أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - أرسطو (المنطق، والقانون، والاقتصاد)















المزيد.....

أرسطو (المنطق، والقانون، والاقتصاد)


محمد عادل زكي

الحوار المتمدن-العدد: 4751 - 2015 / 3 / 17 - 21:51
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(1) لمحة عن الوسط التاريخي
من الأمور التي يتعين علينا ملاحظتها في البداية هي أن الإغريق كانوا تجاراً مهرة، وهم أول من ابتدع نظام قرض المخاطرة الجسيمة، ومؤداه أنَّ رأسمالياً يقرض مالك السفينة ما يحتاج إليه من نقود لتجهيز السفينة وشراء البضائع. فإذا وصلت السفينة إلى بر الأمان استوفى المقرض مبلغ القرض وفائدة مرتفعة قد تصل إلى 20 بالمئة، أما إذا غرقت السفينة لم يكن للمقرض أن يطالب مالك السفينة بشيء ويعفى الأخير من رد ما اقترضه.
ومن أهم الأمور التي يمكن ملاحظتها أن في بلاد اليونان، في القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ظهرت عملية سك النقود المعدنية. وكادت أثينا أن تحتكر النقد الدولي المتداول، في العالم القديم، بعد أن صارت أكبر مصدّر للمسكوكات الفضية في هذا العالم ونحن نعرف أن صولون قرر تخفيض قيمة العملة حينما قرر إلغاء الرهون العقارية الَّتي تقررت على صغار الفلاحين وعجزوا عن سدادها.
وكانت الاسكندرية البطلمية تنتج للعالم المتحضر كله آنذاك الورق والكتان والعطور والفخار وبعض أنواع المنسوجات والسلع الزجاجية، والأنوع المختلفة من الحُلي والمجوهرات والأواني الفضية الَّتي عم استعمالها في العالم القديم. أَيْ أن الإنتاج لم يكن بغرض الإشباع المباشر إنما كان من أجل التصدير. من أجل السوق الدولية. ومن ثم الخضوع لسيطرة الأثمان الدولية. وكُل ذلك إنما يفترض منتجين، وغزارة في الإنتاج، كما يفترض التخصص والتقسيم الدقيق للعمل. كما يفترض من باب أولى التنظيم الصارم لعملية الإنتاج والضبط المحكم للنشاط التجاري. والمؤكد تاريخياً ان ازدهار الصناعة في المدن أدى إلى هجرة الكثيرين من الريف. وكانت الاسكندرية، أيضاً، في مقدمة المدن الَّتي اجتذبت إليها آلاف العمال والصناع (المأجورين) وكان القانون يقرر لعمال استخراج الزيت مكافأة تشجيعية تُضاف إلى الأجور الَّتي يحصلون عليها. وإذا امتنع الموظف المختص عن إعطاء العمال أجورهم ومكافأتهم، فإنه يعاقب بأن يدفع للخزانة العامة 3000 دراخمة، وللعمال أجورهم وجميع مستحقاتهم. ولقد وجدت الورش المتطورة على اختلاف أعمالها وأشكالها الَّتي استعملت ليس العبيد فحسب، إنما الأجراء الأحرار أيضاً، في الصناعات الَّتي تحتاج إلى دقة وعلى درجة عالية من الحرفية والفنية. وبصفة خاصة أن كُل العمال في آثينا لم يكونوا من العبيد، والأجر كظاهرة نراها معروفة، بل وحتّى العبيد كان يسمح لهم بالعمل الحر كي يشتروا حريتهم من أسيادهم بالمال الَّذي كسبوه.
إن السمة الَّتي تعتبر حاسمة في المجتمع الرأسمالي المعاصر والمتعلقة بانفصال الريف عن المدينة، نجدها بارزة بوضوح شديد في آثينا ومعبرة تعبيراً دقيقاً عن الطبقية كنظام اجتماعي راسخ. ونجد أنفسنا مباشرة أمام نفس الإشكالية الفكرية الَّتي سوف يتعرض لها ريكاردو بالتحليل في مطلع القرن التاسع عشر، كفكرة مركزية في بناءه النظري، وهي الصراع بين رجال الصناعة الَّذين يريدون خفض أثمان المنتجات الزراعية ورجال الزراعة الّذين يرغبون في رفع أثمان هذه المنتجات. كتب ديورانت:" كانت نار الحرب القديمة العهد بين الريف والمدينة بين الَّذين يريدون أثماناً عالية للغلات الزراعية وأثماناً منخفضة للسلع المصنوعة، وبين الَّذين يطلبون أثماناً منخفضة للسلع المصنوعة وأجوراً عالية أو أرباحاً كبيرة في مجال الصناعة، وبينما كانت الصناعة والتجارة تعدان من أعمال العامة الَّتي تزري بصاحبها في نظر المواطن الآثيني، كانت الأعمال الزراعية في اعتقاده مشرفة للمشتغل بها لأنها أساس الاقتصاد القومي، وكان أهل الريف ينزعون إلى احتقار سكان المدن ويرون أنهم إما طفيليون مستضعفون أو عبيد أدنياء".(1) وعلى الرغم من ارتكاز المجتمع الآثيني على العمل العبودي، كظاهرة سادت العالم القديم بوجه عام(2)، إلا أن العبيد الأرقاء في اليونان كانوا إلى حد ما، في بعض الفترات التاريخية، أسعد حالاً؛ فكما كان للرجل الأثيني العادي أن يملك عشرات العبيد يعملون في منزله أو حقله أو حانوته، كان للعبد، وهذه ملحوظة مهمة، أن يبيع قوة عمله بالأجرة في وقت فراغه من عمل سيده ليكسب من المال ما يمكنه، كما ذكرنا، من شراء حريته من سيده. كتب روبنسون: "ولدينا نقش كتابي عن تشييد هيكل اركتيوم وفيه وصف جليٌ واضح يبين لنا وجه المقابلة، من حيث المراتب الاجتماعية بين مختلف الطبقات. ذلك أننا نجد ذكراً لعشرين مواطناً وخمسة وثلاثين عبداً معتقاً وستة عشر عبداً، وكل منهم، ويدخل في ذلك المهندس المعماري نفسه، يتقاضى أجراً يومياً قدره درهم واحد، والدرهم نسبة إلى قوته الشرائية آنذاك، يمثل ضعفي نفقات المعيشة لرجل عازب".(3) وظاهرة الأجر، على هذا النحو، واضحة في المجتمع الآثيني، على الرغم من هيمنة العمل العبودي على مجمل النشاط الاقتصادي في المجتمع، فيمكننا أن نجد الأطباء والمثالين والمعلمين يتلقون الأجور مثل البناءين والنجارين والنحاسين والنقاشين والخزافين والنحاتين والخراطين وغيرهم من الحرفيين والصناع الأحرار الأجراء.(4) أي أن الأجور تدفع لمن يقدمون الخدمات كما تدفع لمن ينتجون السلع. عرف المجتمع الآثيني إذاً إجارة الخدمة.
وتوجد بردية تعود إلى القرن السادس، محفوظة في متحف مكتبة الإسكندرية، تحت رقم 572، عبارة عن "عقد تدريب على حرفة وعلى الأجر النقدي". ظاهرة بيع قوة العمل إذاً معروفة. ويُصبح من المؤكد، في ضوء الآثار والوثائق العديدة، أن الجزء الأكبر من الإنتاج لم يكن من أجل الإشباع المباشر، إنما كان يتم من أجل السوق. وطالما كنا في السوق فيتعين أن نجد مباشرة أمامنا منظومة الظواهر المرتبطة بالأسواق مثل ظاهرة الأثمان والنقود والمبادلة والطلب والعرض وتجار التجزئة وبالطبع الرأسمال، والرأسمالي الَّذي يستثمر أمواله.
(3) النشأة والتطور
ولد أرسطو فى إستاجرا، وهى مستعمَرة يونانية وميناء على الساحل. وكان أبوه طبيب بلاط الملك"أمينتس الثالث المقدوني"، ومن هنا جاء ارتباط أرسطو الشديد ببلاط مقدونيا الذي أثر إلى حد كبير فى حياته ومصيره، الأمر الذي ربما يُبرر أرستقراطية أرسطو، والتي تبدت في كتابته ابتداءً من انتماءه لهذه الطبقة.
كما أخذ أرسطو عن إبيه حب الطبيعة وعُرف بميله الشديد إليها، واعتماده على الواقع الطبيعي، في شتى نواحيه، اعتماداً صحيحاً بالمراقبة والاختبار، كي يَبنى صرح فلسفته الأولى، كما يسميها هو، أى فلسفة ما بعد الطبيعة، وعن والده كذلك أخذ تلك الواقعية الصرفة التي أتاحت له، كما يقول الأب"أوغسطينس البولسي" فى مقدمته لكتاب أرسطو "فى السياسة"(5) أن يُشيد نظرياته الفلسفية البحتة على صخر متين يصونها من تقلبات الدهور وغارات المناوئين. ولكن أرسطو لم يعش كثيراً فى كنف إبيه؛ إذ قد فقده وهو بعد حديث السن، وربما في الرابعة عشر أو الخامسة عشر، فعهد، كما يقول الأب أوغسطين، إلى أحد الأوصياء كي يتولى تربيته وتعليمه.
دخل أرسطو أكاديمية أستاذه أفلاطون للدراسة فيها وبقى فيها نحو عشرين عاماً. ولم يتركها إلا بعد موت أفلاطون. وفي غضون السنين العشرين التي قضاها أرسطو فى مدرسة أفلاطون لم ينقطع إلى الدرس فحسب، وإنما يغلب الظن أنه انصرف من ذلك الحين إلى وضع تصاميم وخطوط تآليفه الأولى، على الأقل ما يتعلق منها بعلم المنطق وعلم الجدل وفني الخطابة والشعر، وعلمي الحيوان والنبات؛ إذ أن مدارس الفلسفة آنذاك كانت أشبه بأندية علمية ينصرف فيها رواد المعرفة، تحت اشراف أستاذهم الأكبر إلى مباحث متنوعة يتعاون التلاميذ فيما بينهم على البحث فيها ومناقشتها والخروج بنتائج علمية موسوعية.

(4) مؤسس علم المنطق
وبوصف أرسطو واضع علم المنطق فقد وضع ثلاثة قوانين في هذا الشأن:
أولاً: قانون الهوية أو (الذاتية) وينص هذا القانون على أن"الشيء هو نفسه"، وهو يعبر عن أبسط الأحكام لأن أبسط الأحكام هو الحكم بأن الشيء هو نفسه مثل أن نقول (الإنسان هو الإنسان) و(المرأة هي المرأة) ورمز هذا القانون (أ هو أ) ويرى أرسطو أن هذا القانون هو أساس التفكير المنطقي لأنه يُشير إلى ضرورة التقيد بذاتية مدلول اللفظ الذي نستخدمه فلا نخلط بين الشئ وما عداه، ولا نضيف للشيء ما ليس فيه، وعلى ذلك فهو يؤكد وجود علاقة مساواة بين طرفين متطابقين، الأمر الذي من شأنه ضبط التفكير، ومخالفة هذا القانون يوقعنا في التناقض، ويؤدي إلى فساد الاستدلال.
كما يرى أرسطو أن هذا القانون يجب أن يعمل ليس في عملية الاستدلال أو البرهان فقط، لكن في حياتنا اليومية؛ فلكي نفهم بعضنا بعضاً يجب أن نتحدث بلغة واحدة لا يحتمل أي لفظ من ألفاظها أكثر من معنى.
ثانياً: قانون عدم التناقض: نقيض الشئ هو نفيه، فنقيض الحكم بأن هذا الشئ "كتاب" هو الشيء نفسه"ليس كتاباً"، والكلام المتناقض هو الذي ينفى بعضه بعضاً, وفي ذلك مخالفة لقانون الهوية لأن إذا كان الشيء هو نفسه بمقتضى قانون الهوية، فلا يجوز، حينئذ، أن نصف الشيء نفسه بصفة أو بنقيض هذه الصفة في الآن نفسه، وإلا نكون قد وقعنا في تناقض واضح، ورمز هذا القانون هو (الشئ لا يمكن أن يكون "أ" ولا "أ" في آن واحد.
ثالثاً: قانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع: إذا كان"الشىء هو نفسه"طبقاً لقانون الهوية، وإذا كان لا يجوز منطقياً،وطبقاً لقانون عدم التناقض، أن نصف شيئاً واحداً بأنه هو نفسه وليس نفسه, لإستحالة ذلك منطقياً حيث لا وسط بين النقيضين، فيترتب على ذلك قانون ثالث هو قانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع، ورمز هذا القانون هو (إما أن يكون الشئ "أ" أو لا "أ").
(5) السلطة والقانون والمساواة
وبعد أن درس أرسطو مع طلابه عدداً من الدساتير اليونانية، قسم هذا الدساتير إلى ثلاثة أنواع مختلفة: ملكية، وأرستقراطية، وتمقراطية، أي حُكم أصحاب السلطان، وأصحاب المولد الشريف، والنبهاء. وكل نوع من هذه الأنواع قد يكون صالحاً حسب زمانه ومكانه وظروفه. وكُل حُكم حسن إذا كانت السلطة الحاكمة تعمل لمصلحة الناس جميعاً لا لمصلحتها الخاصة، فإذا لم تفعل هذا فهو حكم سيء. ومن ثم كان لكل نوع من أنواع الحكم الصالح شبيه فاسد حين يكون الحكم لمصلحة الحاكمين لا لمصلحة المحكومين.
ولقد حاول أرسطو أن يقيم الانسجام بين الطبيعة وبين القانون، وعنده أن الطبيعة تخضع لنظام عقلي، ومن ثم يوجد قانون طبيعي مشترك بين الجميع، لأنه مؤسَس على العقل الموجود لدى كل واحد من البشر، وتوجد كذلك عدالة طبيعية وهى سيدة الفضائل، وهى التي ينبغي أن تحقق عن طريق القانون بعض المساواة.
وتعد فكرة المساواة تلك من الأفكار الرئيسية التي يحتوي عليها الفقه القانوني لأرسطو، إلا أن فكرة المساواة لديه ليست فكرة مطلقة؛ فلا يمكن أن تسود المساواة فى داخل المدينة، فهذا مخالف للطبيعة التي تتطلب تقسيم سكان المدينة إلى طبقات عديدة، ويوجد في قمة السلم الهرمي الأغنياء وهم الذين لديهم الوقت للاشتغال بالمسائل العامة، والقانون الطبيعي على هذا النحو يسلم بوجود الملكية الخاصة. وينبغي على العكس، استبعاد العمال اليدويين من الاشتغال بالمسائل العامة، إذ ليس لديهم الوقت الكافي لذلك، ويعتبر أرسطو الرق مطابقاً للطبيعة(6)، فما دامت الألة لا تعمل بمفردها وطالما أن المكوك لا يتحرك وحده لنسج القماش، فإنه ينبغي وجود الارقاء للقيام بذلك.(7)
(6) الفكر الاقتصادي عند أرسطو
في هذه المرحلة التاريخية التي تميزت بهيمنة ظاهرة الرق على مجمل النشاط الاقتصادي في المجتمع، وفي دولة اليونان تحديداً، نقابل مساهمة أرسطو بصفة خاصة في القيمة والنقود والفائدة، ونجد أنه في سبيل البحث في أبواب الرزق الطبيعي وغير الطبيعي، يتخذ من العائلة، كوحدة إنتاجية، حقلاً للتحليل. ويفرّق، في هذا السياق، ما بين فن الاقتناء لأنه طبيعي، وفن الكسب لأنه مغاير للطبيعة، ثم يذهب إلى أهمية العمل الإنساني المنتج في دائرة طرق المعاش، الَّتي حصرها في: الرعي، والزراعة، والتلصص (لم يكن من الأمور الشائنة في بلاد اليونان) وصيد الأسماك، وقنص الوحوش والطيور. ويعتبر أرسطو أن الغنى الحقيقي صادر عن أبواب الرزق الَّتي حصرها على نحو
ما ذكرنا. وحين حديثه عن القيمة، نرى لديه الوَعيْ بكُل من قيمة الاستعمال وقيمة المبادلة، دون أن يصل إلى مقياس التبادل:".... فيبدلون النوافع بما هو من نوعها، لا أكثر ولا أقل، فيقدمون الخمر مثلاً ويأخذون عوضه الحنطة. وهكذا في كل من الأشياء الأخرى المتجانسة"(8)،
وهو يصل إلى ما هو أبعد من ذلك بكشفه عن المنفعة كشرط للقيمة، كما سيرى ريكاردو بعد ذلك، إذ يرى أرسطو أن الأشياء القابلة للمقايضة، أي التداول، هي فقط الَّتي يمكن أن تكون محلاً للاستعمال. ويضرب مثالاً على ذلك بالحذاء الَّذي يستخدمه صاحبه في الاستعمال، أو بمادلته بسلعة أخرى. ولكنه لم يتقدم أبعد من ذلك، كما ذكرنا، فهو يقول:" لكل قنية إستعمالان، وكلاهما ذاتيان، ولكن دون مماثلة في ذاتيتهما، إذ الواحد مختص بالشيء والآخر غير مختص به. فالحذاء مثلاً يحتذى به ويتجر به، وهذا الوجه من الانتفاع وذاك الوجه هما استعمالان له. والذي يقايض غذاءً أو نقداً مَن كان محتاجاً إليه استعمله كحذاء ولكن لا استعمالاً خاصاً إذ لم يجعل للمقايضة"(9).
ثم ينتقل أرسطو إلى الصعوبات الَّتي أدت إلى ظهور وحدات النقد، تلافياً لعيوب المقايضة، واعتبار تلك الوحدات المتخذة من الحديد والفضة وسيطاً في المبادلة، وحينما هيمنت وحدات النقد في التبادل منحية المقايضة جانباً، ظهر على المسرح الاجتماعي نشاط التجارة، الَّذي يدينه أرسطو ويَعتبره خارج الكسب الطبيعي، لأنه يقوم على البيع والشراء بمعنى أدق بيع منتجات فائضة بالنقد، ثم شراء منتجات يفتقر إليها، بالنقد كذلك، وهو التبادل الَّذي يراه أرسطو ذميماً.
أما عن نظرية أرسطو في النقود فهي تتلخص في أن حياة أي مجتمع (غير بيتي، أي غير شيوعي بدائي) تتطلب تبادل السلع والخدمات، وهذا التبادل يأخذ صورة مقايضة في مبدأ الأمر، يتم ذلك بصورة طبيعية، ولكن الصعوبات الَّتي تواجه عملية المقايضة والرغبة في تفاديها تجعل الناس تلجأ بطريق الاتفاق الضمني، أي العرف، أو عن طريق التشريع إلى إتخاذ سلعة واحدة كوسيط للتبادل. وهو الأمر الَّذي قاد إلى ظهور معدن من نوع ما كَيْ يلعب هذا الدور في التبادل، أَيْ أن أرسطو توصل إلى الوظيفة الأولى من وظائف النقود:"... النقد عنصر التبادل"(10)
وحين يدين أرسطو احتفاظ الإنسان بأية ثروة تزيد عن حاجته، فهو في الواقع يصل إلى وظيفة أخرى من وظائف النقود، وهي المتعلقة بمخزن القيمة. وأخيراً حين يتحدث عن التبادل والبيع والشراء، فإنما يفتح باب المناقشة حول مقياس القيمة، وتلك وظيفة ثالثة تقوم وحدات النقود بتأديتها.
وبشأن الفائدة الَّتي تكون على الإقراض، يقول أرسطو:"يوجد نوعان من فن تكوين الثروة: أحدهما يتعلق بالتجارة، والآخر بالاقتصاد؛ وهذا الأخير ضروري وجدير بالمديح، أما الأول فيقوم على التبادل ولذلك يندد به عن حق وصواب، وهكذا يكره الجميع الربا بحق، لأن النقد بالذات يُعتَبر هنا مصدر الكسب ويستخدم ليس من أجل الغاية الَّتي تم اختراعه من أجلها. فهو قد نشأ من أجل التبادل البضاعي، بينما تصنع الفائدة المئوية من النقد نقداً جديداً. ومن هنا تسميتها بالمولود، لأن المولود شبيه بالوالد. إلا أن الفائدة المئوية هي نقد من نقد، ولذا فإن فرع الكسب هذا أشد مناقضة للطبيعة من بين سائر فروع الكسب"(11)
ولعل أهم ما قدمه أرسطو في الباب الَّذي خصصه لبحث أبواب الرزق الطبيعي وغير الطبيعي، هو رؤيته للقيمة الزائفة للنقود، ووعيه بكون وحداتها غير معبّرة عن القيمة الطبيعية للأشياء، أَيْ إنه ينظر إلى النقود، كظاهرة طارئة على المجتمع، نظرة متقدمة جداً بالنسبة إلى عصره، ويرى أن النقد (المصنوع من الحديد ومن الفضة) لا يعبّر، في المقام الأول، عن قيمة ما يحتويه هو نفسه من حديد أو فضة كسلع، وأن البشر هم الَّذين جعلوا من المعادن نقوداً يبيعون من خلالها ويشترون، ويقول:"وما النقد، على ما يبدو لنا، إلا هذيان وعادة مرعية، وما هو على شيء من القيمة الطبيعية. إذ لو عدل مستعملوه عما إصطلحوا عليه لأضحى شيئاً زرياً لا يعتد به ولا يقضي حاجة، ولأمسى مَن قامت ثروته على النقود في أمس العوز إلى القوت"(12)
إن تتبع مساهمة أرسطو، لا شك تقودنا إلى الاعتراف بأنه قد تمكن من الوصول إلى قيمة الاستعمال وقيمة المبادلة، ولكن من منظور يتعين أن ننتظر مئات القرون حتّى يعاد النظر من خلاله على نحو أكثر نضجاً. كما أن تتبع أرسطو ربما يقودنا كذلك إلى الاعتراف بإحتمالية وصوله إلى ضفاف نظرية عامة في القيمة، ولكنها غير واضحة وربما غامضة، إلا أن أرسطو يظل أول من أشار إلى طبيعة السلع ودور النقود في الحياة اليومية بشكل تجريدي يمكن أن يبنى عليه بناءً نظرياً صحيحاً عن السلع والتبادل والنقود.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (6)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (5)
- المدرسيون: من الإقطاع إلى الثمن العادل
- من أجل الزيت!
- نهاية الاقتصاد السياسي: من العلم إلى الفن التجريبي
- من الاقتصاد السياسي إلى الاقتصاد
- مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي: المحاضرة الأولى
- ماتت شيماء
- جدول محاضرات الدورة العلمية السادسة
- مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي
- من ريكاردو إلى ماركس عبر قانون القيمة
- العصور الوسطى: تعليق على المصطلح
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (4)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (1)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (2)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (3)
- الفكر الاقتصادي عند أرسطو
- محاضرة ثمن الإنتاج عند كارل ماركس
- من التخلف إلى التبعية عبر القيمة
- البخلاء للجاحظ


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - أرسطو (المنطق، والقانون، والاقتصاد)