أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير















المزيد.....


أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4751 - 2015 / 3 / 17 - 11:53
المحور: الادب والفن
    


ما اكتحلت عيني غُمضًا، وأنا أحاول إقناع نفسي بأن رشا لم تبك إلا لأنهم أجبروها على قطع كل شيء معي. ستقرأ كلماتي وصرخاتي، وستتأثر بورقتي الأخيرة على الخصوص، فالمخرج الأكثر موائمة لنا هو البدء من الصفر. باختبار مشاعرنا، سيبين الواحد للآخر على حقيقته.
ارتديت أجمل ما عندي من ثياب، ومع ذلك لم أكن محبورًا. كنت أحدس حدثًا مًكَدِّرًا، لكني كنت مستعدًا لكل شيء، حتى لحفر لحدي بيدي.
نظرت إلى نافذة مكتبها، فتحركت الستارة. بدلاً من التوجه إلى مكتبي، صعدت إلى المكتبة، وإذا بها تنزل الدرج مسرعة، وكلانا متفاجئ بالوقوع على الآخر. كانت ترتدي النار، وتبدو مضطربة، قلقة. ألقتْ عليّ التحية، ولما رفعتْ رأسها نحوي، كان في نظرتها مزيج من عتاب واضطراب أمتعاني.
تلفنتُ لها عند عودتي إلى مكتبي.
-عليكِ أن تختاري واحدًا من اثنين، قلت لها، إما أن آتي بمسدس لتقتليني، أو أقتلك بطلب يدك
-أجابتني بلا تردد بأنها مخطوبة، وقالت لي أن أوقف هذا الابتزاز.
- ظننتُ أنكِ نضجت منذ البارحة، وأنكِ تتصرفين كبالغة.
نرفزها كلامي، فسمعت لأول مرة صوتها المستثار، وكم كان لذيذًا!
- نحن لا ننضج في يوم واحد!
- بعض النباتات تنضج في أقل من يوم.
- نباتات، قالت متهكمة.
كانت نبرتها تثيرني، وفي الوقت نفسه تَغُمُّني، فلم يتبدل موقفها.
- كما تشائين، قلت لها قبل أن أقفل.
بعد محاضرتي، قال لي الفزاع إنها جاءت تبحث عني. صعدت، وعطرها يقودني إليها، كمن يستقي المعلومات من مواردها، ووجدتها في مكتبها. تقدمتْ باتجاهي، وهي في قميص النار واللهب، لتجرني إلى مكتبي. كانت تسير إلى جانبي مقطبة، وعبوسها يزيدها جمالاً. ذكرتني ببناتي اللعوبات لما يحردن، لما يستخففن بالأمور.
طلبتُ من الفزاع أن يتركنا وحدنا، فخرج مغلقًا الباب من ورائه. أرادت أن تأخذ الكلام أولاً، حتى قبل أن تجلس، فقاطعتها:
- أمس، قلتُ وأنا أحترق بجمالها، تمنيت لو كانت معي مرآة، لأريك كم كنت دميمة! دميمة، جلفة، ولئيمة! كم كان سلوكك نحو شخص يقول لك "أريد البكاء على صدرك" قاسيًا! كنت تلفظين جُمَلَكِ بطريقة ميكانيكية! لم تكوني أنت التي تتكلم، كان واحدٌ غيرك يتكلم بلسانك!
- أنت غلطان، ردت، أنا التي كانت تتكلم.
حيرتني نبرتها الواثقة.
- عندما طلبتُ منكِ الخروج معي، ذكّرتها، كنت أتكلم عن خطوبة، بانتظار أن نحب بعضنا، وأن تأخذ الأشياء مجراها العادي. لكنك أنت قلبت كل شيء، و، احترامًا للعادات والتقاليد، طلبتِ مني المجيء عندكم. ثم، اغتصبتِ ما لا يغتصب، جعلت مني موضوع رغبتك المدنسة.
