أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - نحو أُسلوب عصري، وسليم















المزيد.....



نحو أُسلوب عصري، وسليم


سليمان جبران

الحوار المتمدن-العدد: 4696 - 2015 / 1 / 21 - 21:29
المحور: الادب والفن
    


سليمان جبران: نحو أُسلوب عصري، وسليم

إذا كنّا نعارض التقييد المغالي على الكتّاب والمجدّدين، ونحاول الوقوف في وجه "الغيورين" في تخطئتهم لكلّ ما يخرج عن مواضعات اللغة الكلاسيكية، فهذا لا يعني أننا نقبل كل جديد حتى إذا كان فيه خطأ فاضح أو خروج واضح عن قواعد العربية. هذه اللغة غالية علينا، ونريد لها مواصلة الحياة في ثياب العافية والازدهار، وما تصدّينا لمن يشدّونها إلى الخلف إلا انعكاس لرغبتنا في تطوّرها بحيث تضاهي كلّ اللغات الحيّة المعاصرة. في هذا السياق نورد، في هذا البند، بعض الملاحظات التي نرى أنها تُسهم في تحديثها وإحكام مستجدّاتها، وتمهّد طريقها إلى التقدّم والعصريّة. ليس في هذه الملاحظات ما يؤهّلنا للوقوف في صفّ "الغيورين" إلا أنّنا، يجب أن نعترف، نجد أنفسنا أحياناً متحفّظين من بعض الظواهر و"التجديدات" التي لا تراعي الدقّة والمنطق!
.1 بين الاقتصاد والفضفضة في الأسلوب
هل من الضروريّ أن تكون لغتنا فضفاضة، تمطّ ما يمكن قوله في جملة فيغدو جُملا؟ هل الكلام والوقت رخيصان في حسابنا فنهدرهما عبثا؟ لماذا نعمد، في عصرنا هذا أيضا، إلى الأسلوب "الإنشائي" الفضفاض حين تقتضي الحال لغة الإيجاز والدقّة؟ باختصار: لماذا نفصّل الكلام الكبير الفضفاض لجسد نحيف ضامر؟
أخبرني أحد الخبراء في الطباعة والترجمة أن النصّ، حين يُترجم من الإنجليزية أو العبريّة إلى العربية، تزداد "علامات الطباعة" فيه بنسبة 25 وأحيانا 30 في المئة. فهل نحن شعب "يحبّ الحكي" فعلا، أم لغتنا فضفاضة، "أدبيّة"، لا تعرف الاقتصاد في الألفاظ؟ قرأت ذات يوم ترجمة كتاب للأطفال بعنوان ? who moved my cheese، فاذا بالعنوان في العربيّة ينتفخ فيغدو ستّ كلمات بالتمام والكمال: من حرّك قطعة الجبن الخاصة بي؟ أما كان بالإمكان ترجمتها: من حرّك جبنتي؟ فنقتصد بذلك حتى أكثر من الأصل الإنجليزي؟ يمكنني تقدير طريقة التفكير والتخبّطات التي انتهت بالمترجم إلى هذه الصياغة. لكنّه على كلّ حال لم يرَ في هذا الانتفاخ ضيراً، وإلاّ فإنه كان حاول صياغة العنوان بكلمات أقلّ. علينا الاقتصاد ما أمكن، وفي الكتابة العلمية والترجمة بوجه خاصّ، لأنّ الثرثرة مكروهة حتى في أحاديث الناس، فكيف في اللغة العلميّة وفي عصرنا هذا، عصر السرعة؟
.2 التحرّر من الواو
قارئ النصوص العربية، القديمة، ومعظم الحديثة، لا بدّ أن يدهش إذا أحصى المواضع التي تستعمل فيها واو العطف. نقرأ أحيانا مقالاً كاملاً في صحيفة، أو في مجلة، فنجد كل فقرة فيه تبدأ بالواو، وذلك عدا الواوات " الداخلية"! أمامي، بالصدفة، مقالة للدكتور صبري حافظ، الناقد المعروف وأستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة لندن. المقالة من 15 صفحة، في 84 فقرة (مجلة فصول، المجلد 3، العدد 4، يوليو/ أغسطس/ سبتمبر 1983، ص 215- 229 ). نظرنا فواتح الفقر فوجدنا: الواو – 59 مرة، أمّا- 6 مرات، غير أن - 5 ، إذا - 2، صحيح - 2؛ كما وردت كلّ من الفاء، تلك، لكن، هذه، منذ، لا غرو، في، لقد، إذن، كلّ - مرّة واحدة . إلى هذا الحدّ تطغى الواو، حتى على أسلوب أستاذ في جامعة إنجليزية، يكتب في الإنجليزية كما يكتب في العربية وأكثر، عندما يأخذ في الكتابة بالعربية! تأمّلوا ما تقرءون وأحصوا معي الواوات!
الواو في بداية الجمل والفقرات تقليد من تقاليد الكتابة القديمة. فإذا قرأتَ مقالاً تبدأ كل فقرة فيه بالواو فاعلم أن الكاتب لم يستطع التخلّص من هذه السمة التقليدية في الأسلوب، لأنه تربّى عليها، ويلصقها في بداية كل فقرة تلقائيا. بعض الكتّاب يبدو واعياً لهذه الواو "الزائدة" في بداية كل فقرة، فتجده لذلك يستبدل الواو بـ إنّ فاتحة للفقرة، وقد أحصيت في مقالة لأحد الكتّاب ست فقرات متوالية تبدأ بـ إنّ !
قلت إن الواو من سمات الكتابة التقليدية ، في بداية الجملة، وبداية الفقرة بوجه خاصّ. ففي الشعر القديم كان البيت الشعري، في الأغلب، وحدة معنوية ونحوية مستقلّة، بحيث يمكن قراءته عادة على حدة. وتتوالي أبيات القصيدة على هذا النحو دونما رابط نحوي، في الأغلب، حتى آخر القصيدة. في هذه القصائد يكثر عادة ورود الواو في أوّل البيت، كأنما هي رابط شكليّ يشدّ البيت إلى سابقه، موهماً بتماسك القصيدة وبأنها ذات وحدة موضوعية على الأقلّ. هذه هي الواو التي علّمونا أنها "بحسب ما قبلها"، وهي في الواقع زائدة يمكن تجاهلها تماماً عند تفسير البيت أو ترجمته إلى لغة ثانية.
الواو تتردّد في النثر الكلاسيكي أيضاً، في بدايات معظم الجمل والفقر. ذلك أنّ النثر الكلاسيكي، كما نعرفه في المخطوطات، تكاد تنعدم فيه علامات الترقيم التي نحرص عليها اليوم كثيراً في كتاباتنا، ونعلّمها تلاميذنا. لذا جاءت الواو في النصوص الكلاسيكية "تعويضاً" عن علامات الترقيم التي ترشد القارئ اليوم في قراءة الجملة، وفهمها بشكل دقيق. هكذا كانت الواو في نظر كاتب النصوص النثرية الكلاسيكية أشبه بعلامة لبدء الجملة أو الفقرة تعين القارئ على القراءة والفهم الصحيحين.
أمّا في النثر الحديث فيجب علينا "التحرّر" ما أمكن من الواو، خاصّة في بداية الفقرة. ما من قاعدة تقول إنّه يجب أن نبدأ الجملة بالفعل، فتبدو الجملة "مبتورة" دون الواو، وما من قاعدة تفرض علينا أن تطول الجملة وتطول حتى تبلغ الصفحة أحيانا. لنبدأ الجملة بالجزء الذي نراه ملائما من حيث المعنى أو السياق؛ بالفعل، بالاسم، بالظرف، ولنراعِ دقّة المعنى وتماسك الجمل وقصرها ما أمكن، ليكون أسلوبنا جديداً سائغاً، لا يرهق كاتبه ولا قارئه أيضاً!

.3 جموع "معاصرة" على وزن فُعولات
من الأساليب الحديثة الشائعة اليوم استخدام جمع الجمع على وزن فُعولات، بدلاً من الجمع العادي، دونما مبرّر. نقصد بذلك جموعاً مثل: فحوصات، كشوفات، طروحات، شروحات، رهونات، رسومات، ضغوطات، فروقات، حجوزات، وعودات، خروقات... والقائمة طويلة! ليس جمع الجمع غريبا على اللغة العربية، وفي لغتنا الحديثة نستخدم بيوتات ورجالات مثلا. إلاّ أن جمع الجمع هنا جاء تعبيرا عن تغيير في المعنى، فالبيوتات هي العائلات الشهيرة المعروفة، والرجالات هم الرجال العظام المعدودون.
إذا نظرنا في القائمة المذكورة أعلاه وجدناها كلها في وزن واحد: فعولات جمع فعول. وأغلب الظنّ أن دخول هذه الصيغة إلى اللغة المعيارية كان بتأثير اللغة المحكيّة، ولعلها ظهرت في الواقع نتيجة الوهم بأن الوزن فعول يجمع على هذا النحو، مثل: طموح – طموحات. إلا أن الطموح مصدر لا جمع، ومن هنا الالتباس، ربما، إذ جعلوا فعولات جمعاً لفعول، دونما تدقيق، سواء أكانت مصدراً أو جمعاً.
الملاحظة الأخيرة أن هذه القائمة كلها جمع لمصادر على وزن فََعْل، والمصدر عادة لا يجمع إلاّ إذا اكتسب بجمعه دلالة أخرى. على كل حال إذا رغبنا في جمع مصدر من هذه المصادر فليكن جمعه قياسياً على وزن فُعول، ولا ضير في قولنا: فحوص، ضغوط، شروح ... إلى آخر القائمة.

.4 موضوع – مواضيع، موضوعة – موضوعات
يُستخدم هذا المصطلح، موضوع، بمعان كثيرة في لغتنا الحديثة. فاللغة العربية موضوع من مواضيع التدريس، وما تدور حوله الرسالة أو المقالة هو أيضا موضوع، والفكرة الأساسية في عمل أدبي هي أيضا موضوع (theme). بالإضافة طبعا إلى أن اللفظ في الأصل هو اسم المفعول من وضع ، وما زال يستخدم بهذا المعنى أيضا، فالموضوع هو ما وضعته في مكان ما، والموضوع، كما في علم الحديث، هو المختلَق أيضاً.
تجمع موضوع على وزنين: مواضيع/ موضوعات. ولذا يمكننا رغبة في التحديد أن نستخدم: موضوع – مواضيع للدلالة على مواضيع التدريس مثلا، وموضوعة – موضوعات للدلالة على المسألة التي تتناولها مقالة أو يعالجها تلميذ في درس التعبير. لن يحلّ هذا طبعا من مشكلة تعدّد المعاني في هذا اللفظ، ولم نذكرها كلّها، ولكنّه قد يساعدنا على التمييز بين هذين النوعين، على الأقلّ. وقد لاحظت فعلا أنّ الموضوعة أخذت تنتشر على أقلام بعض الكتّاب شيئا فشيئا، عندنا هنا، وفي البلاد العربية أيضا.
.5 تحصيل الحاصل
قرأت هذا التركيب في مقالة لأحد الكتاب، حيث يستخدمه بمعنى مجمل أو ملخص القول، وليس معنى هذا التركيب كذلك. فتحصيل الحاصل تركيب قديم ومعاصر، يعني إقرار أمر مفهوم لا حاجة إلى شرحه وتبريره. أو كما يقال في لغات أخرى: الاندفاع إلى باب مفتوح. ما دام الأمر قد حصل فلا حاجة إلى تحصيله. ورد هذا التركيب في الشعر أيضا. قال الشبيبي مثلا:
إذا قام حسن الشيء في حدّ ذاته / فإثبات ذاك الحسن تحصيل حاصل
وقال علي الجارم:
فقلتُ وهل يرضى ليَ العقل أنني / إذا قلتُ مدحاً قيل تحصيل حاصل
وفي قصيدة لصفيّ الدين الحلّي:
وإني إن وصفتُ له ولائي / كأني طالبٌ تحصيل حاصل
بعد هذا عجبتُ فعلا أن أجد ڤ-;-ير في قاموسه يفسّر تركيب من تحصيل الحاصل على هذا النحو:in summary, it may be said. فهل اعتمد ڤ-;-ير على نصّ يستخدم التركيب بهذا المعنى خطأ، فأثبته في قاموسه؟
.6 c.v - سيرة ذاتية؟!
يلاحظ في الآونة الأخيرة شيوع مصطلح السيرة الذاتية، ترجمة لما يسمّى في اللغة الإنجليزية curriculum vitae ، وتكتب مختصرة عادة بالحرف الأول من كل من الكلمتين c.v.، أو resume بالفرنسية، وترجموها بالعبرية: ק-;-ו-;-ר-;-ו-;-ת-;- ח-;-י-;-י-;-ם-;- - أحداث الحياة. أكثر ما يتردّد هذا المصطلح في الطلبات للحصول على وظيفة أو غيرها، وفي السياق الأكاديمي، بل إن بعض المثقفين يستخدم أحيانا المصطلح الإنجليزي مختصرا، فيقول مثلا: "ابعث لنا السي ڤ-;-ي لنرى". والمصطلح يعني مختصراً لتاريخ المرء، يتضمّن عادة بعض التفاصيل الشخصيّة والثقافة والتجارب في العمل والوظيفة. باختصار ما يحتاجه صاحب العمل في اتخاذ قراره بقبول الموظّف أو رفضه. يتّضح إذن أن مصطلح السيرة الذاتية ليس ترجمة صحيحة للمصطلح الإنجليزي المقصود. فالسيرة الذاتية، أو الترجمة الذاتية، هي بالطبع مؤلَّف من جزء أو أكثر يسرد فيه صاحبه حياته، وبالتفصيل، منذ طفولته حتى كتابة سيرته. كتاب سبعون، مثلا، هو السيرة/ الترجمة الذاتية لميخائيل نعيمة، ويقع في ثلاثة مجلّدات! باختصار السيرة الذاتية هي ما يسمّى في اللغات الأجنبية autobiography. ولذلك فالسيرة الذاتية ترجمة غير مقبولة للسي ڤ-;-ي. من هنا نظنّ أنّ الترجمة الدقيقة هي: سيرة حياة، تاريخ حياة، ترجمة حياة، أو بيان السيرة، كما يترجمها قاموس المورد. أرأيتم كيف لجأنا مرّة أخرى إلى "التعدّدية"؟ أنا شخصيا أفضّل بيان السيرة، فهي سهلة ومعبّرة، وكل مصطلح أوردناه خير من السيرة الذاتية الشائعة، لأنها خطأ فاحش رغم شيوعه.
.7 كتابة أسمائنا : هل نرضى بالفوضى فيها؟
كلّ من يراقب كتابة الأسماء، اسم العائلة أو الاسم الشخصي، التي تظهر على شاشة التلفزيون وفي الصحف، يعجب للفوضى الضاربة في هذا المجال. صحيح أن اسم الشخص واسم عائلته ملكية فردية لمن يحملهما، لكننا مع ذلك سوف "نتطفّل"على بعض الناس الذين نظنّ أنهم يكتبون أسماءهم بشكل خاطئ، ولهم أن يقبلوا اقتراحنا أو يرفضوه ذامّين تطفلنا هذا!
من التقليعات الحديثة كتابة أعلام مؤنثة كثيرة بالألف الطويلة في آخرها، بدلاً من الألف المقصورة أو التاء المربوطة. صحيح أن الألف المقصورة والتاء المربوطة الساكنة لا تختلفان كثيراً، في اللفظ، عن الألف الطويلة، إلاّ أنّ ذلك لا يسوّّّغ لنا الكتابة بالألف الطويلة في هذه الحالات. ألمع الأسماء وأشهرها طبعا هي الممثلة المصرية يسرى. فكلّ من يقرأ أسماء الممثّلين في أوّل الفيلم أو المسلسل، يجد اسمها مكتوبا دائما بالألف الطويلة: يسرا. دافع أحد الأصدقاء عن هذه الكتابة الغريبة بأنها تكتب بالألف الطويلة لتمييزها عن يسري، لأن المطبوعات المصرية لا توضع فيها النقطتان تحت الياء المتطرفة، فهل يسرى هي الكلمة الوحيدة التي يمكن قراءتها في العربية على وجهين؟ ربّما كان في الرأي المذكور تفسير لهذا الخطأ الإملائي، إلا أنه ليس تبريراً. ولا أعرف بالمناسبة لماذا يواصل الإخوة المصريون حذف النقطتين من تحت الياء المتطرفة؟ هل يعتبر ذلك من باب "الحفاظ على التراث" أيضا، لأن النصوص القديمة درجت على ذلك؟ وهل نحن اليوم مطالبون بالكتابة كما كتب أجدادنا في العصور الوسطى؟ لماذا علامات الترقيم إذن، ولماذا النقط على الحروف أيضا؟! (من المفارقات الطريفة فعلاً أن "أخبار الأدب" القاهرية، التي أطالعها أسبوعياً بفضل الإنترنيت، لا تكاد تعرف الألف المقصورة، إذ تظهر كلها ياء بنقتطتين تحتها. فهل استجاب الحاسوب لطلبنا هذا بقلبها كلها ياء من باب التعويض عن الماضي؟!). نعود إلى الأعلام المؤنثة فنجد ما يكتب منها بالألف الطويلة لا يقتصر على يسرى. يكتبون أيضا: نورا، رندا، ريما، رانيا، جومانا ... !! بل إن موقع الشاعرة غادة فؤاد السمان، في الإنترنت، وهي غير الروائية المعروفة غادة السمّان، يورد اسمها الشخصي بالألف الطويلة: "موقع الشاعرة غادا فؤاد السمان"، متوّجا بهذا الخطأ الفاضح صورتها الجميلة، وهذا كثير، كثير جدّاً !!
في كتابة أسماء العائلات، أيضا، ظاهرة تلفت النظر وتستحقّ معالجتها في هذا السياق. فلا يخفى أن أسماء كثيرة من أسماء العائلات هي في الأصل جمع تكسير لعلم مفرد: مصالحة جمع مصلح، صوالحة (صالح)، عثامنة (عثمان) دراوشة (درويش)، محاجنة ( محجن)، وهكذا. إلاّ أن لغتنا المحكية كما هو معروف تُحدث الإمالة في حركة الحرف قبل التاء المربوطة عند تسكينها، فتلتبس الفتحة بالكسرة، ومن هنا درج كثيرون على كتابة الأسماء بالياء بدلاً من التاء المربوطة: قواسمة > قواسمي، بيادسة > بيادسي، جرايسة> جرايسي، عرايدة > عرايدي، خمايسة > خمايسي، والقائمة طويلة. بل أزعم، وليعذرني ذوو الصلة، أن عائلة أرملي وحبيبي وريحاني الأصح أن تكتب كلها بالتاء المربوطة، إذ لا يعقل أن الجدّ الأول كان اسمه أرملي أو حبيبي أو ريحاني، وإنما الأرجح أنه علم مؤنث، تسمّت به العائلة، مثل عائلات كثيرة غيرها، اعترافا بفضل الجدّة الأولى ، أو بسبب وفاة الجدّ وقيام الجدّة برعاية الأسرة وحدها!

.8 أخيراً وليس آخراً
في مقالة لأحد الكتّاب، افتتحها بهذا التعبير، وسارع إلى تفسيره قائلاً: "وأخيراً وليس آخراً، وهو شكل من مماطلة الكلام تجاه الموضوع، من حيث كونه تعبيراً عن قطوف النهايات، مع وعد بأن آخر كلمة لم تقل بعد. وهذا يعني أن الحوار مستمر، ونهر الحياة متصل".
واضح أن الكاتب المذكور أساء فهم وتفسير هذا التعبير. فليس القصد به أن الحديث سيتواصل وإن كان توقف مؤقّتاً، كما يستشفّ بوضوح من المقتبس أعلاه. إنه تعبير معاصر، ما في ذلك شكّ، ولذا فإن القاموس الكلاسيكي لا يورده طبعاً. ومعناه أن ما نقوله، وإن ورد أخيراً من حيث الترتيب إلا أنه لا يقلّ قيمة عمّا سبقه. باختصار، هو تعبير حديث مترجم عن الإنجليزية: last but not least ، وترجمته الحرفية: الأخير لكن ليس الأقلّ.
.9 مزايدة / مزاودة
هذا لفظ حديث في دلالته، لا في صيغته طبعاً. فهو مصدر قياسي للفعل زايد، ومعناه الكلاسيكي:غالب في الزيادة. أمّا في لغتنا الحديثة فينتمي هذا المصطلح إلى القاموس السياسي، ويفسره شاروني: المنافسة في إظهار التطرف، ثم يورد التراكيب التالية للتمثيل: اتخاذ سلاح المزايدة في الاتهامات، مزايدة كلامية. وفي بيئتنا السياسية تعتبر المزايدة من الأساليب الشائعة جداً، وتعني الإسراف والتطرّف في رفع الشعار السياسي، حتى غير الواقعي والمقبول منه، رغبة في إحراج الخصوم السياسيين، لا إيماناً بالشعار المرفوع! والبعض يكتبها بالواو، مزاودة، خطأ ودون مبرّر. ناقشني أحد أنصار "المزاودة" ذات مناسبة، فردّ المصدر إلى الزاد، لأنه هو يكتبها بالواو، وهو طبعاً لا يمكن أن يخطئ!
.10 لافت / مُلفت، مَبيع / مُباع، مَعيب/ مُعاب، مَعيش/ مُعاش، مَصوغ / مُصاغ، مَصون/ مُصان:
الألفاظ الستة هذه كثيراً ما تُقرأ بالميم المضمومة، على غير قياس. نحن مع التجديد وتطوير اللغة، ولكننا لا نقبل الصياغة الخاطئة باسم التجديد! اللفظ الأوّل، لافت، يحمل دلالة جديدة لم تعرفها اللغة الكلاسيكية. إنه في الواقع اختزال لتركيب أوسع- لافت للنظر، وهو بديل معقول للكلمة الإنجليزية interesting. فنقول: أمر لافت، فكرة لافتة، عرض لافت وهكذا...أما ملفت هذه، فهي غير صحيحة لأن الفعل ثلاثي، لفت، واسم فاعله لافت، على وزن فاعل طبعاً. ولا أعرف لماذا تُعجب ملفت هذه الكثيرين، فيستخدمونها في أحاديثهم وكتاباتهم، واللغة لا تعرف الفعل ألفت! الألفاظ الخمسة الأخرى هي أسماء مفعول من الثلاثي المجرّد طبعاً: باع، عاب،عاش، صاغ ، صان. واسم المفعول، كما هو معروف، يصاغ من الثلاثي المجرّد على وزن مَفعول دون استثناء، فإذا كان أجوف وقع فيه الإعلال بالحذف عادة، كما يظهر في الأمثلة أعلاه. أما الميم المضمومة هذه فلا تكون في اسم المفعول، واسم الفاعل أيضاً، إلا إذا كان الفعل أكثر من ثلاثة أحرف؛ ثلاثيا مزيدا أو رباعياً.

