أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - فتى المعبر















المزيد.....

فتى المعبر


رستم أوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4307 - 2013 / 12 / 16 - 16:23
المحور: الادب والفن
    


بعد ثمانية أشهر من دخول الجيش السوري الحر الى حي صلاح الدين -أول أحياء حلب المحررة- و مع سيطرة قوات المعارضة على نصف أحياء حلب , و تشكل فصائل مقاتلة جديدة في مناطق يغيب عنها جيش النظام و امتلاكها أسلحة ثقيلة , تغير نمط المعارك في حلب لتتحول المواجهات من حرب عصابات الى جبهات مفتوحة بين الطرفين.
المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة رسمت حلقة مفتوحة تحيط بمناطق النظام من الشمال و الشرق و الغرب , و بقي للنظام طريق امداد وحيد يقع في الجنوب , تحديداً عند بلدة خناصر في الريف الجنوبي لحلب.
في أواخر شهر نيسان 2013 بدأ يعرف معبر كراج الحجز باسم معبر الموت و هو نقطة التماس الوحيدة بين القوتين المسلحتين التي لم تتحول الى جبهة , و الواصلة بين حيي المشارقة شمالاً و بستان القصر جنوباً. في ذلك الشهر تحديداً كان يرتقي في ذات المعبر أربعة شهداء وسطياً كل يوم , على وقع نيران القناصة الذين يكشفون المعبر. و يجدر بالذكر أن القناصَين اللذين لهما نصيب الأسد من ضحايا المعبر تابعان لنظام الأسد , و هما قناص القصر البلدي و قناص مبنى الاذاعة.

فتى المعبر

وقف عبد الرزاق ينتظر أمام آخر حاجزٍ للنظام في حي المشارقة , لقد تأخر زكور كعادته. كان الممر الضيق بين مبنيين يغص بالناس. عناصر الحاجز يصرخون و يسبون و يلعنون لتنظيم الطابور و تتقدمهم امرأة بحجاب أسود تفتش الأكياس و الحقائب في أيدي المارة. هنا تنتهي المناطق الآمنة من حلب و يبدأ الطريق الى المناطق المحررة , مروراً بمنطقة لا تخضع لسلطة أحد سوى الموت : معبر الموت.
لم يمضِ أسبوع على فتح المعبر بعد أن كان مغلقاً لأكثر من عشرين يوماً على وقع الاشتباكات في المنطقة. لو لم يفتح المعبر مجدداً لمات الناس جوعاً في مناطق النظام بسبب الحصار الاقتصادي و غلاء الأسعار. لم تعد البضائع تأتي من المحافظات الأخرى مع اقتراب الثوار من منطقة خناصر , المنفذ الوحيد للنظام الى قلب حلب. أرزاق الكثيرين تتوقف على هذا المعبر , و كذلك أقدارهم.
هيكل طويل و رفيع اقترب و أيقظ عبد الرزاق من شروده. وصل زكور , و كعادته كان عابساً , أعجفاً , كفرعون محنط -;- سلم باليد دون أن ينبس بحرف واحد. هواء قارص لفح وجه عبد الرزاق بينما يسير رفقة زكور في الطريق الصاعد الى منطقة كراج الحجز. بدا المعبر أمامهما عريضاً , ممتلئاً , لا نهاية له. رؤوس تزحم رؤوساً على مد النظر وكأنه يوم الحشر -;- عمال , طلاب , موظفون حكوميون و سائقوا عربات , كل يسعى الى عمله , بهذا الاتجاه أو بذاك. كانوا يمشون بخطاً خفيفة كأن جاذبية الأرض قد تعطلت في ذلك الصباح. كان صباحاً فواراً بالنشاط. عبد الرزاق رمق القصر البلدي من فوق كتفه و هو يمشي ملتفتاً برقبة عصفور , قبل أن ينظر الى الأمام و يغمغم دون وعي ((توكلنا على الله. و لا حول و لا قوة الا بالله.)). ذات اليمين امتد جدار بعلو مترين كتِب عليه أسماء شهداء و كتائب و عناوين ثورة. و ذات اليسار طريق مكشوف لم يكتب للناس منه سوى خردق و لعنات , و من منتصفه بانت قلعة حلب من بعيد , وحيدةً مرتفعة كطود بين المنخفضات. تعالت شتيمة وسط الجمع حين مرت عربة مسرعة. كان يجرها ولد و بمحاذاته يركض آخرٌ يحمل كيس السيروم الذي تناهى الى يد عجوز مستلقٍ على العربة. العجوز المريض كان يلبس كلابية بيضاء , و الغريب أن عضوه كان منتصباً. يرد أحد الولدين الشتيمة ثم يتبدد مع العربة في الزحمة. يشعر عبد الرزاق بارتياح بعد تجاوز مبنى الاذاعة. يقولون أن 22 قناصاً يكشفون هذا المعبر -الذي لا يتجاوز طوله الأربعمئة متر- لكن عند الحديث عن القتل فلا يُذكر سوى اثنان : قناص القصر البلدي و قناص مبنى الاذاعة. انعطف الطريق بعدها و لمعت كتلة معدن ضخمة. كانت باصاً مهشماً , دون دواليب , تملؤه سواتر ترابية , و بجانبه مستودع ضخم يحرسه مسلحون. هنا يبدأ نفوذ المعارضة , و وراء الباص تصبح في دولة أخرى. عبد الرزاق تلمس النقود في جيبه و هو يعبر على يمين الباص الى الطرف الآخر. وقف مقنعون وراء الباص ينظمون العبور. كانوا يتربصون بالوجوه كأنهم يبحثون عن شخص ما. اقترب زكور من أحدهم و كلمه , ثم عاد حسن المزاج عندما علم أن اخراج الخبز مسموح اليوم.
كان سوق بستان القصر مكتظاً بالناس و البضائع. عانى عبد الرزاق و شريكه في ايجاد مكان لأقدامهما وسط بسطات الألبان و الخضروات. باقات خس و بقلة و نعناع غطت الأرصفة و تدلت خراف مسلوخة أمام دكان قصاب. طماطم مجرّحة أفرِغت في زنابيل بجانب الرصيف , فيما وقف رجلٌ في منتصف الشارع يلوح ببلطته و يصيح أمام عربة سمك. الساعات التي أمضاها الشريكان في التسوق مضت في رمشة عين. اشتريا بضاعة ب 30 ألف ليرة و وقفا أمام 125 كيلوغراماً من الخضروات و الأجبان و الحبوب , فضلاً عن بضع كيلوغرامات من اللحم و بضع ربطات خبز. سوف يستقلان عربتين بعدها , و سيتوسلان المقنعين على مدخل المعبر كي لا يصادروا جزءً من بضاعتهم , و من ثم سيخرجان الى الطريق. لقد اعتاد عبد الرزاق القيام بهذه الأمور بعد أن خسر عمله في الخياطة مع دخول الجيش الحر الى حي الشيخ مقصود حيث كان يعمل في احدى الورشات , ليقصف النظام الحي بعدها. مذاك و هو يعمل على خط المعبر. كل بضاعته كانت مدفوعة الأجر سلفاً. لم يكن يبيع على البسطات كما يفعل تجار الأزمة اذ يبيعون السلعة في المناطق الآمنة بأربعة أضعاف سعرها الحقيقي في المناطق المحررة , بل كان يؤمن الطلبات للجيران و الأقارب و يربح منهم قوت يومه. لم يكن ما يربحه عبد الرزاق سوى قروش مقارنةً بمرابح البسطاتية , لكنه على الرغم ذلك كان سعيداً بحصوله على عمل. فقد أصبح المعيل الوحيد للعائلة بعد أن جردت الحرب والده أيضاً من عمله في معمل للدائن.
