أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد رشيد العويد - في الجحيم















المزيد.....


في الجحيم


ماجد رشيد العويد

الحوار المتمدن-العدد: 1298 - 2005 / 8 / 26 - 07:54
المحور: الادب والفن
    


" وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار "

… ولا عجب فلقد كنت بأنف بزَّ أقرانه، طولاً وعرضـاً، ثم إنه كان على هيئة لم تكـن على مثلها الأنوف، وله قدرة على التقاط الرائحة من بعد سحيق. إنه بالشم كزرقاء اليمامة بالبصر، يلتقطها ويحللها، فإن كانت طيبة تاه جذلاً، وإن كانت عفنة توّرم واستشاط غضباً. هنا يندفع المخاط على شكل سيول خضراء مكثّفة، تدفع بالاشمئزاز إلى الآخرين، فيشيحون بوجوههم عني.
أما أرنبة أنفي فكثيراً ما سقطت في كأس الشاي الساخن، ولذا فقد ظهرت للعيان، على الدوام، متورّمة، متقيحة.
إلى جانب هذه المزيّة فأنا قصير.. تخيلوا أنفاً بطول صاحبه. كنت إذا قبّلت زوجتي احتجت أن أصعد إليها، حتى أطالها. لمّا ولدت كنت بحجم الفتر، وأذكر أن والدتي كانت كثيرة الحزن علي، يملؤها البؤس كلما رأت وحيدها يدبّ على الأرض بقزامته وأنفه الضخم، وتقول في سرها: ما أتعسك وما أشقاك. وكانت زوجتي كلما أرادت أن تتحدث إلي اضطرت مكرهة إلى الجلوس على الأرض، ومع ذلك يعلو رأسها هامتي فتنحدر نحوي بعينيها.
على أن هاتين المزيتين، قصري وضخامة أنفي، كانتا السبيل إلى مجد لا يرقاه من فقدهما. فلقد تمكنت من أن أدس أنفي في صفحات التاريخ، وتركت له أن يتوغّل في وعورة أحداثه، فالقاً هامة الأجداث، وشاماً منها رائحة الهاجعين تحت الثرى.
من البدهيات التي يجب ذكرها أن أنفي كان قادراً على شم الطين والماء، والنار والهواء، وعلى التقاط رائحة الملوك والأمراء من الطغاة. لا تستغربوا فلكل موجود رائحة، للتاريخ رائحة النار تحت الرماد، ولبعضه تلك التي للرطوبة العفنة، ولأطلاله وقع النغم الشجيّ. برغم هذه المقدرة الفذة، والبصيرة النافذة فقد آثر أن يختص بالريح الهوجاء للملوك والأمراء، على مرّ الدهور والأزمان، يقيس نبضها ويسميها ويصنّفها.
إمعاناً منه في التركيز، آثر القاتلة التي في الكثبان، فجرّها إلى جوفه. ولمّا كنت قصيراً أكاد لا أرى فقد استطعت التسلل إلى مخدعه، قست نبضها وحرارتها وفغمتني جاذبيتها.
كان المخدع على أشد ما تكون عليه الجاذبية، فراش وثير وأرائك طرّزت بالذهب الخالص. زوجة الأمير أشبه ما تكون بالدمية، ممددة على السرير بانتظار أميرها الذي شُغل عنها، كعادته، بشؤون الرعية المتمرّدة. استطعت أن أصل إلى خذلانها وبؤسها. كانت تحترق شوقاً، تتقلّب على جمر اللظى. أما هو فقد تبدّى لي، باختلاس النظر إليه، وهو وحيد، بعيداً عن زبانيته من غير زيف ولا بهرج، طفلاً أو كالطفل. يقف أمام المرآة معجباً بهيئته وهيبته، ممجداً عقله ولسان حاله يقول أنا البداية والنهاية.
كانت تفوح من جدران المخدع رائحة الجبروت، فيهتز السرير، من غير أن تهتز التي عليه. تحـرّك الأمير وبيده عصا، باتجاه خارطة مرسومة على جريد النخيل. الأميرة غرقت في تأوه مكتوم، ولذّة خفيّة هدرت بها الجوارح والتهبت بها النفس.
