق 1 نيسان 1995

التعديلات الأحد الموافق 29 آذار 2015








أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995
7) كوابيس 2013

الأعمال الروائية

8) الكناري 1967
9) القمر الهاتك 1969
10) اسكندر الجفناوي 1970
11) العجوز 1971
12) النقيض 1972
13) الباشا 1973
14) الشوارع 1974
15) المسار 1975
16) العصافير لا تموت من الجليد 1978
17) مدام حرب 1979
18) تراجيديات 1987
19) موسى وجولييت 1990
20) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
21) لؤلؤة الاسكندرية 1993
22) شارع الغاردنز 1994
23) باريس 1994
24) مدام ميرابيل 1995
25) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
26) أبو بكر الآشي 1996
27) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
28) بيروت تل أبيب 2000
29) بستان الشلالات 2001
30) فندق شارون 2003
31) عساكر 2003
32) وصول غودو 2010
33) الشيخ والحاسوب 2011
34) ماكبث 2011
35) ساد ستوكهولم 2012
36) شيطان طرابلس 2012
37) زرافة دمشق 2012
38) البحث عن أبولين دوفيل 2012
39) قصر رغدان 2012
40) الصلاة السادسة 2012
41) مدينة الشيطان 2012
42) هنا العالم 2012
43) هاملت 2014

الأعمال المسرحية النثرية

44) مأساة الثريا 1976
45) سقوط جوبتر 1977
46) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

47) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
48) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
49) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
50) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
51) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
52) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
53) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
54) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

55) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
56) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
57) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
58) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
59) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
60) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
61) خطتي للسلام 2004
62) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
63) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
64) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
65) الله وليس القرآن 2008 - 2012
66) نافذة على الحدث 2008 - 2012



في رواية أبو بكر الآشي لأفنان القاسم، يعد البطل تحت عيني القارئ صيغة جديدة لرواية ابن طفيل حي بن يقظان ضابطًا حبكة هذه "الرواية في الرواية" تبعًا للأحداث التي يعبرها. سيقوده بحثه عن الحقيقة من إسبانيا إلى الأردن ثم إلى المغرب ليعود في الأخير إلى الأردن، وستفقده تجربته في الحب المستحيل عقله، فتعطي للحكاية التي سيخرج بها منه بعدًا أقرب إلى الهلوسة والهذيان. تشكل هذه الحكاية الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون، الضابط الأمريكي الذاهب من حرب إلى حرب وفي ظنه إنقاذ العالم وإقامة السلام والعدل، والذي لا يقلع عن ظمأه في الفتح والغزو إلا على أبواب بغداد، بعد أن اكتشف الحب على خلفية حربه في جزيرة العرب. عندئذ تصبح المرأة العنصر المركزي للوجود وكينونة ما فوق الوجود أيًا كان الشكل الذي تظهر تحته: حقيقيًا أم وهميًا. أفنان القاسم يشبك القرط السردي هنا، فها هو جوابه على السؤال القديم جدًا الذي طرحه أبو بكر بن طفيل.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...





#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب ...
- الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب ...
- الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب ...
- الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب ...
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
- أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون النص الكامل النهائي