أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - المدرسيون: من الإقطاع إلى الثمن العادل















المزيد.....

المدرسيون: من الإقطاع إلى الثمن العادل


محمد عادل زكي

الحوار المتمدن-العدد: 4745 - 2015 / 3 / 11 - 23:16
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



مدخل:
كي نتعرف إلى فكر المدرسيين، وهو الفكر السائد طوال قرون أوروبا الوسطى، يتعين أن نكون الوعي أولاً بالإطار التاريخي الذي يحدد نشأة وتطور هذا الفكر. هذا الوعي يستلزم التعرف إلى مجمل التكوين الاجتماعي من جهة، وطبيعة علاقات الإنتاج من جهة أخرى. فإذ ما تمكنا من تكوين هذا الوعي، كان لنا أن نتقدم خطوة فكرية إلى الأمام من أجل التعرف على أهم الأفكار التي سيطرت في هذه الفترة من جهة، وأهم المفكرين الذين ظهروا مع هذه الأفكار من جهة أخرى.
(1) الزمان والمكان:
يتحدد فكر المدرسيين تاريخياً بالقرون الوسطي، وبوجه خاص القرن الثاني عشر والثالث عشر، كما يتحدد جغرافياً بالأجزاء المختلفة من غرب أوروبا، حيث هيمنة السلطة الكنسية، والصراع المستمر بين سلطة البابا الدينية، وسلطة الملك الزمنية.
(2) الميلاد:
- وحينما نرغب في التعرف على ظروف ميلاد العصور الوسطى وتطورها، لأنها العصور التي شهدت ظهور فكر المدرسيين، فيتعين أن نكون الوعي بالظروف التي أدت إلى تحلل العبودية وظهور النظام الإقطاعي، ونلاحظ: أن الأبحاث في هذه المرحلة عادةً ما تبدأ وتنتهي من قلب أوروبا، الغربية تحديداً؛ فجُل المؤرخين، الأوروبيين وغير الأوروبيين، في حقل تاريخ الفكر الاقتصادي بوجه خاص، يصنفون مؤلفاتهم لحكي ما الَّذي حدث في أوروبا جَعلَ (العالم!) يَنتقل من عصر العبودية إلى عصر الإقطاع؛ الأمر الَّذي يعني جعل باقي الأجزاء المكونة للعالم القديم والوسيط خارج التاريخ؛ لأن هذه الأجزاء، ببساطة، خارج التأريخ الأوروبي! وبالإضافة إلى هذه المركزية الأوروبية، نجد فرضية رئيسية مؤداها أن سقوط الإمبراطورية الرومانية فى غرب أوروبا في القرن الخامس، أدى إلى انعدم الأمن بانتشار الفوضى والخراب في الولايات الَّتي كانت تحت السيادة الإمبراطورية. وحينما أصبحت أعمال السلب والنهب الَّتي ترتبت على هذه الفوضى من مظاهر الحياة اليومية المعتادة، وفي ظل هذه الجو العام من الخوف المستشري بين الناس والتماس الأمن، لجأت المجموعات الضعيفة من الناس لأحد الأشخاص الأقوياء رغبة في حمايته، وفي مقابل هذه الحماية له عليهم الولاء والسمع والطاعة، وزراعة أرضه، وملء خزائنه بالمحصول بعد الحصاد. وحينما تبلورت هذه العلاقات الاجتماعية القائمة على الحماية في مقابل الخدمة والسمع والطاعة؛ نشأ الإقطاع كنظام اجتماعي يدور برمته حول الأرض والملكيات الزراعية الكبيرة.
(3) الواجبات والالتزامات:
لقد كان الإقطاع، في أوروبا الغربية تحديداً، يقوم على أساس واجبات والتزامات متبادلة، فلم يعد الإنسان، ظاهرياً، محلاً للتملك من قبل شخص آخر؛ فقد تحطمت الأغلال والسلاسل، وصارت العبودية متخذة شكلاً آخر. وكان على رقيق الأرض، أدنى الأشخاص مرتبة وفقاً لنظام الإقطاع، أن يظل مرتبطاً بالأرض الَّتي يحوزها لإنتاج ما يكفيه من طعام وأن يقدم خدماته في الأرض مقابل ما يَحصل عليه من حماية سيده. وحينما ينشأ الإقطاع وفقاً لهذه الفرضية (الحماية/الخدمة) يتم استكمال الصورة الكُلّية، وفقاً للمركزية الأوروبية أيضاً، بفرضية رئيسية ثانية وهي افتراض انعدام التبادل النقدي، وانعزال المجتمعات الإقطاعية.
وهذه الفرضيات على الرغم من مركزيتها الأوروبية المفرطة إلا انها قد تمثل صورة تقريبية شبه مقبولة في سبيل تكوين التصور العام عن الإنتقال من العبودية إلى الإقطاع في أوروبا الغربية على وجه التحديد.
(4) الخصائص:
بوجه عام يمكننا استخلاص الخصائص العامة للإقطاع كنظام اجتماعي واقتصادي عالمي ساد العالم في الفترة التاريخية الَّتي تمتد من القرن الخامس حتى القرن التاسع عشر، على النحو التالي:
1- الارتفاع النِسبي في مستوى تطور قوى الإنتاج بالمقارنة بالنظام العبودي.
2- بما أن المستغلين في الإقطاعية يتركون للمنتِجين المباشرين، بوجه عام، كُل المنتَج الضروري، فيمكننا أن نرى ظهور بعض الاهتمام المادي لدى المنتجين الصغار بنتائج عملهم وتظهر المبادرات الاقتصادية، وما يمكن تسميته بالاستثمارات. إذ في النظام الإقطاعي يُعد الفلاح مالكاً للماشية، ولوازم الزراعة، والأدوات، والمخزون، والأبنية، وكُل شيء إلا الأرض. إن للفلاح على الأرض حق الاستعمال والاستغلال، دون حق التصرف، وذلك في مقابل أن يدفع للإقطاعي الريع، العيني في مرحلة أولى، والعيني والنقدي في مرحلة ثانية، والنقدي في مرحلة ثالثة.
(5) الطبقات:
ويمكننا أن نُحلل طبقات المجتمع الإقطاعي على النحو التالي:
1- الإقطاعيون، الَّذين يملكون الأرض، وهم الَّذين يمثلون الطبقة العليا في المجتمع وتشتمل هذه الطبقة على الملك وكبار رجال القصر والكنيسة والنبلاء والفرسان.
2- الفلاحون التابعون إقطاعياً، وتشتمل هذه الطبقة على العبيد، والفلاحين الأحرار، وأقنان الأرض.
3- الطبقة العقيم، كما يسميها فرنسوا كينيه، وتشمل الصناع والتجار وأصحاب المهن والحرف.
(6) نشأة الإقطاع:
ويتطلب فهمنا للكيفية الَّتي من خلالها تم انتقال أوروبا من العالم القديم، العبودي، إلى العالم الوسيط، الإقطاعي، أن نتعرف إلى الأسباب، المدرسية ربما، الَّتي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية. وقد رأى جيبون أن أسباب إنهيار الإمبراطورية الغربية يمكن حصرها في: عوامل الطبيعة مثل العواصف والزلازل والفيضانات والحرائق، وهجوم القبائل الهمجية مثل القوط والوندال على أطراف الإمبراطورية، والسفه والبذخ والإسراف، وأخيراً النزاع الداخلى بين الرومان أنفسهم.
وحينما تنهار الإمبراطورية الرومانية، وفقاً لهذه الأسباب أو غيرها، وكما ذكرنا سابقاً، تنتشر الفوضى وثقافة العنف ويحل الصراع المسلح وبحور الدم محل الاستقرار والسلام والأمن، ويصبح الأقوى سيد الموقف فارضاً سطوته على ما شاء من أراضى شاسعة بما عليها وبمن فيها بشر. ولمن يؤثر السلامة من هؤلاء البشر الضعفاء أن يُسلم أرضه طواعية إلى الأقوى، أو يتحول إلى فلاح في أرض المسيطر الجديد، أو يفعل الأمرين معاً. حينئذ تنتقل السلطة الحقيقية إلى أيدي الأعيان المحليين، السادة الجدد، الَّذين أصبحوا سادة على فلاحيهم يتولون النظر في شئون مستأجريهم القضائية ويقررون الضرائب، كما يقررون زواجهم وطلاقهم.
شكلت طبقة الفلاحين القاعدة التي قام عليها هرم المجتمع الإقطاعي، وتألفت، كما ذكرنا، من ثلاث فئات هي: فئة العبيد، وفئة الفلاحين، وفئة الأقنان أو رقيق الأرض.
فكانت فئة العبيد في أوروبا الغربية في المرحلة الوسطى من العصور الوسطى(800-1200) أقل عدداً من فئة الفلاحين الأحرار وفئة الأقنان، واقتصر عمل العبيد على الخدمة المنزلية والعمل الزراعي في أراضي بعض الأسياد الإقطاعيين.
ويمكن القول أن العبودية قد تلاشت في إنجلترا قبل القرن الثالث عشر، بينما ظلت موجودة طوال العصور الوسطى في إسبانيا وإيطاليا وجنوب فرنسا، وكانت العبودية في الدويلات البابوية أقرب إلى الزيادة منها إلى الزوال بنهاية العصور الوسطى؛ حيث شرّع العديد من الباباوات العبودية كعقوبة لخصومهم السياسيين، بالإضافة إلى الرخصة، الكنسية، بتجارة العبيد. وهو الأمر الَّذي عمل الكثير من كبار الإقطاعيين على الحصول عليه كرخصة تخول لهم تحويل بعض الأحرار الفقراء إلى أرقاء.
أما فئة الفلاحين الأحرار، فيمكننا القول بأنها كانت قليلة العدد داخل طبقة الفلاحين، فقد وجد في القرى الأوروبية بعض الفلاحين الأحرار الَّذين يملكون مساحات محدودة من الأراضي الزراعية، ولهم حرية بيعها أو شراء أرض أخرى.
وكان لهؤلاء الفلاحين الأحرار الحق في حمل السلاح وفي تزويج بناتهم أو إلحاق أبنائهم بسلك الكهنوت دون التقيد بموافقة السيد الإقطاعي، بالإضافة إلى حريتهم في بيع مواشيهم ومحاصيلهم وفق ما تتطلبه مصالحهم الخاصة. وكان معظم الفلاحين الأحرار أتباعاً يدفعون لسادتهم الإقطاعيين ريع الأرض نقداً أو عيناً، ويلتزمون في أحوال كثيرة بأن يؤدوا لهم خدمات متنوعة، ما عدا الخدمة العسكرية. وخضع هؤلاء الأحرار لقضاء السيد المحلي الَّذي استمد سلطته من الملك. ولقد عاشت فئة الفلاحين الأحرار في ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية بوجه عام، مما أدى إلى تحول معظم هؤلاء الأحرار إلى فئة الأقنان. أو عبيد الأرض. وقد عدد لنا أحد كتاب العصور الوسطى مختلف الأسباب الَّتي آلت بالفلاحين الأحرار إلى مرتبة القنية، وأهمها:
1- من الجائز أن يكون السيد الإقطاعي قد طلب من الفلاحين الأحرار الاشتراك بحرب فرفضوا، فعاقبهم بإنزالهم إلى مرتبة القنية. أو أن تكون العقوبة صادرة من الكنيسة ضد الفلاح الحر لسبب أو لآخر.
2- بيع بعض الأحرار أنفسهم للأسياد الإقطاعيين. فكثير ما كان يذهب فلاح حر فقير إلى أحد السادة الأغنياء ويقول له أعطني مقدار كذا، فأصبح رجلك وأكون رهينة لك.
3- كان الكثيرون من الفلاحين الأحرار يدخلون عالم القنية بغية الدفاع عن أنفسهم ضد طاغية أو عدو محلي، وذلك بتسليم أنفسهم إلى رجل قوي يحميهم.
4- كثيراً ما كان بعض الفلاحين الأحرار يهبون أرضهم وأنفسهم لكنيسة أو دير ويصبحون أقناناً تابعين لتلك الهيئة.
ولذا، فقد شكلت فئة الأقنان، أو رقيق الأرض، القسم الأكبر من طبقة الفلاحين في أوروبا الغربية، وكان هذا القن مرتبطاً بالأرض كما كانت الأرض مرتبطة به، فهو لا يستطيع تركها إلا بالهرب منها، ويسمى العبد الآبق، أو بشراء حريته بالمال إذا وافق السيد الإقطاعي، كما أن هذا السيد لا يستطيع طرده منها إلا في حالة رفضه أداء واجباته القانونية أو ارتكاب جريمة ما.
ويمكن تقسيم واجبات القن تجاه سيده إلى ثلاثة أقسام، هي: الخدمات، والمقررات والاحتكارات. والخدمات هي أعمال السخرة الَّتي يفرضها السيد على أقنانه من عمل في الأرض وحصاد الزرع وجمع المحصول والاشتراك في شق الطرق وحفر الخنادق وإنشاء الجسور... إلخ.
أما المقررات، فهي الضرائب ومنها ضريبة الرأس الَّتي تقرر على كُل قن سنوياً، وضريبة العُشر الَّتي تلزم القن بتقديم عُشر إنتاج الأرض من الحبوب والفاكهة... إلخ، وعشر إنتاج الماشية والطيور والأسماك... إلخ.
أما الاحتكارات، فقد احتكر السيد الإقطاعي لنفسه بعض المؤسسات وفرض على أقنانه التعامل معها، ومنها: الطاحونة، والفرن، والمعصرة، وبئر الماء. وكان كُل قن ملزماً، كما ذكرنا، بطحن حبوبه في طاحونة السيد، وخبز عجينه في أفرانه، وعصر عنبه وزيتونه في معصرته، وذلك مقابل أجر معين نقدي أو عيني. وفي أواخر القرن الحادي عشر أخذت فئة الأقنان تتلَاشى تدريجياً لعدة أسباب أهمها:
1- فتحت الحملة الصليبية الأولى الباب أمام نحو عشرة آلاف قن تركوا أرضهم للإشتراك في تلك الحملة.
2- فتحت نشأة المدن وتطورها في المجال الصناعي والتجاري باباً جديداً أمام الأقنان لهجرة الأرض والنزوح إلى تلك المدن.
3- أخذ كبار الملاك يحررون أقنانهم بالجملة، بعد أن ثبت لهم أن الاعتماد على جهود الأقنان غير اقتصادي، وانه من الأجدى لهم استخدام عمال زراعيين مأجورين. وفي مرحلة تالية تم تحويل الريع العيني إلى ريع نقدي.
- وإذ ما أردنا التعرف أكثر وأكثر إلى هذا المجتمع، أي مجتمع أوروبا في القرون الوسطي، وبصفة خاصة على الصعيد الفكري؛ فيمكننا "أن نأخذ، كما كتب ليو تولستوي، كُل المراجع العلمية للقرون الوسطى ولسوف نرى أَيْ قوة إيمانية ومعرفة راسخة لا يرقى إليها الشك لما هو حق وما هو باطل في هؤلاء البشر! فقد كان من اليسير عليهم أن يعرفوا أن اللغة الإغريقية هي الشرط الوحيد اللازم للتعليم، لأنها لغة أرسطو الَّذي لم يشك أحد في صدق أحكامه على مدى بضعة قرون بعد وفاته. وكيف كان للرهبان إلا يُطالبوا بدراسة الكتاب المقدس القائم على أسس لا تتزعزع. كان من اليسير على لوثر أن يُطالب مطالبة بتية بدراسة اللغة العبرية، عندما كان يَعلم عِلم اليقين أن الله ذاته قد كشف الحقيقة للبشر بهذه اللغة. من السهل أن نفهم أن المدرسة كان يجب أن تكون دوجمائية، عندما كان وَعيْ البشر النقدي لم يستفق بعد، وأنه كان من الطبيعي أن يحفظ التلاميذ عن ظهر قلب الحقائق الَّتي كشف عنها الله وأرسطو، والروائع الشعرية لفرجيل وشيشرون. فلبضعة قرون بعدهم لم يكن بوسع أحد أن يتصور حقيقة أكثر صدقاً أو رائعة أكثر روعة مما أتوا به، كان من اليسير على مدرسة القرون الوسطى أن تعرف ما الَّذي ينبغي تعليمه عندما كان المنهجٌ واحداً لا بديل له، وعندما كان كُله يتركز في الإنجيل وفي كتب أغسطين وأرسطو".
(7) أهم الأفكار وأهم المفكرين:
ابتداءً من حزمة الأفكار المذكورة أعلاه، يمكننا الإنتقال خطوة فكرية إلى الأمام من أجل التعرف إلى أهم الافكار وأهم المفكرين في تلك المرحلة. وسوف نجد أن أهم الأفكار هي: الملكية الخاصة، والتجارة، والقيمة، والفائدة، والنقود. أما أهم المفكرين فهم: البرتو ماجنوس، وتوما الاكويني، ونيكول أوريزم.
(أ) بالنسبة للملكية الخاصة، اختلفت النظرة إلى الملكية الخاصة في منتصف وأواخر فترة العصور الوسطى، وذلك بالمقارنة ببداية هذه الفترة، وكان ذلك نتيجة عوامل عديدة من أهمها تطور الفكر الديني. فالشعور الذي يخرج به المرء من تعاليم الآباء المسيحيين الأوائل هو تعارض الطيبات الدنيوية مع المسائل الروحية تعارضاً لا يقبل التوفيق. ونجد العديد من العبارات في الكتاب المقدس، بعهديه، تذم الغنى والثراء وتنهي عن اكتناز المال:"السهر لأجل الغنى يذيب الجسم، والاهتمام به ينفي النوم"(يشوع 1:31)،"محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة"، (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 10:6)،"مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"(متى24:19؛ مرقس 25:10)، "لتكن سيرتكم خالية من محبة المال. كونوا مكتفين بما عندكم، لأنه قال: لا أهملك ولا أتركك"(رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 5:13). وبناء عليه سوف يحدث الصدام، في أواخر العصور الوسطى، بين التعاليم الدينية والواقع الاقتصادي. إذ بدأ النشاط الاقتصادي في النمو المتسارع بالاعتماد على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، كما حدث التوسع فى المعاملات التجارية مع ظهور المدن وتزايد الأسواق. وسيكون للقديس توما الأكويني الدور المهم في سبيل التوفيق، ربما التلفيق، بين مستجدات النشاط الاقتصادي والتعاليم الكنسية. فقد أبرز توما الاكويني أهمية وضرورة استخدام الملكية الخاصة من أجل مصلحة الجماعة، فهو لم يدافع عن الملكية الخاصة في حد ذاتها وإنما دافع عنها بصفتها وظيفة اجتماعية أى تدار لصالح الجماعة.
(ب) أما بشأن النشاط التجاري، فقد تأثرت النظرة إلى النشاط التجاري بالمعتقدات التي سادت تجاه الملكية الخاصة وشرعيتها ووظيفتها الاجتماعية. وسوف نجد أن توما الاكويني يتفق مع أرسطو في الحكم على التجارة بأنها غير طيبة وغير طبيعية، ولكنها شر لابد منه.
(ج) أما بشأن القيمة (والثمن العادل) فنجد أن البرتو ماجنوس، وهو أحد كبار رجال الكنيسة في القرون الوسطى، يقرر أن الثمن العادل هو الذي يغطي تكلفة إنتاج السلعة. أما توما الاكويني فقد تأثر بآراء ماجنوس في القيمة، ولكنه تمكن من تطوير أفكار أستاذه ولكي يصل إلى أن كل سلعة لها تكلفة يجب أن تتحدد وفقاً لمبدأ العدالة بمعنى أنها التكلفة الضرورية للمنتج حتى يستطيع الاستمرار في نشاطه الإنتاجي لا أكثر ولا أقل. موضحاً أن الثمن العادل بتلك المثابة هو الثمن الذي يتضمن الانحراف عنه انحرافاً عن الأخلاق الفاضلة. ومع ذلك نجد أن توما الاكويني (وهو المهتم أشد الاهتمام بفكرة العدالة) يبيح التقلبات حول الثمن العادل تبعاً لتقلبات أحوال السوق.
(د) وبالنسبة إلى الفائدة كان الرأى مستقراً منذ بداية العصور الوسطى على اعتبارها ربا وعلى تحريمها على أساس نصوص الكتاب المقدس، ولكن مع نمو التجارة والتعامل النقدي في الأسواق في أواخر العصور الوسطى بدأت بعض اتجاهات جديدة في الظهور، وكان أصحاب الاتجاهات الجديدة يرون ضرورة التوسع في إقراض المال مقابل فائدة بالاستناد إلى القانون الروماني الذي لم يكن يحرم هذا العمل. أما توما الاكوينى، فنحن نعرف أنه التزام بآراء أرسطو ولكننا نجده أيضاً يحاول تطويرها، فقد كانت معارضة أرسطو للفائدة/ الربا، نابعة من نظريته في النقود؛ فالنقود عند أرسطو تؤدي وظيفة أساسية وهي الوساطة في التداول الذي يهدف إشباع حاجات المستهلكين. أما النقود في حد ذاتها فهي عقيمة وعمليات تداولها عن طريق الاقراض لا ينبغي أن تتم بمقابل أو ثمن ولا يشفع للنقود عند أرسطو أنها ذات قيمة سلعية فهذه المسألة هامة لأداء دورها في تسهيل التبادل وليس لأي غرض آخر. ولكن توما الأكويني طور فكرة أرسطو بقيامه بالتفرقة بين السلع التي تستهلك أثناء استعمالها وتلك التي لا تستهلك (وهي أيضاً فكرة استقاها من القانون الروماني) وذلك كي يقول أن النقود تنتمي إلى الفئة الأولى، ومن ثم يعد غير طبيعي وغير عادل المطالبة بفائدة على القرض إلى جانب المطالبة بسداده.
(هـ) أما بشأن النقود، فنجد نيكول أوريزم، في مقال عن الاختراع الأول للنقود، يبدأ بعرض تفصيلي لأصل النقود، ثم يبحث في الصفات التي تجعل السلع مناسبة لاتخاذها في منزلة النقود، ويرى اوريزم أن حق سك العملة يجب أن يكون في يد الأمير بصفته ممثلاً للجماعة ويتمتع بأعلى منزلة وسلطة، ولكن امتياز سك العملة لا يجب أن يعطى للأمير الحق في أن يكون سيد النقود المتداولة في المجتمع لأن النقود أداة قانونية لتبادل الثروات بين الناس وبالتبع فهي في الحقيقة ملك للذين يملكون مثل هذه الثروات. وهذا الرأى لأوريزم يضع مفهوماً محدداً للسلطة النقدية في المجتمع أنها السلطة التي تملك اصدار النقود وإدارتها ولكنها لا تملك أن تخفض من قيمتها بالتلاعب في وزنها أو مادتها. ولقد شن أوريزم حملة عنيفة على السلطة النقدية التي لا تلتزم بواجبها. وأضاف أن الكسب الذي يتحقق عن طريق تخفيض القيمة السلعية للعملة أسوأ من الربا لأنه يتضمن ابتزاز جزء من ثروة الناس دون علمهم أو دون إرادتهم، بينما المرابي يتفق مع المدين على الربا. وأخيراً قال أنه حينما يجري خفض للقيمة السلعية لعملة ما فإن الذهب والفضة يتحولان إلى استخدامات أخرى حيث يقدر لهما قيمة أعلى، وتدريجياً تصبح العملة المنخفضة القيمة هي المتداولة.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل الزيت!
- نهاية الاقتصاد السياسي: من العلم إلى الفن التجريبي
- من الاقتصاد السياسي إلى الاقتصاد
- مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي: المحاضرة الأولى
- ماتت شيماء
- جدول محاضرات الدورة العلمية السادسة
- مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي
- من ريكاردو إلى ماركس عبر قانون القيمة
- العصور الوسطى: تعليق على المصطلح
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (4)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (1)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (2)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (3)
- الفكر الاقتصادي عند أرسطو
- محاضرة ثمن الإنتاج عند كارل ماركس
- من التخلف إلى التبعية عبر القيمة
- البخلاء للجاحظ
- الطرح المنهجي لمشكلة القيمة
- من المشاعية البدائية إلى الرأسمالية
- الجدول الاقتصادي


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - المدرسيون: من الإقطاع إلى الثمن العادل