بدل حردها كان استهزاؤها:
- لأنك تظن حقًا أنني أريدك؟ آه، آه، آه! ولكنني لا أريدك، لم أكن أريدك يومًا! هل تفكر بالفعل أنني رددتك بسبب أمي؟ أنت غلطان تمامًا، أنا التي لا تريدك، ولم تفعل أمي سوى تنفيذ إرادتي.
نظرتُ إليها عَبر جفنيّ نصف المغلقين، ورأيتها تكبر، تكبر. لمعتْ أسنانها، سال لعابها.التقطت أمها، ووضعتها على مكتبي، صغيرة، ضئيلة، كطفلة خائفة. أرادت التهامها. منعتُها، وأنا أطرد صورة روحي هذه.
- إذن لماذا كل هذا؟ قلت مُبَلْبَلاً.
- لأني أحب الكاتب الذي فيك، غير المحسوس، المتعذر إمساكه، المتعذر تمييزه!
ضحكتُ بمرارة. الكذبة غير محسوسة، كالحكاية متعذرة الإمساك، والسراب متعذر التمييز. من يحب حقًا، يحب كل هذا، النسخة والأصل، الكل. نحن لا نفصل الأنف من الوجه، نحن لا نحب الفم فقط أو الأذن. في تلك اللحظة، أقنعت نفسي بأنني تعب جدًا كي أتعارك معها. تركتها تنهي حَبكتها.
- أنا موعودة لشخص منذ ست سنوات، منذ كنت في السابعة عشرة، ولهذا السبب سأتزوج منه.
هذه الرواية سبق أن سمعتها.
- يكبرني بثلاثة أعوام، رشقت.
كنت أعرف أنها تكذب، كنت أعرف أن حب المراهقة لا يدوم، كنت أعرف أنها تلعب، ابتسمتُ لعالم العبث هذا. حتى ولو كان صحيحًا، فلن تبقى لهذا الحب وفيةً وفاءً طويلاً. تذكرت أن أمها قالت لي إنه تخرج من فِيَنّا، مدينة ليالي الأُنْس.
- من أين هو متخرج؟
- من لا مكان، أجابت مبتسمة، لا دبلوم لديه، أو... بلى، رياضي، لديه دبلوم في الرياضيات.
يا لها من "حَبَّاكة"! أكيد أنها عشيقة مديرها أو شخص آخر، هذا لا يهم. شخص لا يضعف أمام الحب، سادي!
- لا، ليس عالمًا، ليس فلكيًا، وليس روائيًا، لهذا السبب لن أستطيع كرهك رغم كل ما فعلته فيّ، ختمت. ستبقى كاتبي المفضل.
ووقفتْ، على بعد خطوتين مني، على مسافة قصيرة، لكن من المتعذر عبورها.
- أما أنا، فلا أستطيع إلا حبكِ، قلتُ، سأحبك دومًا، لأنك حبي الأخير. كيف أنساك؟ ساعديني على نسيانك.
رفعت كتفيها بوقاحة قبل أن تقول:
- تدبر أمرك وحدك.
فجأة، انطفأت ابتسامتها، فاجتاح الظلام كل شيء، وحط الصمت بكل ثقله.
- الحب، كما تفعل، جنون! ما وَجَدَتْ قوله. خذ مثلاً الأسطورة القديمة لقيس وليلى، أو واحدة جديدة أكثر كأسطورة آميديه وإيزابيل، أو أسطورة علا وهلا. قيس، شاعر الحب والمجون، وكذلك آميديه وعلا، شهيدا الحب والحرية. كيف جرى أنهم لم يتساءلوا أبدًا عما سيقع بعد عشرة أيام من الحياة المشتركة مع حبيباتهم؟ هذا، هذا ليس حبًا، إنه الغباء!
- ولكن قبل اكتشاف البؤس الزوجي، قلت والدهشة تسحقني، سيعيشون عشرة أيام من السعادة. عشرة أيام طويلة من السعادة...
كانت تغرق في أفكارها، فلم تسمعني. كالنار المنطفئة كانت، الباحثة عن إذكاء لهبها تحت الرماد.
