أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - البرّاد















المزيد.....

البرّاد


رستم أوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4601 - 2014 / 10 / 12 - 23:33
المحور: الادب والفن
    


كنّا قد انتقلنا في صيف عام 2013 للسكن في حي الشهباء إبان اشتداد القصف على حيّ الأشرفية شمال حلب. خرجنا نازحين من الأشرفية بما علينا من ثياب و حسْب في ذلك الصباح حين اختفت الشمس وراء قذائف الهاون. الشهباء كان يصنّف بين أحياء حلب الغربية الأكثر غنىً و التي لم تطلْها الحرب إلّا قليلا. لم تستطع المعارضة المسلحة الاقتراب منه و لم تقصفه إلّا نادراً ، فحافظ الحيّ على هدوئه و برجوازيته في ظل نظام الأسد في حين كانت أحياء أخرى من ذات المدينة تعيش بشوارعها النصف عشوائية على إيقاع حياة صاخبة ، عماده صيحات البسطاتية و انفجار البارود في البندقيات و تغذيه أفواه لا تكف عن اللعن و الشتم. في تلك الأحياء الفقيرة التي لا يهمّ لسيطرة مَن تخضع كانت تمرّ أحياناً ساعة إنصات. تخوي الشوارع. الجميع يلازمون بيوتهم منصتين لتحليلات الأطفال بعد كل انفجار ؛ تلك كانت قذيفة هاون. و قبلها كان صاروخاً محليّ الصنع. هنالك فرق في الصفير قبل الاصطدام.
في مسكننا الجديد الذي أودَعنا أصحابه المفاتيح قبل سفرهم إلى خارج البلد ، كان البرّاد متعطلاً. كانت تكلفة إصلاحه مرتفعة جداً على من يرى أن الغِنى في الأخلاق ، ما حدا بنا إلى الاستعانة ببرّاد صغير قديم كان قد أمضى عقداً من الخدمة في دكان أبي في الأشرفية. و لسوء الطالع كانت الحواجز العسكرية آنذاك تقطّع أوصال المدينة.
صفَق العسكري على حاجز نزلة الأشرفية باب السيّارة بعنف. ((دوّر و ارجع. هذا البراد مسروق.)). كان البراد بارتفاع ثلاثة أقدام ، صدئاً في بعض زواياه ، مغبّراً. ((انظر إليه. إنه مهترئ. من قد يسرق شيئاً كهذا. الله يسترك مرّقنا يا معلم. ))
((دون ورقة تثبت ملكيتكم للبراد لن تمرقوا. اجلبوا إثباتاً.))
توقف عن الكلام فجأة و استدار باتجاه صوت ناداه. كان رجلاً يمدّ رأسه من مقدمة شاحنة محمّلة بالأثاث الذي برزت قطع منه مربوطةً بالحبال من أعلى المقطورة. رد العسكري السلام و حسْب لتعبر الشاحنة ، ثم أشار بيده يأمرنا بالعودة إلى الوراء. اتصلت بوالدي ؛ ((لم يدَعونا نمرّ. أغلِق الدكان لنصف ساعة و تعال كلمهم يا أبي.)). لم يكن زبون واحد قد دخل إلى الدكان منذ صباح ذلك اليوم. جاء أبي و وقف أمام ضابط الأمن المسؤول عن الحاجز. كان بثياب مدنية جالساً على كرسي بلاستيكي على جانب الطريق. ((معنا براد صغير نأخذه للبيت ، بعد إذنكم. تعطل برادنا و طلبوا لإصلاحه ثمانية آلاف ليرة ، و الوضع صعب هذه الأيام. قلنا ندبّر أمرنا بهذا البراد.))
((ما هي مهنتك؟)) نطق الضابط بلهجة أهل البادية.
((مصوّر. عندي استديو تصوير.))
((اسمع يا عم)) قال الضابط بكسل ، ((تذهب إلى القصر البلدي. هناك تبحث عن مكتب المحافظ ، و تقدم له طلباً لنقل البراد. يختمه لك المحافظ و تأتي. لن يستغرق الأمر أكثر من عشر دقائق داخل القصر)).
كان القصر محاصراً من جهتين من قبل المعارضة و يشكل مرمىً لقذائفها ، فضلاً عن التشديد الأمني و تمركز القناصين في الطوابق العليا من القصر. كما أنه ليس لحَلبي أن يصدق أن المحافظ يجلس في مكتبه هناك أو أنه يتفرغ للتصديق على طلبات نقل البرادات. لم نبرح مكاننا نحدّق إلى الضابط ، أنا و أبي و ياسين سائق السيارة. ((أو تنقله على مسؤوليتك!.)) أضاف الضابط و إصبعه ينقّب في أنفه. (( لِتعلم أنهم قد يسجنونك إذا أوقفوك على حاجز آخر.))
((نعم على مسؤوليتي. ننقله.)) ردّ أبي بحماسة.
انحدرت سيارة السوزوكي -ذات الصندوق المفتوح من الخلف- بنا على نزلة الأشرفية مقتربة من فرع الأمن الجنائي ، لتنعطف بعدها باتجاه حي السريان ملاحقة الشمس الجانحة للأفول. كل الأحياء التي مررنا بها كانت خاضعة لنفوذ النظام. على حاجز دوار السلام بحي السريان عبرنا دونما سؤال ، فيما وقف العناصر على حاجز جامع الرحمن على بعد أمتار و طلبوا منّا الترجّل من السيارة و فتح البراد ببطء. ربما خافوا أن يكون مفخخاً ، لكنهم بعد جهد بذله أبي في شرح قصة البراد أذنوا لنا بالمرور . كانت عربات الباعة في الطريق إلى دوّار الدلّة بحي السبيل تعرقل حركة السير و تحرض الزمامير على العمل ، و لم يكن حي شارع النيل أقل ازدحاماً. في منتصف الحي الأخير وقفتُ أترقّب حاجز دوّار الطب العربي من مكاني المرتفع في الجزء المكشوف من السيارة. رجل خمسيني بثياب مموهة و شاربين شائبين أوقفنا على الحاجز المشهور بمعاسرته للسيارات و المارة مخاطباً ياسين ((صفّ بعد خمسين متراً على اليمين.)) ، و ما إن استدارت الدواليب حتى لقّم سلاحه و وجهه نحونا راكضاً. بدأت أضرب على البراد بيدي و أنادي ياسين كي يتوقف. صدّقت لبرهة أن العسكري قد يطلق علينا لسبب ما. ((أنت حمار يا ابني؟)) صاح الرجل في ياسين بعد توقف السيارة و هو يعلق بندقية الكلاشنكوف على كتفه. الكثير من السباب طال ياسين و أحبابه دون أن يجرؤ على السؤال عن السبب. و أنا أيضاً لم أكن لأجرؤ. نزل والدي من السيارة بقصد التهدئة. اشتدّ غضب العسكري و هو يردّ ((يوجد قناص فوق البناية هناك. لو أنكم تقدمتم متراً واحداً آخر لهلكتم.)). لم يمتلك أيٌ منّا الشجاعة ليخبره أنّه لا بناية موجودة حيث يشير بسبابته. ((لا تؤاخذنا. السائق لم يكن يعرف.)) قال أبي ملتمساً عطفه. فترت نقمته و هو يدسّ علبة السجائر في جيبه و ينفخ الدخان من فمه. ((ماذا معكم؟))
((براد صغير نأخذه للبيت.)) يجيب أبي مستهلاً سيرة البراد مرة أخرى ، إلّا أن العسكري يقاطعه بالمباركة مشترطاً ؛ ((يترتب عليك ثمن علبة سجائر.)). يُخرج أبي بضع ورقات نقدية من جيبه. بدا تنفيذ الشرط و كأنه الغاية القصوى من كل ما سبق. كان يبحث عن ورقة من فئة معينة حين باغته العسكري بسحب مئتي ليرة من يده. ((ارتفع سعر الدخان)) قال العسكري بابتسامة ساخرة و السوس ينهش أسنانه. في الطريق بعدها بدا ياسين متيبساً و أقصر قامة خلف مقود السيارة ، و لم يتلفظ بكلمة إلى أن بلغنا حيّ الشهباء. اتكأتُ على البراد على أحد الأرصفة الإسفلتية السميكة في حي الأغنياء ، فيما وقف أبي أمام باب البناية يفاصل ياسين على أجرة السيارة. في تلك اللحظات على إحدى الشرفات وقفت امرأة بدينة تحملق. كانت عيناها تفيضان قرَفاً و احتجاج. لا أدري أكان البراد. أم السيارة المتهالكة و مفاصلة السائق أمام باب البناية. أم نحن و كل شيء يجيء من رتبة اجتماعية أو مادية أدنى. صار البراد أثقل حِملاً و هي تعاين الصدأ عليه متحدية تكاثف زرقة المساء. حملناه إلى أعلى و ركنّاه في زاوية المطبخ. لم نجد أحداً في البيت. كانوا في زيارة لجارتنا فتحية في حينا القديم. أنجبت فتحية. بنتٌ للمرة الرابعة. ذلك ما قالته أمّي على الهاتف. علا صوت أبي يؤاخذها على الزيارة أوان سماعه أصوات انفجارات عبر سماعة الهاتف. كان القصف على الأشرفية في أوجه حينها ، و كانت أمي تأمل أن يتوقف إلحاد القذائف كي تعود مع أخواتي إلى البيت. كان علي الذهاب إلى الجامع لجلب ماء الشرب قبل أن يبدأ العمل بقوانين الذعر الليلي على الحواجز العسكرية ، و كان جوّ شهر آب يبعث المرء على التعرق حتى دون حركة و يجعل للوقت معنىً أدقّ بعقربين بطيئين و أرقام كثيرة في انتظار العشاء. ناداني أبي و هو يفتح البراد لندخل. وسّعنا نفسينا بداخله و أغلقنا الباب. قال لي أبي بصوت أبحّ ((هنا لن يرانا أحد. كما و لن نشعر بالحرّ و لن نحتاج طعاماً أو ماء.)).
و بقينا أنا و أبي في البراد نعيش برداً و سلاماً ، في انتظار أن تعود أمي و أخواتي من حيث يشتدّ القصف.



#رستم_أوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مُجاهِد
- عدلة
- الجوع أفضل
- الى صديقتي في الجبهة
- الحب في زمن البراميل
- شهاب في عنتاب
- فتى المعبر


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - البرّاد