أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس















المزيد.....

أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4742 - 2015 / 3 / 8 - 14:15
المحور: الادب والفن
    


- في ساحة الجامع الكبير، أشعل الفزاع النار في أكوام الكتب المحرمة، ليزداد أنسه بها ليلاً. كانت رشا في حجابها الأسود، تصب العطر عليها، لتطفئها، وتنقذ الكلمات من مصير لم تكن تقدر على احتماله. غضب الفزاع منها، وانتهرها، لكنه لم يقدر عليها. كان عنادها من عناد الدخان، والدخان يتحرك في كل الجهات، كالأدب بين السطور، والعلم بين المدارات. كان الدخان جوهرًا من الجواهر السماوية، والنار جوهرًا من الجواهر الأرضية. حل الدخان محل الضياء، وغدا الاشتعال بطيئًا. زالت محبة الفزاع للنار، فجاء بقفص مليء بالأرانب البيضاء، راح يذبحها، ويلقيها في لهبٍ على وشكِ الانطفاء، لكن الدم الساخن أضرمه، فاختلط الدم بالعطر، لتكون النارُ أكثرَ دمارًا من أي وقت آخر. لغيظها، أخذت رشا تذبح الحيوانات البريئة، وترسلها طعامًا للسعير. تحول غيظها إلى متعة، وانتقل القتل من متعة في ذاته إلى متعة لذاته. أردتُ أن أسحبها بعيدًا عن مرامي الفزاع المفزعة، فوقف بيني وبينها كالملاك الهاشميّ.
- هي متعتها وحريتي، فاتركها لشأنها.
- تعالي، يا غزالة.
- اسمها ليس غزالة.
- الشيطان!
- اسمها ظبية.
- تعالي، يا ظبية.
- لم تنته بعد من الذبح.
- ذبح العطر؟
- ذبح كل ما له رائحة زكية في النار والعطر في النار رائحته بغية.
- سأتركها لك.
- اتركها للمستقبل.
- سأتركها.
- هكذا ستكون أختًا للحيلة.
- هكذا ستكون.
- خذ لك كتابًا إذا عنّ لك يومًا أن تمضي من هنا.
- سآخذ هذا.
- هذا الكتاب لها.
- لا تطعنيه!
- ها! ها! ها!
- لا تطعنيه! لا تطعنيه!
- ها! ها! ها!
- لا تطعنيه! لا تطعنيه! لا تطعنيه!
- ها! ها! ها!
- إنها النسخة الوحيدة الباقية من القرآن!
تشابكت أيادينا، تصارعنا، تذابحنا، والفزاع يضحك منا وعلينا. أجبرتُها على الخضوع، والآيات المطعونة تجمع ما بيننا. كانت الطريقة الوحيدة التي أعيدها فيها إلى طريق الصواب. نظرتْ إلى ظلي العملاق، وهي راكعة. كانت تنظر إليّ كإله، كقوّاد. ذرفت دموعها، ورجتني أن أرأف بها. قالت لي إنها تذرف دموعها منذ مئات الأعوام، وإنني لم أرأف بها. بحثتُ فيها عن جريمة لم ترتكبها، لأنني المجرم. كنت زمانها، وكنت مكانها، وكنت إيمانها، وأنا لهذا كنت مجرمًا. مزقتْ حجابها، وقدمت لي كتفها العارية لأقضمها، فقضمتها، ورميتها للفزاع ليقضمها، فقضمها، وذهب بها، بعد ذلك، ليبيعها للمصلين على عتبة الجامع الكبير.
