أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - كفن جدتي - قصة مترجمة من الأدب الكردي














المزيد.....

كفن جدتي - قصة مترجمة من الأدب الكردي


ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم

(Majid Alhydar)


الحوار المتمدن-العدد: 4650 - 2014 / 12 / 2 - 21:35
المحور: الادب والفن
    



قصة: اسماعيل هاجاني
ترجمها عن الكردية: ماجد الحيدر

كانت عجوزاً مخضرمة، عاصرت قرنين من الزمان. ذات جسم صلب كالرجال، فلقد نسيت، منذ أيام خط تلفسني * انها امرأة، وأخذت تتصرف كما الرجال، وصارت الأم والأب. كانت تحب الأحذية ذات الأربطة، وترتدي في الشتاء، مثل الرجال بالضبط، معطفا طويلا يتهدل على جسدها. مضيفها كان ديوان القرية الكبير وفيه تحل كل المشاكل وتبحث كل الامور، فهي الشفيعة وهي الملاذ في كل قضية شائكة، وهي القابلة التي ولد على أيديها أغلب أطفال القرية، وهي غاسلة من يموت فيها من نساء وأطفال. كانت تقدم على الأمور مثلما يفعل الزعماء، وتعشق سيدة الهند انديرا غاندي، وتقول:
-"أنها أختي، وإذا لم تصدقوا فانظروا الى تشابهنا في الأنف والشعر والقامة"
ولهذا، يوم استشهدت أنديرا، ارتفع ضغطها ووقعت نصف مشلولة، وبلغ بها الأمر أن أقامت لها مجلس عزاء في بيتها، ومن فرط حبها لها سمّت اثنتين أو ثلاثا من حفيداتها باسم أنديرا.
كان الحزن والسأم يتملكانها يوماً بعد يوم. حجّت وطافت بالحجر الأسود ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تعود بلفافة من قماش أبيض وقربة من ماء زمزم وتقول لمن حولها:
-"كفنوني حين أموت بثياب الحج واغسلوني بماء زمزم"
كانت تطلب الموت والموت يدير لها ظهره. في كل يوم ترفع كفيها بعد الصلاة وتدعو:
-"إلهي، استرجع أمانتك. كفاني ما عشت"
لم تكن تستطيع الصلاة بصمت، وكانت، مثل ملالي الكرد، تفشل دائماً في التفريق بين المؤنث والمذكر، وتثير الصخب بصوتها الرفيع المرتفع مثل قامتها. كانت المسكينة تلفظ الكثير من كلمات الصلاة بصورة معكوسة، وكنتَ تضحك كثيراً حين تصل الى التحيات، إذ لم تكن تعرف كيف تتلوها، فتكتفي بأن تردد:
-"هوي هوي يا نبي جعلتُ فداك!"
فيحتقن وجهك من الضحك أما هي فتترك الصلاة في كثير من الأحيان لتعنفك:
-"هه هه هه يا خصية أبيك! أيها الكافر الغليظ. كان يوماً أسود يوم أرسلتك للمدارس!"
وحين تفرغ من صلاتها كانت تقول:
-"يا رب اعطني ميتةً مستورة"
في إحدى المرات اعترضتها قائلاً:
-"الموت هو الموت يا أماه! إنه باي باي. سوف تصبحين وليمة للديدان والصراصير. لكنك مع الأسف لستِ غير جلد وعظم وبقايا لحم هزيل، ولهذا لن تجني الديدان والصراصير شيئاً من موتك. علام إذن تطلبين من الله في كل صلاة ميتةً مستورة؟ وهل ناك ميتة غير مستورة؟ إنه الموت والسلام!
-"أستفوللا، أستفوللا. نعم يا ولدي، الميتة المستورة هي التي يموت فيها الانسان بين أهله وناسه، وفي فراشه ومطرحه، ويلفونه بالأكفان ويديرون وجهه شطر القبلة. أما الميتة غير المستورة فهي التي يغادر فيها المرء دنياه دون قبر وكفن، دون تلقين وياسين، دون عشاء للمعزين ودون توزيع خيرات لثلاثة أيام، ودون اسبوع وأربعين ورأس سنة"
كنت تمازحها أحياناً وتقول:
-"أنتِ يا جدتي من بقايا زمان دقناووس، وربما تتذكرين زماناً لم يكن الله قد خلق الجبال بعد، وربما رأيت الاسكندر ذا القرنين بأم عينيك"
فكانت تضحك وتجيبك:
-"كلا يا ابن البقرة. لم أر الاسكندر لكن اللذين رأوه حدثونا عنه وقالوا أنه كان ذا قرنين في رأسه"
ثم تعود لتقول:
-"إلهي. عجِّل باسترجاع أمانتك! لم أعد أطيق دنياي. رحل الأخلاّء جميعا ولم يبق منهم من يؤنسني. هذه ليست الدنيا التي عشرت وكبرت فيها، أنها دنيا أخرى"
فيستشيط قلبك وتقوم لتعانقها وتضمها الى صدرك وتغرس أصابعك في شعرها الشائك وتقول:
-"آه يا جدتي. إنك لملاك. هذه الدنيا ليست باقية إلا إكراماً لمن مثلك. أنتم الخير والبركة"
وكانت تجيبك بين شهقاتها:
-"كفاني يا ولدي. وهل هذا زماني؟ إني لأتذكر حرب المسقوف. أتذكر إهلاك الأرمن. أتذكر المجاعة الكبرى حين لم ينج من الطاعون أحد في ديارنا غير طفلين"
وترفع يديها وتعود لتقول:
-"إلهي استرجع أمانتك مني وأكرمني بميتةٍ مستورة!"
وتسألها:
-"أخبريني يا اماه: هل رأيتِ الثلج الأحمر حقاً ؟ كيف صار أحمر؟ لماذا كان أحمر؟"
-" لا أعرف كيف حدث ذلك. لا أتذكر جيداً. كانوا يقولون أنه الثلج الأحمر. لم يكن غامق الحمرة كبراعم نيسان، لكنه مثل شمس الغروب. قالوا إن الله قد غضب على عباده لكثرما عمَّ الفسق والفجور على وجه الأرض، ولكثرما انتشر الحكام الظالمون وأريقت الدماء. ولهذا حذر الله العباد بأنه سيهلك الأرض إذا لم يستقيموا. فديتك يا ولدي؛ عد الى رشدك ولا تترك صلاتك يا حَمَلي الصغير!"
-"سأفعل إن شاء الله"
-"نعم يا ولدي. إني لأغبطك لأنك تعرف العربية وتستطيع الإجابة على أسئلة المنكر والنكير. أما أنا البائسة فلا أعرف كلمتين من لغة الآخرة. زرت بيت الله ثلاث مرات، بشق الأنفس وبكدِّ أظفاري وبالاستدانة وبحياكة السجاد والجوارب ، ولم يبق لي غير ثلاثة أذرع من قماش الكفن وفنجانين من ماء زمزم وضعتها في ذلك الصندوق الأزرق تحت السلم. فديتك يا ولدي؛ حين أموت كفِّن جدتك بها وأسكب عليّ ماء زمزم"
كان هذا الحوار يدور في رأسك وتستعيد الشريط في كل خطوة تخطوها. وعندما هطل الثلج الأسود خلال الهجرة الكبرى كنت تحملها على ظهرك مثل جذع شجرة وكانت هي تبكي وترتجف مثل طفل أضاعه أهله. كان فمها متجمدا مطبقا ولم تكن تفهم من بين طقطقة أسنانها إلا هذه الكلمات:
-"هذه نهاية الدنيا. ها أنذا أرى الثلج الأسود أيضاً"
في مضيق "هَفت تَنون" باغتها الموت وتجمدت يداها ورجلاها. لم يكن في يدك إلا أن تضيف شاهدة صخرية أخرى الى شواهد القبور التي تناثرت هنا وهناك، ثم تلتقط بعضاً من أوراق البلوط الذابلات وتستر بها جدتك، وأن تجعل من ثوبها وقفطانها كفنا لها ومن دموعك الحمر ماءَ زمزمها، وبدلاً من تلقينها أن تصرخ بالأفلاك، وتعلِّق مسبحتها في عنقك تذكارا منها، لتيمم وجهك شطر الجبال.
وكان صوتك يختلط بهدير نهر "كشاني". ويردد المضيق الصدى:
-"آهٍ أيها الفلك الدوار.. آهِ يا فلك!"

