أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - مُجاهِد















المزيد.....

مُجاهِد


رستم أوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4548 - 2014 / 8 / 19 - 20:15
المحور: الادب والفن
    


كان الوقت صباحاً ، و الطريق وعرة. (( ماذا ترى يا صلاح؟ ))
(( أرى المدفع. و الغيوم. و وجهك الخائف. ))
كان قميصه قد تشبع دماً. و الألم قد أثقل لسانه. (( صلاح لا تغمض عينيك. ماذا ترى؟ ))
(( أرى نفقاً. مظلماً. و في نهايته نور. ))
(( صلاح. لا تغمض. أرجوك. وصلنا الى المشفى. افتح عينيك يا صلاح. ))
كان يسمع ، لكن مجرداً من القدرة على الإجابة. كان الصوت بالنسبة إليه كذكرً بعيدة ، أبعد مما يعي ؛ في تلك الزاوية من المشفى قرب سرير أمه كان جده لأبيه صلاح الدين نجيب يهمس لأول مرة في أذنه (( افتح عينيك يا صلاح. افتح عينيك يا صغيري. )) ، قبل أن يموت جده و يرى أمه تبكي لأول مرة و هو في الثانية من عمره. لم يكن يعي حينها لكنه الآن يتذكر كل شيء في النفق ؛ رأى الإشاربات السوداء و خيمة العزاء.
وصل والداه مع حلول الظهيرة و كانا قريبين من غرفة الإنعاش حيث يتمدد على السرير الحديد. بكت أمه فعلاً و جلس والده على كرسي الانتظار و قد عصبَ الريق بفمه. لم يصغِ لما قاله الطبيب بعد الجملة الأولى (( نزعنا الشظايا عنه و وضعناه على المنفسة )). راح الولد. مثل بيتنا في قمة الجبل ، و مثل الوظيفة. هذا ما جنته علينا الثورة. أرسلناه الى حلب كي يدرس فاعتقِل. أعدناه إلى الضيعة فالتحق بالجيش الحر. متى سيفهم هذا الولد أن اللعبة أكبر منّا. و من يكترث إن مات ابني ، و هل سيسقط النظام بموته. كل المسؤولية تقع على عمه. منذ أيام البوعزيزي و هو يشجعه على الحراك. أحرقَنا البوعزيزي. دمّرَنا. لم نكن ندري أن نيرانه ستصل إلى هنا.
كان صلاح وقتها واقفاً في النفق و هو في الخامسة من عمره و قد وضع يده على خده. كانت صفعة حارقة من والده ؛ (( إذا أرسلتك لإحضار شيء فلا تعد بدونه. هل فهمت يا صلاح؟ )). ظل صلاح في الغيبوبة لأربعة أيام ، و كان اليوم الأخير أسوأها اذ انخفضت جميع مؤشراته الحيوية دفعة واحدة. لم يقدر الطبيب على فعل شيء. ظنه يموت. و استمر شريط ذكرياته بالتقدم بسرعة و غزارة في الحوادث و الأشخاص و الأماكن ، كأنما سينتهي في أربعة أيام ليقول لصلاح ( تلك كانت مجرد حياتك ).