قال لها:
-لقد ملكت ما دنا من الأرض، وقريباً أعبر البحر المحيط فأضمّ إلى ملكي ما وراءه.
أفاقت الزوجة من غيبوبة النشوة. سـوّت من وضعها وقالت:
-أنت يا مولاي ملك الدنيا.
اهتز ريش الطاووس المعلّق فوق التاج طرباً وخيلاء،
قال:
-علي أن أقمع التمرد بكل الوسائل.
-افعل يا مولاي، افعل.
عادت الأميرة تغمض عينيها، بانتظار أن يصطلي جسدها بنيران الوهم. كنت بدوري أراقبها. لذت بجانب السرير مختفياً إلى يسار الوسادة المطرزة بالذهب. تحرّكت ببطء كي لا أشعرها بوجودي. أنصت جيداً فسمعته يتوعّد.
- لسوف أقطع الرؤوس التي أينعت.
في غمرة انشغالي بشم الكلمات، انتهى إلي فرار " سعيد بن جبير " إلى أصبهان، ومنها إلى مكة المكرمة وبالبحث علمت أنه اقتيد أسيراً إلى الكوفة ماراً بالربذة. لم أميز للحجاج ندماً على ما سال من الدماء، على العكس من ذلك رأيته من حيث لا يراني، ممتلئاً بهجة وحبوراً. قلت في نفسي: لقد انهمر على رؤوس العباد ويل ما بعده ويل، وسوف تقطع الأطراف من خلاف لا لشيء، إلا لأن الرؤوس أزهرت وأثمرت. ولعلّه بالفطرة مال أنفي إلى الطغاة، فلهؤلاء عطر واخز نشأ بالسيوف والرماح، واصطلى بالمؤامرات، ولعلّهم، وقد نشأوا نشأة غير سويّة ينتهون بمجرّد سنوح الفرصة إلى جبابرة. لعلّ أيضاً أرنبة أنفي الملسوعة دوماً بالشاي الساخن، قد حنّت إلى الحجاج، فشقّت دربها إليه لتشمّه وقد نزل من الطائف إلى الشام ومن معلّم صبية إلى تأديب الناس.
بدا الحجاج في كامل أبهته يجلس على كرسي الإمارة، آمراً ناهياً مزمجراً وقد انتهت إليه بلاد ما وراء النهر، إلى جانب العراقين اللذين ازدادا شططاً، مشمّراً عن زنديه. كان يستشيط غضباً، وعلى أشد ما يكون عطشاً إلى مزيد من الدماء. آنذاك تحوّلت إلى أنف خالص مرتجف وجل. نهض من كرسيّه، وسار باتجاه ابن جبير. أمسك به من خناقه وهزّه بعنف وهو يسأله:
-أليس لأمير المؤمنين في عنقك بيعتان؟
ورد ابن جبير من غير أن يرتجف:
-بلى
وشدّه بعنف مضاعف
-ونكثت يا " شقيّ بن كسير " فلماذا؟
-لأنه كان لابن الأشعث بيعة في عنقي .
ولم يتمالك الحجاج نفسه فغضب غضبة نكراء اهتز لها من تحت رجليه قصر الإمارة. لم يكن السياف ينتظر أكثر من الإشارة ليتدلى الرأس مفصولاً عن جسده، ولينفجر العويل من أركان الكوفة قريبها وقصيّها. بعد ذلك اتجه الحجاج إلى داره، ومن الشرفة المعلّقة فوق الجماجم انطلق البصر حاداً مستكشفاً النأمات النائمة في الرؤوس، وتلك المتحركة ليقطفها في انطلاقـها. أما رأس ابن جبير، فبدا عجوزاً أرهقته السنون السبعون التي حملها في حياته على كاهله، ملآن بالتجاعيد، وبأزمنة من الخوف والفرار. عندما خلت الساحة من الناس اقتربتُ من الجثة. كان الجسد تحت المقصلة، أما الرأس فبالتدحرج ابتعد أمتاراً. وليس من قبيل المصادفة أنه انتهت إلي ريح كلام تدلّى من عروق الرأس ناحية الرقبة. بالتحليل والدراسة تبين لي أن الحجاج جلس على كرسي الإمارة بعد أن راكم رؤوساً كثيرة. امتلأت عروقي بدم القتيل. انتقلت ثانية إلى المقصورة العامرة بالروائح الذكية، والتقطت رائحة وثن من الأوثان الغابرة مباشرة إلى جانب الوسادة الأميرية، نعم فغمتني نسائم الطين المشوي فعلمت أن للحجاج ولعاً بالتراب القديم.
