أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع















المزيد.....


أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4741 - 2015 / 3 / 7 - 12:28
المحور: الادب والفن
    


- تلك الليلة، جاء بسام المنصوري ليراني، بصحبة صديقته. أن تكون معه، جعله محبورًا كطفل. ومع ذلك، لم يُخْفِ اضطرابه من وجوده في عمان. لا، الحب لا يبدل المكان إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. على عكس ما تقوله القصص، جبروت الحب يبقى محدودًا. وَصَفَ عمان بالمقبرة، وقارن سكانها بالموتى. وَضَعَتْ صديقته رأسها على صدره، فابتسم لها بتوله، وواصل ذمه بتهكم. كان يكره رائحتهم، خاصة رائحة المازوت التي تجتاح بيوتهم. بدا حائرًا، فسألني كيف أحتمل كوني بينهم؟ سبهم، وسب عمان، ولم يتأخر عن قول:
- نعم، هناك ناحية جميلة في هذه المدينة، محجوزة للأقوياء الذين يتقاسمون كل شيء. أنا، أيضًا، أريد نصيبي من قرص الحلوى. عليك أن تطالب بنصيبك، أنت، كذلك. نحن صُنعنا لنحكم هذا البلد.
- لا، حمدًا لله! قلت له، طلقت السياسة لأتزوج الجمال!
لم يفهمني. بدا مكروبًا، لكنه رمى صديقته بنظراتِ طائرٍ كان متيمًا، وبشَّ.
- أنا أختنق هنا، لو تعرف. رائحة البشر تخنقني. حتى الزهور لها رائحة كريهة!
نظر في عيني صديقته الخضراوين، وهشَّ.
- لولاها لمت، همهم.
لم أحك لهما عن حبي. عالَمُ النجوم عالَمٌ أناني. سأكشف عن سري في اللحظة المناسبة. سأقدمها لهما قائلاً "ها هي مليكة الأندلس!"
بدا مكروبًا من جديد، سألني كيف أوفق إلى احتمال البقاء بعيدًا عن زوجتي وبناتي. وضعني سؤاله أمام هاوية مُدَوِّخَة. دروب العواطف تتقاطع، حقًا، لكنها تبقى متمايزة. ثم قال لي:
- أنت شيء آخر. هل تعرف لماذا أصبحت كاتبًا عظيمًا بدلاً من طبيب عظيم؟ لأنك وضعت الزوجة جانبًا والأولاد لتتفرغ للكتابة، لجمال الكلمات!
لقد فهم ملاحظتي السابقة بهذا الشكل. وأنا أفكر في مشروع إعادتي لكتابة "الحي"، وجدته محقًا فيما قال. كانت رشا الشخصية البدائية لبطلي، الغزالة، وستكون المرأة، الملهمة، كمدريد، المتآمرة. أعلمني أنه في صدد كتابة قصائد جديدة: تزاعل مع صديقته من أجل باقة زهر أصفر، نادر في هذا البلد، وكتب عشر قصائد على أَثَرِ هذا الحدث دون أن يستغل كل استلهامه. دخن، وابتسم، وداعب شعر محبوبته.
- آه! كم أرغب في الرحيل. للذهاب إلى مدريد حيث الزهور الصفراء في كل مكان، في الحدائق، وفي كل مكان.
- منذ "الجنت" العسكرية، الأجانب غير مرغوب فيهم.
- أو إلى أية مدينة غربية، مع أو بلا زهور صفراء، تستقبلني.
كان محزنًا لمصيره، وهو يبتسم مُغتمًا.
- عمان تقتل الشعراء، همهم.
دعاني بسام المنصوري وصديقته إلى مطعم في الغد، أشوي فيه لحمًا بنفسي. غير أني نابتيّ، لم أعتد أكل اللحم، أتغذى بالنبات دون سواه. أحب رؤية الكليتين، شكلهما، لونهما، ملمسهما، ولا أطيق أكلهما. لا أجدهما جوهرًا لشيء، وهما باردتان، وهما ساخنتان، كالقلب، لا شيء يسكن فيهما غير الدماء. إلا أنني قبلت الدعوة، وأنا أفكر في اصطحاب رشا معي. نهض الشاعر، ونظر إلى ليل عمان من راصدتي. كانت النجوم ترصّع القبة السوداء، ولم ير أيها. أطل برأسه من النافذة، ، وكل شيء ساكن في الحي.