- ليس الحب ضروريًا لنعيش عيشة زوجية، همهمتْ. أنا، لا أعتقد بالحب أنا.
كان يمكن لتصورها للأشياء أن يصب في صالحي، واقع ألا تحبني لا يمنعها من الارتباط بي كأي شخص آخر. لم أعد أتابعها، انتظرتُ فقط أن ترتسم الابتسامة على شفتيها. أردتُ أن تبتسم، وكل كيانها أن يضيء. ابتسمتْ أخيرًا، وأنا، التهبتُ، مفتتنًا بجمالها.
- الآخر سوف يمتلكك، بُحْتُ لها مثقل الفؤاد، سوف يتمتع بجسدك، سوف يصنع لك أطفالاً، ولكني أنا، حتى أعمى، سوف أحتفظ دومًا في عينيّ بالصورة نفسها التي لك، كما أنت اليوم. سأحتفظ بالصورة، بالوهم، بالسراب.
قرع الهاتف، فنظرتُ إليه. رفعتُ السماعة، ونظرتُ إليها: لم تكن هناك.
كان الفزاع، قال لي إن المقص الذي أبحث عنه موجود على مكتبه، وأقفل. لم أكن أبحث عن مقص أو أي شيء آخر، كنت أبحث عنها، هي، ولم أجدها. تناولت المقص بيد مصممة و، لها، لغيابها، قطعت سبابتي.

بعد هذا الفعل، لم أعد أعرف بالضبط حسب أي نظام وقعت الأحداث. أعرف فقط، يا أخي، أنني بدأت بكتابة قصتي. كتبت كلماتي الأولى بدم سبابتي، وكان الجنون يقود كتابتي. كانت الكلمات الأكثر هوسًا تركض على الورق. وأنا أكتب، كنت أطلق صرخات التلذذ كما لو كنت أمارس الغرام. كانت الكلمات تثير كل حواسي، لأني كنت أكتب فاجعة، فاجعة التخلي عن الجنس قبل أن تكون فاجعة فشل الهوى. مخلصًا حتى آخر العواطف المخالفة للصواب، لم أستطع إعطاء تعليلات منطقية لأفعالي. إذن، لم أستطع الظفر بجسد المرأة التي كنت أحبها، حتى أنها لم ترسل لي قبلة من بعيد. لم أبكِ على صدرها، حتى ولا على قدمها، ولم تقل لي الوداع كما هو دأب المحبين في اللحظة التي ينفصلون فيها. أَنْتَظِرُ دومًا أن تأتي إليّ، أنتظر أن تأتي كل لحظة، وأن تلقي بنفسها بين ذراعيّ، أن تقول لي إنها كذبت، إنني من تحب، والعالم حذاء!
عندما انتهيتُ من كتابة قصتي، أخذتُ أبكي. كان ذلك كما لو كانت المرأة التي أحبها قد ماتت، فموت المرأة التي أحب كموتي. اجتاحني الحزن، وفي الغد بحثت عن الفزاع، كي يُسَكّن قليلاً مما أنا فيه. ولكن عند وصولي الجامعة، كان خبرًا سيئًا بانتظاري. أعلموني أن الفزاع قد مات، هو كذلك. أصيب بسكتة قلبية، قالوا لي. لم أستطع إمساك نهر الدموع المترقرقة على خديّ. غدا الفزاعُ المُؤتَمَنَ على أسراري. وهو يسمعني أقول أحب رشا، كان يحسد الطفل الذي فيّ. وبالمقابل، لقلقه عليّ، لم يكن يتوقف عن إعادة: "هذه البنت، ليست لك، انسها!" كيف لي أن أنسى التي جعلتني أتعذب كل هذا العذاب؟ كان الجرح من العمق بحيث أنه لن يندمل طوال حياتي.
كان الفزاع يتبعها كما لو كان أنا، ويعطيني أخبارها. كان يأتي ليقول لي مع أي شخص تتكلم، ماذا تفعل. لم يكن يهزأ بي عندما كان يقول لي: "كيف استطعت أن تحب بنتًا مثلها، شاحبة، نحيفة، هيأتها على الدوام مريضة؟" عندما تكون غائبة، كان يقول لي: "لم أرها اليوم، لا تفكر فيها!" إلا أنني لم أكن أستطيع منعي من التفكير فيها. كنت خائفًا من أن تكون بالفعل مريضة، فيشتمها، يلعنها، وينتهي به الغضب إلى قول: "فلتذهب إلى الشيطان!" كان يخاف عليّ أنا من مرضٍ لا أقوم منه. كان يحبني كأخ.
قابلتُ رشا في الممر، كانت شاحبة كلها. منذ اليوم الذي قطعنا فيه علاقتنا، لم أعد أنظر إليها في عينيها. كان شعوري بالمهانة يمنعني. كنت بحاجة إلى جعلها تتعذب مثلي، فاخترت تجاهلها. لم يكن باستطاعتي النظر في عينيها. رشا الأخرى ماتت، ولكن تلك التي أمامي تجسدت في الأولى. كنت لم أزل أحبها.
كتبت لها رسالة أقول فيها إنني لم أزل أحبها، ولم أزل أريد الزواج منها. أبلغتها بعميق شجني على أثر فقداني لعزيزين غاليين على قلبي: هي والفزاع. قلت لها قليل ما يهمني أن تكون مخطوبة أم غير مخطوبة، أريدها. هي أو لا أحد. هي صُنِعَتْ لي. وهكذا برجوعها إليّ، ستنبعث من الموت. واصلتُ كتابة رسالتي طالبًا منها إعلامي بمشاعرها الحقيقية، وأكملتُ بآلاف "أحبك".
أرفقتُ رسالتي بنسخة من "قصتنا"، وأخذت أبحث عنها في الممرات الطويلة، مطاردًا دفق العطر الذي تتركه من ورائها. شممتها قادمة من بعيد، فناديتها. اقتربت مني بوجه ميت، فسألتها عما بها، وقلقي عليها قلق المرتعب من الرعب الذي يجسدُهُ ظلها. أنا مريضة قليلاً. أعطيتها الغلاف، وأنا أُحْدِقُ النظر في وجهها الشاحب. أكدتْ، مع ابتسامة "الأخرى"، أنها كانت "مرشحة"، لا أكثر.
مضت الأيام دون أن تبين ظلالها، وعلى العكس، راح أبناء الظلال يشيعون أنني أدبج كتبًا إباحية، وأطلب من طالباتي نقاش الفقرات الخاصة بالجنس. تزعَّمَ مدير رشا الحملة ضدي مدعيًا الدفاع عن الأخلاق. لم يكن يريد فهم صوري المحرمة في عالم يسيطر عليه الخداع. تلك الصور لم تكن مجانية، كانت لها وظيفة. وما كان من الواجب الإمساك به، الدلالات. كنت أكتفي بقرع أجراس الخطر في وجه حالات كارثية نعيشها، وأترك الرنين ينادي بالتغيير، إحدى أمنياتي. عندما رجحت كفة الميزان من ناحيتي، أخذ يهاجمني، وذلك بالاعتداء على حياتي الشخصية. تكلم عن "علاقاتي" بمحبوبتي. كان يعرف كل شيء. استخلصتُ أن رشا كانت تقول له كل شيء عنا، ومن المحتمل أنه كان يقرأ رسائلي، بما أنه يعرف أسراري. كان يعرف أشياء لا يعرفها أحد غيري.
أحببتها، يا أخي، وبقيتُ على حبها رغم كل شيء. بلا تغيير. حبها كان عبادتي. غير أني لم أستطع تفسير سلوكها لنفسي: هل كانت أداة كالأخت كلارا؟ هل باعت رأسي لضربة رأس أو لأن مديرها يعمل لحساب ميجيل هِرِّيرة؟ أولئك الشياطين قادرون على كل شيء. حقًا حلوا في الدم مسألة آميديه، ولكن مع القصة المبتورة للحب الذي كانه حبي، نجحوا في الحصول على ما لم يستطيعوا الحصول عليه مع المجنون الشهيد. في اعتقادهم أنهم يعرفون في الوقت الحاضر شرط الروح المحبة، وأنهم قادرون على التكهن بكل حب أميري ينزع نحو المأساة. لا، حبي كان فريدًا. لم أستطع فهم تصرف رشا في وجه هذا الحب. لم أستطع إدانتها، احتقارها، وكآميديه، لم أستطع حمايتها من مؤامرات البشر والآلهة، حِفْظَهَا لعبادتها كالمؤمن المعتوه. كان حبي لها حبًا وفيًا. كان حبها لي حبًا لاوفيًا، حبًا خائنًا. الخيانة كانت حبها، الخيانة كانت وفاءها، وَرَعَهَا، استقامتها. ومع ذلك، قدّستُ حبًا بلا عقل، بترك نفسي له كليًا حتى آخر المنطق. تقديسٌ كهذا منذورٌ للفشل وللدنس. ولكن أين يوجد المدنس والمقدس في هذه القصة، عندما نعلم أن قلب المرأة يتراوح بين المقدس والمدنس؟
قررت أن أقتلها، أن أنقذ حبي على طريقتي، أن أبكي كل الدمع الذي في جسدي حتى لا أرى ما أرى، ولا أفحص بعيني ما يدور من حولي. أن أتوقف عن حبها بروحي، وأحبها لأول مرة بعقلي، وإن كانت في ذلك كارثتي. أن أبعث بروحها إلى جنة المحبين، بانتظار أن نلتقي هناك إلى الأبد. على الأرض، ليس للمحبين غير الجحيم.
راقبتُ خروج زميلتها، ودخلتُ مكتبها بقدمٍ خفيفة، وأنا أغلق الباب بالمفتاح، فتفاجأت رشا، وحاولت إخفاء ملف ضخم كان أمامها، سقطت منه صورتي. سبقتها إلى رفعها، وبأصابع متشنجة مددتها لها. وَضَعَتْهَا بسرعة في الملف، وقبل أن تدفعه في الجارور، فَتَحْتُهُ، وهو بيدها، ورأيتُ اسمي يتصدر كل الصفحات، وفي رأس كل صفحة مكتوب "سري جدًا". سحبتُ الملف، وتصفحته، كما أتصفح مخطوطًا محرمًا، فذهلتُ. اختطفته رشا مني، ألقته في جارور، وأقفلت الجارور بمفتاح وضعته في معلقها.
- سأوضح لك كل شيء، تلعثمتْ.
- من أنتِ؟ تلعثمتُ بدوري، الملاك أم الشيطان؟
- الشيطان!
- ...
- الشيطان، الشيطان!
- كل هذا إذن لم يكن سوى...
- كوميديا، تستطع أن تقول ذلك.
- كوميديا!
- نحن لا نرى الأشياء كما تراها.
- نحن!!!
- معذرة، العلبة.
- العلبة!!!
- أقصد...
- قولي لي كل شيء.
- كل افتراض لدينا حقيقي، الحقائق لدينا كلها افتراضات، هكذا نحن نتعامل معها. لوجود واحد مثلك في الأردن هدف سياسي، أيًا كانت الأسباب الأخرى، أسبابك أولى الأسباب، وهذا الهدف السياسي صحيحًا كان أم كاذبًا لهو كل شيء.
- ولكن أبدًا ما كان وجودي هنا لهدف سياسي!
- إنه افتراضنا الحقيقي، نحن نتعامل هكذا مع كل افتراض يهدد البلد. البلد شيء كثير، بالأحرى النظام، وبتحديد أكثر الأسرة الملكية.
- الملك.
- جلالة الملك.
- عالجتُهُ، وحاولتُ إنقاذَهُ، فكيف تريدينني أن أهدده أو أقلب نظامه؟
- بدأت البداية بمجيء البروفسور لتقسيم البلاد كما أراد تقسيم إسبانيا مُدَعِّمًا طالبه آميديه، تحت غطاء البحث عن الشعر المدنس ثم النثر المدنس ثم لست أدري ماذا، هناك من الذرائع الشيء الكثير، طالما أن الهدف الأساسي، تقسيم إسبانيا لم يتم. لهذا السبب، لم يستقبله أبو عبد الله العوفي: كانت ثورة الخبز في اليوم الذي وطئ بقدمه مطار الملكة علياء برهانًا دامغًا على كل تخوفاتنا.
- والبداية الأخرى؟
- أبو بكر الآشي لم يكن بداية أخرى، كان البقية الباقية، كان قطب الجذب، الاستقطاب لمشروع التقسيم، والحض على تنفيذه، وادي عربة عندنا، أرخذونة عندكم، وفيما بعد مشروع الترحيل، من شذونة إلى إربد أو معان.
- ف... ألقوا بكِ "بين ذراعي" أبي بكر.
- معذرة، يا حبيبي! قالت رشا بلهفة، وهي تتحرك مقتربة مني.
- يا حبيبي! أعدتُ وأنا كلي استغراب وحيرة وعدم تصديق لما أسمع ولما يقع.
- رموا بي بين ذراعيك لتصفيتك، اتخذت العلبة هذا القرار منذ زمن بعيد، منذ ذلك اليوم الذي جئتني فيه إلى بيتي، فالافتراض حقيقي لدينا، كما قلت لك.
- أفهم الآن لماذا كان صمتك المباغت.
- كان الفزاع يُملي عليّ أوامره من غرفتي.
- الفزاع!
- أراد مني أن أضع لك السُّم في طبقك كما فعلتُ مع حاكم مراكش.
- أنتِ من قتل حاكم مراكش!
- في الواقع، لم يكن ذلك سوى خدمة مقابل خدمة نقدمها لزوجة حاكم مراكش بعد أن سلمت إلينا عبد الصمد بلصغير الذي مات تحت التعذيب، وتكون الطريق لك خالية إلى ذراعيها، فنحول دون تقسيم الأردن، ونبقيك على قيد الحياة، ولكن في أبعد مكان، مراكش لا تشكل خطرًا علينا.
- ولماذا لم تقتليني وأنا عندكم، لماذا لم تقتليني هنا في الجامعة، ونحن نلتقي كل يوم؟
- اكتشفتُ أنك لا تمثل أي خطر، واكتشفتُ أني...
- أفهم الآن لماذا كنتِ لئيمة معي ودميمة ونحن في الممر.
- لم يطلبني أحدٌ على الهاتف، طلبني الفزاع، وهددني إن لم أقطع معك أن يُصَفيني ويصفي كل أفراد عائلتي، ماما، بابا، أختي، أخي. قمتُ بذلك رغمًا عني، وأنا لهذا السبب بكيت.
- ذرفتِ دموع التماسيح.
- دموع الحب.
- هل تعرفين الحب، أنتِ؟
- كم من مرة جئتك على الساعة الثالثة، ولم أجرؤ على طرق بابك. كم من مرة ناديتك في الليل، ولم أجرؤ على الصراخ. كم من مرة بكيت عليك، ولم أُرِكَ دمعي! مَنَعَتْنِي مهنتي والتزاماتي السرية من الإعلان عن هذا الحب والانخراط فيه، فكان ما كان على حساب عواطفي. أنا ما مَدَّدْتُ عطلتي إلا لتأجيل قتلك، ما أغلقتُ نافذتي إلا لتعميق يأسك، ما أشعلتُ القلوب إلا لإطفاء قلبك. كنتُ أسعى من وراء تعذيبي لك إلى أن تترك الأردن لتنجو بجلدك.
كنت ذاهلاً لما أسمع، دائخًا، شائخًا، جائحًا، تتزلزل الأرض تحت قدميّ.
- حبيبي، همستْ، وهي تمسك بيدي.
صرتُ على وشك السقوط، فأخذتني بين ذراعيها بحنان كل النساء العاشقات، وقبلتني.
أخرجتُ من جيبي المقص، وهمهمت:
- وأنا الذي كنت عازمًا على قتلك!
قبلتني من جديد، وذهبت بي إلى أريكة.
- أنا مصابة بالسرطان، اعترفت.
- ماذا؟! صُعِقْتُ.
- ابيضاض الدم.
- آه! يا إلهي، همهمتُ، وأنا أبكي على صدرها.
- هل تسمعني؟
- لماذا، يا رشا؟ يا حبيبة قلبي! لماذا، يا رب؟
- سأتعذب كما لم يتعذب أحد في الوجود لأني عذبتك.
- لماذا، يا رب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- سأهلك كما لم يهلك أحد في الجحيم لأني أحرقتك.
- لماذا، يا رب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذ؟
- سأعاني كما لم يعانِ أحد في التاريخ لأني أهنتك.
- لماذا، يا رب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- ستكون ميتة الكلاب الناهشة لبعضها البعض بأنيابها أهون بكثير.
- أفتديكِ، يا حبي!
- ستكون انهيارات الجبال المتكاتفة مع بعضها البعض بصخورها أسهل بكثير.
- لن أترككِ، لن أتخلى عنكِ!
- ستكون ضراوة الرياح والأمواج المتصارعة مع بعضها البعض بقواها الأشد الأعنف الأشرس أقل بكثير.
- أموت بدلكِ!
أدنت المقص من قلبها، وأمرتني:
- عليك أن تقتلني.
- لماذا، يا رب؟
- عليك أن توفر عليّ أقسى عذاب.
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- لنحب بعضنا إلى الأبد.
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- لنكون على كل شفة ولسان.
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
- لا تبكِ، يا أبا بكر! لا تبكِ، يا حبيبي! دعني أرشف دمعك، يا حبيبي! لا تبكِ، قلت لكَ!
- سيبكي كل بني البشر من عينيّ عليكِ، يا حبيبتي!
- اترك البشر يبكون من عيونهم عليهم، ولا تبكِني!
- كيف لا أبكيكِ، وعما قليل سترحلين؟
- لا تبكِ.
- اتركيني أبكي!
- لا تبكِ، لا تبكِ!
- كيف لا أبكي؟!
- لا تبكِ، يا حبيبي، لا تبكِ، لا تبكِ!
اخترق المقص قلبها دون إرادتي، اخترق المقص قلبها بإرادتها، والخبطُ على الباب قد وصل أقصاه. بعد آخر صورة لرشا، وهي قتيلة بين ذراعيّ، لم يعد هناك ما يستدعي النظر إليه، وبعد قصة الحب التي كتبتُها عنها، لم يعد هناك ما يستدعي الكتابة.

* * *

كنا نجلس في ساحة الجامع الكبير، أعمى يجانب أعمى، بساق مشلولة، الواحد كالآخر، فأخذ أبو بكر الآشي الكلام:
- الولهُ دون العقلِ لواحدٍ يماثل الطبيعة بالله لا يؤدي إلا إلى الفاجعة، لأن من اللازم، في نهاية المطاف، قبول أن الطبيعة هي الطبيعة والله هو الله. ليس هناك اتصال بين الواحد والأخرى، وإنما انفصال. الطبيعة. الله. الله هو النظام، والله هو الإنسان. بهذه الطريقة العقلُ يَعْقِلُ والوَلَهُ يُولِهُ. البارحة فقط، فهم "حَيِّي" الجديد هذا. لهُ ليس الوقت متأخرًا، ولكن لنا، كل شيء قد انتهى! وهكذا بارتباطك بي، في الآلامِ والأشجان، لستَ الوحيدَ الذي لن يكتب أبدًا.
بحث في جيبي عن المقص الذي قطعتُ به أصابعي، وأخذ يقطع أصابعه، واحدة واحدة، وهو يصرخ، بينما أنا أصرخ معه:
- الله ورشا على الأعداء!
الله ورشا على الأعداء!



الكتابة الأولى:
عمان يوم الجمعة الموافق 1995.06.16
الساعة الثامنة والنصف مساء

التعديلات:
باريس يوم الاثنين الموافق 2015.03.16



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
- أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
- أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السابع
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل السادس
- أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الخامس


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير