عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4654 - 2014 / 12 / 6 - 21:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هذا الوضوح والتصوير المنضبط والذي تحدد بنصوص لا يمكن معها أن نكون أمام خيارات تسمح لنا بالتعدي عليها ليس لأن ذلك ممنوع علينا فحسب بل ومحذور بصورة سلطوية قهرية, إيماننا بحرية الأختيار وممارستنا للحرية لا يمكن لنا أن تكون بالمحل والقدر الذي يسمح بهذا التجاوز, ولأن في عائدية هذا التصرف فيه خرق حقيقي لوجودنا ولحريتنا, ومع ذلك الخيار وإيماننا به نجد أن الإنسان حاول التدخل في موضوع الرسالة تدخلا يربك العلاقة بين الله_الإنسان وبين علاقة الوظيفة الوجودية ذاتها التي تنتهي بفهم محوره الدين.
المؤكد في الموضوع أننا قد تدخلنا فعلا بما لا يجوز لنا كخيار حر أن نتدخل به بل وقد أفرط البعض بهذا التدخل لصالح نقض الحرية المأذون لنا بها, فهل هذا التدخل من ضمن أشتراطات الحرية أم من اشتراطات فهمنا نحن للحرية؟.
الكثير من النصوص أيضا تحذر من التدخل خارج أسس وقواعد ودعائم الرسالة, بل وترسم نتائج هذا التدخل, وحتى في هذا التحذير نجد أن شكل الحرية يأخذ موقعه في طريقة بسط التحذير{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}الحشر7,أنه ذات المنهج الرسالي الذي لا يفرض على الإنسان سلوكيات تنشئ مقيدات له خارج نطاق الحرية, بما يعط نتائج متوقعه وحتمية لهذا السلوك بأسلوبية تدعم الانحياز للحرية وتحاول أن ترتقي بالعقل الإنساني كونه الحاكم النهائي للسلوكيات النفسية أخيرا.
نجد أنفسنا هنا أيضا أمام خيارين لا ثالث لهما وهما أن نأخذ بالرسالة كوحدة فكرية وعقلية وإنسانية متكاملة بشقيها الأمر به والناهي عنه دون أن نتدخل به بما تيسر لنا من فعل عقلي أو معالجة عقلية, هذا ليس قهرا مضاد لمفهوم الحرية ولكنه نتيجة حتمية قادتنا إليه عملية الخيار الحر الذي مارسناه من قبل وبعد الإذن وانحازت رؤانا إلى الرسالة بالتالي من التسليمات بهذا الخيار أن نكون ملتزمين بما أخترناه كمنطق واحد بالترك أو بالعمل.
إن التدخل الإنساني يبرره البعض على أن ما أتى به الرسول لا يصح الأخذ به مجملا بحجة أن الحرية في الأخذ له نتائج شخصية وهذه النتائج يتحملها الإنسان وحده وإن كان مناطها الحرية الممنوحة والمأذون لنا بها لا تقوم بفاعليتها دوما وعلى كل حال وبأي حال, طالما أن الإنسان هو المستهدف بما جاء بالرسالة وأنه أعرف بما يأخذ وأنه هو الذي يتحمل العواقب ,فدعامة الحرية كسلوك تسمح له أن يمارس حريته في نطاق الرسالة ككل وهذا لا يتعارض مع كون الرسالة غايتها أن تصل بالإنسان إلى تحقيق حريته.
المنطق المعروض هنا قد يبدو محقا ولكن لو نظرنا للحرية كونها علاقة متبادلة بين الأَذن بها وبين المأذون سنجد أن لها أشتراطات حتمية كونها سلوك (دعامة) من دعامات الهيكل الفكري للرسالة وبالتالي فعند ممارستها والقبول بنتائج هذه الممارسة تفرض أحد أشتراطاتها وهو القبول بما ينتج عنها ومنها ولها.
فلا يمكن أن نطلب الحرية ونختارها ولا نلتزم بما ينتج عنها ومنها وهنا نكون في حال لا نختار الحرية بل نختار الطغيان فيها والإفراط الغير سوي وتحلل من المسئولية الوظيفية لها, فلا بد أذن من تحمل أشتراطات الحرية ومنها أن نقبل بما تفترض علينا الرسالة من أمر أو نهي ليس إذعانا بل حرية في القبول على مبدا الحقوق والواجبات.
إذن التعاطي الإيجابي بما جاء به الرسول صل الله عليه وأله وسلم يشكل موقف أخلاقي قبل أن يكون تعبدا دينيا بما في الرسالة من التزام وبصورة أكثر إنسانية ,هو إستجابة للحرية التي أستمسكنا بها وتعاملنا بها من خلال التبين وعدم الإنفصام عنها, فهو أمر وجوبي ذاتي بالإلتزام وليس فقط من كونيته أنه جاء من قوة قاهرة وقادرة على فرضه بالوعد والوعيد أو بالإغراء والحث والحض{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ }يونس108.
هنا الخيار يتجلى كقيمة حقيقية للحرية وبصورة واضحة ابتداء كونه خيار وانتهاء بالنتيجة التي تبتنى على الخيار ذاته ,ومع كل هذا التوضيح يعلن الرسول أنه غير متعلق بالاختيار ولا يدع الوكالة أو التوكل عن الإنسان لتبرير هذا الخيار أو إلزامه به, النص ذاته ينفي تماما مسئولية غير الإنسان عما يختار فهو أمام مساحة كبيرة جدا من الحرية وأمام مسئولية أكبر في الخيار والاختيار, لابد أن يراعي فيها النتائج وكل ما ينتج عن النتائج من شبكة متفرعة من العلاقات البينية في طول الوجود وعرضه.
هذا الرد على الرسول وعدم الأخذ بما أتى به يسميه القرآن الكريم التبديل بمعنى جعل قواعد أخرى تحل محل القواعد الأصلية ومن ثم البناء عليها فينتج هيكلا فكريا قد يختلف تماما عن الهيكل المرسوم للرسالة والذي قبلنا به بمحض اختيارنا, فنشارك الله هنا حقيقة من دون وعي في وضع رسالة أخرى بلسانه ويعد هذا تدخلا ونقضا لمبدأ الحرية كأساس ومبدأ الحرية كدعامة{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة181.
الدعامة المنصوبة على ركيزة ممتدة لأساس ثابت لا يمكن ان نبني محلها أخرى إن لم نبادر إلى كسر الدعامة القديمة ,لو بنينا نفس الدعامة وفق نفس الأسس والركائز لا يمكننا ان نفعل ذلك لوحدة المكان ووحدة النتيجة, فالتدخل لا يمكن تصوره إلا ببناء دعامة جديدة محل القديمة أو إنشاءها في مكان أخر وكلا الحالين لابد أن ينتج عنه تشوه للصورة الحقيقية للرسالة وتبديل في أسلوبية التعاطي الصح والانتساب للهيكل الرسالي.
الإنتساب الصحيح لهيكلية الرسالة والبناء السلوكي المشاكل له إنسانيا يفترض عدم الخروج عن الحرية المأذون بها وتوافقها مع الوحدة التي يؤسس عليها الفكر الرسالي في المعطى والمقدمات والنتائج والمنهج الممارس وبكل التفرعات والملحقات التي تستتبع الإيمان بها, أن مجرد إيماننا الحقي بالرسالة والسير وفق الصراط المرسوم نجد أن جميع النتائج التي تتبع السلوك الإيماني الإنساني تتوافق بوحدتها خارج حدود الزمن وخارج حدود المكان لارتباطها بموضوع واحد, والواحد الحقيقي لا ينتج إلا وحدا متصف بصفاته ويشير بوجوده لوحدة الترابط بين الموضوع كجوهر وبين الموضوع كماهية خارجة عنه.
هذه الوحدة المفترض تحققها حتما بصحة الإيمان لا نجدها تتجسد سلوكيا لدى المؤمنين بها ليس في الرسالة الإسلامية فحسب بل وفي كل الرسالات السابقة ,فهل هذا يشير إلى خلل في موضوعية الرسالة أم في الإيمان بها أو نتيجة تدخل إنساني في تقريب الرؤية منه والتعامل مع رؤى متباينة نتيجة قراءات متعددة لنفس موضوع الرسالة هذه القراءات أما لكونها مرتبطة بفهمنا الجزئي للحرية, أو تتجاوز حدود التقيد بالإختيار أو لربما نشهد نوعا من الإنفصام بين الحرية وبين التبيين الواجب لها.
العودة للوراء وفحص ما حصل بعد الرسل هو المجال الوحيد الذي يكشف لنا حقيقة ما جرى من تكسير لتلك الدعامات الأساسية التي قامت عليها الرسالات, وبدون هذا الرجوع لا يمكننا أن نجلس للنظر للأمور من نفس الزاوية التي حاول الأولون ومن تلاهم في المنهج والزمان على تبرير والتعذر لكل ما شهدته الرسالات من اختلافات وتعارضات وصلت لحدود إنكار البعض للبعض الأخر الاشتراك بالانتساب لها.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