بقيت قريباً منه حتى نام، ورحت أسمع شخيره، إلى جانب زوجته التي نامت بدورها مقهورة منه من دون أن تملك حق الاحتجاج. بينما هو نائم رأيته يمسك بيديه رقبته في حركة من يختنق، ويبحث عن الهواء. احمرّ الوجه وازرق. أدركت أن الحجاج في حلم مملوء بالذعر، وأيقنت أنه ولج النار مدفوعاً من ابن جبير وغيره.
اقتربت من فمه فشممت بَخَراً، كان جوفه جيفة، هي خلاصة ما في النار الكبرى. على أنني فجأة أبصرت شيئأ كالبخار يخرج من فمه، ويصّاعد ثم ما يلبث أن يتحول إلى نار التهمت الغرفة ومن فيها، واستطعت أن أحيد عنها، وأن أقف على ما يشبه الصراط مراقباً الحجاج أثناء انتقاله بطرفة عين إلى عالم ما بعد البرزخ. هناك رأى أهوالاً أنسته العراقين، ورأى فراديس خلبت لبّه، وأنه غير واردها. كنت أراقبه وقد نطّت من ملامحه أهوال ما قام به في السابق من قتله لابن جبير وغيره، ومن نسيانه أمر زوجته التي ترك فراشها بارداً برودة لا تحتمل، لتعيش بدورها في وهم متّصل من اللذة. لقد وقعت الساعة، وكشّرت عن أنيابها الحاسمة، فاليوم لا ينفع مال ولا بنون … لقد فتق الزمان البشري وارتفعت سحائب الوجود الغابر إلى أعلى ثم اندست تباعاً في جهنم تتقدمها تلك الخاصة بسادة السادة. لقد فار الكون ومار. كنت من موقعي على الصراط لا همّ لي إلا أن أسجّل ما يتجلى في قسمات الحجاج من أمارات الخوف والجزع. كان يسير مترنّحاً، مسكوناً بالرعب، لعلّه لا يدري إلى أين ينقلب – وقد تُرك إلى حين على هواه – الجنة على يمينه والنار على يساره. أبصرت وأبصر معي الأعداد الهائلة من البشر وهي تسقط في النار العظيمة، وأبصرنا معاً أعداداً أخرى تضحك مملوءة ترفاً وبهجة . كان معي على الحبل الدقيق ذاته، ثم ما لبثت أن زلّت به قدمه فإذا به يهوي إلى جوف نار تلظى، نار تفور وكالزوبعة تلفّه مع ألوف وألوف من البشر، ثم تقذف بهم من أحشائها فإذا هم صديد صارخ. بعد ذلك تحتضنهم سوّارة من نار، تضحك منهم بتشف. أدرك الحجاج أنه ورد النار وروداً نهائياً، وأيقن أنها مسكنه الأبدي. صعقه هذا الإدراك ولم يترك له فرصة أن يغمى عليه ليظل معانقاً النار في كل دقيقة وثانية، وليبصر العذاب إبصاراً تاماً. مر به رجل يركض فارّا من الجحيم إلى السعير فسأله:
-إلى أين تركض؟
وأجابه الرجل، وهو يسلخ جلده المحروق
-ألا ترى أني أفر من النار
- بلى أرى، ولكنك تفرّ منها إليها.
-أعلم هذا، ولكن ماذا أفعل، قل لي من أنت؟
- الحجاج.
وبدهشة مغموسة باللهب
-الحجاج الرهيب ؟!!
- هو بذاته.
