أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - القربان















المزيد.....

القربان


رستم أوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4662 - 2014 / 12 / 14 - 23:31
المحور: الادب والفن
    


أحاطوا بالمدينة من كل صوب. ذبحوا حتى الشجر و تفجّرت النجوم تحت وطأة شاحناتهم المفخخة. طمثت الأرض و غارت الدماء بين السواقي. سحبٌ من بشر توجهت شمالاً و تدفقت عبر الخنادق إلى تركيا كقطعان ماشية تلاحقها أنياب نهمة.
و قدِّر لحنيفة أن تخوض في الطريق آلام الولادة و الفراق ، فكانت تغمغم لاهثة متلوّية باسم ضناها عثمان ، دونما بهجة بقدوم المولود الجديد ، و الذي سيدوَّن في شهادة ميلاده أنه ولِد في البرزخ. و أما عثمان فأبى أن يخرج مع العائلات النازحة من كوباني ، و إنما خضع لرغبة ضارية في البقاء مع فئة تطوعت للدفاع عن المدينة التي تقصفها مدافع لا تعرف النوم.
مهّد تنظيم الدولة الإسلامية لاقتحام كوباني شرقي محافظة حلب من عدّة محاور. و على الطرف الآخر من الحدود كان الأهالي اللاجئون يستقبلون في حزن محموم جنازات أبنائهم. فلم يفارق النسوةَ السواد ، اللهم إلا بتصدعه فزعاً فوق شعورهن.
في البيت الريفي الذي نزلت فيه حنيفة و زوجها و أولادهما الأربعة جلست شيرين لصق جدار سميك ، فتِحت فيه شبابيك مقنطرة ، تربّت على الطفل كي ينام و تنصت إلى الحديث بين أمها و زوجة قريبهم الذي يستضيفهم. قالت حنيفة بصوت متعَب متقطّع (( تزوجت و أنا ابنة 15. في السادسة عشرة رزِقت بحسن ، و عثمان يصغره بسنة. حسن صعقته الكهرباء و هو يعمل في الفرن. كان ذلك قبل سبع سنين ، قبل ثماني سنين. مزّقت ثوبي حين أخبرني أبو حسن بما حصل ، و ظل حسن لسنين يزورني في المنام. )). تنهّدت حنيفة ثم افترقت شفتاها كأنما تريدان البوح بسرّ غير معلن و هي ترنو إلى الحصير العتيق المهترئ ، يظهر من بين الجسور الخشب في سقف الغرفة ، غير أنها أطبقتهما جاهدة دونما كلمة. توجّست أذناها بعدئذٍ حسّاً من الخارج ، فتطاولت على ركبتين مرتعشتين و هرعت نحو الباب. كانا أبا حسن و قريبه الكردي التركي. سألت زوجها في لهفة مريرة ((أتصلت بعثمان؟)). أجاب الزوج لا. ((مايزال جوّاله مقفلاً.))
((ألم تسمع خبراً جديداً من كوباني؟))
((لا. لا جديد.)) قال لها بارتباك.
حفرت التجاعيد أعمق في وجهها و هي ترفع صوتها ((اذهب لإحضاره. افعل شيئاً. أليس ابنك؟ إذا لم تذهب فأنا سأفعل.)). بدا الزوج واجماً جافاً عاجزاً عن الكلام. لم يستطع إخبارها بما يدور هناك. كان عثمان و من معه في تراجع ، محاصرين كالريشة في الدواة ، على حين أغلِقت حدود تركيا حتى في وجه الجرحى. تدخل الرجل التركي محاولاً طمر مخاوف حنيفة ، فيما أطرق أبو حسن في صمت و أصابعه تعصر حبات مسبحة كان يطبق عليها بكلتا يديه.
خرجت عارية القدمين في تلك الليلة الماطرة و وقفت أمام باب البيت الخارجي بأمتار رافعةً يديها نحو السماء. تهدّج صوتها مخاطباً الملأ الأعلى ((رباه ، كما أنزلت هذا المطر و أذهبت به ظمأ الأرض اروِ غليلي و أعد لي نور عينيّ و دم قلبي عثمان. رباه ، كلهم يكذبون و أنت وحدك تعلم بحالي.)). صمتت هنيهة ثم استأنفت الدعاء بشفتين مرتعشتين و فؤادٍ هافٍ ((خذ الصغير و اجمعني بعثمان مرة أخرى يا رب. خذ هيفيدار. خذ الصغير كما أعطيته و أعد عثمان لحضني سالماً. عثمان يا الله.)). امتزج الدمع بالماء على خديها الطريين. صوت بكاء مستغيث تناهى ، أو ربما خيِّل ، إلى مسمعها. التفتت إلى الوراء. عدت بذعر و دلفت إلى البيت. خطوات طينية ضئيلة الحجم ارتسمت خلفها و هي تقصد غرفة نوم أولادها.
كان هيفيدار الرضيع مستلقياً على ظهره ساكناً ، يتأمل بعينين مفتوحتين إلى أقصاهما ملائكةً حوّمت في الغرفة. تمددت حنيفة على البساط بمحاذاته. حضنته و تمتمت بالاستغفار.
لم يفارقها النشيج في المنام فاستيقظت. انسدل شعرها على وجه الطفل كليلٍ غزير النجوم ، و هي تطوقه بذراعين نحيلتين لتحمله و ترضعه. طفق الطفل يمتص ثديها ، و مرت لحظات قبل أن ينبذه و يهنف متهيئاً لبكاء فاجع. نضب الحليب في صدرها. حتى الانتفاخ المؤلم في نهديها لم يكن ليدرّ حليباً. أفاقت شيرين على وقع نحيب أمها.
اعتلّ الصغير. فتِحت حنجرته بصياحٍ مضطربٍ متواصلٍ مستنكرٍ الوجود و قد كاد يطرح أحشاءه من شدة الإسهال ، بعد أن انقطع حليب أمه ، استجابة لدواعي الحزن و الغمّ و الجزع في شرايينها.
قطعا به عشرات الأميال باتجاه مدينة أورفا لعرضه على طبيب أطفال. و مثل والديه لم يفهم هيفيدار ما قاله الطبيب التركي لقريبهم ، فظل يرد بالزعيق حتى أعياه الصحو فغفا على صدر أمه في الواسطة العائدة إلى بلدة سروج. ليوقظ الهدوء من جديد التفكير في رأس حنيفة.
أمضت حنيفة ساعات طوال بجانب سرير عثمان في المشفى ، تتوسله في حنو من أجل أن يتناول الدواء. كان أحد الصبية قد بضع ساعده بسكين مخلّفاً جرحاً استغرق سدّه ثلاثين غرزة من إبرة الطبيب. و التهب الجرح و عثمان ينفر من الدواء معانداً طبيعة الجسد و مكابداً ضراوة الألم.
ماتزال تذكر نبرته الحانقة الحاقدة و هو يردد ((كيف أتداوى و من غدر بي لايزال يأكل و ينام جيداً. كيف أجترع الدواء و أنام و أنسى ثأري يا أمي.)).
أخذتهم الحيرة في أمر هيفيدار. ظنوا أن النعناع و الكمون ينفعان في تخفيف المغص. أهرقت الأيام دموع الرضيع دون جدوى.
دفنوه في مقبرة صغيرة قرب بلدة سروج حوت سبعة عشر قبراً لشهداء ارتقوا في كوباني. مسحت حنيفة دموعاً غليظة عن وجنتيها و هي تقف على بعد بضعة قبور ترمق زوجها و أقرباءه ؛ يطمرون بتراب المقبرة المالح الجثة الموشحة ببعض كفن شاحب ، جزأته الحرب ليكفي ثلاثة أطفال. كانت تحس بلوعة عميقة و كان الشعور بالذنب يخنق نحيبها. مشاعر معقدة من الأسى و القلق و الأمل المتأرجح اختلطت في أعماقها. عندما يعود عثمان ستخبره بكل شيء. ستقول له أن أخاه مات كي يعيش هو و يشهد النصر و سوف تروي للناس قصة الشهيد الرضيع الذي فدى أخاه المقاتل ، و سيقولون أن بيت فرهاد أبو حسن أيضاً قدم شهيداً من أجل كوباني. ألقيت العصي و هدأ صدى انقضاض الرفوش. أماطت الريح الإشارب عن رأسها إذ أدارت ظهرها ، فيما ابتعدت الشمس الحمراء خلف من حوقلوا عائدين من الدفن.
في تلك الفترة ، بعد ستين يوماً من القتال المتواصل ، بدأت أخبار الانتصارات تقطع الحدود إلى تركيا. كان المقاومون في تقدم متزامن مع اشتداد قصف طائرات التحالف الدولي لمواقع التنظيم المتطرف و دخول قواتٍ مؤازرة إلى كوباني عبر تركيا. استعادت فرق المقاتلين المناوئين لتنظيم الدولة السيطرة على أحياء عديدة شرق المدينة و غربها و وصلت إلى محيط مبنى البلدية في وسطها ، حيث دارت لاحقاً حرب شوارع مديدة. لم تفارق المواد المتفجرة و المسامير الأحياء المحررة حتى بعد انسحاب التنظيم الاضطراري منها. تركوا في كل شارع قنبلة ، و في كل بيت عبوة ناسفة حارة. قضى العديد من المقتحمين بانفجارات غير متوقعة.
في صباح خريفي خرافي الصفير غُمّت فيه الشمس على الأرض ، رنّ جوّال أبي حسن بعد الفطور. كان رقماً غريباً. ارتبك الرجل حين صاحت به حنيفة ((عثمان)) ، و قد أطال النظر إلى الشاشة الصغيرة بعينين -غائرتين أصلاً- تكادان تبدوان -لشدة ما كوّر التحديق أجفانه- و كأنّه مغمضهما. أجاب أبو حسن. كان المتصل أحد رفاق عثمان يتكلم من كوباني. دنت حنيفة و قد تلبّسها كائن من انفعال. التمعت عيناه بالدمع على مرأىً منها و هو يطلب على الهاتف دون وعي أن يكلم ولده. (( أعطني عثمان دقيقة واحدة من فضلك. من فضلك دقيقة واحدة.)). لكن الصوت ظل يكرر ((عمي أبو حسن ، عثمان استشهد. عثمان استشهد. أنا صديقه.)).



#رستم_أوسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البرّاد
- مُجاهِد
- عدلة
- الجوع أفضل
- الى صديقتي في الجبهة
- الحب في زمن البراميل
- شهاب في عنتاب
- فتى المعبر


المزيد.....




- نذير علي عبد أحمد يناقش رسالته عن أزمة الفرد والمجتمع في روا ...
- المؤرخة جيل كاستنر: تاريخ التخريب ممتد وقد دمّر حضارات دون ش ...
- سعود القحطاني: الشاعر الذي فارق الحياة على قمة جبل
- رحلة سياحية في بنسلفانيا للتعرف على ثقافة مجتمع -الأميش- الف ...
- من الأرقام إلى الحكايات الإنسانية.. رواية -لا بريد إلى غزة- ...
- حين تتحول البراءة إلى كابوس.. الأطفال كمصدر للرعب النفسي في ...
- مصر.. الكشف عن آثار غارقة بأعماق البحر المتوسط
- كتاب -ما وراء الأغلفة- لإبراهيم زولي.. أطلس مصغر لروح القرن ...
- مصر.. إحالة بدرية طلبة إلى -مجلس تأديب- بقرار من نقابة المهن ...
- رسالة مفتوحة إلى الرئيس محمود عباس: الأزمة والمخرج!


المزيد.....

- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - القربان