- هذه المدينة مقبرة، أعاد، تتحاذى على أرصفتها سيارات المرسيدس وصناديق القمامة التي يبحث فيها الناس عن شيء يأكلونه!
نظر ثلاثتنا من النافذة. كان أحدهم ينبش القمامة كمن ينبش قبرًا، مما أحزنني كثيرًا، ومحدثي يبتسم.
- أحبك عندما تكون حزينًا، قال المنصوري بفرح، عندما تكون حزينًا تشبه كامو.
- صحيح، أكدت صديقته، حزين أم غير حزين، أنت تشبه كامو.
- هذا لأني قرأت "حيه"، الغريب، عشرات المرات، علقتُ.
- لا، ليس لهذا، قال صديقي. أنا أيضًا قرأته إلى حد ظننت فيه أني كاتبه، ومع ذلك، أنا لا أشبه كامو مثلك. ربما كنتَ كامو دون أن تعلم. يمكن لكاتب أن يأخذ قصة آخر وكذلك صورته، عندما يكون أصيلاً، فالبشر ما هم سوى صور تُنسخ إلى الأبد. لهذا تتشابه أقدارنا إلى درجة تصبح فيها قدرًا واحدًا، أحدًا، فاجعيًا، الأكثر فاجعية.
- انظرا! صاحت صديقة بسام، النار!
- لو كنت مكان هذا الغريب لأشعلت النار في كل الحي وليس فقط في صناديق القمامة، قال المنصوري.
كانت رشا، هالني منظرها، كانت النار، بضوئها الثاقب، وفعلها الغالب، كانت تلتهم الليل، القبور، العالم. رحت أجري صوبها. لما وصلتُ، كان الجيران قد أطفأوا النار، والدخان يتصاعد نحو السماء. تفقدت المكان بحثًا عنها، فوجدتها، تحت عمود الكهرباء الأخير، وهي تنقل بأصابعها قبسًا منها. هل كانت في مدار لم أكتشفه أم اكتشفته؟ لحقت بها، ولهب النار التي بيدها ينكسر نحو الأرض بدلاً من اختراقه العلياء. صعدتْ درجًا في جبل القلعة، وأنا ألهث من ورائها. ومن باب في سور الديوان الملكي، دخلتْ. طرقتُهُ، ففتح الفزاع. استغرب:
- أنت!
- أنا.
- ماذا تريد؟
- ريم.
- من هي؟
- الفتاة التي أدخلتها.
- ولكنها ليست ريم.
- أريدها.
- هذه غزالة.
- أريد غزالة.
- كم تدفع؟
- لماذا؟
- لتكون لك.
- ما تشاء.
- تعال.
أدخلني، والقصر لا أحد فيه، لا نسر، لا شجرة سنديان، لا كلاب، ولا ذئاب. قرب باب المكتب الملكي توقفت.
- لا أريد أن أزعج جلالته، قلت.
- جلالته ليس هنا.
أدخلني في حجرة ملأى بالظلال، فلم ألاحظ رشا، عارية كلها، وهي تجلس على الكرسي الملكي.
- إنها لك، قال الفزاع... بعد أن تدفع.
- ولكني لا أريد...
- إذا لم تأخذها أنت أخذتها أنا.
- أريد فقط أن أرى النار إذا ما أحرقت يدها.
- تحرق النار هي ولا تحرقها النار.
رماها على مكتب الملك، وراح يضاجعها، وهي تنظر إليّ بعينيها الميتتين.
اليوم التالي، أول وصولي إلى المكتب، تلفنت لرشا. كنت سيئ المزاج لأني لم أنم جيدًا. بسام المنصوري –كما هي عادته- جعلني أفكر في المسائل الحقيقية، المسائل المتعلقة بحياتنا. غير أن مسألة واحدة كانت تشغلني بالفعل: الحب الذي تحمله أم لا تحمله رشا لي. هذا المصير الفاجعي الذي سيربطنا، أليسه سريعًا بعض الشيء؟
سألتها إذا ما نامت جيدًا، فضحكت.
- أنا، قلت لها، لم أنم جيدًا.
لم تقل شيئًا. كانت تتنفس. أحسست بدفء أنفاسها، علمًا بأننا كنا على الهاتف، بنفح أنفاسها، وكأنها تقترب لتقبيلي.