.11 البنية التحتيّة – مصطلح غير دقيق رغم شيوعه!
البنية التحتية من مصطلحات الحضارة المعاصرة. شاع هذا المصطلح على الأقلام والألسنة. وفي البلاد عندنا "اخترعوا" وزارة أيضًا سمّوها في العربية "وزارة البنى التحتية"! فهل يمكن بعد هذا الانتشار الواسع السريع لهذا المصطلح، محاولة تغييره أو تعديله، حتى إذا كان لا يفي بالمعنى الدقيق لما وُضع له؟ على كلّ حال، دعونا ننظر في دلالته، ومدى الدقّة في ترجمته إلى العربية، راجين أن يشكّل هذا البند، على الأقلّ، تحذيرا من الإسراع في ترجمة أو صياغة مصطلحات جديدة دونما رويّة وتدقيق ضروريين!
المصطلح مترجم، طبعا، من اللغة الإنجليزية، فهناك في الغرب استحدثوا هذه التسمية بعد ظهور مسمّاها في تخطيط وبناء الاقتصاد العصري. لا نتوقّع بطبيعة الحال العثور على ما يقابل هذا المصطلح في العربية الكلاسيكية، فهو مصطلح حضاري عصري، ولا يُعقل أن تبتكر العربية تسميات لما لم تعرفه من المسمّيات! المصطلح الإنجليزي/ الغربي، infrastructure (أو substructure)، مركّب من كلمتين: infra + structure. الكلمة الأولى هي بادئة (prefix)، ومعناها تحت أو دون، ومنها أيضًا مصطلح infrared = ما تحت/ دون الأحمر. الكلمة الثانية تعني، كما في "المورد": (أ) بناء، تشييد (ب) مبنى، بنية، تركيب. بذلك يكون المعنى الحرفي للمصطلح: ما تحت البناء/ المبنى/ البنية. بكلمة أخرى، يعني المصطلح في دلالته الأوّلية كلّ ما يلزم من تأسيسات لإقامة البناء. هذا هو معناه الأوّلي، إلا أنّ دلالته اتّسعت حين استخدم في سياق الاقتصاد الوطني وإقامة المدن وصيانتها، بحيث يعني "كلّ المنشآت والخدمات والتجهيزات وغيرها، الضرورية لشركة، دولة، تنظيم، بلدة، وما شابه، في العمل والتطوّر كما يجب". عند إنشاء قرية، مثلا، لا بدّ من شبكة شوارع وشبكة مياه وكهرباء ومجار، وهذا طبعا ما يعنيه المصطلح. لا يعني المصطلح إذن مبنى / بناء تحتيا، بل يعني ما يكون تحت المبنى من أسس ضرورية لقيامه!
في اللغة العبرية، كما هو معروف، لم يترجموا المصطلح حرفيا، بل اشتقّوا كلمة عبرية جديدة من أصل قديم، وتؤدّي المعنى ذاته: تشتيت والجمع تشتيوت. والتشتيت هي صيغة مصدرية من الأصل شيت، ( وهذه تقابل اسْت في العربية، ولذا كانت همزتها عندنا همزة وصل لأنّها غير أصلية، من الأسماء العشرة !)، وتعني ما تعنيه اللفظة العربية المقابلة تماما: الأساس، الأصل، والعجُز(القفا) أيضا!
في العربية أيضا كان بإمكاننا تجنّب الترجمة الحرفية - ما تحت البناء - وهو تركيب يصعب جمعه والنسب إليه والاشتقاق منه، وذلك ما جعلهم في ظنّي يقلبون التركيب في العربية إلى تركيب سائغ، من اسم ذات واسم منسوب/صفة – بنية تحتية، وهو ما أدّى إلى الخطأ طبعا!
كان يمكننا في العربية اشتقاق كلمة جديدة من أصل عربي قائم: أسّ / أساس> تأسيسة وجمعها تأسيسات. بإضافة التاء المربوطة إلى المصدر تأسيس، وهو أمر جائز وشائع في صياغة الكلمات الجديدة، لنبتعد بالمصطلح عن الدلالة العامّة في المصدر الأصلي، ويكون للاشتقاق الجديد دلالة واحدة لا غير. وإذا كانت تأسيسة لا تعجبنا ففي اللغة العربية أصل آخر، أقرب إلى الدلالة المقصودة بهذا المصطلح الجديد، يمكننا الاشتقاق منه بكل بساطة.
من الألفاظ الشائعة في الأسلوب الأدبي: إرهاصات، بالجمع غالبا، كقولنا إرهاصات النهضة، إرهاصات الحرب، فما معنى الإرهاص، وما دلالة هذا الأصل؟ غالبا ما نحدس معنى الإرهاصات من السياق، فنظنّها بمعنى البدايات أو الطلائع الأولى، وبهذا المعنى فسّرها أيضا قاموس أيلون وشنعار فذكر أنّ معنى إرهاصات: علامات مبكّرة، أو علامات تؤذن بما سيحدث. وهو تفسير اعتمد في ظنّنا السياق فجانب الدقّة. أما شاروني فكان أقرب إلى المعنى الدقيق حين فسّر الإرهاص بأنّه: الأساس أو المدماك الأوّل من الحائط. بالإضافة إلى معان أخرى تطوّرت عن هذا المعنى. في لسان العرب أيضأ: الرهص بالكسر أسفل عرق في الحائط، والرهص الطين الذي يجعل بعضه على بعض فيبنى به. وفي الحديث:
... وأن ذنبه لم يكن عن إرهاص وإرصاد، وأصله من الرهص وهو تأسيس البنيان.
كذلك يفسّر المنجد، وهو قاموس كلاسيكي، الرهص على هذا النحو: الرهص من الحائط : أوّل صفّ منه، الطين الذي يبنى عليه، أرهص الحائط: بنى رهصه، والشيء: أّسسه وأثبته. لدينا إذن أصل عربي مناسب نستطيع اشتقاق مصطلح جديد منه يؤدّي المعنى الذي نريد ولا دلالة أخرى له، في لغتنا الحديثة على الأقلّ. فإذا كان الرهص المدماك الأوّل أو ما تحته من طين، وهو المعنى الأوّلي المحسوس في ظنّنا، وأرهص تعني أسّس، وإذا كان أفعل وفعّل بمعنى واحد في أغلب الأحيان، فنحن نستطيع، بناء على ذلك، اشتقاق: ترهيصة – ترهيصات، فنبتعد بذلك عن إرهاصات القائمة في اللغة بدلالة أخرى. أفليس أسهل لفظا وأدقّ دلالة القول وزارة الترهيصات بدلا من وزارة البنى التحتية التي تشكو عدم الدقّة والتضخّم؟! لا أظنّ مقترحيّ هذين، تأسيسات أو ترهيصات، قادرين على منافسة البنى التحتية، لأنّها شاعت كما أسلفنا على الألسنة والأقلام، رغم أنها ترجمة حرفية وغير دقيقة. كلّ ما نرجوه، على الأقلّ، أن تنبّه ملاحظتنا هذه المترجمين، فلا يسارعوا إلى ابتكار المصطلحات دونما تدقيق وإعمال فكر والتفات إلى ما عندنا من مخزون لغوي مدفون في القواميس والمراجع الكلاسيكية!
.12 مزدوِج، مختلِط، منتظِم، مختلِف
هذه الألفاظ الأربعة غالبا ما تقرأ بفتح عينها، والأصحّ أن نقرأها بكسر العين. بكلمة أخرى، هذه الألفاظ تقرأ باعتبارها أسماء مفعول بينما هي أسماء فاعل طبعا، لأننا إذا رجعنا إلى أفعالها الماضية: ازدوج، اختلط، انتظم، اختلف؛ وجدناها كلّها أفعالا لازمة لا تتعدّى عادة إلى المفعول. فنحن نقول ازدوج الكلام: تشابه في سجع أو وزن، اختلط الظلام: اعتكر، انتظم الأمر: استقام، تخالفوا واختلفوا: ضدّ توافقوا واتّفقوا (المنجد). هكذا يتبيّن بوضوح أنّ الأفعال الأربعة، بدلالاتها في الأساليب الكلاسيكية والمعاصرة هي أفعال لازمة، لا تنصب مفعولا به، وعليه لا يصاغ منها عادة اسم مفعول مفتوح العين، كما تقرأ في معظم الأحيان. اللفظة الأخيرة، مختلف، هي أكثرها شيوعا في الأساليب الحديثة، وهي لا تقرأ عادة مفتوحة العين إذا كانت نعتا حقيقيا، بل حين ترد مضافة إلى ما بعدها: مختلف الأمور، مختلف الميادين، مختلف القضايا، ظنا أنها اسم مفعول في هذه التراكيب. إلا أنّ النظرة المتأنّية في التراكيب المذكورة تبيّن أنّها من باب إضافة الصفة إلى موصوفها: مختلِف الأمور = الأمور المختلِفة (جزيل الشكر = الشكر الجزيل)، ممّا يثبت أن العين يجب أن تكون مكسورة باعتبارها اسم فاعل/ صفة للأمور.
.13 "القهوة التركية" - هل هي تركيّة فعلا ؟!
كم من مّرة نجلس في مطعم أو مقهى، فنسمع الجالسين حولنا يطلبون ويشربون قهوة تركية ! هل "المحبوبة السمرا" المهيّلة، التي نشربها في بيوتنا وفي مقاهينا، قهوة تركية فعلا، أم هي قهوتنا، قهوة عربية ؟ القهوة قهوتنا، في الواقع، قهوة عربية أصيلة، فلماذا يسمّي لنا الآخرون بنتنا وهي من لحمنا ودمنا ؟!
تركيا، كما نعرف، بلاد باردة، وشجرة البنّ/القهوة شجرة استوائية لا ترضى بالعيش في تركيا ولا في الشرق الأوسط أيضا. إلا أنها عاشت وتعيش في اليمن، في جنوب الجزيرة العربية، ولذا عرفها العرب وشربوها في الجاهلية وفي الدولة الإسلامية، بل نشأت حولها عادات وطقوس كثيرة أيضا. لماذا إذن "سلبنا" لأتراك قهوتنا، فتسمّت باسمهم؟
كانت تركيا ـ الإمبراطورية العثمانية ـ قبل أن «تمرض» ، دولة كبرى احتلّت مناطق شاسعة من أوروبا. فقد وصلت إلى فيينا، وانتصرت سنة 1739 على النمسا وروسيا! لذلك دأب الأوروبيون/ الغربيون عل تسمية كل ما هو شرقي تركيًا، بما في ذلك القهوة العربية التي نقلها العثمانيون، فيما يبدو، إلى أوروبا . إلا أن الإمبراطورية العثمانية سقطت، وهو مصير كل الإمبراطوريات عاجلا أو آجلا، والدول الغربية سيطرت على هذه المنطقة، احتلالا أو انتدابا، والاستيطان الصهيوني بدأ أيضا في فلسطين. ومع هذا العهد الجديد عادت إلينا قهوتنا العربية باسمها الجديد ـ قهوة تركية، فتبنّى هذه التسمية كثيرون منا أيضا! إنها قهوة عربية، لا مراء في ذلك، ومن واجبنا أن نستردّها، بالطرق السلمية طبعا!!

