أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - وراء الزجاج - قصة قصيرة















المزيد.....

وراء الزجاج - قصة قصيرة


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 4679 - 2015 / 1 / 1 - 11:31
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
د. أحمد الخميسي

صباح مشمس هاديء أواخر الربيع. زهور حمراء من بونسيانا تلامس مضمومة زجاج نافذة وتتهادى متفارقة للوراء. من على أحد الأغصان هبط عصفور صغير إلي حبل منشر ملابس. تأرجح به الحبل أمام النافذة العريضة بالطابق الثالث. تلفت برأسه الرمادي الدقيق. ضرب الهواء بمنقاره يمينا ويسارا. حدق بالصالة الممتدة وراء الزجاج. تحت النافذة أريكة ومقعدان ومنضدة. في الجهة الأخرى صوان عليه تلفزيون و" أباجورة " صغيرة. ثمت فتاة جالسة على الأريكة في سكون وحدها. نحيفة بقميص نوم برزت منه كتفاها العاريتان. دلت قدميها حافيتين إلي الأرض وأحنت رأسها على كتاب مفتوح فوق ركبتيها. تقرأ وترفع حاجبيها مدهوشة. تضحك بنضارة. يتقد لون وجهها النحاسي بلهب انفعال. ثمت جمال آسر لاتدري سره في حركاتها الدقيقة الرشيقة، في بسمتها غير المكتملة، في ارتجافة رأسها. كانت أشبه بعنقود فاكهة يفوح في كون صخري. يرنو العصفور إليها بفضول. تنعكس أشعة الشمس من الزجاج برقا في عينيه. يتزحزح يمينا بوثبتين . يظهر في الصالة شاب طويل القامة تلمع عيناه السوداوان. ترفع الفتاة رأسها مبتسمة. يهمس إليها بكلمة. يمد يده نحوها بعلبة صغيرة مكسوة قطيفة زرقاء. تمسكها وتفتحها بنعومة وحنان متأهبة للمفاجأة. تقفز وتصرخ بنزق وفرح. تطوق عنقه. يركع أمامها. يقلب رأسه بين كفيها المفرودتين وفي عينيه دمع المحبة. يتبادلان النظر صامتين بعمق كأن كلا منهما يغرز روحه في الآخر ببطء. يقفان. يطوق خصرها النحيل بذراعه. يتجهان إلي الداخل مثل نغمة تتدرج بليونة من الروح لتتحقق على الوتر. الصالة شاغرة لكن في جوها حرارة من عشق.
قبض العصفور على الحبل بشدة مأخوذا بما شاهده. انتزعته من استغراقه زقزقات من بين أوراق البونسيانا. هفت " كناري"على قلبه الذي يماثل بتكوينه قلب الإنسان. هفت بصدرها البرتقالي وجناحيها الأخضرين وخصلة الريش المهتزة بكبرياء خفيفة. تعرف إليها في أوائل الربيع الماضي. لمحها ذات صباح فصعد إلي غصن بارز خال من الأوراق لكي تبصره. أطلق صوبها زقزقة مغرمة. التفتت إليه خطفا. أشاحت برقبتها جانبا. بدا عليها التردد والتفكر، ثم أنعمت عليه بتغريدة قبول تمزق بعذوبتها حتى قلب فيل ضخم. نادرا ما تلوح"كناري" في سربهم، وهو مجرد عصفور دوري بسيط، لا بلبل صداح ولا عندليب متفاخر. أرسل صوته ثانية بحرارة أحست بها فرمقته بنظرة متراخية. شد عوده . بسط جناحيه. نشر ذيله يتموج مروحة تحت بصرها، فابتسمت، وأخذت تتبختر على قدميها الصغيرتين. كشفت أمامه صدرها الملون. رنت إليه بدلال وكسل ثم رفرفت. طار وراءها من سماء إلي سماء. من ريح إلي ريح. من بستان إلي بستان. مازال يذكر كم مرة تبدلت حرارة الجو، كم مرة تغير لون الأفق. مازال يذكر تعب الجناحين وبهجة القلب. لا تنسى العصافير شيئا وتصون ذاكرتها الدروب في السماء. ثلاثة شهور لم يفارق" كناري" لحظة. ثلاثة أعوام، ثلاثة قرون لايدري، إلي أن حل يوم دحرجت السماء إعصارها ورعدها فضاعت منه في انفجارات البرق وسيول المطر.
خشخشت أوراق البونسيانا خلفه. كان تعب الذكرى قد غلبه فوثب إلي غصن تراصت فوقه العصافير تنعس جنبا إلي جنب. سرعان ما هبط على جناحيه رذاذ خفيف. خامرته قبل أن يأخذه النوم رغبة كوخزة الألم الخفيف أن يدرك طبيعة ذلك الشعور الغامض العذب بالحب؟
***

صحا بعد أقل من ساعة. لاتنام العصافير أكثر من ثلاث أو أربع ساعات. العاشقات ينمن أطول بعدة دقائق. فاحت في الجو رائحة مزيج من اختمار الأوراق الخضراء تحت قطرات المياه. نفض ريشه. استدار إلي صوت ذكر يقف على غصن يحذر الذكور الأخرى من الاقتراب من عشه. اشتدت حرارة الشمس وصفت زرقة السماء. لابد من طعام وشراب. طار مع السرب جنوبا. وبقيت الأمهات وحدهن بين الغصون. تحت الأجنحة الصغيرة التي خفقت في السماء انزلقت إلي الوراء من دون توقف بيوت ومصانع وطرقات وكائنات، إلي أن غير أحد العصافير اتجاهه هابطا لأسفل فتبعه السرب مجموعة تلو الأخرى. بستان أخضر كبير تلمع بين أشجاره مياه برك صغيرة. تفرقت العصافير تنقر الأرض والأعشاب وتتواثب عند حواف البرك. بعد قليل ارتفعت محلقة إلي أعلى مسرعة إلي بعيد. لاحت أعمدة برق فهبط السرب إلي الأسلاك يقف مجموعات متجاورة. ترى ماذا جرى "لكناري"؟ أتكون الريح قد أضلتها الطريق؟ أم أن الإعصار حطم جناحها الرقيق؟ أم أنها في هذه اللحظة الآن في مكان ما، وعش ما ، مع عصفور آخر؟
هبت ريح سوداء. ارتاعت العصافير في وقفتها على الأسلاك. ارتفعت تضطرب أجنحتها مفزوعة. أرعدت السماء ومن قلبها اندلعت ألسنة نار بلون أرجواني. هاجت قادمة من بعيد طيور أخرى. ومن البرق الملون وانكسارات الضوء خرجت كنارى تخفق بجناحيها صوبه. عرفها على الفور من بين عشرات العصافير والحمائم المحلقة. تموج النار على صدرها البرتقالي وهي تندفع إليه كأنها معنى كل شيء. في عينيها الصغيرتين لهفة. تلهث وتنهال عليه بقبلاتها الصغيرة. هذه النزقة، المتغطرسة، العدوانية أحيانا، بمنقارها المتكبر، ترفرف الآن إلي جواره كأنما لم يفترقا لحظة. زقزق صارخا من حولها وفوقها غير مصدق. انجلت الظلمة وزالت حمرة الجو. تبادلا النظرات طويلا. آن الأوان ليقودها إلي البونسيانا. جناحا بجناح بلغا البونسيانا الحمراء معا واستقر معا على غصن واحد تأرجح بهما لحظة ثم هدأت حركته. راحت "كناري" تمشط ريشها بأناقة ورصانة. يعلم من قديم الزمن أنها تطلب الانفراد بنفسها حينما تتجمل. تركها وهبط إلي النافذة يتطلع إلي ماوراء الزجاج.
مازال نور الشمس يضيء الصالة. الشاب يذرع الصالة ذهابا وإيابا. يتوقف. يدفع يديه بعمق في جيبي سرواله الرياضي. يزم شفتيه. يكتسب وجهه تعبيرا صارما جافا. تظهر الفتاة. نظرتها مشتتة ضعيفة. تمسك بيديها بظهر كرسي. تخاطبه بصوت خافت. لا يلتفت إليها. تنهار جالسة ترتجف وتبكي. تنهض. تتأرجح في مثل عشبة تستجمع قوتها في الريح. تمضي إلي الداخل. تعود. طبقة خفيفة من البودرة تغطي آثار دموعها. يخرج الاثنان من باب الشقة. حدق العصفور بالصالة خالية مدهوشا، ماذا جرى؟
طار إلي "كناري". يملى عينيه من وجهها. تؤرجح أمامه خصلة شعرها الأمامية بدلال وهي تكتم بسمة صغيرة. أي جمال هذا الذي تبعثه خصلة شعر تتأرجح بوعود غامضة ؟. تدعوه برفرفة أن يفرحا معا باللقاء. طارا على ارتفاع منخفض. كانت السماء معتمة. واجهتهما غيمة وتراءى من خلفها مبنى ضخم وكنيسة وجامع وأشجار عالية ثم بحيرة صغيرة تلألأ ماؤها. هبطا وأخذا يحومان فوق سطح المياه. يهزان رأسيهما. غطسا معا في المياه وخرجا متقابلين إلي الهواء يرقصان مبللين في منقار كل منهما عشبة هدية. يحفر الغرام القلب بصبر كما يصوغ الجواهري قطعة ألماس. تعبا من البهجة فرجعا إلي البونسيانا الحمراء. هناك راحت "كناري" ترتب عشها داخل تجويف تخيرته في البونسيانا. هبط هو يحدق بالصالة. كان الزجاج مغسولا بالمطر وعلى قاعدة النافذة رقدت خطوط فضية من ضوء القمر. الشاب راقد على الأريكة. تغطى إلي نصفه ببطانية. حينما اعتدل جالسا بان وجهه طافحا بالتوسل والعذاب. وقف. تناول المحمول. صاح بصوت عال وشفتاه ترتجفان. مر وقت. اتجه الشاب إلي باب الشقة وفتحه. ظهرت الفتاة في سروال جينز أزرق وجاكيت بنفسجي محكم. رصينة حزينة. خاطبت الشاب بنبرة مريرة. ينصت وقد عقد يديه على صدره، وبدلا من الغضب والحنق السابق امتلأ وجهه الآن برجاء أخرس. فتحت حقيبة يدها. أخرجت مفتاحا والعلبة المكسوة قطيفة. وضعتهما على حافة المنضدة. استدارت وخرجت. مكث مكانه مذهولا لحظة، وجرجر قدميه ببطء إلي الداخل.
ظل العصفور يتطلع في حيرة إلي الصالة. ترقب أن ترجع الفتاة لكنها لم تظهر. انقضت لحظات معدودة وظهر الشاب وراء الزجاج. بدت النافذة في العتمة مثل نقطة نور قوية في محيط من الظلام. مكث واقفا يتطلع معذبا إلي نور القمر المتدفق.
عاد العصفور إلي البونسيانا. كانت "كناري" نائمة في العش الصغير، صدرها يعلو ويهبط في نعاسها. رقد بجوارها لكنه لم ينم. أخذ ينصت إلي أنفاس الزهور الحمراء المتعانقة في الضباب الخفيف. إلي الرذاذ يقبل وجه الأرض، تنهد فتاة فارقت وتحن، هسهسة نباتات في حقول، نهر يجذب لسطحه سحابة عابرة، شهيق الكون وزفيره من الفرح وشجن الإذعان. تغلب تعب الانفعالات على العصفور فنام بعمق.
***

مع حلول الخريف خلت صالة الشقة من الشاب المعذب ومن الأثاث. ظلت شاغرة مثل روح بلا بدن. في الربيع ،صباح أحد الأيام، لاح وراء الزجاج فتى وفتاة يروحان ويجيئان منهمكين في ترتيب المكان وتثبيت لوحات زيتية إلي الجدران. عندما فرغا أخيرا من وضع كل شيء في حيزه، توقفا أمام النافذة، وراحا يتأملان بدهشة وسرور خضرة البونسيانا المتدفقة.

***
أحمد الخميسي . كاتب مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قهوة الملحدين !
- هنا القاهرة .. هنا دمشق
- نحلم بالأمس وليس الغد !
- محمد ناجي .. موت لا يشبه سواك
- غاية المراد من قصة المنطاد
- تاكسي إلي الشعب !
- لماذا ندوس الآمال وهي صغيرة ؟
- باتريك موديانو .. خدعة نوبل !
- جنود بلادنا .. أرواح السماء
- مقبول للموت مرفوض للحياة
- النجم السينمائي بين الوعي والجهل
- أشياء لا تشترى
- ماذا يبقى عندما يسقط الهرم؟
- الشعب جاهز .. الحكومة جاهزة ؟
- أوباما يسطو على شابلن
- هذا القومي لحقوق الإنسان المصري
- حظر الأحاديث السياسية في المدارس المصرية
- نجيب محفوظ داخل الأدب وخارجه
- محمد ناجي .. الإبداع والألم
- الحقيقة حين تكذب في مهرجان للمسرح


المزيد.....




- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - وراء الزجاج - قصة قصيرة