- بسام المنصوري، سمعتِ عنه، أليس كذلك؟
- الصحفي والشاعر؟
- دعاني مع صديقته إلى مطعم، هلا رغبت في المجيء؟
تغير صوتها، غدا جافًا، وبدا غريبًا دفعة واحدة. كان لأنفاسها وكلماتها فعل الصفعة عندما قالت:
- لا أستطيع.
ولأي سبب هذا التغير المفاجئ؟
- أمس، رددتُ، كنتِ موافقة على كل شيء معي، فهل هذا بسبب التزاماتك الجامعية؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- من الصعب عليّ أن أشرح لك على الهاتف.
- آه، طيب! سأحضر إلى مكتبك على الثانية عشرة.
في الساعة المحددة، فتحت بابها، وأغلقته من ورائي.
- إذا كان على الحب أن يوجد، قلت مدفوعًا بالغضب، فبجنون، وإلا فلا حاجة إلى الجحيم!
- لا تزعل، قالت، وهي بيضاء كلها.
- إذا كان السبب الآخرين، فأنا، العالم العلامة، أهزأ من الجميع.
- ليس بسبب الآخرين.
- إذا كان السبب عمري، فاعلمي أن في داخلي شابًا بعمرك.
- ليس المقصود سنك.
- إذا كان السبب زوجتي وبناتي، فسيفهمنني بناتي عندما يكبرن، وزوجتي مسؤولة جزئيًا عما يحصل.
- ليست بناتك وزوجتك.
حيرتني:
- أما إذا كان الأمر متعلق بفارق مستوانا الثقافي، فسأجعل منك مليكتي في كل شيء.
وضعتُ على مكتبها أحد كتبي الصغيرة:
- هذا الكتاب ستتذوقينه كحبة شوكولاطة.
ابتسمتْ. انتظرتُ أن تريحني بجواب شاف، فلم ترحني بأي جواب.
- سأذهب، ستضيعين فرصتك، وسيندم الندم عليك!
منعتني من الذهاب، وطلبت مني الجلوس.
- سأحكي لكِ حكاية، قلتُ، حكاية شاعت في كل مدريد قبل حكاية آميديه وإيزابيل. إنها حكاية لفتاة لم تبلغ الخامسة عشرة، أحبت صديق أبيها، أكبر منها بأربعين عامًا، وتزوجته رغم أنف أبيها وباقي أسرتها. كانت تحبه، وصديق أبيها سيقدم لها عشر سنوات من السعادة، السنوات العشر الباقية من عمره. أي شاب باستطاعته أن يقدم عشرة أيام، فقط عشرة؟ لا أحد يستطيع أن يضمن ذلك. أنا، أعدك بتقديم عشرات السنين من السعادة. وقبل كل شيء، سأقدم لك، على طبق من ذهب، كل تجربتي. آه! كم ستكونين ثرية، أثرى امرأة أحبت في العالم! آه! كم ستكونين سنية، أسنى امرأة تغار منها النساء في الكون!
كنت أريدها بأي ثمن، فاخترعت صورة ساطعة للمستقبل. ابتسمتْ بحزن، وبعد لحظة تردد، قالت إنها كلمت أمها، حكت لها كل شيء، وهي لم تفعل ذلك إلا بإملاء من التربية القويمة التي نشأت عليها، إرث عائلي منذ قرون وقرون، منذ الأندلس. كانت دهشتي كبيرة. لم يخطر ببالي أن تبدأ علاقتي بها بِمُسارّات لأمها.
- أنا لا أرى أي مانع بإخبار أمك، قلت بنفاق، على العكس، أنا سعيد بمعرفة ذلك، ولكن علينا أن نجرب مشاعرنا أولاً.
- إنها عاداتنا وتقاليدنا، قذفتْ.
بعد قليل، أضافت:
- قلت لأمي إنك جئتني إلى مكتبي، وطلبت مني الخروج معك. هل تعرف ماذا كان ردها؟ إذا كان يريد أن يراك، فليأت إلى البيت، عندنا.
امتصني لولب العادات والتقاليد، أنا الساعي إلى عاصفة المحبين. جرفني إعصار الذهاب إلى البيت، أنا الهارب من رائحة المازوت، كما يقول بسام المنصوري، والنفاق التوافقي. راودتني فكرة حزينة، من ورائها مساعدي القديم، أنطونيو، لم أدر لماذا. كان عليه أن يحتمل أوامري، النظام القائم.