صباح اليوم الذي أنهيت فيه كتابة جون روبنسون، تلفنتُ لرشا. كنتُ في مكتبة، بين رفوف الكتب والقصص اللامحرمة، وكانت الساعة تتجاوز التاسعة بقليل، الساعة التي تكون فيها كل الأمهات قد استيقظن. رفعت أمها السماعة، فطلبتُ التحدث إلى رشا. بدورها، طلبت مَنْ أكون. أعطيتها اسمي. كان باستطاعتي أن أقول لها أي اسم، فوجدتُني فظيعًا، وأحسستني مسرورًا لهذه الفظاعة. انتظرتُ إلى ما لا نهاية، ثم انقطع الخط، وكأن ذلك كان استجابة لرغبة خفية. أعدت، ومرة ثانية، وقعت على أمها. قالت لي رشا كانت نائمة، ووجب عليها أن توقظها. اعتذرتُ: ما كان عليها أن تفعل. ضحكتْ، وأعطتني إياها. صوتها أخيرًا! صوت الشبق، الغُلْمَة، الفظاعة عندما تستولي عليك، وتطحنك، فتستلم لها بِلَذة. رجوتها أن تغفر إيقاظي لها، لا بأس في ذلك، قالت، مع ضحكات جذلى. كانت المرة الأولى التي أسمعها فيها تضحك. أروع من كل ضحكات الصغار! لهذا كانت هذه الضحكات تدفعك إلى الندم، إلى فظاعة الندم، فأثملتني ضحكاتها. كانت تضحك كحقل من اللآلئ، وأنا أدفع روحي دفعًا إلى ما لا تطيق. كنت محبورًا. كنت محبورًا بفظاعة. لم يكن الحبور شهوة من شهواتي، كانت شهوتها، شهوة غير مشبعة، لهذا كانت محبورة، كنت محبورًا، كنا في تلك اللحظة الأكثر حبورًا في العالم.
لتفسر تأخرها في النهوض من الفراش، قالت إنها سهرت طوال الليل مع كتابي، كي نحكي فيه الأربعاء القادم، يوم عودتها إلى الجامعة. الأربعاء القادم لم يزل بعيدًا، وأنا كنت أبحث عن إشباع ما لا أدريه، ما هو غامض، ما لا أقصد أو أعني، إشباع شهوة تحفر في دمي، أجهلها.
- أرغب في المجيء عندك، لأشرب القهوة معك، سارعت إلى القول.
رحبت بي، ثم بعد لحظة من الصمت، بدلت رأيها. إشباع شهوة سرية، لا أعرف ما هي، ولا أهتم ماذا ستكون نتائجها. تخيلتها تعيد ما تمليه عليها أمها.
- من الأفضل أن تأتي غدًا.
- كتبت بعض الأوراق لك، عنك، أريدك أن تقرأيها.
- سأقرأها غدًا.
- ولكن كيف المجيء إلى بيتك؟
- اقترحت أن نلتقي في دوار فراس غدًا في الساعة الثالثة.
وأقفلت.
ورأسي لم يزل مفعمًا بضحكاتها، بفظاعة ضحكاتها، وأنا لهذا عرفت لأول مرة في حياتي لماذا الموسيقى ذات الزمنين كُتبت على الأوتار اللامشبعة بالرغبات، اللاملتزمة بالوقت، اللاقادرة على الصمت.
ابتسمتُ، ضحكتُ، والناس يظنون أني أبتسم لهم، وأضحك. كنت أبتسم لرشا، وأضحك لها. كنت أبتسم وأضحك لها بفظاعة. كانت رشا كل النساء اللاتي أصادفهن، كل الرجال، كل الحمام. الوحشيّ. المسالم بمخالبه الممزِّقة. فضلتُ الرجوع إلى البيت. ودونما أنتظر هبوط الليل، رصدت نجوم النهار، داعبت الأحلام. كم كانت أحلامي جميلة لأنها كانت فظيعة. وَكَمُذَنَّب ضائع، راقبت سقوط الظلام، ثم سقطت في اللامنتهى، في اللاشهوة. اللاشهوة لامنتهى، وهي لهذا تستعصي على الإشباع. لم أغمض عينيّ، ليس لموعدي معها، ولكن لأنها كانت تسهر في غرفتها مع كتبي، مع كلماتي، وعما قريب مع ظلالي. كان فظيعًا كل هذا ولذيذًا. أرادت أن ألتقيها في بيتها، وها أنا ذاهب إلى بيتها. إزاء مجتمعها، هذا يعني أني أعطي لعلاقتنا صفة رسمية.
كنت أرى الأمور هكذا، وبشكل أو بآخر، أنا ذاهب لخطبتها.
"ملهمتي،
ليس من عادتي أن أُقرئ أحدًا ما أكتبه مخطوطًا، ولكنك الاستثناء، استثنائي! كل هذه الصفحات كانت بيضاء، بفضلك لم تعد بيضاء. تحمل كلمات، الكلمات تتكلم، تُوَلّد الحياة، فهل تكونين باردة العاطفة أمام الحياة؟ هي قصتنا أرويها بشكل من الأشكال قبل أن تقع، قصة الوهم. الحقيقة مع كل ما تحمل، إزالة الوهم، هذا ما سيأتي فيما بعد، ربما مع مجيئي عندك. أردت أولاً أن أكون واثقًا من حبنا، فليكن! ها أنا أجيء عندك، كما تمنيتِ، وسنرى، هل أنت مبسوطة؟ من ناحيتي أستطيع القول إنني أحبك قبل أن أعرفك، فالنجوم الوليدة تعبدها النفوس ملايين السنين الضوئية قبل الوقت!"
في الغد، قبل مغادرتي الجامعة بقليل لموعدي المنتظر، قرع الهاتف. جاءني صوتها نائيًا كعادته ومرحًا لا كعادته. خفت من تأجيلها الموعد، وفي نفس الوقت، كان الخوف يبثني شعور من استجابت له الأقدار، على الرغم من أنني استعددت لموعدي بحرارة منذ البارحة. كان الطقس باردًا، وهي تفضل أن نلتقي قرب مدرسة سُكَيْنَة، أقرب من دوار فراس إلى بيتها. كلمتها عن مكالمتنا أمس، عن ضحكاتها. كنت صادقًا كما كان خوفي منذ قليل صادقًا. هذا لأنني تلفنت لها! اعترفتْ، قبل أن تقول: "إلى اللقاء القريب!"
مررت على الجريدة كي أعتذر عن موعد مع بسام المنصوري، فوجدت محبوبته، وهي تملأ الفضاءات الفارغة زهورًا. كان سعيدًا. عادت الأمور بينهما إلى مجاريها. كان يشعر مثلي بالفظاعة، وهو لهذا كان سعيدًا. أشار بإصبعه إلى ثيابي، إلى ثيابه، وإلى "الحديقة" حوله، وهتف: "نحن الأجمل! نحن الأروع!" وبإيماءة متقززة، أشار إلى المكاتب القريبة البعيدة: "مغفلون كلهم! دجاج!" كان كمن يلبي طلبًا من محبوبته، فلم يكن ليرى العالم دونها، ودونها العالم ليس العالم. في الممر، قلت له لدي موعد عاطفي! انحنى على ظله كمن ينحني على وهمه، ولمعت عيناه من الفرح.
- الزواج مؤسسة صُنعت لقتل الحب! تعجب قبل أن يضيف: سنضمكما إلى العصابة!
العصابة كانت هو ومحبوبته. اقترح أن يلتقي أربعتنا.
- فيما بعد، قلت له، الآن يجب أن أذهب لأحلق، وآخذ دوش.
عندما نحب، يا أخي، لا نحتاج إلى مرآة ننظر فيها إلى أنفسنا، نرانا في كل شيء، في الزجاج المصقول أو في الجلد الميت، في الخشب المُسَوَّس أو في الجدران البيضاء. كل هذا لا علاقة له بالفظاعة في شيء، بالندم ربما. بعد الحمام، حلقت للمرة الثانية في اليوم نفسه، أمام كسر المرآة الذي لدي. كسور المرايا شيء آخر، كالشهوة المتشظاة. أكلتُ لقمة، ثم ارتديت أجمل ما عندي من ثياب: قميصي الحريري، طقمي الصوفي، حذائي الجديد. تعطرت. أردت أن أكون جميلاً وأن أنشر عطري لتشمه رشا من بعيد. عطرٌ يضرمُ لا يطفئ. لمحتها على الرصيف، في البرد، بانتظاري. كانت كل ما آمل به من بريق تلك المخلوقة القادمة من ظلمات التاريخ. أشارت إليّ بيدها أول ما رأتني، فأشرتُ بيدي إلى آلاف السنين. تقدمتُ باتجاهها بخطوات سريعة، بشعور الغارق في الظلمات، شعور يراودني لأول مرة. أطلقتُ نفسًا مرتاحًا، وأردتُ أخذها بين ذراعيّ، لكني تذكرت، في اللحظة الأخيرة، أني في عمان، في قلب الظلام، وليس في مدريد أو لندن أو باريس. بقيتُ مشلولاً أمام ابتسامتها، لا أجرؤ على لمسها. مدت يدها، وشدت على يدي، فعرفت أن للشبق ملمسًا.
- هل انتظرتِني منذ زمن طويل؟ سألتها.
- منذ ربع ساعة، قالت.
- في هذا البرد! ما كان عليك المجيء قبل الموعد. أبطأتُ السير من محطة الباصات حتى هنا لأصل في تمام الساعة الثالثة.
ولأول مرة في حياتي، كرهت الدقة. كان فظيعًا أن أكره الدقة، أنا العالم العلامة، لكني لم أفكر في هذا إلا فيما بعد، عندما دخلتُ في الفوضى، وغدتِ الفوضى، بالنسبة لي، عالمي الطبيعي. أعطيتها غلاف جون روبنسون.
- في الداخل توجد كلمة أريدك أن تقرأيها الآن.
أخذت تقرأ، وهي تمشي إلى جانبي. هل هي إيزابيل؟ هل هي مدريد؟ هل هي عاهرة من عاهرات تحت السيل؟ أعادت كلمتي "باردة العاطفة".
- لست باردة العاطفة، قالت مستاءة، لم أسأل عنك لأني كنت واثقة من سؤالك عني.
عندما قَرَأَتْ :"ها أنا أجيء عندك، كما تمنيتِ... هل أنت مبسوطة؟" علقت:
- طبعًا أنا مبسوطة!
ولكن عندما قرأتْ "من ناحيتي، أستطيع القول إنني أحبك قبل أن أعرفك"، نرفزتْ:
- أنتم، يا معشر الكتاب، همكم الوحيد الوقوع على ملهمة تعينكم على الكتابة.
- ليس كل هذا صحيحًا، دافعت عن نفسي بتحضّر صَبياني، والبرهان على ذلك وجودي هنا، لك وليس للملهمة.
كنتُ أقصد أني أجيء كما تتطلب العادات والتقاليد بوصفي "الخطيب" لا "الكاتب"، كانت ذريعتي أكثر مما هي عليه قناعتي. أحسست بالخجل من نفسي، كيف سأكون قادرًا على ذلك؟ المشكل أنا في نهاية المطاف، المشكل أبو بكر الآشي الآخر، الذي أتجاهل معرفتي به. لن أبقى مع أهلها سوى نصف ساعة، وبعد ذلك، سأذهب معها. غير أني لن أفلت بسهولة، أمها أعدت طعام الغداء خصيصًا لهذه المناسبة. المشكل خط حياتي الطويل، منذ عهد الموحدين. عاتبتُها لأنها لم تعلمني بذلك، تغديتُ، ولم أكن جائعًا، لم يكن جوعي لشيء آخر سواها. المشكل هذا الحلم غير الموجود.
- آه! كم أشتاق إليكِ، اعترفتُ.
استدارت نحوي.
- وأنا كذلك! قالت بنبرة تطرح المرء أرضًا.
اقتربنا من العِمارة حيث تسكن، وصبيٌ راجعٌ من المدرسة يقطع الشارع.
- ذاك أخي، قالت.
تذكرت قول جميل بثينة عن أخي حبيبته شبيب: "الحبيب أخو الحبيبة!" المشكل هذا الشعر غير الموجود، هذا النثر، هذا المني النبوي. سلمتُ عليه، وهو يبتسم لي ابتسامة كبيرة, ابتسامة طفلة. ابتسامة فظيعة. ونحن عند مدخل العِمارة، خرج ثلاثة رجال أحدهم بمثل عمري، تبادل ورشا نظرة أربكتها.
- ثلاثة طوابق على القدمين، قالت لي.
فوق، كنت ألهث. ليس لأني كنت تعبًا ولكن لأني كنت مرتعبًا. اجتزت عتبة الشقة، لأجدني أمام أمها.
حييت أمها بأكثر ما أقدر عليه من لطف: "الآن أعرف رشا تشبه من!" كان الفيروز يضرم في عينيها، كانت سعيدة على سماع أن ابنتها الصغرى تشبهها. أجلستني في الصالون، وأنا أمضي بطاولة كبيرة عليها شتى أنواع المأكولات. لم أكن أشعر بالارتعاب كما يشعر به الآخرون، لم يكن الارتعاب الذي يعرفه الناس. رأيت أبا رشا يأتي من ممر طويل، وهو يرتدي جلبابًا مغربيًا. لم يكن الارتعاب كما يوجد في القاموس. شد على يدي، واعتذر لأنه يرتدي ما يرتدي. رجتني الأم التفضل للأكل.
- سبق لي وتناولت طعام الغداء، قلت محرجًا بعض الشيء، كان على رشا أن تقول لي.
- سيستدرجك الأكل، قال الأب.
لم يكن الارتعاب كما يوجد في الذاكرة، في البطن، في المرحاض. لهذا، كان فظيعًا. لهذا، كنت مسرورًا. لم أكن لأحفل بالأطباق، أطباق لا تعد ولا تحصى، كنت مشغولاً بحضور رشا إلى جانبي، أفظع حضور في الوجود.
- هل ساعدتِ أمك في تحضير كل هذا؟ سألتها.
ابتسمت أمها:
- العطلة عطلة، وأنا، لهذا، أعددت كل شيء وحدي.
غرفت لي من طبق، وغرفت رشا لنفسها من طبق، مضيفةً عدة ملاعق تبولة. استدرتُ إليها، وعبرت عن دهشتي لقلة أكلها. كانت تأكل بصمت، حتى أنني لم أسمعها تمضغ. كنت أراها في كل مرة أدير فيها رأسي نحو أبيها. كانت تحاول بأكثر ما تقدر عليه ألا تحتك شوكتها بصحنها. وعلى أي حال، لم يكن أبوها ليعطيها الفرصة على الكلام. تكلم عن كل شيء، أكل وشغل وسياسة. وكانت أمها تبهر كلامه بتعليق صغير من وقت إلى آخر و... رشا بقيت صامتة.
امتدحتُ أمها دون أن أنجح في إنهاء صحني، وعدت إلى الصالون. عجل المضيفون بالأكل، والتحقوا بي و... رشا بقيت صامتة. أرعبني صمتها. ارتعابي هذه المرة ارتعاب كل بني البشر. أذلني الرعب البشري، فبحثتُ عنها لأُشْبع لاحاجتي إلى رعب كهذا.
جلست رشا، في البداية، على نفس الكنبة التي أجلس عليها، ثم نهضت، وجلست على كنبة إلى يميني. جلس أبوها إلى يساري، واستمر يحكي سياسة. كانت شذونة مدينة أجداده الأندلسيين، وكان يؤيد الفارس بوعمير. بالنسبة إليه، بوعمير سياسي محنك، وإن كان شديدًا أحيانًا. يد حديدية في قفاز من خراء. كانت السياسة الوحيدة الممكنة بعد ثورة أرخذونة، وخاصة بعد موت هذا "المسطول" آميديه، وإلا كانت نهاية كل أثر أندلسي في إسبانيا. لم أُدْلِ بتعليق، كنت هنا لأجل الجمال. السياسة، علقتها في الخزانة. كنت مضطرًا، يا أخي، إلى النظر إليه، وبقوة الأشياء ألا أرى رشا، ورشا تسقط في الصمت. عندما كان أبوها يتوجه بالكلام إليها، كانت تهمهم بالموافقة على الدوام، وأحمر شفتيها يشحب برعب الصمت.
قدمت لي أمها قهوة خفيفة كما كانت رغبتي، وأخذت مكانًا أمامي، وهي تضع ساقًا على ساق. جعلتني أفكر في أمي، لجمالها وقوة شخصيتها. كانت تشبه الملكات أمي. كانت الرعب. امتدحتُ القهوة، ثم رشا. هنأتُها على جمال ابنتها وحسن تربيتها، فضاعف الزهو إضرام عينيها. ورشا بقيت صامتة، ترشف قهوتها، غائبة. فجأة، تمنى لنا أبوها كل السعادة في العالم. قمة الرعب. إذن، كانت خطوبتنا موضوع حديث العائلة، ورشا بقيت صامتة. لِمَ كل هذا الصمت؟ مذ أخذتها أمها إلى جانب، سقطت في صمت مطبق، حتى أنها بقيت صامتة عندما استأذنتُ بالذهاب، ولم تلتفت إلى ما بي من رعب.
على الباب، قلت لها إنني سأهاتفها.
- ابتداء من الآن، قال الأب، هذا البيت بيتك، تأتي متى تشاء.
- آتي متى أشاء.
ورشا بقيت صامتة، صامتة، رشا بقيت صامتة.
في تلك الليلة، لم تكتحل عيني غُمْضًا. كنت أفكر في رشا، وصمتها الغريب يقض مضجعي، فلا البحر أرض ولا الشاطئ مرسى. قمت لأرى سماء عمان من راصدتي، فرأيت رشا بين النجمات. كانت صامتة. هربتُ من صمتها لأقع عليها في حلمي، صامتة، صامتة، أبدًا صامتة. لم أشأ القيام بفعل الحب معها قبل أن تبدي رغبتها في ذلك، كانت ذريعة أصابعي أمام الرعب. لم يقلقني رعبي، أقلقني صمتها. كي أدفعها إلى الكلام، ذبحتُ روحي بين يديها، فطارت حمامة صهباء. أخذتني بين ذراعيها، كما لو كان ذلك أحد واجباتها. كانت تريد إيقاف نزيف روحي، وبقينا هكذا حتى الصباح.
في الصباح، تلفنتُ لها. كانت نائمة. تلفنتُ لها بعد ساعة، لنحكي عنا، لنأكل في مطعم. فاجأتني برفضها.
- أمس، قلتُ، كل شيء جرى كما تمنت أمك، كل شيء رسمي في الوقت الحاضر. إذا أردتِ، تعالي عندي.
- أنا لا أعدك بشيء، أجابت.
- سأنتظرك.
- انتظرني خمس دقائق، إذا لم أجئ، فهذا يعني أنني لم أستطع.
انتظرتها ساعة في البرد، والبرد فظيع! منذ تلك الساعة، يا أخي، بدأ هبوطي إلى الجحيم. هل تعرف أن جحيم الحب أهلك جحيم؟ إنه جحيم قسوة الروح، آه، يا أخي! قسوة روح تلك التي ذبحتُ من أجلها روحي! روح الحجر! رمتني رشا كوطنٍ مهجور، كأرضٍ يابسة. كان برد روحها المهيمن على عمان، فأشفقتُ على المدينة. تمنيتُ لو أدفئها بتمزيق ثوبها الخفيف، بكسر خبزها الجليدي، غير أن قسوة روح رشا كانت تنعكس على كل شيء. بدت لي عمان كجسدٍ مشروخ، ومن شرخها كانت تبصق النساء. لم تكن النساء والموت غير شيء واحد، وكان للموت وقسوة روح رشا منطق واحد، قمع المرأة منذ الأزل، وفظاعة رعب البشر. من أين تجيء قسوة الروح في جسد محبوبتي، قسوة المدينة التي تدور فيها قصتي؟ كان الرشاد ينحط مع العاطفة. عاطفة حيوانية. مشاعر جليدية. ثمر الغابات السيبيرية لصحارينا. مناشير الجليد. أقبية الثلج. حقائق الوهم. المنطق المخالف للصواب، لأن القلوب المقموعة هي القلوب الدافئة، أما الأرواح المقموعة، فهي الأرواح الباغية.
هاتفتُها قبل غروب الشمس، فادعت أن كل عائلتها حولها، وأنها لا تستطيع التحدث معي بحرية.
- فقط اسمعيني، لستِ بحاجة إلى قول كلمة واحدة. أريد الزواج منك، هل تعرفين؟ إنه لقرار جسيم لشخص مثلي، ومع ذلك! امهليني قليلاً. هل تشكّين في مشاعري؟
- لا.
- إذن لا تستعجليني. اتركي لي بعض الوقت. الآن أريدك أن تحبيني، فقط أن تحبيني.
- سنتكلم في كل هذا غدًا، غدًا الأربعاء، سآتي إلى الجامعة خصيصًا لهذا.
وبترت المكالمة.


يتبع الفصل السادس من القسم الثالث



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السادس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الخامس عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الرابع عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث عشر
- أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني عشر


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس