|
شجرة الحي المعمرة ..
حميد طولست
الحوار المتمدن-العدد: 4670 - 2014 / 12 / 23 - 20:26
المحور:
سيرة ذاتية
شجرة الحي المعمرة .. ذكرتني شجرة الميلاد التي أصبح أصحاب المحلات التجارية يتنافسون في تزين محلاتهم بكل ذوق أثناء أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة ، بشجرة تتمتع هي الأخرى بمكانة تاريخية ومنزلة تراثية كبيرة لدى ساكنة حي فاس الجديد ، بل وتصل عند بعضهم إلى التقديس والبركة ، وهي "شجرة لعدول " والتي تتفق ساكنة الحي على أنها أقدم شجرة في حيهم ، بل وفي مدينة فاس على الإطلاق ، والتي كانت الشجرة الأولى التي عرفت في طفولتي ، أي منذ أن أبصرت النور قبل ستة عقود ونيف ، حيث وجدت هذه الشجرة شاخصة أمامي بجذعها المستقيم، وأغصانها الكثيفة، دون أن أعرف متى وجدت ومن قام بزراعتها ، ورغم أنها لم تكن الشجرة الوحيدة في حينا ، حيث كان هناك الكثير من الأشجار في العديد من البيوتات ، وأن بعضها سمي بأسماء الأشجار النابتة في فنائه ، كدار الزيتونة ودار الكرمة ودار التوتة ، فقد كانت الشجرة الأولى التي جذبتني صغيراً بضخامة جدعتها ، وارتاح قلبي لجمال منظرها ، وسمت روحي بعبق عطرها ، وزقزقة الطيور التي تحط قبيل الغروب فوق أغصانها المورقة التي تحف بحنو ظلال الرحمة الوارفة حوانيت قبة السوق ، وجامع "الحمر" ومن يفيض من مصلي الجمعة بها .. لقد كنت كبقية ساكنة الحي الذين كانوا ، ورغم جهلهم مثلي لعمر الشجرة الحقيقي ولا يعرفون سر بقائها ، ويرى لأغالبهم أنه من الصعب تعيين عمرها على وجه الدقة ، وأنه يتجاوز حدود المألوف بفارق كبير ، فقد كانو كلما ضاقت بهم الدنيا بما رحبت ، يجتمعون حولها ويجلسون عند عتباتها ، كم كان ويريحني إسناد ظهوري إليها شاكيا همومي الطفولية ، فأحس وكأنها تستمع إلى مناجاتي ، وأشعر بتربتها في عطف علي أكتافي بإسقاط بعض من أوراقها فوق رأسي ، فأنسى كمدي ، وأتسابق لجمع أكبر قدر من أوراقها ، غير آبه بـــ"تفريشات" بسطات الباعة المتجولين ولا بزحمة المتسوقين ، وأقرفص متكوما عند جدعها لأقرأ خطوط أوراقها التي كل ورقة منها هي قصة من قصص شجرة عمرت لسنين طويلة وأعوام مديدة ، شاهدةً على تدابير القدر في حياة أجيال استظلت بظلها ، متتبعة تفاصيل أطوار أعمارهم ، وأحلام صبيانهم ، وآمال شبابهم ، وسعي رجالهم لتحقيق قائمة الرغبات الشعبية البسيطة والمتطلبات الآدمية الطبيعية اليومية ، يتساوى عندها في ذلك غني الحي وفقيره كبيره وصغيره ، وذلك دون أن ينل منها الزمن أو يصبها الهرم ، فلم تنضب ظلالها ، ولم تسقط فروعها ، ولازالت تتابع بجدعها وأغصانها الوراقة معاناة إنسان هذا الحي الشعبي المسالم أهله ، المهموم بعبادة الله ، وتطبيق شرائعه ، والاستجابة لفرائضه ، والإيمان برسوله الذي تذوب أرواحهم برقة الدعاء له وحلاوة الصلاة والسلام عليه ، التي تتكرر على شفاههم مئات المرات في اليوم الواحد ، وتدخل في أدق تفاصيل حياتهم ولغتهم اليومية ، تنهمر دموعهم بفعل التوبة.. وتشف أرواحهم بالتلبية لحد الابتذال .. يديرون شؤونهم الحياتية بالفطرة في أمان ودعة وتقوى صادقة ، يقنعون بالرزق صغيراً أو كبيراً على أنه منة ونعمة من الله ، يقيمون العدل بينهم وينصرون جيرتهم على الحق من غير التفريط في كبرياء النفس وشرفها ، دون حاجة منهم لتدخل سفهاء هذا الزمان من أدعياء الدين ، الذين استغلوا تعدد أعراق الحي ، واختلاف أجناسه ، وتباين انتماءات ساكنته ، للتسلل بفكرهم المتطرف وسلوكهم الفاسد والمغلوط عن الدين الحنيف ، إلى بعض بسطائهم ، واخترقوا أخلاقهم ومسخوا كرامتهم وهزموا نخوة الشرف والكبرياء في داخلهم ، فكسروا إرادتهم ، التي لم يستطع الفقر بكل قسوته أن ينل منها ، وجروهم إلى التشدد والغلظة والانقسام والفتنة التي زالت بها عرى الألفة والمحبة "الفاس جديدية "، وانتهكت جميع الأعرافه الشعبية وتقاليده الجميلة ، وأصبح معها الاستقرار صعبا ، وصارت الحياة عذابا أليما وإجراما وحشيّا ، لم تشهده يوما صفحات تاريخه ، أفقد الناس ثقتهم بكل من حولهم ، فلم يهمهم شيء ، لا ينفعلون ولا يتفاعلون مع أي حدث مهما كان كبيرا أو خطيرًا ، يقف الكل صامتا لا يحرّك ساكنًا ، كمن شلّت عقولهم عن التحكم ، وفقدوا السيطرة والقدرة على مقاومة الفساد والاغتصاب والتشريد وانهيار القيم والمفاهيم ، ووصل الجميع إلى حالة الركود أو الجمود أو الموت ، إنه حال مجتمع حينا "الفاس الجديدي" كما تحكيه "شجرة لعدول" المعمرة .. حميد طولست [email protected]
#حميد_طولست (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلنا نملك نفس العين .. لكننا لا نملك نفس النظرة !!(3)
-
أنا ما حبيب حد !!
-
استطلاع رأي .
-
كلنا نملك نفس العين .. لكننا لا نملك نفس النظرة !!(2)
-
طارئ مرعب على متن الرحلة رقم MS 847 التابعة للخطوط الجوية ال
...
-
كلنا نملك نفس العين..لكن لا نملك نفس النظرة !!
-
هل نحن في حاجة ل “علالين” كثر لفضح الفساد الأمور ؟؟
-
اسدال الستار على آخر فصول محاكمة القرن
-
سوء تفاهم خاطرة واقعية.
-
مراسلة من القاهرة قبيل انطلاق -مظاهرات 28 نوفمبر- بسويعات
-
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين !!
-
في رحاب بلاد الكنانة ..
-
كفانا صراعا أيها الصحفيون !!!!
-
موت العظماء حياة لأممهم ..
-
التكريم سلوك متحضر يضع الشخص في مكانته المناسبة لعمله أو إنج
...
-
مولاي يعقوب أو دائرة الموت !!
-
شباط واللبارابطال موسم المشاوشة المنسي !!
-
العنف في البرلمان !!
-
المصداقية في مطار الدار البيضاء !!!
-
مسألة مبدأ
المزيد.....
-
صدمة في الولايات المتحدة.. رجل يضرم النار في جسده أمام محكمة
...
-
صلاح السعدني .. رحيل -عمدة الفن المصري-
-
وفاة مراسل حربي في دونيتسك متعاون مع وكالة -سبوتنيك- الروسية
...
-
-بلومبيرغ-: ألمانيا تعتزم شراء 4 منظومات باتريوت إضافية مقاب
...
-
قناة ABC الأمريكية تتحدث عن استهداف إسرائيل منشأة نووية إيرا
...
-
بالفيديو.. مدافع -د-30- الروسية تدمر منظومة حرب إلكترونية في
...
-
وزير خارجية إيران: المسيرات الإسرائيلية لم تسبب خسائر مادية
...
-
هيئة رقابة بريطانية: بوريس جونسون ينتهك قواعد الحكومة
-
غزيون يصفون الهجمات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة بأنها ضر
...
-
أسطول الحرية يستعد للإبحار من تركيا إلى غزة
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|