قلت لها باحتداد:
- اسمعيني جيدًا! أريد أولاً أن أحبك. كان باستطاعتي الخروج مع أية واحدة، وهن كثيرات، ولكن أنت من أريد. تركت كل شيء، القصر الملكي المدريدي، قصر الموحدين، كل قصور العالم، لتكوني لي. العلماء يقولون لا شأن للقلب في هذا، كل شيء يجري في عقل الإنسان. هرموناتي وهرموناتك تآلفت ذبذباتها المغناطيسية، لتنتج تيارًا كهربائيًا هو الحب. يمكن أن يكون الكره، ثم الحرب... في حالتنا هو الحب الذي أراه فاجعيًا، ها هو الدليل!
لم تشأ أن تفهم شيئًا:
- أنت تبالغ! لن أكون الملهمة التي تبحث عنها، لن أكون التي تريد!
تركتها مغيظًا، وصفقت الباب من ورائي.
في حلمي، حِرْتُ في أمري، فَحُرْقُ بطني ينتشر، والصديد ينهش أحشائي. وأنا بين الحياة والموت، كنت أعاني أشد معاناة. وبينا هي على السطح، فكرتْ رشا بطريقة تقضي فيها عليّ. أشارت إليها ثلاث حمامات سوداء وبيضاء وصهباء، وقالت: "لو سمعت هذه المرأة ما نقول لأنقذت زوجها الذي سيغفر لها خطأها." أصاخت رشا السمع، وهي تخفي نفسها من وراء عمود. قالت الحمامة الصهباء: "من لحمنا المطبوخ المسحوق المرهم الذي سيشفي الزوج المخدوع، ولكن هذه الغبية لا تسمعنا، ويا لحظنا..." وانفجرت الحمامات الثلاث تقهقه لما سقطت عليها رشا، وأمسكتها.
طبختها، فجذبت رائحتها الزكية ثلاثة عشاق: أسود وأبيض وأصهب. أكل كل واحد منهم حمامة، وأنا أناديها، وأسترحمها. ضحكت مني، وعانقت عشاقها واحدًا واحدًا أمامي، إلى أن فاضت روحي.
انتظرتُ أن تتصل بي رشا في اليوم التالي، لنزيل سوء التفاهم، لنواجه هذا الحلم، حلم كما يبدو يعارض عاطفتنا، عاطفة كما نرجو ألا تكون نزوة عابرة، ميلاً إلى الدعابة، أو اندفاعًا عاطفيًا. تعمدت الذهاب إلى الجامعة مبكرًا، غير أن يكون لدي ما أفعله قبل نهاية ما بعد الظهيرة. انتظرت بعناء أن يقرع الهاتف، فتراكم في نفسي نوع من العداء نحو أمها. كانت سبب هذا التغير. بالمقابل، تعلقت برشا أكثر.
في اليوم التالي لليوم التالي، لمحتها مع زميلتها، وهي تقطع ممر الطابق الأول. ذهبتْ في عطلة دون أن تودعني. لم أر في لامبالاتها شيئًا آخر غير ضغط نفسي يدفعني إلى طرق باب بيتها. لم تكن العادات والتقاليد، ومع ذلك خانقة تلك العادات والتقاليد، التي تمنعني من الإفضاء إلى رشا، كانت أمها. منعتها من التكلم معي، من رؤيتي. ربما كانت لا تريد لابنتها أن تركب ظهر مغامرة لا قوام لها، مع كهلٍ قادمٍ من إسبانيا!
قررت مقاومة أمها على طريقتي، وطريقتي كانت الكتابة. في صيغتي الجديدة لرواية حي بن يقظان، يبحث جون روبنسون عن الإفضاء إلى المعرفة الإلهية عن طريق آخر غير الحدس. وجدتُ له رشا الشرقية، أو المرأة المحرمة. بهذه الوسيلة، لن يكون باستطاعته إدراك الله إلا عبر الوهم الأنثوي. بإحلال الوهم محل الحدس، سأقلب الوضع في صالحي، فأغزو قلب رشا، الحقيقية.