- ألا لعنة الله على الظالمين
برغم النار الهائلة فالحجاج ما يزال يملك قـدرة على الغضب. كان يسلخ لحمه بيديه سلخاً، ومن داخل العذاب الرهيب صاح في وجه الرجل:
-ماذا تقول أيها الكلب الجبان؟
واهتزت أطراف الرجل الذي ما لبث برغم احتراقه المتواصل، أن غاص في النار كما لو أنه يسبح. وأثناء غوصه قال:
-الهزيمة ثلثا الرجولة.
ابتلعته النار تماماً وبقي الحجاج وحده. نظر حواليه فلم يبصر غير زوابع من اللظى والسعير. انطلق صارخاً فارّا فراراً غير مسبوق، لولا أنه ذكّره، برغم اشتعال النار في أشلائه، بهروبه أمام " الغزالة " أم شبيب. أيامها لبث في منزله لا يغادره، ويتذكر بيت الشعر العتيد.
وفت الغزالة نذرها يا رب لا تغفر لها
والغزالة في مسجد الكوفة تقرأ سورة البقرة، وربما أثناءها كان الحجاج ينتظر مدد عبد الملك.
كانت النار تفور وتغلي، ويسمع حسيسها. من أذنيه المترعتين بالصديد بقّت آلاف الشكوى. كان يحاول إسكات هذه الأصوات بإغلاق أذنيه اللتين ما تلبثان أن تسقطا في يديه فتحرقهما، وتذوبان بدورهما. لم يجد أمامه مفراً فأخذ يبكي دماً تحوّل إلى قطران سال على صدره فحفره. عندما مسّه الجوع، لم يجد طعاماً سوى دمامل القيح راح يأكلها ويحتسيها شراباً.
في غمرة مداعبة النار له، مرّ به رجل يجري هو الآخر فاراً من اللهب المتدفق، تسقط أمامه لحيته فتتحول الشعيرات إلى ألسنة تحرق قدميه. هنا لا ينفع رجاء، ولا تنفع استغاثة. هنا مستودع الخيبات في الدنيا ، وإلى هنا تنتهي كل مسالك البطش الرهيب. يستوقفه الحجاج
-من أنت؟
نظره الرجل نظرة احتقار وقال:
-يزيد.
أراد أن يتابع سيره فمنعه الحجاج، وعاد إلى سؤاله ثانية
-ابن معاوية؟
-نعم.. ماذا تريد ومن أنت؟
يفاجأ الحجاج، يتقدم منه مصافحاً
-أنا الحجاج، عمت صباحاً أو مساءً، فلا علم لنا في الجحيم بالوقت.
-عمت مساءً، كيف حالك يا حجاج؟
-كمـا ترى. يصمت قليلاً ثم يتابع: نحن لم نلتـق في الدنيا. كم وددت لو التقينا.
-ولماذا؟
-كنت سأكون بخدمتك، وقائد جيشك إلى كربلاء بدلاً من عمر بن سعد، وإلى المدينة بدلاً من مسلم بن عقبة المريّ، وأكون صاحب وقعة الحرّة.
يصرخ يزيد من الألم. إن أثقالاً من حياته التي عبرت تثقل الآن كاهله، فينسلخ لحمه عن كتفيه فتظهر العظام فاحمة ملآنة بالثقوب.
-يا حجاج تقول هذا وأنت في الأبدية الخالدة.؟!!
يخلـع الحجاج يده اليمنى من عند الكتف، ويلقيها إلى جواره. يتابع من بين الحريق كلامه:
-ولم لا ألم يأمرنا الله بطاعة أولي الأمر منا؟
- نعم ولكنك كنت ترمي الرؤوس بالشبهة.
- لأنني لزمت الطاعة، ولم أغادرها إلى عصيان، أو تمرد كما فعل الكثير.
-كان بإمكانك أن تكسب ودّ الآخرين بالموعظة.
-لا سبيل إلى هذا. لقد حكمت جغرافية طُبعت بالتمرد والعصيان، وعلى ظهرها عاش أناس طمعوا بالحكم. لا لم يكن من سبيل إلى المودة.
-وماذا تقول في سعيد بن جبير؟
-شيخ خرف، تشيّع لابن الأشعث.
-ولكنه عالم. لو تركته لزاد من علمه في تراث الأمة.
-هراء محض هراء… إنه تاريخ جرى يا مولاي، وبعد فتنتين كان لابد من وجودي لأضبط سريان الندم الذي شاع بعد مقتل الحسين. طبعاً لا تنس مقتل ابن عمك عثمان. ولا تنس أيضاً أن التاريخ رسمه أبوك ومن بعده أنت.
وبعصبية ممزوجة بالصراخ من الجحيم سأل يزيد:
-ماذا تقصد؟
-لا شيء. لا شيء يا مولاي ولكنه لولاي لما كان لنا في التاريخ دولة.
-ربما يكون هذا صحيحاً، ولكنك أيها الأحمـق مت عن " مائة وخمسين ألف قتيل، ومت وفي سجنك خمسـون ألف رجـل، وثلاثون ألف امرأة منهن ستة عشر ألفاً مجردة ". وكنت أيها الأحمق تحبس الرجال والنساء في مكان واحد. إلى جانب أنك كنت تحبسهم في أماكن مكشوفة للحر والبرد. قل لي لماذا كنت تسجنهم في مكان واحد، لأجل أن، تعمّ الفاحشة؟ وبمكر شديد قال الحجاج:
-لا أدري ربما كان ذلك صحيحاً، على أنني أعتقد أن أمي ولدتني تحت سقف خيمة نُصبت عليها راية حمراء. إلا أنني على يقين أنه ما جرى كان لأجلكم يا مولاي، ألم تجعلوها ولاية عهد بعد أن كانت شورى؟
-لعلّها لم تكن شورى. ثم أنت من مهد السبيل أنسيت أنك حكمت برأس ابن الزبير؟
-خرج على أمر المسلمين…
وقاطعه يزيد
- وما أدراك ألم يستجر بالبيت العتيق، وما أجرته؟
_ واستجار به في عهدك أيضاً، لا تشغل بالك يا مولاي. إنها سياسة الدولة. وما قمت به يشبه تماماً إباحة المدينة من قبلك ثلاثة أيام متتالية.
أثناء ذلك كنت أقف على الصراط. لم أسقـط في جنة أو نار. ربما لأنني كنت مجرد أنف بفتحتين واسعتين، وربما لأنني من أهل الأعراف تساوت حسناتي بسيئاتي. سرّني أن أكون من هؤلاء، فلا أنتهي إلى النار يوماً، وكانت هذه تفور وتغلي ثم تسحب إلى داخلها يزيد والحجاج، وما تلبث إلا قليلاً حتى تقذف بهما إلى أعالي لججها فيحرقهم من جديد زبدها. كنت أستمتع بهذا المشهد. أنظر إليهما ثم إلى أعلى فتأتيني سحائب من الزمن القديم، أتلقف ريحها بأنفي الباسل، أتفحصها وأحللها وأرى عبرها أطياف من غبروا. ثار يزيد في وجه الحجاج، وقال له:
-إنها إشاعة مغرضة، فأنا لم أقرب المدينة في سوء.
وردّ الحجاج
-وما بالها كتب التاريخ دوّنت الحادثة ببشاعتها؟
-كذب في كذب. لا تصدق
-وكيف لا أصدق. لقد دوّنوا قتلي لابن الزبير، ولكل من لجأ إلى مكة مستجيراً من بطشي. دونوا كذلك قتلي لابن الأشعث ولابن جبير ولكثيرين. وكل هذا صحيح.
- لأنك كلب وفي لعبد الملك وابنه الوليد. كذلك أنا كان عندي كلاب أوفياء مثل ابن زياد. أما بيدي فلم أقتل أحداً. كان يتسابق القادة لإرضائي، ولأجل هذا يجتهدون في القتل، والقتل صبراً وفي السجن. كانا يتحدثان وكانا يصرخان. أتت النار عليهما تماماً ليعودا بعد قليل بكامل هيئتهما. صرخ الحجاج :
-انتبه يا مولاي لقد أتت النار على رأسك، وتركته جمجمة فاحمة.