* خط تلفسني: خط دفاعي بناه الانكليز جنوبي دهوك في مواجهة الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى.



#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)       Majid_Alhydar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشيد الى فيروز
- الفلكة - شعر
- حين يأتي يوم ميلادي
- مرحبا .. هنا العراق
- عشر نصائح لكتاب السرد - زادي سمث
- سبع خاطرات عن الخامسة
- يا عمتي النخلة - شعر
- شعارات معدلة: الدين لله .. والوطن للصوص
- ولادة - شعر
- بهنام وديع اوغسطين الأديب والتربوي المنسي - محاولة لترميم ال ...
- ملل في بغداد الجديدة - شعر
- تنويمة الحفيدة - شعر
- من أوراق المحرقة -8- يهود عراقيون ، يهود كرد
- من أوراق المحرقة -7- حوار خاص عن إنزال القصاص
- من أوراق المحرقة - 5 - حوار قصير عن تقرير المصير
- كيف تهرب من الحقيقة، كيف تتملص من النقد؟
- نشيد في هجاء النفس
- من أوراق المحرقة - 5 - الى فيسبوكي حامي الدم
- من أوراق المحرقة - 4 - حواران عن المادة 140
- من أوراق المحرقة - 3- إعلان


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - كفن جدتي - قصة مترجمة من الأدب الكردي