في طريق العودة كانت الزحمة على أشدها حين سُمِع صوت اطلاق نار. غذى الناس الخطى. و كذلك فعلت العربات. ((انه قناص القصر البلدي)) قال زكور و هو يتقدم ليفتح الطريق أمام العربتين. أشار عبد الرزاق بيده للسائقين كي يسرعا , لكن احدى العربتين لم تستجب -;- كل جزء منها كان سليماً , لكن منفرداً. الدولابان ابتعدا وحدهما فيما بقي هيكل العربة مكانه , ثقيلاً غير قابل للحركة. بدأ عبد الرزاق ينقل البضاعة من العربة المعطوبة الى الأخرى , و بعد لحظات بدأت أصوات فرقعة تدوي في المكان. تداحم الناس للعبور بينما يئز الرصاص فوق رؤوسهم. صوتٌ يشبه الزعيق تعالى وسط الحشد. يسقط أحدهم و يعبر على جسده آخرون. لم يتمكن أحد من سحب الجريح. كان المبنى يمطرهم خردقاً. صاح زكور ((اركض يا عبد الرزاق)) , لكن المنادى ظل واقفاً في مكانه. اذا ترك البضاعة فعليه أن يعمل لشهر كامل كي يوفي ثمنها. سائق العربة تركها و فرّ بروحه. العجوز ذو الكلابية البيضاء ظهر ثانيةً , لكن دون العربة و الولدين. كان يركض و يسابق حاملاً السيروم في احدى يديه , و في اليد الأخرى دجاجة مسروقة. زكور ارتمى على عربةٍ خلفه و ابتعد معها , و لو أنه لم يفعل لكسرت العربة المسرعة ساقيه. انحنى عبد الرزاق على العربة المشؤومة أمامه لآخر مرة. أراد أن ينقذ اللحوم و الخبز على الأقل قبل أن يهرب , غير عارفٍ أنه سيمضي ما تبقى من حياته نادماً على هذا القرار.
يصاب عبد الرزاق في مؤخرته. يدور نصف دورة حول نفسه و يهوي. يسقط على وجهه و ترتطم ذقنه بالأرض , و ينفض الناس من حوله. لم يستطع أن يزحف. شعر بحرارة في ظهره و ظن أن الاصابة في عموده الفقري. بقي وحيداً في العراء يتظاهر بالموت.
استيقظ عبد الرزاق في المستشفى. كان مستلقياً على بطنه , يختنق كما لو يتنفس من خرم ابرة و يشعر بألم شديد أسفل ظهره. لم يكن يشعر بالوقت. لكنه احتاج أياماً ليدرك أن الدمدمة المتقطعة فوق رأسه هي صوت أمه تقرأ له , يتخلله أحياناً نشيج مكبوت يفلت من الأعماق فجأة. و احتاج شهراً ليعرف أن والده قد استدان 200 ألف ليرة لتغطية تكاليف علاجه , و أنه على الرغم من ذلك لن يمشي على رجليه مجدداً.
الشاب العشريني صاحب القامة الممشوقة و التقاسيم التامة خسر كل شيء. كان من الصعب عليه أن يوفي ثلاثين ألفاً ثمن البضاعة , فكيف يوفي مئتي ألف ليرة الآن. كان يظن أن الفقر عائق أمام زواجه بابنة الحلال التي لم يجدها بعد , فماذا يقول الآن و قد أصبح نصفه السفلي مجرد كيس عظام. لماذا قد يعيش بعد الآن؟ ماذا سيفعل. عليه أن ينتظر نصف سنة قبل أن يبدأ من الصفر , و الصفر هنا يعني بداية حياة جديدة كانسانٍ , اذا لطُف القول , ذي احتياجات خاصة -;- يجب أن يظل مستلقياً على بطنه لستة أشهر كاملة حتى يلتئم لحم مقعده. لو أنه مات لسموه شهيداً. لم يكن يعرف أنه يوجد في الحياة ما هو أسوأ من الموت.
كان زكور على الباب عندما صرخ عبد الرزاق في وجه أمه ((دعيه يذهب. لن أكلم أحداً.)) , لكن أمه كررت بصوت أقرب الى الهمس ((زكور على الباب يا بني , هيا انهض , زكور على الباب)). كانت الساعة التاسعة صباحاً. فتح عبد الرزاق عينيه دون حراك. لبث على بطنه لنصف دقيقة قبل أن يقفز من مكانه و يتلمس مؤخرته. قبّل أمه و حمد الله لأنه كان مجرد كابوس. لم يخبر الوالدة عما رأى في المنام كيلا تمنعه من الذهاب الى المعبر. لبس ثيابه في عجل. تفقد النقود في جيب بنطاله , و من ثم خرج مع زكور.
الشريكان استقلا باص شارع النيل للانتقال من حي الخالدية حيث يسكن عبد الرزاق الى حي الجميلية , ليمشيا بعدها حتى يبلغا حي المشارقة , الطرف الأول من معبر كراج الحجز. طوال الطريق كان عبد الرزاق يحدث زكور عن رؤياه , دون أن ينبس الأخير ببنت شفة. كل شيء كان على ما يرام بعدها و لم تتشابه أية أحداث مع ما حصل في المنام , الى أن بلغت الساعة الثانية ظهراً , حين انكسر دولاب العربة التي تحمل بضاعة عبد الرزاق أمام أنظار قناص مبنى الاذاعة , و الذي كان قد حصد الكثيرين قبل دقائق. ضاع زكور وسط هيجان المارة. و مرة أخرى وقف عبد الرزاق وحيداً أمام العربة المعطوبة.

... معبر الموت.
29-11-2013



#رستم_أوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رستم أوسي - فتى المعبر