.14 حيث : هل تصلح في كلّ سياق ؟
لا أعرف لماذا يلجأ كثيرون، في الصحافة بوجه خاصّ، إلى حيث كلّما رغبوا في ربط جملتين، أيّ جملتين، متجاهلين معناها وطريقة استخدامها . هذه عيّنة من استخدامات حيث، نوردها للتمثيل، ولا حاجة طبعا إلى ذكر كتّابها أو المنابر التي ظهرت فيها:
- في الاختبار أسئلة متنوعة حيث يطلب من التلاميذ الإجابة عنها.
- شاركتْ في هذا المعرض اثنتا عشرة فنانة حيث قدّمت كل فنانة لوحتين من إبداعها.
- ... أنّ سراحه سيطلق في الثامن والعشرين من الشهر الحالي حيث اعتقلته الشرطة وأدانته بتهم أمنية.
- افتتحت الأمسية [ فلانة ] حيث بدأت حديثها...
- ... جُنّد مباشرة للخدمة العسكرية حيث كان معه جنود من أصل بلغاري.
واضح أنّ حيث في الأمثلة أعلاه كلّها لم تُستخدم في سياقها الصحيح، وذلك ما أضفى ركاكة على صياغة الجملة طبعا. فما معنى حيث إذن، وكيف نستخدمها؟
يعرّف النحاة حيث بأنّها ظرف مكان، وقد ترد للزمان أيضا، مبنيّ على الضمّ، ومضاف إلى الجملة بعده. التعريف المذكور ينفع، ربّما، هواة الإعراب والإعراب المحلّي، إلا أنّه لا ينفع أحدا في طريقة استخدامها في الجملة، والكتّاب والصحافيون يريدون أن يكتبوا لا أن يعربوا! لذلك نورد ، فيما يلي معانيها وسياقاتها الأساسية:
1) ترد حيث في جمل كثيرة بمعنى: المكان الذي ، إلى المكان الذي، في المكان الذي. الأمثلة: نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء ( قرآن كريم، بمعنى المكاان الذي)،... وطرنا مع اللذات حيث تطيرُ ( البارودي، بمعنى إلى المكان الذي)، لا ينجح العلم حيث المال منتجعٌ ... ( اليازجي، بمعنى في المكان الذي) .
2) ترد أيضا بمعنى: من جهة، باعتبار، مثلا: كم نوعا الفعل من حيث الصحة والعلة؟ اذكر مناطق البلاد المختلفة من حيث تضاريسها الطبيعية.
هذه هي استعمالات حيث المعروفة، وهو ما يظهر بوضوح أنها مظلومة على أقلام كثيرين من الكاتبين ، يلقون بها بين كلّ جملتين متجاهلين معناها الدقيق ووظيفتها المحدّدة.
.15 بلوچ ـ مدوَّنة ؟!
البلوچ، ويكتب أيضا بلوغ!، هو جانر جديد من الكتابة ظهر، ويلقى رواجا، في الإنترنت. إذا فتحت مواقع كثيرة، مواقع الصحف بوجه عام، تجد كل كاتب وبلوچه! حاولنا في أول مرة عرضت لنا هذه اللفظة البحث عنها في القواميس الحديثة، لكننا لم نجدها، لأن اللفظة جديدة، كما تبيّن لنا لاحقا، فلم تتضمّنها القواميس بعد. بمحض الصدفة قرأنا أيضا تفسيرا للأستاذ شوقي نجم ، في الملحق الثقافي لصحيفة النهار البيروتية، يقول فيه: "إن كلمة بلوغرز BLOGGERS، وتعني المدوَّنات، تتألف من شقّين، يمثّل الحرف ب B القسم الأول منها ويشير إلى كلمة بيوغرافي التي تعني سيرة، ويرتكز القسم الثاني على كلمة log وتعني جدولا تسجَّل عليه الأشياء بالتسلسل". لا نعرف كيف قرّر الأستاذ نجم أن الباء هي الحرف الأول من بيوغرافي، ولا صلة أصلا بين السيرة وهذا الجانر الصحفي الجديد، وهل استقى هذه المعلومة من مصدر معين، أم هي من بنات أفكاره ! واصلنا بحثنا، فقرأنا في أحد المراجع الأجنبية، تفسيرا دقيقا لهذا المصطلح الجديد: البلوچ هو نحت، أو مزج بين الكلمتين log + web ، واختزلوا كلمة weblog هذه فجعلوها blog ، وبذلك وُلد هذه المصطلح الجديد! الكلمة الأولى، ويب، تعني شبكة الإنترنت طبعا (النسيج العنكبوتي)، والثانية، لوچ، تعني كتابا/ سجلا متواصلا لما يجري من أحداث خلال رحلة السفينة. وفي المورد : "سجلّ سرعة السفينة أو تقدمها اليومي، سجل الأداء: سجل لأيّ عمل يؤدى". من كل ما تقدّم نخلص إلى أن البلوچ هي مقالات متتابعة، للكاتب نفسه ، ينشرها على شبكة الإنترنت! لا أدري أخيرا ما الذي استهوى الكثيرين في ترجمة بلوچ مدوّنة، وليس في هذه الترجمة أي إشارة إلى الإنترنت ـ منبر هذا الجانر وساحته. يبدو أن سبب شيوع المدوّنة هو أنها لفظة جديدة استهوت الكتّاب، رغم أنها لا تؤدّي المقصود، ورغم أنها وردت أيضا في كتابات بعض النقاد الحداثيين بمعنى النص، أو كلّ ما يكتب حبرا على ورق. لا أدري أخيرا لماذا نكلّف أنفسنا عناء اشتقاق لفظة جديدة، لا تأتي بالمعنى الدقيق كما بينّا، ولا نتبنى البلوچ ذاتها، بالجيم أو بالجيم المثلثة لا بالغين! لا نحن ابتكرنا الإنترنت ولا بلوجاتها، فيحقّ لنا أن نقرّر دائما في تسمياتها!!
.16 gap : هوّة أم فجوة ؟
نسمع ونقرأ كثيرا، في الأبحاث الاجتماعية / الاقتصادية، وفي الصحافة على اختلاف أنواعها،عن الهوّة بين الطبقات والتجمّعات الإثنية المختلفة، وعن ضرورة ردم / جَسْر الهوّة بأسرع وقت ممكن. في بلادنا بشكل خاصّ يتردّد هذا اللفظ كثيرا كلما قارنّا أيّ ناحية من نواحي المجتمع اليهودي بمثيلتها في مجتمعنا العربي. فهل الفرق بين طبقتين أو مجتمعين هوّة أم فجوة ؟ نعود إلى القاموس، المنجد، مثلا، فنجده يذكر أن الهوّة: ما انهبط من الأرض، الوهدة الغامضة منها، الجوّ بين السماء والأرض. ويبدو واضحا أن المنجد استقى مادّته من لسان العرب ، حيث يرد التفسير نفسه معزّزا بالشواهد. ويضيف المعجم الوسيط أن الهوّة تعني الحفرة البعيدة القعر أيضا. واضح إذن أن الهوّة بمعناها الكلاسيكي والمعاصر تعني المكان العميق جدا. إنها في لغتنا المحكية "الهوتة" التي كنا في صغرنا نقصدها في المناطق الجبلية، فنلقي فيها الحجارة ونصغي إلى صوتها يتردّد طويلا في الأعماق. الفجوة، من ناحية أخرى، يفسّرها المنجد بأنها: الفرجة بين الشيئين،وفي المعجم الوسيط أيضا: المتّسع بين شيئين، وهذه هي الترجمة الدقيقة للفظة إذن (في العبرية اشتقوا كلمة جديدة ـ پاعرـ من الفعل پعار المقابل للفعل فغر في العربية). ولا أدري من أين جاءوا بالهوّة هذه، والمورد نفسه يترجم gap : فجوة، ثغرة، فُرجة ؟ ما بين المجتمع اليهودي والمجتمع العربي في البلاد هو إذن فجوة، سببها التمييز سنين طويلة، وعلينا أن نعمل بكل قوانا على ردم/جسر هذه الفجوة ، وفي مجال التربية والتعليم قبل غيره !
.17 communication: إعلام أم اتّصال ؟
في ترجمة المصطلح الأجنبي أعلاه، نقرأ مرة الإعلام ، وأخرى الاتصال، ولا بدّ لنا من اختيار أحد اللفظين، الأدقّ منهما طبعا، تجنّبا للازدواجية. يكفينا ما نعاني منها في مجالات أخرى كثيرة. في المصطلح الأجنبي، كما نرى، توجد البادئة كُم ، وهي تعني معا، أو المشاركة ، كما هو معروف. فهل في لفظ إعلام معنى المشاركة، أم الإعلام فعل في اتجاه واحد، المرسِل فيه هو نفس المرسل والملتقّي يتلقّى دائما؟ ما قرأت الإعلام ووسائل الإعلام مرّة، رغم شيوعها، إلا تذكّرت الأنظمة الشمولية، حيث تكون الدولة/ السلطة مصدرا للإعلام لا مصدر غيره، والجماهير، القاعدة، تتلقّى ما تمليه أجهزة السلطة راضية مرضيّة ! هل تذكرون معي، مثلا، وزارة الإعلام والإرشاد القومي في مصر الستينات؟ هذا هو معنى الإعلام: معلومات تتدفّق في اتّجاه واحد، مصدرها واحد ومتلقّيها واحد، وليس هذا ما يُقصد بالمصطلح المذكور.