في أواخر كانون الثاني 2011 كان صلاح جالساً مع عمه في الضيعة يتبادلان الأحاديث حول الثورات و مجرياتها. و بعد ثلاثة أشهر فقط كان بين الجموع في جامعة حلب يهتف ويشارك في الاحتجاجات. في مطلع 2012 اعتقل صلاح أمام كلية الطب و قد بحّت حنجرته ، و كان محظوظاً لأن اعتقاله لم يدم لأكثر من شهرين. طالب قسم الكيمياء كان مهووساً بصنع مياه البيكربونات المشرِّدة لغازات النشادر التي استعملها عناصر حفظ النظام _في القنابل المسيلة للدموع_ لقمع المظاهرات. كان يشعر بسعادة غامرة و هو يوزع قوارير الماء السحرية على الطلاب وسط تلك التجمعات ، تماماً كسعادته و هو يقف على يد أحد الضباط المنشقين عن معامل الدفاع بحلب ، ليعلمه كيف يصنع لغماً مضاداً للأفراد ؛ كان ذلك في شهر آب من 2012 ، في أحد مقرات الجيش السوري الحر في حيّ صلاح الدين. تعجب صلاح حين رأى الأسيتون و الماء الأوكسجيني و حمض الكلور بنسب معينة تعطي في وسط ثلجي مادةً شديدة الانفجار. لم يكن يدري بالأثر المدمر لمزيل طلاء الأظافر و سائل تنظيف الحمامات ، رغم أنه أحرق يده بالأخير مرةً عندما كان طفلاً. بعد خبرة 45 يوماً كان صلاح من ضمن دفعة توجهت الى ريف إدلب ، أيامَ قامت جهة داعمة بإنشاء معمل للصواريخ هناك. لم يكن المعمل قد أنتج شيئاً بعد حين وضع إسلاميون يدهم عليه. اختلفوا على التمويل بعدها و أغلِق المعمل قبل أن يصنع و لو بعض المفرقعات. عاد صلاح إلى حلب وتدرب على السلاح وهناك عرف أبا مطيع لأول مرة. و لسوف يحبه كأخ كبير ، قبل أن يربط يديه الداميتين و رأسه على احدى جبهات الليرمون ، ويسحبَ جثته. كان في حي الليرمون ، مزهواً بالنصر في تلك اللحظة حين خرج مقاتل بحملٍ ثقيل من أحد المعامل المحررة و قال له (( لماذا تقف هنا؟ ادخل و انتقي لنفسك سترة أو بنطالاً على الأقل )). لم يردّ صلاح ؛ فضل أن يظل منتشياً بالنصر. مرة ظل محاصراً مع آخرين ليومين دون طعام أو ذخيرة في جبهة المخابرات الجوية. و مرة نزل صاروخ من طائرة مقاتلة أمام المبنى الذي يتواجد فيه. و ظل لأيام بعدها يسعل قيحاً و تراب. معارك كثيرة مرت عليه في النفق على هيئة شريط صور. كانت وجوهاً عرفها في قماش أبيض. تقدم جيش النظام بشكل مفاجئ في ليلة الأخير من كانون الأول. صلاح الذي لم يبكِ في حياته قط ربط الكثير من الرؤوس يومها و خاطر بنفسه لسحب جريح. قصهم الرصاص كمنجل القمح. تراجع لواؤهم بعدها إلى حي بني زيد و مكثوا هناك لعدة أيام. كان متسخاً متهالكاً كما في أيام حواش الزيتون في الجبل. دخل بيتاً أنهكه القصف و قد خلا من أهله ، و استحم بثيابه.
سافر بعدها لزيارة أهله في جبل الزاوية شمال سورية ، و احتاج لذلك أن يعبر الحدود الى تركيا و يلتف من هناك إلى ضيعتهم في الجبل. بلغه فور وصوله خبر اعتقال صديقه محمد الصعب. لم يحمل الصعب سلاحاً يوماً ؛ قلق صلاح.
الشاب الأشقر الطويل صاحب العينين الناعستين مكث في الضيعة لبضعة أيام ثم انضم الى كتيبة من جبل الزاوية كانت متوجهة للمشاركة في حصار مستودعات ذخيرة جيش النظام في خان طومان بريف حلب ؛ معركة خان طومان الأولى.
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد من خلف مدفعية الراموسة القريبة حين وطأت أقدامهم التلةَ المقابلة لمنطقة المستودعات الأولى. وادٍ بطول مئة متر و في آخره مربَط عُجول يفصل بينهم و بين التلة الأخرى حيث توجد مهاجع لجنود النظام. وقف صلاح رفقةَ أربعة مقاتلين آخرين خلف غرفة حجرية مهجورة -بدا أنها كانت لأحد الرعاة قبلاً- لتلقي الأوامر من ملازم منشق عن جيش النظام. كان الملازم ذا خبرة عسكرية ضحلة على نحو كافٍ لكي يضع خمسة قناصين على بعد مئة متر من العدو. دعّم صلاح الساتر الذي يحتمي به بقطع حجارة كبيرة و ثبت البندقية القناصة من طراز بورجينيف الى كتفه فوق الساتر. أقرب مقاتل صديق يتحصن على بعد عشرة أمتار على يمين صلاح و يناظره آخر على اليسار. و أقرب مقاتل عدو كان على التلة المقابلة بثيابه الداخلية تفصله عن صلاح أقل من مئة متر. قضت الأوامر بألّا يطلقوا حتى يبدأ الاقتحام. تعجب صلاح و هو يتحسس الزناد بإصبعه من خروج الجندي أمامه بهذا اللباس في ذلك الجو الثلجي. كان منحنياً على مغسلة حجرية في باحة المهجع. غرابٌ حوّم فوق الوادي و ملأ الفضاء زعيقاً غليظاً. ((انتظروا الأوامر. انتظروا الأوامر.)) قال صوتٌ أجشّ على القبضة اللاسلكية. تتعالى أصوات تكبيرات من الوادي و في ذات اللحظة تخرج عُجول من المربط. يرتبك صلاح. الجندي بالسروال الداخلي يختفي في رمشة عين. يبدأ الرفاق بتأمين غطاء ناري للمجموعة المقتحمة و تفرقع بواريد في الطرف الآخر. لم يكن صلاح قد أطلق طلقة واحدة حين نسِف الساتر أمامه بقذيفة آر بي جي مضادة للأفراد. يطير صلاح الى الوراء و يقع على ظهره كأنّما قطاراً صدمه. كل الحجارة تتحول الى شظايا و تخترق جسمه. يتأمل السماء مستسلماً للخدر الرخو غير مدركٍ بعد ما حصل. طنين يسكن أذنيه بعد الانفجار و ينتبه بينما ينقلب على بطنه الى ساعده الأيمن ينثني في ثلاثة مواضع. يشعر بدوخة و هو يشير لأحدهم كي يهتم بسلاحه قبل أن ينهض و يركض باتجاه الغرفة المهجورة خلفهم.
يعاني صلاح في الضغط على القبضة لتحديد موقعه و هو يكرر نداءه ((طبية ، طبية)). لم يقدر الفريق الطبي على فعل شيء له. كان مصاباً بشظايا في وجهه و رأسه. لم يستطيعوا إيقاف النزيف. تطوع مقاتلان لنقل صلاح بعربةٍ عليها مدفع من عيار 14,5. وضعاه في الصندوق الخلفي لسيارة البيك آب بعد فكّ الجعبة عن صدره و وقف أحدهما منتصباً خلف المدفع. و بينما يتقدمون على طريق خان طومان المرتفع مارين من أمام قناصي العدو شعر صلاح بزلزال حوله. كان المدفع يهدر دون توقف فوق رأسه بسانتيمترات.
بلغوا نقطة طبية في قرية خان طومان و أبى الطبيب هناك أن يخيط جروح صلاح دون تصوير طبقي محوري. خشي أن تكون إحدى الشظايا قد أصابت الدماغ. كان عليهم السفر لمدة ساعتين و نصف على الأقل كي يصلوا الى مدينة كفرنبل ، حيث يوجد مشفىً ميداني ضخم. كانت جروح صلاح قد بردت و صار الألم لا يطاق و لكنه على الرغم من ذلك امتلك الوعي ليرفض أن ينقلوه الى تركيا. كان ذلك لما سمع من حكايا عن المتاجرة بأعضاء المقاتلين المصابين الذين يُنقلون الى تركيا لتلقي العلاج. ((أموت هنا و لا أذهب.)) قال لهم صلاح.
في نهاية النفق وقف أناس كثيرون. و أخيراً عثر صلاح على أحدهم. كانوا رجالاً و نساءً يقفون في طابور. التفت آخرهم الى صلاح. كان وجهاً مألوفاً. منيراً بشاربين شقراوين مبتسماً ابتسامة طفل نال للتو لعبةً يهواها. كان ذلك محمد الصعب يرفع يده و يقول شيئاً غير مفهوم من قبيل (أنا عبرت أو أنا ذاهب). يحاول صلاح الاقتراب لكن الطابور يتبدد ، و يبتلع الظلام كل شيء. يشعر صلاح و كأنّما شللاً أصابه. يفتح عينيه في غرفة الإنعاش في مشفى الأقرع بمدينة كفرنبل ليجد نفسه محاطاً بالأجهزة. كان يئن. نزعوا عنه المنفسة.
بعد أن صحا من ارتجاج الدماغ البسيط -على حدّ تعبير أحد الأطباء- نقله والده الى تركيا من أجل علاج أفضل. أمضوا ستة أيام في أحد مشافي أنطاكية قبل أن يشم الوالد رائحة عفن من جرحه. خرج يصرخ في ممرات المشفى. لم يعرف اللغة حتى. لو أن أحدهم وقف في وجهه لقتله. ((فليأتِ أحد الآن و يعاين ابني)). اخترقت شظية عظمة الساعد الأيمن لصلاح و خرجت من الطرف الآخر. سحِق العظم كالملح. وضعوا له جبيرة متحركة كي تمكنهم من تنظيف الجرح تحتها ، لكن بدا أن أحدهم نسي القيام بواجبه. عادا إلى سورية و كانت عائلة صلاح قد انتقلت للسكن في مدينة سلقين الحدودية بريف إدلب بعد أن قصِف بيتهم في جبل الزاوية. عاش صلاح فترة نقاهة في سلقين و أشرف طالبٌ في كلية الطب لمّا يتخرج بعد على تنظيف جرحه. في الأيام المشمسة كان صلاح يجلس في الباحة أمام مسكنهم الجديد في شارع المصبغة بجانب المدرسة المحدثة بسلقين -حيث حفر صبية حفرة في الأرض و انحنوا نحوها يقذفون أكلالاً ملونة- ينتظر طبيبه و يتفرج على الصبية يلعبون و يكيلون الشتائم لبعضهم البعض. بقي على هذا الحال لأكثر من ثلاثة أشهر. أحضروا له جوالاً حديثاً و شريحة انترنت تعمل عبر أبراج الاتصال التركية كي لا يشعر بالضجر. في رسائل نصية عبر البريد الإلكتروني قدم "توفيق" أحد أصدقاء صلاح منذ أيام جامعة حلب الدعم النفسي له. توفيق الذي نزح إلى خارج البلد حاول رفع معنويات صلاح على الدوام لكنه غالباً ما اعترضته عبارات قصيرة كتبها صلاح تنمّ عن إحباط كبير من قبيل ( شوهوني. أولاد الكلبة.) و ( ليتني استشهدت.). ظل توفيق يتلقى الرسائل من صلاح و يرد عليها طيلة ثلاثة أشهر و هنا بعض من الرسائل التي وردت إليه : ( أخبرني الطبيب أنني أحتاج ستةَ أشهر من العلاج الفيزيائي كي أستطيع تحريك 70% من عضلات أصابعي. لدي وتران متضرران. الحمدلله على كل حال.).
(لم أعد أتحمل. إلى متى سأظل في هذا الجِبس ، يطعمونني كالأطفال. لا أستطيع النوم. هنالك قُلاع في فمي ، بينما الندبة في وجهي ذاكرةٌ لا تكف عن العمل.).
( سأكمل دراستي في الجامعة. تعبت من حياة العسكر ، كما أن يدي لم تعد تساعدني. يقولون إن الجامعات باتت آمنة في محافظة الرقة بعد تحريرها. هناك لن يلاحقني النظام. الأفضل لي أن أكمل تعليمي.)
و في آخر رسالة ترك صلاح خبراً مفاجئاً ، إذ بلغت توفيق بعد أيام من الانقطاع الكلمات الآتية : ( غداً صباحاً أخرجُ رفقة مقاتلين آخرين إلى حماه. اختبرت نفسي و وجدت أنني قادر على حمل السلاح مجدداً. لقد اتخذت قراري. نبقى على تواصل صديقي. دم بخير.).
وصلوا ظهراً إلى مشارف بلدة مورك في الريف الشمالي لمحافظة حماه. استغرق الطريق وقتاً أطول بسبب التفافهم على حواجز جيش النظام المتداخلة مع حواجز المعارضة المسلحة في تلك المنطقة. كانت مورك لاتزال في قبضة النظام و محاصرة من قِبل الجيش الحر. الوافدون الجدد جلسوا في ظل غرفة إسمنتية يحاذيها ساتر ترابي متهالك و تخفق فوقها راية الثورة بنجومها الحمراء. شربوا شاياً و أنصتوا إلى رجل ضخم الجثة بلحية مشذبة يتخللها شيب و يكنى بأبي الوليد ، حدثهم عن المنطقة و عن مهمتهم فيها. هزّ صلاح رأسه مصغياً و هو يتأمل بنادق الكلاشينكوف المتكأة على الجدار بجانب عتبة الغرفة. شعور مفعم بالسعادة و التوتر غمره و هو يلبس جعبة الرصاص من جديد. كانت يداه ترتعشان ، كما في اللحظة المجنونة التي سبقت سقوطه على التراب قبالة المستودعات في خان طومان. حمل البارودة بيمناه دون عناء -و هو ما سيتغير لاحقاً- و بنشوة ممثلٍ بدور البطل قبيل اعتلاء المسرح همّ رفقةَ الآخرين إلى الموقع الجديد. نصبوا حاجز تفتيش على بعد 2 كم من البلدة و كانت مهمة صلاح الصعود إلى الواسطات العابرة ذهاباً أو إياباً للتفتيش عن ذخيرة أو عن جنود نظاميين فارّين. على متن حافلة ركاب و بينما يعيد صلاح إلى شاب عشريني بطاقته الشخصية صادف إحدى زميلاته أيامَ الجامعة. كانت تجلس بمحاذاة رجل بشاربين عريضين بدا أنه والدها. حاول أن يتذكر اسمها. أنتِ صديقة وعد أليس كذلك؟ أنتِ ذاهبة إلى حلب؟ من ترين من الزملاء؟ من مات مؤخراً و من عاش؟ و هل صحيح أن الحراك قد توقف هناك في الجامعة؟ ؛ لم ينبس بكلمة. كل تلك الأسئلة دارت في رأسه ثم تناثرت مع صفير قذيفة نزلت في مكان قريب. أصيب الركاب بالهلع. ترجّل صلاح من الحافلة المحمّلة بالذعر و الأدعية ، و طلب إلى السائق أن يمضي. قذائف هاون ، اشتباكاتٌ بالأسلحة الخفيفة و المتوسطة و غاراتٌ للطيران الحربي تعاقبت حتى المساء على دائرة وهمية قطرها 3 كم حول صلاح و رفاقه. جلسوا على جانب الطريق الغارق في العتمة. فردوا خبزاً و أخرج عبد الفتاح بضع خيارات و علبة جبنة مثلثات من حقيبة سفر. أعدّوا زهوراتاً على موقد الغاز ذي الخرطوشة القابلة للتبديل وتناولوا عشاءهم. و رغم ربيعية تلك الأيام إلا أن الليلة الأولى كانت زمهريراً على صلاح الذي افترش الدواليب المطاطية المملوءة بالبحص بدلاً من الأرض.
في الليلة الثانية ظل صلاح مناوباً حتى الصباح و في اليوم الثالث جاءتهم الأوامر لأسباب غامضة بإعادة الحاجز 500 متر إلى الوراء. ينهض صلاح في العتمة مراقباً انبثاق الشعاعين المتوازيين من العدم. يومض للحافلة بضوء الكشاف قبل أن يدسه في جعبته و يرفع البارودة بيد واحدة. (( قف. )). تأثير التعب أو ربما الأعصاب ، أو أياً كان لم يدعه يركز. و كذلك ضوء الحافلة لم يكن ليدعه يركز. لا شيء علا على صوت الفرامل بعدها سوى صدى الطلقة التي خرجت من سلاحه. كاد أن يكون حادثاً مميتاً. يهرع رفاق صلاح باتجاه الباص. أصيب غطاء المحرك. (( لماذا أطلقت يا صلاح؟ ))
(( يدي. البارودة. نسيت أن أؤمّنها. ))
قبضوا على السلاح من يده و رفعوا زر الأمان. امتلأت عينا صلاح بالدم. لم يستوعب ما حصل. وقف جانباً في شرود ، دون أن يولي اهتماماً للأعذار التي قدمها زملاؤه للركاب. من قد ينفعني بعد الآن. خانتني يدي.
استيقظ صلاح باكراً في الصباح التالي ، و مضى متخففاً من ثقل السلاح و الذخيرة باتجاه الطريق. سافر إلى بلدة إحسم في جبل الزاوية ليخضع لمعاينة طبيب الكتيبة و الذي أحاله بدوره إلى تركيا لإجراء تخطيط عصب ليده.
عاد عنوان صلاح الالكتروني للعمل و استقبل توفيق الصديق القديم المزيد من الرسائل منه. و كانت هذه أولها : ( لم أعد أنفع. علي إجراء عمل جراحي أو أن أعتزل القتال. لقد مات محمد الصعب. مات تحت التعذيب قبل أربعة أشهر و هو مدفون الآن في مكان مجهول. اليوم صادفت أحد أقربائه في سلقين و أخبرني بذلك. لا جثةَ له نبكي عليها و لا قبرَ يُزار. عندي صداع الآن. أريد أن أنام.)
(لم أعد أطيق المكوث في البيت أكثر. والداي يلحان علي للبحث عن عمل ، كما و يصبحان أكثر نكدية. أختي ليلى عندَنا وتحاول إقناعي بالزواج من إحدى قريبات زوجها. كما و عُرِضَ علي إجراء عملية جراحية ليدي. يجريها طبيب ألماني في غازي عنتاب بتركيا. قالوا إنهم سينزعون عصباً من ساقي ليزرعوه في يدي. لم توافق الكتيبة التي أصِبت و أنا أقاتل معها على تحمل أكثر من 20 % من تكلفة العملية. ثم ماذا إن فشلت العملية و خسرت رجلي أيضاً؟ على قول أبي : عصفور في اليد أفضل. لن أذهب لكن علي البحث عن عمل. الوضع صعب. )
( شكراً على الاهتمام توفيق. أنا أعمل الآن مع أخي الأوسط مصطفى في بيع الخضار والفواكه. أصبحت أخرج كل يوم إلى مزارع العلاني و حارم و سراقب لشراء البضاعة فيما يبسط مصطفى على رصيف يتزاحم عليه الباعة و المارة في شارع المصبغة و أساعده في البيع بعد الظهر. أحياناً أدور بالعربة على شوارع محمد نفاخ و العجمة و طريق العلاني وصولاً إلى دوار الساعة كي تنفُق البضاعة قبل حلول الليل. الحمد لله لكنني ربما في يوم من الأيام نقمت على الثورة ؛ فكرت في الأمر بينما أدفع عربة الخضار الثقيلة أمامي و أطلق صيحتي ((مجرّحة. مجرّحة يا بندورة)). كنت طالباً جامعياً حين أحرق البوعزيزي نفسه احتجاجاً على مصادرتهم لعربة الخضار التي مثّلت كل ما يملكه. لطالما تفاءلتُ بمستقبل أفضل لنا في سورية بعد الثورة ، لكنني الآن أجد نفسي و قد عدت إلى حيث بدأ البوعزيزي ، إلى البيع على عربة مشابهة ، و كان من الممكن أن أفعل ذات الأمر بعد تخرجي من الجامعة في زمن ما قبل الثورة إذ أن الشهادة على كل الأحوال لا تعطي خبزاً في هذا البلد. لكنني الآن خسرت أعصاباً من يدي أيضاً ، و أصدقائي ماتوا. أبي يمكث في البيت يتشاجر مع أمي ، و صاحب البيت يهدد بإخراجنا إن لم ندفع الأجرة في وقتها المحدد. كما و اشتقت إلى بيتنا في الجبل ، و اشتقت إليكَ و إلى حلب. ).
و مذّاك لم يطرأ جديد على الرسائل الواردة إلى توفيق ، اللهم إلا تقلبات نفسية و حالات عاطفية أحياناً أو شعور مؤقت بالراحة. و اليوم إذا مررتم من شارع المصبغة في مدينة سلقين فسوف ترون صلاح. يصيح ، يبيع و يفاصل. و أرجوكم حينها ألّا تكلموه كمجرد بسطاتي. ألّا تشكوا من قلة الأصناف على بسطته ، فهو لم يجد غير هذه الثمار ليقدمها. إنه بوعزيزٍ آخر حي. قدم نفسه للثورة ، فتلظى بنارها و لمّا يقطف من ثمارها.



#رستم_أوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عدلة
- الجوع أفضل
- الى صديقتي في الجبهة
- الحب في زمن البراميل
- شهاب في عنتاب
- فتى المعبر


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - مُجاهِد