-وماذا أفعل لها؟
-اطلب التوبة
-ولم لا تفعل أنت؟
-سأطلبها برغم أنني حكمت العراقين وبلاد ما وراء النهر على آية طاعة أولي الأمر.
-الطاعة!! لقد فصّلناها على هوانا. يجب أن نطاع على الباطل. هذا ما جرى يا حجاج أخذنا الناس بجوعهم، ورفعنا في وجوههم لواء الحرب.
-ولكن، لقد فتحنا البلاد والأمصار حتى لم نعد نصل إلى أرض.
- الفتح عندنا كان أولاً لإلهاء الناس، لإبعـادهم عن حياتـنا. صمتا معاً وراح كل منهما ينظر إلى رجليه وهما تذوبان. قبل أن تأتي النار على الحجاج، غمس من صديده بجمجمته وراح يشرب سائلاً ساخناً متقيحاً. انتبه يزيد إلى جماعة جاءت بعدهم، نظر إلى الحجاج وقال له:
-انظر إلى هؤلاء. لقد جاؤوا بعدنا بمئات السنين.
-ما ذنبهم؟
-إنهم ملوك وأمراء مثلنا. أما ذنبهم فإنهم علّموا أبناءهم بلاغة خطبك.
هنا انتشى الحجاج، ونسي للوهلة الأولى مكانه فدفع بجذعه إلى الوراء تفاخراً، وقبل أن يأخذ جذعه مكانه الجديد مرق به لسان من شواظ قطعه نصفين، عندها صرخ الحجاج صرخة دفعت بجهنم إلى مزيد من الغليان، مما زاد في عذاب الآخرين من سكانها. علّق يزيد على ألم الحجاج قائلاً:
-إنه مجرد لسان. عوّد نفسك فأنت خالد فيها، ولك ركن خاص يشويك صباح مساء.. المهم هل رأيتهم؟
من داخل تضاعيف الألم قال الحجاج:
-نعم. نعم رأيتهم، وهل هي تهمة؟ ألم أكن من فصحاء العرب ؟
-بلا ريب.. كنت فصيحاً إلى الحدّ الذي دفع بمن جاء من بعدك، إلى تمثّل خطواتك، ونهجك. لقد بحثوا عن قبرك، ليبنوا فوقه مزاراً لهم، ولمّا لم يعثروا عليه لجؤوا إلى ورق التاريخ يقدسون من خلاله سرّك. وافرح فلقد أفلحوا في هذا، ودفعوا بخطبك إلى التدريس لوضع أركان البلاغة العربية. ثم لتسعد أكثر اعلم أنهم إنما حكموا الناس بكلماتك أنت. هؤلاء أنظر إليهم لقد وردوا النار بعدنا بمئات السنين. إنهم يعرفونك جيداً.
-لا أعلم لماذا تنسى زياد بن أبيه.. ابن أبيك. إن بتراءه أفصح خطب العرب؟
-ومن قال لك إني أنسى، ولكن زياداً حرقه النسب، واستدرجه معاوية إليه. أما أنت فما عذرك؟ لعلّ عذرك أنك أحمق من تدريسك للصبية في الطائف؟.
على الصراط وقف إلى جانبي جمع غفير، بل أمم هم مثلي من أهل الأعراف، لا مكان لهم في الجنة أو النار. ليسوا ملوكاً ولا أمراء، بل من العامة السادرة. إلى جانب الحجاج ويزيد رأيت جمعاً غفيراً من السادة، وفي لحظة خيّل لهم أنهم قريبون منا فنطّوا من جهنم إلى صراطنا، ولكن عبثاً. أما الحجاج فقد تميّز من الغيظ كما جهنم التي تحتضنه، فصرخ في وجه يزيد:
-هيه أراك تعنّفني، ولست أكثر من ماجن عربيد. أنا فتحت الدنيا أيها الوغد. أنا هنا لأنني قتلت وسجنت ولكنني بنيت دولة. أما أنت فهتكت روح الروضة الشريفة لتنام في أحضان الغواني.
استشاط يزيد غضباً وردّ بقوة:
-أنا لا علاقة لي، عبد الملك هو من خطط لما جرى، وهو الذي دلّ مسلم بن عقبة على طريق الحرّة حتى كان ما كان.
-مولاي أمير المؤمنين آنذاك استخدم دهاءه، ولكنّك من أمر بإباحتها ثلاثة أيام، لقد هتكت بمجونك عرض الروضة الشريفة
-وماذا فعلت أنت؟ لقد قصفت بالمنجنيق البيت العتيق يا كلب الملوك.
-لولاي لما قامت لكم قائمة، لقد وافقتكم سرّا على أشياء كثيرة.

كاد يزيد أن يعاجل الحجاج بضربة لولا أن عصا من نار أحالت جمجمته إلى هشيم. استغاث يزيد من حدّة الصدمة فأغيث بالصديد، يتجرّعه فتتمزق أمعاؤه.
تابع الحجاج:
-أمرتموني فأطعت… وقاطعه يزيد
-لعنة الله عليك، لقد ساعدتنا على ترويض هذه الآية، وأنخت الناس لفهمنا لها.
-هذا صحيح ولكن لأبني دولتكم.
عند هذه اللحظة، وصل إلى فتحتي أنفي نثار من بصقة خرجت من فم الحجاج الأبخر، فتقيأت وتقيأت لأغطي بقيئي ساكني جهنم بطبقاتها كافة.
لم يفعل يزيد شيئاً. جمد من الرعب، فهو أمام الحجاج دون سواه والأفضل له في هذه اللحظة أن يصمت فلا يؤلّب عليه جهنم الثانية…
انتهيا إلى " ويل " وهناك كانت الحالة أكثر بؤساً، ولكنها أكثر عدلاً، فكما الموج، تقلّبت النار في الوادي العظيم، لتخرج من أحشائها يزيد والحجاج، وإلى جانبهما " شمر " على هيئة سائل يزرب منه القيح زرباً، ويطلق الاستغاثة تلو الاستغاثة، ولكن عبثاً فلا مجيب هنا. من حول النار خزنة أشداء ذوو بأس عظيم.. ملائكة من نار، لا يحترق بنيانهم، حرّاس على سكان الأبدية في الطبقات المشتعلة بالحريق. أبدية وقودها الناس والحجارة. حجارة تبقر البطون، فتسيل من هذه أمعاء ملأى بالمهل. لم يكن أمامهم غير البكاء، ولم تكن الدموع إلا ناراً تذيب الوجنات.
في ركن من الوادي الرهيب اجتمع " شمر " إليهما، فعزفت النار أنشودة يوم القصب في "النخيلة "، يوم تقصّف ظهر النفر القليل، وأطيح بالرؤوس. كانت أنشودة حامية يزداد أوارها كلما ذكّرت باليوم الأليم، فتتقلب فوق بعضها، طبقة فوق طبقة، فتخرِج إلى أعلى سكان الدرك الأسفل جثثاً متفحّمة، ثم تجذب إليها سكان الدرك الأعلى منها، وهكذا بالتناوب، يتقلّبون فيها، وعلى زرابي من حجر مشتعل يجلسون. ثم يصيحون ويستغيثون ويتلقف الخزنة الصيحات والاستغاثات بهدوء واسترخاء، ثم يقولون لهم ذوقوا طعم الحريق.



#ماجد_رشيد_العويد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الليلة الأولى
- التماعة
- المِذَبّة
- مشكلتنا ليست في اللغة
- شهداء الغضب
- صناعة الألقاب
- حديث إلى الشريك في الوطن
- لنبدد معاً سوء الفهم
- مع وزير الإعلام مرة أخرى
- مع وزير الإعلام في الرقة
- شيء من الروح
- مع وزيرة المغتربين بثينة شعبان
- مواطن فرنسي من أصل سوري
- كلمة حب في سمير قصير
- العلاقة الخاطئة بين الحكام العرب وشعوبهم
- البعثيون السوريون في مؤتمرهم القادم
- البعث مفرخة للشعارات وفقط
- ماذا عن الخيار الثالث


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد رشيد العويد - في الجحيم