قرأت للأستاذ عبد العزيز شرف كتابا عنوانه اللغة الإعلامية. فهل استخدم الكاتب مصطلح الإعلام الذي يشكّل عنوان كتابه، دون غيره؟ كيف تتحقق الازدواجية إذن، وهي عزيزة على قلوبنا لا نطيق لها فراقا، حتى في كتاب كرّسه صاحبه لهذا الفنّ بالذات؟ اسمعوا وعوا:
ص 122: إن بحوث اللغة الإعلامية لا يمكن أن تنفصل عن بحوث علم اللغة، ولكنها في نفس الوقت تتصل اتصالا وثيقا بعلوم الاتصال الجماهيري. ص 123: وسائل الاتصال الإعلامية. ص 161: وحين ننظر في لغة الاتصال بالجماهير التي تستعملها اليوم أجهزة الإعلام... ص 184: الاتصال الجماهيري mass communication. ص 191: وسائل الإعلام الجماهيرية .. تداول الإعلام ووسائل الاتصال...! ما دام الكاتب تبنى مصطلح الإعلام فلماذا لا يقتصر عليه في كتابه؟
من ناحية أخرى، في كتاب للدكتور حسام الخطيب: اللغة العربية، إضاءات عصرية (القاهرة، 1995)، يجعل المؤلف عنوان الفصل الثالث: لغة الثقافة ولغة الإعلام، ثم يقول فيه: "على أية حال بعد البحث والتقصي تبيّن لي أن موضوع "الاتصال" ما زال بعيدا عن ساحتنا العلمية[ ... ] وتبين لي أن مصطلح "الإعلام" في البلاد العربية غير محدد وغير متفق عليه" ( ص 156). ثم يضيف الدكتور الخطيب في موضع آخر: "والجدير بالذكر أنه تجري في معظم الأحيان مطابقة بين كلمة (الإعلام ) وكلمة (الاتصال)، وإن كان واضحا أن الثانية أوسع مضمونا من الأولى. كما يعرّف الخطيب الاتصال بأنه "العملية التي يتمّ بمقتضاها تكوين العلاقات بين أعضاء المجتمع وتبادل المعلومات والآراء والأفكار والتجارب فيما بينهم" (ص 162). في بداية الفصل المذكور يبدي الخطيب عدم ارتياحه، ربما، من العنوان الذي لم يختره بنفسه، ولم تكن له يد في صياغته، ثم يعجب بعدئذ من المطابقة بين الاتصال والإعلام غالبا، فيحاول جاهدا التمييز بينهما، كأنما هما، في الاستعمال اليومي ، مصطلحان مختلفان، لا اسمان للمسمّى ذاته، من باب "التعددية"!
ما يعزّينا أن مدارس كثيرة في الوسط العربي عندنا أخذت تدرّس هذا الموضوع، وعلى حدّ علمي يسمى هناك موضوع الاتصالات على طول! لنكتب ونقلْ إذن: الاتصال، الاتصالات، وسائل الاتصال، لغة الاتصال، لغة اتصالية وحسب. وكفانا الله شر الازدواجية هنا أيضا!
ملاحظة أخيرة تتصل بهذا البند: في اللغات الأجنبية يكثرون أيضا من استخدام مصطلح الميديا media، وهي جمع لكلمة medium، وتعني الوسائط ، ويقصدون بها وسائل الاتصال بوجه عام، لقيامها وسيطا بين المرسِل والمتلقّي. ولا ضير، في رأيي، في استخدامنا لهذا المصطلح، دونما ترجمة، فهو خفيف لطيف، ويؤدّي المعنى المقصود دونما عنت أو إشكال.
.18 مِن الزائدة ؟
من الزائدة، التي نتناولها هنا، ليست حرف الجر الزائد الذي حكم عليه النحاة بالزيادة ليستقيم لهم الإعراب. إنها من أخرى غالبا ما تتصدر الجملة تطفّلا، حتى غدت من المباني الشائعة، بحيث لا يقدم على حذفها إلا لشجعان ! إذا أردنا أن نقول: مهمّ أن نحرص على كتابة لغة سليمة، فلماذا نضع من في الصدارة غالبا، فنقول من المهم ، وما العيب في المبنى الأول فنتجنّبه؟ مثل من المهم أيضا: من الأفضل، من المفيد، من المستحسن، من الجدير بالذكر، من الجائز، من المألوف، من المتّبع، من المؤكد... ومن يفتش أكثر يجد أكثر. لا شكّ أن المعنى يختلف بعض الاختلاف بزيادة مِن هذه. فالجملة الأولى تعني أن الحرص على كتابة اللغة السليمة مهمّ، أما الجملة الثانية، بعد إضافة من في أوّلها قبل المهمّ، فمعناها أن الحرص على كتابة اللغة السليمة من الأمور المهمة، بينما نحن في الواقع لم نقصد أمورا أخرى مهمّة غير الحرص المذكور. لعلّ الدافع إلى زيادة من في هذا السياق ما علق بأذهاننا عن المبتدأ والخبر، وشروط تقديم كلّ منهما على الآخر، فأضفنا من المذكورة لتسوّغ تقديم شبه الجملة، الجارّ والمجرور، كما تقضي القاعدة حين يكون المبتدأ نكرة والخبر شبه جملة من ظرف أو جار ومجرور؟ إلا أننا لا نرى هنا ما يحول دون تقديم الخبر مهم على المبتدأ من المصدر المؤوّل، لا وجوبا كما في القاعدة المذكورة، بل جوازا، لسبب بلاغي معنوي. ألا يمكننا القول عظيم أنت في أعمالك يا ربّ ، كما يردّد المسيحيون في صلواتهم، لسبب بلاغي، أو ما يسمّى القصر بالتقديم ؟ لنقلْ إذن: مهمّ أن نحرص... ، ومثلها طبعا كلّ "أخواتها" ! لا ضير في ذلك ولا عيب، سوى اقتراب مبنى الجملة من المبنى في لغتنا المحكية، وفي ذلك ما ينفّر كتّاب "الفصحى" منه في أغلب الظن، وما يضفي، في رأينا نحن، لا في رأي "المحافظين" طبعا، النضارة على أساليبنا الحديثة !
مثل هذا المبنى أيضا استعمال ممّا ( من + ما ) بدلا من ما، في ربط جملتين الثانية فيهما ناتجة عن الأولى، كما في قولنا: عند المنعطف فقد السائق السيطرة، فانقلبت السيارة، ممّا أدّى إلى جرح ثلاثة من الركّاب. فنحن يمكننا القول: ... وهو ما أدّى/ ما أدّى، فنتخلص من من الزائدة هنا أيضا! ومن يتابع لغتنا الحديثة يلحظ ظهور المبنى الثاني، شيئا فشيئا على ألسنة الصحافيين وأقلامهم. فاللغة تتجدّد وتتطوّر دون أن تطلب إذنا من "الغيورين "!
.19 fact - حقيقة ؟
يلاحظ في الأسلوب الحديث شيوع استعمال حقيقة ترجمة للفظ الأجنبي fact، فهل الحقيقة هي البديل الدقيق فعلا؟ تعني كلمة fact (وفي العبرية عوﭬ-;-داه) حادثا وقع فعلا، أو أمرا صحيحا لا مراء فيه. أما الحقيقة فهي تعني في العربية: الشيء الثابت يقينا، وعند اللغويين: ما استعمل في معناه الأصلي، وحقيقة الشيء خالصه وكنهه (المعجم الوسيط ). إذن هي تعني باختصار، الكنه أو الجوهر، وضدّ المجاز في البلاغة، ويقابلها في الإنجليزية عادة: reality أو truth . لذا فإن الحقيقة ليست، كما ذكرنا، الترجمة الدقيقة ل fact، رغم شيوعها الطاغي في الأسلوب المعاصر، وفي هذه البلاد بوجه خاص، بتأثير العبرية، في أغلب الظن، إذ كثيرا ما تتردد عوﭬ-;-داة ذاتها أيضا، على ألسنة كثيرين هنا، في أحاديثهم اليومية !
في رأينا أن أدقّ ترجمة لهذه اللفظة هي الواقعة. فالواقعة من الواقع أولا، وتعني أمرا وقع أو حادثة؛ هكذا تفسرها القواميس الحديثة للغة العربية، في الإنجليزية والعبرية. ففي المورد، عربي ـ إنجليزي، مثلا ، نجد معناها: fact, incident, event, occurrence .أما المنجد فلا يعطي سوى المعنى الكلاسكي للواقعة: مؤنث الواقع، المصادمة في الحرب، النازلة من صروف الدهر، القيامة، رجل واقعة: شجاع. وهي جميعها معان كلاسيكية لا تكاد تتردّد في لغتنا الحديثة بحيث يمكن تجاهلها. والأغرب أن المعجم الوسيط ، الذي يفترض فيه أن يكون معاصرا، يورد المعاني الكلاسيكية للواقعة فحسب. بل إنه يتجاهل الواقعة والواقع أيضا بمعنييهما في لغتنا الحديثة! لنترجم fact الإنجليزية أو عوﭬ-;-داة العبرية، إذن، بالواقعة، وجمعها وقائع، فنقول: هذه واقعة لا ينكرها أحد؛ في مقالتك آراء كثيرة، لكنها تفتقر إلى الوقائع المقنعة؛ يجب التمييز في المقالات الصحافية بين الوقائع والتقييمات.
لعله يجدر بالذكر أخيرا أن "الحقيقة"، باستعمالها المذكور آنفا، جرّت معها مبنى أجنبيا غريبا على لغتنا العربية. فما أكثر ما نقرأ ونسمع مثل هذا المبنى:لا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أنّ التعليم في مدارسنا يعاني أزمة حادّة. وهو مبنى ركيك، دون أدنى شكّ، ينسخ المبنى الأجنبي في ألفاظ عربية. كما أننا في غنى عنه لأن لغتنا العربية توفّر لنا المصدر المؤول بدلا من هذا المبنى "الأعرج"، فنقول: لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ التعليم في مدارسنا العربية يعاني أزمة حادّة، وتلك واقعة مؤسفة فعلا !
.20 عن أنواع الاستيطان، أو التجمعاّت السكانية !
كلّ من يكتب في العربية، أو يترجم إليها، مادّة جعرافيّة، عن التجمّعات السكّانية في إحدى الدول، أو ما يدعونه أنواع الاستيطان، يجد إشكالا في العثور على مصطلح عامّ يدلّ على أنواع الاستيطان كلّها، سواء كانت صغيرة لا تتعدى العشرات من السكان أو كبيرة يقيم فيها الألوف أو مئات الألوف. إذا نظرنا في الألفاظ العربيّة المتداولة في هذا المجال فإننا نجد: مضرب جمعها مضارب (وتقتصر عادة على البدو ساكني الخيام، لأن أوتادها هي ما يُضرب)، بلد، بلدة، كفر، مستوطنة، قرية، مدينة. إنّها مجموعة كبيرة، كما ترون، تلبّي حاجة الجغرافيّين وتزيد، لو كان كل مصطلح منها محدّد الدلالة لا يستخدم بدلالة غيرها. ونحن لم نذكر ألفاظا أخرى غير قليلة، من الحقل الدلاليّ ذاته، وردت في المصادر الكلاسيكية وظلّت مدفونة هناك، فلا نحن نتداولها اليوم، ولا نكاد نعرفها في كثير من الأحيان.
من المجموعة أعلاه نتداول، في لغتنا المعاصرة، مصطلحات ثلاثة فقط بدلالات محدّدة: المضارب (تجمعات البدو)، المدينة - في الإنجليزية town/ city وفي العبرية عير، وهي كلّ تجمّع سكّاني كبير يعيش فيه عشرات الألوف من السكّان- ولا تمييز في لغتنا بين مدينة صغيرة ومدينة ضخمة، كما في الإنجليزية، والقرية: تقابلها village في الإنجليزية أو كفار في العبرية، وهي تجمّع دون المدينة سكّانا، وتغلب عليه الحياة الريفية عادة.
بقيت من المجموعة أعلاه أربعة مصطلحات لا نجد منها واحدا يدلّ على التجمّعات السكّانية على اختلاف أنواعها. المستوطنة تصلح في الواقع للدلالة على التجمّعات السكّانية عامّة، فهي مصطلح حديث يعني، وفقا لاشتقاقه، كلّ مكان يستوطن أو يسكن فيه الناس، سواء كان صغيرا أو كبيرا. إلا أنّ المستوطنة، وجمعها مستوطنات، غدت مقصورة، في هذه الأياّم، بحكم تداولها في المجال السياسي دون غيره، على القرى التي أقيمت في الأراضي المحتلّة؛ في الضفّة الغربية والجولان وقطاع غزّة. بذلك تكون خضعت للاحتلال الأرض والتسمية معا! وفي استطراد لغوي سياسي: لا أعرف أصلا لماذا نطلق عليها في العربية مستوطنات إذا كنّا نرفض أن تكون وطنا لمن أنشأها ويسكنها عنوة! تماما كما انساق أجدادنا وراء الكولونيالية الغربية، في مفاهيمها وتسمياتها ، فأطلقوا على الأماكن التي احتلّها وأقام فيها الأجنبي مستعمرة، وجمعها مستعمرات، وعلى من أقامها مستعمرا ، كما لو كانت غاية الأجنبي المحتلّ إعمار البلاد، وتطويرها فعلا!
هذه "الضائقة" في المصطلح اضطرّت أحد الجغرافيين العرب، في كتابه، إلى استخدام بلدة وجمعها بلدات، بالدلالة العامّة التي نريدها (في ترجمة المصطلح العبري يشوﭪ-;-، أوsettlement في الإنجليزية). إلا أن البلدة لا تحمل هذه الدلالة العامّة، ومن بين معانيها الكثيرة أيضا: المدينة المتوسطة الاتساع ( المنجد). لذلك أطلقت مراجع جغرافية كثيرة اسم البلدة، وجمعها بلدات، على المدينة الصغيرة( عيراه بالعبرية )، مثل بلدات شفاعمرو وسخنين وأم الفحم. كما أن البلد، وجمعها بلاد وبلدان، ذات دلالات كثيرة أيضا، مثل بلدة، بما في ذلك القطر أو الدولة، كما في قولنا: بلد مجاور، بلد عربي شقيق...
بقي في مخزوننا مصطلح الكَفر، وجمعه كفور، وهو يصلح للدلالة العامة في رأينا، إذ هو مِن "كفرا" بالسريانية ومعناها قرية أو مزرعة أو حقل (المنجد)، ومن السريانية استقته العبرية أيضا. وإذا لم نقتنع بالكفر، رغم أنه لا يكاد يستخدم اليوم في لغتنا الحديثة، يمكننا اشتقاق ألفاظ جديدة تقتصر على الدلالة العامة المطلوبة لا غير، مثل: موطنة ـ موطنات، مسكنة ـ مسكنات، مدرة ـ مدرات (القرية المبنية بالطين واللبن- المعجم الوسيط ، والمدر الحضر عامة بخلاف الوبرـ البدو ). علينا فقط اختيار أحد هذه الألفاظ وتعميمه في استعمالاتنا لترويجه وتحديد دلالته . لغتنا واسعة واشتقاقية، كما ترون، إلا أننا لا نحسن أحيانا استغلالها والتصرّف بكنوزها!
.21 الرجل الطويل القامة ـ خطأ ؟
المتابع لما يُكتب في الصحف، وفي كتب الأدب أحيانا، يلاحظ أن الكتّاب يتجنّبون إدخال ال على المضاف، أو تحلية المضاف بالألف واللام، بلغة النحاة، مهما اختلفت أنواعه. قبل أيام قليلة فقط، لحظت هذه الظاهرة في جريدة «الحياة»، بالصدفة، في مقالتين صحافيتين متقاربتين زمنيا لأحد النقاد العرب المعروفين:"... ينالهم فيها القمع متعدد الأنواع... من نموذج الكهل صغير السنّ الذي يشيب قبل الأوان"
فهل يمتنع دخول الألف واللام دائما على المضاف، فيتهيّب الكتّاب ذلك حتى في مثل هذين المثالين السابقين أيضًا ؟
الإضافة من أوسع الموضوعات في اللغة، ومعانيها كثيرة جدا، إلا أن كتب النحو غالبا، وكتب تدريس النحو بالذات، كثيرا ما تهمل هذه المسألة لأن همّها منصرف عادة إلى الإعراب، وليس هناك إشكال إعرابي في الإضافة: المضاف إليه مجرور دائما، والمضاف يعرب تبعا لموقعه في الجملة.
إلا أن الإضافة، كما ذكرنا، واسعة جدا، ومعانيها متعدّدة، وأنواعها كثيرة تبعا لذلك. ليس غرضنا هنا أن نعرض للإضافة بالتفصيل، فكتب النحو الكلاسيكية كثيرة وتفصيلية ومتاحة لكل من يرغب في التوسع والاستفاضة. نكتفي فقط بالتذكير أن الإضافة نوعان أساسيان: إضافة معنوية أو حقيقية، يُنسب فيها عادة اسم ذات إلى آخر فيكتسب الأول، المضاف، تعريفا إذا كان المضاف إليه معرفة، مثل: ساحة المدرسةِ، أو تخصيصا إذا كان المضاف إليه نكرة، مثل: كتاب تاريخٍ. في هذه الإضافة يمتنع دخول الألف واللام على المضاف مطلقا.
النوع الثاني هو إضافة لفظية، أو غير حقيقية. وهذه لا تفيد تعريفا ولا تخصيصا، كما يستدلّ من اسمها، بل تكون لتخفيف اللفظ فحسب، مثل: كاتب الرسالة، طويل القامة. في هذا النوع من الإضافة يجوز دخول الألف واللام على المضاف، كما تذكر كتب النحو، بشرط وجودهما في المضاف إليه أيضا. هكذا يمكننا القول: المتبع الحقّ، الطويل القامة. إذا تخلّينا عن الأحكام المفصّلة في كتب النحو لحظة، ونظرنا في التركيب الثاني، طويل القامة، مثلا، نجده يرد نعتا أو وصفا لاسم نكرة عادة، فنقول: دخل القاعة شابّ طويل القامة = دخل القاعة شابّ قامته طويلة. بناء على ذلك، إذا كان المنعوت محلّى بالألف واللام فمن الطبيعي أن تلحق الألف واللام المضاف أيضا: هل عرفت من هو الشابّ الطويل القامة ؟ = هل عرفت من هو الشابّ الذي قامته طويلة ؟ وطبيعي أن حكم المثالين المذكورين سابقا لا يختلف عن حكم هذا المثال. ليس من المحظور، إذن، دخول الألف واللام على المضاف في جميع الأحوال ، فلا ضير إذا قلنا: الحسن الوجه، المكسور الجناح، الحاسر الرأس وما شابه. بل إن الشاعر أبا تمام في بائيته الشهيرة، « فتح عمّورية» ، أجاز لنفسه القول «السبعة الشهبِ» أيضا :
والعلم في شهب الأرماح لامعة / بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
.22 الجمهور المستهدَف أم الجمهور المقصود؟
المصطلح، في ظننا، مصدره الأوّل هو العلوم التربّوية. في كلّ نصّ أو درس في التربية والتعليم لا بدّ من تحديد الجمهور الذي يفترض أن يتلقّى النصّ، أو الرسالة التي يحملها، سواء من حيث الشريحة الاجتماعية أو المستوى الثقافي أو المدى العمري. وذلك لضمان وصول الرسالة ونجاعتها. بهذا المعنى كان من الطبيعي انتقال المصطلح أيضا إلى مجالات نقد الأدب، والفن عامة. فكلّ مبدع، خلال عملية الإبداع، "يخاطب" في فنه، واعيا أو دونما وعي، جمهورا معيّنا، بشكل أو بآخر، وكما يرمي المبدع إلى التأثير في هذا الجمهور لا بدّ أن يكون للجمهور المذكور أيضا أثره في حصيلة العمليّة الإبداعيّة.
المصطلح في الإنجليزية، وهو الأصل طبعا، هو: target population. وفي العبرية ترجموه، كما يعرف العاملون عندنا في مجال التربية والتعليم، كهال هياعد. فهل تكون الترجمة العربية: الجمهور المستهدف، كما نجد اليوم في نصوص كثيرة، أم الجمهور المقصود، وأيّهما أدقّ في تأدية دلالة المصطلح؟ الذين أخذوا بالمصطلح الأوّل، الجمهور المستهدَف، اعتبروا الهدف بمعنى الغاية، أو ما نرمي إلى تحقيقه، مستبعدين بذلك المعنى الأصلي للهدف، وهو مرمى السهام، أو الرصاص في أياّمنا هذه. ونحن اليوم ما زلنا نستعمل المستهدَف، في معظم السياقات، بمعنى من يوجَّه إليه الضرب أو النقد، وخاصة في سياق القتال أو السياسة. بهذا المعنى السلبي أيضا وجدنا المستهدف في الشعر القديم، كما في الأبيات الآتية:
ولقد سترتُ عن الوشاة طروقها / ومكانُها لنبـــــالهم مستــهدَفُ
فهـــــــي عـــلى ساحاته تــرفرفُ / كــلٌّ بسهم حتفه مستهـــدَفُ
ورمَته إذ وضع السلاحَ وطال ما / هابته وهْو لنبلها مستهــدَفُ
بسبب الدلالة السلبية المذكورة في المستهدَف، قديما وحديثا، نرى أن الجمهور المقصود أدقّ في نقل دلالة المصطلح إلى العربية في السياق التربوي الأدبي خاصة. فالمقصود هنا تستخدم بمعناها الأصلي، المعنى الحسي، أي من نذهب أو نتوجّه إليه بخطابنا. ففي القاموس: قصد الرجلَ وله وإليه: توجّه إليه، والقصد هو الطريق المستقيم أيضا، وفي الشعر:
ومثواك مقصـود وحبّك طاعـة / وأمـرٌ على الأعيان مفترض حتمُ
يلقـاك في شرف العلا متواضعـا / حتى ترى المقصود مثل القـــاصدِ
لذلك فإن مصطلح الجمهور المقصود أو جمهور القصد، في رأينا، أدقّ في تأدية الدلالة الضيّقة للمصطلح التربوي / الأدبي المذكور.
.23 هل عدّ وأحصى مترادفان؛ بنفس المعنى ؟
إذا بحثنا عن معنى الفعلين، عدّ وأحصى، في المراجع القديمة، فإننا لا نجد تمييزا واضحا بين المعنيين. يذكر لسان العرب أن" العدّ هو الإحصاء، ويقال عددتُ الدراهم عدّا". وفي حديث لقمان : "لا نعدّ فضله علينا، أي لا نحصيه لكثرته". وفي مادّة أحصى: «الإحصاء العدّ والحفظ، أحصى الشيء: أحاط به، وأحصيت الشيء:عددته، وفي القرآن الكريم: وأحصى كلّ شيء عددا». ولا يضيف المنجد أو الوسيط، شيئا على ما ورد في لسان العرب. وفي ذلك دلالة واضحة طبعا على اعتبار اللفظين مترادفين تماما لا يختلفان معنى أو استخداما.
لكننا في مثل هذه المواضع يجب أن ننوّع بين المترادفين لا أن نوحّد بينهما، كما يرى سلامة موسى. لا سيّما في دروس الحساب حيث نحتاج إلى مصطلحين، الأوّل يعني العدّ دونما معدود، كأن يعدّ الطفل إلى العشرة؛ والثاني العدّ مع المعدود، كأن يحسب الطفل عدد أصابع يديه الاثنتين.
إذا نظرنا مرة أخرى في اللفظين «المترادفين» نجد أن أحصى من الحصاة، مفرد الحصى أي الحجارة الصغيرة، وبذلك يصلح استخدامه في المعنى الثاني، أي العدّ مع معدود، أو حساب عدد أشياء ، واستخدام عدّ في العدّ دونما معدود. ذلك ما أخذنا به فعلا في كتب الرياضيات للمرحلة الابتدائية. نقول إذن: يعدّ الطفل حتى العشرة بدون خطأ، وأحصت المعلمة تلاميذ الصفّ، فوجدت الجميع حاضرين.مثل عدّ وأحصى من «المترادف»: تلميذ وطالب. يفسّر المنجد التلميذ، وجمعه تلاميذ وتلامذة، بأنه من تعلّم منك علما أو صنعة. ثم يفسر الطالب، وجمعه طلبة وطلاّب وطَلَب وطُلْب، بالتلميذ، وهو بذلك « يوحّد» بينهما. إلا أن الوسيط يختلف عن المنجد في تفسيره هذه المرة، فيفسّر التلميذ: خادم الأستاذ من أهل العلم أو الفنّ أو الحرفة، وطالب العلم. وخصّه أهل العصر بالطالب الصغير. ويفسّر الطالب: الذي يطلب العلم، ويطلق عرفا على التلميذ في مرحلتي التعليم الثانوية والعالية.
لدينا إذن في لغتنا العربية لفظان: تلميذ، وفي العبرية تَلميد، وكلاهما من الآرامية، وطالب من أصل عربي طبعا. فلماذا نستخدم اللفظين مترادفين واللغة بحاجة إلى «التنويع» هنا لا إلى «التوحيد» ؟ في الإنجليزية مثلا هناك أيضا لفظان، إلا أن اللغة تميّز بينهما تبعا لمرحلة التعليم: pupil، وهومن يتعلم في مدرسة أو من معلّم خصوصي، student، وهو من يدرس خاصّة في كلية أو جامعة. في العبرية، كما يعرف كثيرون، لم يجدوا أو لم يبتكروا لفظا يسمّى به من يتعلّم في المعاهد العليا، فاستعاروا اللفظ الغربي student. أما في العربية فلدينا لفظان «رادفنا» بينهما، فسمّينا من يتعلم في الابتدائية ومن يدرس في الجامعة أيضا طالبا! لنحاول الأخذ بما أشار إليه الوسيط وبتحديد واضح: كلّ من يتعلّم في المرحلتين الابتدائيّة والثانويّة هو تلميذ، وكلّ من يدرس في كليّة أو جامعة هو طالب، دونما خلط أو ترادف!
("على هامش التجديد والتقييد"، ص. 127 – 153)

[email protected]



#سليمان_جبران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أثر الفراشة
- ألفاظ -خلافيّة- في اللغة المعاصرة
- تصحيح الصحيح!
- من باب الترفّع عن المحكيّة
- الأرقام العربيّة والهندية
- كيف صرت معلّما!
- هوامش للغتنا المعاصرةِ
- الاختلاف سيّد الأحكام!
- الأستاذ الياس
- سليمان جبران:على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربيّة، مج ...
- مات وعينه على سحماتا
- كيف تقول كلّ شيء يا أبو مازن
- يا أصحاب العربيّة، كونوا على حذر!
- سليمان جبران: كيف نترجم מ-;-ת-;-ח-;-ם ...
- لائحة الدفاع!
- أحمد فؤاد نجم و شعر المحكيّة
- كيف نقول Traffic Jam او פ-;-ק-;-ק-;- بالعر ...
- ...علمتَ شيئا وغابت عنك أشياءُ!
- حكاية الفيل والنملة
- الطريقة الأكيدة للقضاء على غزة العنيدة


المزيد.....




- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - نحو أُسلوب عصري، وسليم