انهمكت في الكتابة، لأول مرة، منذ وصولي إلى العاصمة الهاشمية. منذ شهور، وأنا أنتظر الوحي والإلهام، وها هي الكتابة تتدفق، تتفجر. عملت ليل نهار، بتفجير اللغة بالديناميت، الأساطير، القناعات. كانت رشا بطلتي وملهمتي. كتبت لها وعنها. كل سطر، أحببتها أكثر. كان حبي يكبر على الورق وفي قلبي. كنت أَغِيرُ من بطلي، جون روبنسون، "الحي" الجديد الذي لي. كنت أريد دفعه إلى الانتحار. دفعته إلى مخاطر لا تخطر على بال. عذبته في جهنم. جعلته يحب رشا حبًا بلا أمل. دمرت أمانيه، أعدمت أحلامه. جعلته يعتقد بالإفضاء إلى الله، وفي الواقع إلى ظل دامس. جعلته يفكر في التوصل إلى القادر العليّ، ولم يكن ذلك سوى جذع يابس. أنزلت به كل نوازل الأبطال الخياليين. اتهمته بكل ذنوبهم. تركته نهبًا للظنون. رميته في شباك الحب، وتدبرت أمري كي يكون جنونه سببًا في عذاب نفسي حاد. شئت له الجنون المجنون. قذفته كريشة الرسم العديمة الجدوى التي رُسمت بها "عُباد الشمس"، كالشفرة المربكة التي قُطعت بها إذن فان غوغ. رسمت له مصير ابن قحبة، وكل هذا لأجل استعادة المرأة التي اختطفها مني. هل سيتركها لي؟ هل سيقبل الاعتقاد بالوهم الذي تجسده إلى الأبد؟ والتي أحبُّها، هل كانت، منذ البداية، وهمًا بلا علمي، أو كنتُ على يقين من كونها وهمًا، وفي الوقت ذاته أرفض الاعتراف بذلك؟
ذهبت لأرى رشاد رشد، أصغر إخوتي، وحكيت له كل شيء. كان بين مصدق ومكذب. له، للمحامي الذي كانه، كان الأمر كقضية خاسرة سلفًا.
- إذا كنتَ تحبها، قال، فهذا الحب شاهدك الوحيد لإثبات حسن نيتك، فيما أنت تعلم أنه يختلف عن حب العِلم أو حب الفِلاكة أو أو حب الكتابة. هنا، أنت لست السيد لخلقِكَ ولكن بالأحرى الرقيق!
لم يسأل إذا ما كانت تحبني، كان شرقيًا حتى النخاع. لم يكن يريد أن يعرف إذا ما توقفت رشا عن حبي بعد تدخل أمها. ربما لم تحبني يومًا، أو ربما لم أفهم من العادات والتقاليد شيئًا. لم أقل لأخي إنني أشك في نفسي. تقاتلنا، أنا وجون روبنسون، للظفر بهذا الحب. كان عليّ أن أقاتل حتى النهاية. قررت، إذن، استرجاعها، على طريقتها، مهما كلف الأمر. سأتخلى عن كل ما يخص حياتي منذ نصف قرن، بما في ذلك أخلاقي الغربية، لأخوض غمار الحب على الطريقة الشرقية. كنت مشغوفًا بها. لم تكن الجذع اليابس الذي تخيله جون روبنسون ظانًا أنه الاتحاد بالله. كانت حبيبتي من لحم وعظم. كنت أعبد توت ثغرها، ليل شعرها، عندما لا تُعرف لليل الألوان: فضة القمر، اخضرار الربيع في عيني رشا، وزرقة الصيف. كل هذه الألوان الليل. لكل هذه الألوان لون واحد، قاتم.
أليسه الحب، ألا تميز بين الألوان؟
في أحد الأيام، هبط عليّ فجأة بسام المنصوري، وصديقته تتبعه، وأنا أفيض كتابة. تقاتلا أمامي، ولعن كل منهما الآخر. سلق المنصوري أباها وجدها وكل عشيرتها. أنا من كنت مستعدًا لكل شيء كي أصون عائلة رشا، ها هو ينحر أنسابه بكلام لا أجرؤ على إعادته. تبدت صديقة صديقي لصديقي كاللبؤة، مجيبةً أن كل هؤلاء الذين يسبهم، شاء أم أبى، هم فخرها، وهي لن تنسى ما قال ما بقيت على قيد الحياة.
كانت منازعة زوجين بين منازعات، ولكن تحذيرًا كذلك تناولتُهُ بلا اكتراث. كان عليّ أن أوقف كل شيء مع رشا، أن أعود إلى تصوراتي الفلسفية القديمة، أن أرجع لزوجتي، لِمَلِكِي، لبناتي، أن أرجع لنفسي. بالمقابل، تساؤلٌ بسيط من بسام المنصوري وضعني من جديد على خطي السكة الحديدية لجنوني.
- هل تعرف من هو البطل في كل هذا؟ قال متوجهًا بكلامه إليّ، الجنس!
- الجنس؟
- نعم.
- الجنس.
- هذا هو كنه علاقتنا التي تبدو من الخارج أجمل علاقة، ومن الداخل أبشعها. إنها ناحيتها البدوية التي تبرز منها!
كانت هذه الناحية البدوية الدفينة فيّ منذ الموجة الأولى للهجرة إلى الأندلس التي تنبثق، هذه الصفة الوحشية، هذه النزعة الجنسية البدائية للإنسان منذ كانت الحياة. كان الجنس بطلاً ذا وجوه متعددة للحياة بكل بساطة. هذا ما قالته الصديقة بدمعها:
- ولكنك أنت الذي يعتبر الحياة كقضيب!
بكت، وهي تقول إنها إنسانة قبل كل شيء، وكل هذا سببه الغيرة.
- إذا ما انتزعتِ الغيرة عن بسام المنصوري، قلتُ لها، لن يكون نفسه، غيرته وجوده، يحيا بفضلها، يبدع بفضلها، يكره العالم بفضلها!
مهما كان، كان عليه الاعتذار. أبوها يبقى أباها رغم كل شيء، قالت الحبيبة، بإرادته هي هنا، وإليه يعود كل الفضل. كان المنصوري يحبها، يا أخي. كان يحبها بغيرةٍ منها. تنازل، وطلب منها أن تغفر له. أحسستُ به يعتذر عن قصيدة رديئة كتبها، فأشفقت عليه أكثر من جون. أعطاها ظهره، وضع يديه على الجدار، وطلب منها الاعتذار بدوره. كان الأمر طبيعيًا لغيور. رفضتْ، ثم لإلحاحه، همهمت "أعتذر" بالإنجليزية.
- كل شيء يعود إلى نصابه، قال، وهو يرفع يديه عن الجدار، وينظر إليها بابتسامة متخمة على شفتيه. أخلاقيًا، أضاف، استعضتُ عن كل ما أسيء إليّ.
نهضت صديقته فجأة، وأرادت الذهاب. لم أفهم لماذا. ربما لأن خطيبها قال إنه تعوض أخلاقيًا، أو، ربما، بسبب ابتسامته. هددها لو ذهبت قطع كل شيء بينهما. ومع ذلك، ذهبت. غاب طويلاً مع أفكاره. كان يحبها. لم يكن يحبها عَبْرَ وهمها، هي. على حين غِرة، قال لي:
- هل تعرف لماذا أحبها؟ لأني أكره عمان. هل تعرف لماذا أكره عمان؟ لأن هذه المدينة زوَّجَتْهَا رغم أنفها من عاجز جنسيًا. مقابل ذلك، بعدما قرأتني، قررت أن تكون زوجتي. بعد ليلة لم تغف لها فيها عين، جاءتني تقول "خذني، أنا لك!" كانت تريد أن تكون ذاتها، ولكن دون أن تعلم، صنعت مني شخصًا آخر. لم أعد ذاتي. لهذا أتعلق بها، لهذا أجن بها.
لم تكن بعد حالي ورشا، غير أني، في تلك اللحظة، اتخذت قرارًا حاسمًا بألا أكون ذاتي. اتخذت هذا القرار بكل قواي. لأجلها، تخليت قبل الأوان عن كوني ذاتي. سأكون كما ترغب أن أكون. سأغدو طريقها الطويل إلى ذراعي عمان منذ مئات السنين. سأكتب على جسدها حكاية العجز المرفوض، الرغبة اللامُشبعة، والمتعة المختنقة. سيكون تعويضي الأخلاقي الوحيد.
قرار خطير، لكنه جسيم!
كان توت ثغرها وليل شعرها وحزن عينيها مصدرًا لمثل هذا القرار، آميديه أيضًا، الذي أنا وارثه. جون روبنسون كذلك، منافسي، ويأس نصف قرن قضيتها في كتابة حكايتي. أضف إلى ذلك، العمر الذي لم يعشه كامو، وعمر بطله، الغريب، لقاء اغتراب حريتي، حبًا لرشا حتى الموت.


يتبع الفصل الخامس من القسم الثالث



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السادس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الخامس عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الرابع عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الحادي عشر


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع