أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية















المزيد.....



العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4591 - 2014 / 10 / 2 - 20:02
المحور: الادب والفن
    



مقدمة الطبعة الجزائرية

بقلم د. أفنان القاسم

هجو وقذع... فأية كلمة تستطيع وصف البذاءة التي يعيشون فيها؟
محاولة في لغة لا يفهمون غيرها


"لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث: كريمٌ قُصّر به عن قَدْره فاحتمل لذلك ضِغْنًا، أو لئيمٌ بُلِغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بَطَرًا، أو رجلٌ مُنِع حظه من الإنصاف فشكا تَفْريطًا".

من كتاب العِقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي


"كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفَت غُمومُهُ، وأَشْكَلت عليه أمورُهُ، واشتَبه عليه حالُ دَهْرِهِ ومَخْرجُ أَمْرِهِ، وقَلَّ عنده من يثقُ بوفائِهِ، أو يَحْمَدُ مَغَبَّةَ إخائِهِ، لاستحالةِ زمانِنا، وفسادِ أيامِنا، ودولةِ أنذالِنا".

من كتاب إلى إخوانه في ذم الزمان للجاحظ



"العجوز" قضت عامين من عمرها المديد وكأنهما قرنان لثور اغتيل غدرًا! قضتهما وهي أفلام لدى دار الثقافة الجديدة في القاهرة نزولاً عند طلب محمود أمين العالم الذي قال لي في مقهى بجوار اليونسكو: "أعد صفها وصورها لي والورق مش مشكل ولا حاجة كده بعمل مع دار الفارابي وأنا أعدك بإصدارها خلال شهر!" ومضت شهور بل سنون وهي أفلام، يا رب القلم والكتاب، إن كان للقلم والكتاب رب! أي أن سحبها لا يحتاج إلى أكثر من بضع ساعات، ولأوفر على صاحبة الدار مائة فرنك ورق اتفقت مع دائرة الثقافة في منظمة التحقير الفلسطينية على إدراجها في برنامج نشر الدائرة مع الدار –أقول "برنامج" اعتباطًا لأنها كتبهم وكتب من يدور في فلكهم- لكن خسة البعض في الدائرة ووطنجية البعض الآخر حالتا دون نشر الرواية.

* * *

فهي أسماك تأكل أسماكًا!
أسماك كبيرة تأكل أسماكًا صغيرة أو أسماك قوية تأكل أسماكًا ضعيفة! قروش تأكل حيتان وحيتان تأكل كلاب البحر! مثقفون يأكلون مثقفين! مثقفون كبار يأكلون مثقفين صغارًا أو مثقفون أقوياء يأكلون مثقفين ضعافًا! روائيون يأكلون شعراء وشعراء يأكلون قصاصين وقصاصون يأكلون قصاصين آخرين! آه، كيف تتحول المؤسسة العربية إلى بحر مفتوح للسمك المفترس! كيف تتحول المؤسسة الثورية إلى مجرد مؤسسة عربية والمثقف الثوري إلى مجرد موظف والحزب الثوري إلى مجرد عشيرة أو طائفة أو مطية لهذه أو تلك يركب عليها الشعار الحلو والوعد الجميل والكلام البراق، وفي الحقيقة هي أسماك تلتهم أسماكًا، المثقفون هنا حكام والحكام هنا مثقفون والمثقفون الحكام هنا قروش على شكل أقزام أو أوثان، ومن هؤلاء وأولئك، في بحر السلطة التسلط المتلاطم، هناك من يميز بين كاتب فلسطيني أو عربي أو صيني وآخر على أساس أن هذا صاحبنا وذاك ليسه، أن هذا قرش منا وذاك ودعة أو دويبة زحافة، أي لموقفهم الشخصي منه، فالمواقف السياسية أو الأدبية لديهم تتحول تحول الوجوه المترهلة لإله الموج "تريتون"، وأن هذا بالتالي فطحل من فطاحل الأدب وذاك إسكافي أكثر موهبة منهم كلهم حتمًا، ثم يأتون وينصبون أنفسهم قضاة أورشليم علينا وهم الضالعون مع روما في خططها النعال لقيصر، هؤلاء الذين يقيمون مهرجانات ثقافية للراحة والاستجمام باسم الانتفاضة المدعوون إليها أدباء ألوان حراشفها بهتت أو أنها في أصلها باهتة، مهرجانات أسماك فيما بينها تصفق لبعضها، تضحك لبعضها، وتدهن لبعضها.

* * *

يرمي الموج في طريقك شويعرًا من فصيلة السردين حاقدًا ومكروهًا صارت له قيمة في المؤسسة الدائرة لأنه حاقد ومكروه، رفض نشر مسرحيتي "أُم الجميع" لما كان رقيبًا عسكريًا لأنها تنتقد وتدفع إلى نرفزة الديمقراطيين، فأين هم في دائرة الثقافة؟ وأين حرية النشر والكتابة؟ حرية الرقيب العسكري الفلسطيني نعم حين يعطي لنفسه دورًا فاشلاً في أحد الأفلام التي تنتجها دائرة السخافة –قول أستعيره من محمود درويش فشكرًا للقول- والتي ميزانياتها تقدر بعشرات آلاف الدولارات أو لما يكتب تمثيليات مدرسية وهزليات لاقت فشلاً ذريعًا لكنها أدرت عليه وعلى زبانيته من بعض الانتهازيين المِصريين دولارات وفيرة، لا يتقن في الصباح أول ما يدخل غير: برلنتي عبد الحميد فعلت وهند رستم خلعت! فهي حصيلته الثقافية ليوم عمل لم يبدأ، كان يزمر في أزقة مخيم حمص الدموع ومخيم اليرموك في الوقت الذي يصنع فيه شعبنا شعب المخيمات ملاحم الصمود، وصار يلبس غرافات، ويدعى إلى باريس، ويعطي أوامره بنشر هذا الكتاب أو عدمه –أريد القول إعدامه- وهل يجود الحيا، يا أبا العلاء المعري، أناسًا منطويًا عنهم الحياء؟ بينما "العجوز" رواية يعتبرها النقاد من كلاسيكيات الأدب العالمي، تظل بريئة وإن أخطأ صاحبها أو أجرم، هذا إن كان هناك خطأ أو إجرام، لم تعد ملكًا لي، وإنما ملكٌ للشعب الفلسطيني. طالبت بإحقاق حقها وبالمساواة في المعاملة بين كل الكتاب الفلسطينيين على قدم وساق وليس على قدم منشار وساق بَقّة، فاتُهمت بالابتزاز وبالإساءة إلى من هم أحسن مني، فمن يسيء إلى من؟ ومن يبتز من؟ دائرة للسخافة مثل هذه لا تمثلنا، كيف تمثلنا وهي لا تمثل إلا أصحابها؟ كتب أصحابها التي تنشر، وأفلام أصحابها التي تصور، ومسرحيات أصحابها التي تمثل، ومياومات أصحابها التي تؤكل وتلهط. وماذا عن أخطائهم المصيرية التي تجرنا في كلِّ مرةٍ باخرةً غرقى مائةَ عامٍ إلى الوراء، وكذلك سوابق أسنان سمكهم العدلية التي تقضم سمكًا تطحن سمكًا في الأردن ولبنان وتونس وكل مكان يذهبون إليه من فنادق الدرجة الأولى حتى محطات الإذاعة والتلفزيون والأعمدة المشتراة ومهازل مباكي السلام الاستسلام؟

* * *

تترك الشويعر يعض أدبنا بقصيدة، وتتفق مع رئيسه، ولديك ورقة موقعة بقراره، فتجد أن ما اتخذه من قرار بشأن "العجوز" كلام فارغ وفقاقيع ماء مثل معظم القرارات الأخرى التي تتخذ هنا وهناك في بحر فلسطين وعلى كل المستويات! ولماذا لا يجيب على عشرات الرسائل التي يكلف سائقه بفتحها وعدم الرد عليها، ويتخبأ لما تطلبه على التلفون؟ علمًا بأن الرجل لا يحمله كرسيه لهول ما ينوء به من شعور بعظمة القرش الذي يرتديه، يستوزر عليك بفتح بابه المصفح وغلقه وذلك بالضغط على زر بقدمه، ويزنك بمدى خطرك المتوقع على منصبه، منصب في منطق القروش سلطته وتسلطه وضربات فكه، فإن كان قليلاً أعانك على كثير، وإن كان أكثر من قليل بقليل محقك على قليل، استوزر عليّ هو ودكتور أعرج وأعمى وأطرش متعجرف بحث عنه غسان كنفاني في مزابل ألمانيا حتى كل البحث دون أن يجده، وهذا بدوره يستزلم عليك ويتآمر مع واحد يلطمه أبو عمار كلما أراد منه شيئًا لا أدري من أين هو؟ أمن خُدعةِ الحربِ هو أم من خُدعةِ البصر؟ لهضم حقوقك، فأين هي حقوقك الشرعية، يا شعب فلسطين، والقروش هي الهاضمة للحقوق القاضمة لها بالأسنان والأنياب والقواطع، فهم يسرقونك عينك مخك، ويتغطون منك بتفسير القرارات حسب أهوائهم وحسب مصالحهم وبالإذلال بينما هم في أفعالهم أذلاء لهم منك الاحتقار وكره السمك الملون في بحر غزة، ينطبق عليهم قول الذي سأل: مَنْ أَلأم الناس؟ قال: مَنْ إذا سأل خضع، وإذا سُئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهره جشع، وباطنه وسخ! ومَنْ أجهل الناس؟ قال: مَنْ رأى الخُرْقَ مغنمًا، والتجاوزَ مَغْرَمًا! إذا كانوا يحطمون المؤسسات الوطنية في الوطن فهل تريدهم أن يريحوك، فتعمل، وتنتج، وتتقدم، اليد باليد والكتف بالكتف لأجل تلك المرساة فلسطين؟ فأنت ليلاً نهارًا تفكر في درء خطر العيش، العيش المجرد ومجرد العيش، عنك وعن أولادك ممن هم من لحمك ودمك فتهنأ إسرائيل، ألا فلتهنأي، يا إسرائيل! أحبي ذويك، وارأفي بهم، واحدبي على أبنائك، لا تقهريهم، ولا تشلي طاقاتهم المبدعة، ونافسينا في حب التي قاتلنا لأجلها واليوم نقتتل فيما بيننا لأجل إثبات الرجولة التي أنكرتنا، حقول البرتقال تشهد على حب أهلنا وإن غدت حقولك، وحقول الشوك تشهد على كرهنا لبعضنا وحقدنا الأسود من وجوه مناضلي سيارات المرسيدس المصفحة في المنزه الخامس والمنزه السادس والمنزه السابع ومنزه ثامن ابن أبي هَرْف شريك الإسرائيليين في شركات ماس أفريقيا وأخشابها وجلودها وحشيشها وبناتها المنعدم الشرف لديه وكل الألقاب الكريهة لا تكفي فيه بعد أن تغوطت عليه فلسطين، وأخيها المنزه العشرين، من أبعد ساحل للقروش في تونس إلى قِفا نبك من ذكرى بغيض ومنزل ابن أبي مسامكة في قصره باليونسكو، ستحكي شهرزاد عن عجيب قصصه قصص قرش صغير من قروش مكاتب منظمة التعريص أو قواودتها، قواودة سقطوا ولم يزالوا يتشبثون بكرخاناتهم المنهارة في السطور القادمة، ولتعيشي، يا فلسطين، أنت التي توحدين بين أبنائك على حواف الموج وتقدّرين لهم أصغر فعل لأجلك وأكبر فعل لأجلك صغير مثل لؤلؤة يشكل البحر بها خصرك، وتعالي لتري كيف يكافئنا الذين هم من لحمنا ودمنا بالنحر أو الانتحار حتى وإن حمل الواحد منا على كتفيه كل بحار القضية، البحر الأبيض المتوسط وبحار الدم أكثر من آلهة الأولمب ثلاثين عامًا وكتب عنها ولها ثلاثين كتابًا أفقدته ثروته وصحته وحياته!

* * *

لكن هذه قصة أخرى.
ستكون واحدة من أقاصيص فاضحة مفضحة ماتعة ممتعة لكتابي القادم "أربعون يومًا بانتظار الرئيس"، كتاب سأهديه إلى ياسر عرفات لا إكرامًا أو تكريمًا ولكن ليكون له ولغيره عبرةً واعتبارًا، هذا إذا ما اعتبر، وإذا ما عرف أن التقدير نصف الكسب، فأين هو في عالم الأوباش؟ أوباش يأكلوننا اليوم وغدًا سيأكلونه بعد أن يفلتوا من يد الصائد التي له، وذلك ليقيم ثورة داخل الثورة في بطن البحر–دعوني أمارس الاستمناء- قبل فوات الأوان، وإذا لم يفعل فعلنا نحن المرجومون العُصاة، فالثقافة حرية لا أمية ولا اضطهاد، والسياسة كرامة لا عفن ولا كافيار، لتكون للمثقف والوطن هويةُ جميلٍ لن يدفعنا إلى قول ما قاله غيرنا في سِفْرِ يونس الجاعل من بطن الحوت بيتًا وحصنًا: أن طُزْ في مثل هذه ثقافة هؤلاء مثقفوها أو جلادوها، وَطُزْ في مثل ذاك وطن أولئك سياسيوه أو شاوشيسكيوه! قول حق يقوله المثقفون المنفيون العرب الذين هم زينة الحياة الدنيا المتقمهون في أوطانهم أو خارج أوطانهم بعد أن غدا الوطن جزيرة وغدت للتصيد والتسلط هوية الشنيع، ولنحفظ على شعبنا كل ما هو عذبٌ في البحر، لنحفظ عليه كل قطرة دم غالية بذلها في سبيل الحرية لا في سبيل تنصيب حكام بني قرش القامعين القيمين على مقدرات منظمة التحرير الأم والابنة لنا في آن لا الزوجة والضرة لهم قبل فوات الأوان المحولين لحقوق الشعب الفلسطيني الشرعية إلى حقوق حكمهم الشرعي له –وهذا هو مفهومهم للممثل الشرعي والوحيد- في حفلة اقتطاع الحصص من حوت الحل الأمريكي، لأحفظ على مفهوم الممثل الشرعي والوحيد مفهوم حريتي التي هي حرية المشي على أرصفتك يا رفيديا ويا الشويترة ويا الياسمينة ويا عيبال الجبل الذي تنفتح عليه الطرقات...لأحفظ عليّ حريتي، حرية المثقف بدون وصف، فلن أقول عنه: لا الحقيقي ولا النزيه ولا المسئول، يكفي أن نقول عن المثقف مثقفًا فننعته بكل النعوت الكريمة، لأحفظ عليّ حريتي، فقط حريتي، حرية طائر في دغل، ولأحفظ الشاعر الملعون في الأدب الفلسطيني أوسع الأدغال.

* * *

يكون لك صديق فرضته الصدفة عليهم، من نوع السمك البوري البّيّاح، سمكة نزقة مثلك، من المفترض أن يكون فاهمًا لك أكثر من غيره، يغررون به في زمن العواصف، زمن ما أحوج خراف البحر إلى التعاضد فيه، زمن خنازير البحر التي تُظهر عن أنيابها، زمن "ستريبتيزات" التماسيح الأقبح من كل تماسيح النيل، زمن الغادسيات، زمن الأخطبوطيات، زمن جراد الماء، زمن الهزائم والغبائر، زمن المناكح... يُغْشِي عليه البصر قروش من أين تقضم الكتف، فأنا لا تقضم كتفي، وليس لهم مني مصلحة أسماك تأسن من كنوزهم، هو من يعرف أنهم إذا ما قالوا في تحريرها فهم لا يرون سوى تحرير ذات فكهم ومخلبهم، والتحرير عندهم –يسعدني التكرار- أن يروا أشكالهم الوسخة حاكمين لها لا لثورية حوت ولا لوطنية دلفين، فالتحرير في قاموسهم اللغوي له مرادف أوحد أن يحكموها هم لا أحد غيرهم ممن هم أحسن منهم بكثير، إذ لم تأت حوريات فلسطين بأسوأ منهم، بمعنى أنهم لا يرون في تحريرها إلا سلطة السوط والسيف عليها: قمع الفرس الأعظم وتسلط التروس واستعلاء السلطان إبراهيم وكل الواطين كباقي الذين جربناهم من عرب أولي أمرنا الأذلاء المذلين من قروش المحيط إلى غاقات الخليج الجبارين المتجبرين، فلا بانتفاضة هم يحلمون على شكل ربة رائعة الجمال ولا بسفينة حرة لها علم ودولة وإنما بفلسطين على شكلِ كرسيّ، وبأنفسهم رُتَيْلاً حاكمة، أو منطقةٍ في المرأة محرمة يتاجرون بها وقد غدت السياسة لديهم تجارة قانونها الخسارة والخسارة بعد أن يجعلوا منها بيت تغوّط وتبوّل لكل من يسعى من أسيادهم لقضاء حاجته في اللحظة التي لا يبقى فيها غير الوسخ في الإنسان حاجةً ومرامًا، فالكل عليهم بالتتجير سيد من أولئك الأسياد العبيد الداعسة على رؤوسهم بالنعال أمريكا، وهذا هو مفهوم ألا نتدخل في شئونهم وألا يتدخلوا في شئوننا وهم على أكبادنا قابعون، أو ماخورٍ للعموم! آه، كيف يكون العقاب عاقبة! عقاب النفس للنفس وعقاب الآخرين لها مغبة سوء النصر عند إغراق أعدائنا لمراكب أصدقائنا!

* * *

لم تغيرهم حرب الخليج، فها هم أسماك أخرجت من أبدانها ذئابًا كل ذئب يتربص بأخيه من كثرة الخوف على كرسيه، بعد أن نفدت الدولارات، أصحيح نفدت؟ حتى القيادة راحت تخشى على مصيرها بعد أن لكزتها أمريكا بقدمها لا تعرف إذا ما كانت تقود دفة أو تقاد قطيعًا من سمك الصين! أتظن أنهم وقفوا إلى جانب العراق لوطنية حوت أم لأن شعبنا الخائض في الوحل أراد ذلك؟ وقفوا لأن أمريكا ضربتهم بقدمها في قفاهم وإسرائيل أرغمتهم على التكتكة، تكتكة من يجيئوا إليها صاغرين! فماذا يفعلون اليوم غير كش الذباب والتبجح بأنهم لم يكونوا مع العراق في احتلاله الكويت وأنهم كانوا معه في اجتياح أمريكا له: دبلوماسية صَلّ هي الدبلوماسية الفلسطينية العبقرية! ماذا يفعلون اليوم غير طرق أبواب السعودية لأموال السعودية؟ أصحيح ليس لديهم أموال وهي بالملايين موظفة عبر البحر أو معطاة لأمطار هدمت جسورًا في قابس وللباكستان؟ ولأن السعودية طريقهم القصير في الذل والضباب إلى أحضان أمريكا، فقد عفا الله عما مضى، والجرب من العرب أخوة في الدين، وكأن حرب الخليج التي قصمت وقسمت وقطعت وفصلت لحم السمك الأبيض عن الأسود ما وقعت، إلى جانب إطلاق بالونات الاستسلام الوطنية البالون تلو البالون ككل المتشاطرين على ظهرك أيها النازليّ من جنس القُدّ كي يوسخوك، وفي اللحظة التي تجد فيها نفسك في ورطةِ مَرْجانٍ لا مخرج منها سيلقون بك إلقاءهم بجرذ اغتصبه صرصار في حي القصبة، ألا تفهم هذا، يا السمك الضَّحَّاك؟ ليس لأنك قيادة ومقرب، فالقائد من قياداتهم اليوم من الممكن أن يصبح في الغد بوابًا، بوابو أبي جهاد غدوا في غيابه الفذ قُوّادًا ثم عادوا إلى أصولهم المخمّجة بوابين مترهلين كلُّ واحدٍ منهم عَنْقريطٌ ينافس عَنْقريطَ مدعوسين بالصرامي، وكذا المقرب يُبعد بهمسة في أُذن الاختيار، فإني رأيت وشاة الكلام لا يتركون أديمًا صحيحًا! سيبيعون اللي قدامهم واللي وراهم من الضفة والقطاع كي ترضى عنهم عصا أمريكا وتعمل على أن يقبلهم شامير القرش الأشمر (يعني الأرهب) الذي لن يقبلهم مع أن القطاع والضفة نهدان ضامران لآخر حورية بقيت لنا، وإلا لِمَ جاءت تصريحاتك يا السمك البَكّاء؟ تصريحات طُرْسوح غبي لا يفهم شيئًا في السياسة وأبسط قوانين السياسة تعرفه كل البحارة: أقعد مع خصمك أولاً ثم حاوره بالتي هي أوسخ! ألا تسمع لقروشهم المنتشاة بالانتصار علينا وبإرادة قهرنا لا تكل عن ترداد كل أورشليم لنا وكل يهودا والسامرة وإن أحببتم أم كرهتم كل البحار التي لكم هي لنا وكل المعمورة! فسلامهم ليس بيننا وبينهم على الأرض ولكنه تنافس اقتصادي على البحار بينهم وبين أمريكا لاحتلال العالم العربي، تنافس بين قروش قوية وأخرى أقوى أو تكامل وتنافس. لا، لم تغيرهم حرب الخليج ولا أية حرب غيرتهم، ولن يمحي وسخ جلودهم إلا بامحاء فلسطين سلحفاتنا، والناس منهم اليوم أكثر من أي وقت مضى مشمئزون، يقيئونهم دونما حاجة لهم إلى دوار البحر قيئهم للبقية الباقية من حكامنا، فلا انتخابات جاءت بهم كما يدعي بعض المرتشين في الأراضي المحتلة أو الذين يأملون بالارتشاء، ولا هم أهل لمؤسسة شرعية علينا واجب عدم تجاوزها، بل هم عصابات غُبَر ملفقة ومافيات تُخَس منسقة لا يعرفهم شعبنا المصارع للموج حق المعرفة، لوثوا بعضه بدولاراتهم وحرفوا سمكه الطائر عن الطريق بعد أن أذهبوا تعبه سدى أو في تعبه وجدوا راحتهم!

* * *

أعتب على من لم يرفع إصبعًا واحدة في وجوههم الذميمة ليقول: "ولو! هذا أفنان القاسم البحار التعب، لا يحتاج إلى شهادة من أحد! وهذه "العجوز" السمكة الشابة، ما ذنبها؟" عندما عجزوا عن نقدها أو صيدها راحوا يتهجمون على شخصي ليمنعوا نشرها، هو من يُعَلّمُ الناسَ أن النقد الموضوعي لكتاب في مدحه أو قدحه أمر واجب أما لكاتب يشرفهم كلهم في شخصه وسلوكه وأخلاقه فانحدار إلى أدنى درك للحقارة والانحطاط والسفاهة –أيا دائرة السفاهة- تلك التي يحق فيها ما يضيفه رهين المَحْبِسَيْن: خَسِئْتِ يا أُمنا الدنيا فأُفٍّ لهم، بنو الخسيسة أوباشٌ أخساءُ –أيا دائرة الخساسة- فماذا أقول في هذا "العالِم" بعد كل الذي أجراه، أنا من كنت أعتبره فيلسوفًا معلمًا لا وثنًا قِنْوًا، وأهديت له أطروحتي في دكتوراه الدولة، عمل عمر قضيت في كتابته عشر سنين مبحرًا، اعترافًا مني بأستاذيته عليّ، بل راح يطبل مع المطبلين من قروش النقد ويزمر: "أخوه يتلفن وأخته تتلفن وأمه تُتَلْطِم!" وأجدني اليوم على أحر من الجمر وأنا الماء لأهدي أطروحتي في طبعتها الثانية إلى كلبٍ وفيّ يكونُ سَلوقيّ العِرْقِ بعد أن فاضت البحار بكلابها، فقد أحسنت قولاً، يا أبا العلاء العظيم، عندما شجبتَ: أستقبحُ الظاهرَ من صاحبي، وما يواري صدره أقبحُ، سُبِبْتَ بالكلبِ فأنكرتَهُ، والكلبُ خيرٌ منك إذ ينبحُ... كان الرفيق الفيلسوف القرش المناضل لما التقيته في باريس قد أبدى غضبًا واستنكارًا لمعاملة سيئة كانت لي من طرف جمال الغيطاني، تلك السمكة المفتتنة! أما الآن فأرى جمالاً لم يسئ لي البتة بالمقارنة مع كل ما فعله فيّ هذا الشخص الخرف، هذا الفك الساقطة أسنانه، مثله مثل كل تلك القروش/الذئاب التي تدعي كتاباتها أنها الحامية للثقافة العربية وللأمة العربية وللجماهير العربية، أسماك سليمان العربي، إلى آخر الأكليشيهات الستالينية، بينما تتهاوى وهي تتشخلع بخصور أصحابها الرقاصة على قدمي ورقة نقد بالعملة الصعبة.

* * *

رسالة واحدة لم تجب عليها، فقط رسالة واحدة من مئات الرسائل التي أرسلتها إلى صاحبة دار الثقافة الجديدة (جديدة بالكلام) بعد أن جعلت من أفلام "العجوز" رهينة لديها لم تفرج عنها إلا حين هددتها باللجوء إلى القضاء إلى آلهة البحر الطالحة، فأعادتها إليّ في الغلاف ذاته المرسلها أنا فيه، أي أنها لم تتفضل حتى بفتحه طوال عامين والأفلام متربعة هناك مترفعة بين قروش "التقدمية" وصَدَف "الاشتراكية"، حتى ولو بكلمة اعتذار صغيرة لم تبعث! وكل معاناتي ما كانت إلا لأجل عبني بهية، فلست بعاجز عن نشر كتابي العشرين أو الخامس والعشرين أو الثلاثين في أي مكان آخر أو جزيرة، ولأجل عيني القارئ المِصري، قارئ أردت لأجله أنانية النحلات التي لا تطعم العسل إلا لأخواتها، أن يقرأني هو لا عملاء الصمت، علمًا بأن مؤلفي "كتب وأسفار" قد صدر في القاهرة لدى الهيئة المِصرية العامة للكتاب بدون وساطة من أحد لأن الجودة الإبداعية جواز سفري الوحيد عند الناشر والقارئ والقرصان.

* * *

أما الوجه الثاني لمدالية التنك الصدئة فعلى علاقة بقروش المكاتب، بملوكها المهترئة عروشهم لكثرة ما احتكت أقفيتهم بها وهم عليها قابعون منذ مولدهم عشرات السنين من عمرهم الذليل. يتغير سفراء، ويذهب حكام، وتقوم حروب، وتزول دول، وتنشف بحار، وهم دومًا ههنا بوسخهم وعنترياتهم وبكرهنا لهم لا يزالون على أكبادنا قاعدين. ذات صباح، طلعت على قلمي وكتابي حشيشة القمر الحولية، فكتبت لوزيرنا الوحيد أن اقصهم جميعًا من الماء إلى النار المهلكة وجئ بالمخلصين الجديرين من شبابنا سمك الفضة النابض بالحياة لتذهب بجديدين إلى المرحلة الجديدة، وليكن لنا انتقال الحق كما يقال في القانون أو الأيلولة، لكن معاليه –هذا المتطيز- لم يتفضل بالإجابة على رسائلي العديدة دأب كل الوزراء المتأدبين في العالم، فتلك عروش نخرة هي في حقيقتها مستنقعات ترتكز عليها سياسة الفشل من فشل إلى فشل التي يديرها، وهؤلاء يداس عليهم بالنعال ليقولوا نعم أيا بني نعم، وهم إن كانوا في حقيقتهم قروشًا صغارًا أخذت أشكال أشباه الملوك، فلصورة عن إمبراطورهم، لأن العين إذا فسدت فسدت سواقيها، هم في العجرفة والفظاظة مثله (ولو كنت فظًا غليظ القول لانفضوا من حولك) وسياسة إدارة الهزائم التي تفسخت (من فسيخ)، فيا ابن عبد ربه الأندلسيّ لا فائدة مما قلت في كتاب اللؤلؤة في السلطان عن الأحنف بن قيس: من فسدت بِطانته كان كمن غَصَّ بالماء، ومن غَصَّ بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثِقاته فقد أُتِيَ من مأمنه، فهؤلاء، المكاتب مُلْكٌ لهم ولورثتهم من السمك المعفن من حياتهم إلى مماتهم، وكل دول العالم، القمعية أولها، عندما تفشل سياسة أحد يجري تبديل هذا الواحد غير الأحد بواحد آخر وبسياسة أخرى، لكننا نحن لسنا جزءًا من العالم، نحن على حدة، على أدمغتكم حتى القهر أو القبر، ومن لا يعجبه فلا يستبقي ماء وجهه، بعد أن أعدموا المروءة، في الوقت الذي ينعدم فيه ماء وجوه قروش ملوك مكاتبنا الذين يرتدون لك أقنعة صغار القُرَيْدِس، ويأخذون بإطلاق سَجْع الحمام، فكيف يخدعك من هو من جسدك في اللحظة التي يشيع فيها البعض في الجزائر إشاعة مفادها أن القيم على مكتبنا يريد أن يمنع دخول روايتي "القمر الهاتك" الصادرة في عمان إلى الجزائر، ليتفوق بذلك على الرقيب العسكري الإسرائيلي في علم الجوهرة، رقيب سبق له أن منع روايتي "المسار"، أضخم رواية عربية ليست حتمًا أسوأها، صدرت في أوائل الثمانينات، وصادر الطبعة الثانية من روايتي "العصافير لا تموت من الجليد" قبلها، أما الذرائع التي يبرر بها ما لا يبرر: الرواية "تتهم" الجزائري العادي بكل مصائب الفلسطيني العادي خاصة عندما تطرقت إلى مسألة متقاعدين تقذفهم الوزارة في مزابلها أو مقابرها بدون حق التقاعد كحيتان تُدفع إلى الموت دفعًا! وكذلك تواطؤ المكتب في إذلالهم، علمًا بأن الرواية لا تتهم فقط بل تندد وتدين سلطة القروش وقوانينها المجحفة في حق البَلَم الجزائري والصِّبر الفلسطيني على حد سواء بما فيها سلطة قروشنا، قروش أنطقت فِرجيل بلسانها ما يلي: لو يقرأ الجزائريون الرواية لصارت مذابح يقترفونها في حق الفلسطينيين...! ألهذه المذابح تُمنع الرواية أم لأنها تكشف عن الفضائح وتقول في مذابح ستقوم بها القروش في حق سمكنا وسمكهم، وبالفعل قامت!

* * *

ثم يأتي من يقول ما لم تقله الرواية: إنها تشوه سيرة المناضلين! بينما جاءت الرواية بشخصيات حسيبة بنت بوعلي وعلى لابوانت والعربي بن مهيدي وآخرين غيرهم ووضعتهم في أنين الريح، في إطار فني يعاصر واقع الجزائر اليباب المتردي اليوم، ومن خلال الجزائر كل العالم العربي الفائض بالرمل، ونظرت إليهم من زاوية انهيار شامل أودى بكل ما هو نضالي، بكل ما هو جميل في الثورة إلى هوة البؤس الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، فكانت لهم مهمة فنية غرضها الفضح والكشف وزلزلة الإنسان الجزائري الفلسطيني العربي، هزه من أعماقه (لو بقيت له أعماق من المستطاع هزها) لينهض من سبات معاييرهم وقيمهم المشوهة له، فيقوم على سطح الماء بعبء التغيير (لو أمكن... هل يمكن؟) وحق رغيف الخبز لا الموز الذي يباع الكيلو منه بمائتي دينار وزجاجة الكوكا كولا بمائة وسبعين وكيلو الثوم في أرض الثوم أيا أرض الثوم بأربعمائة... في وضع ينهار كل شيء معه في الجزائر الهاربة منها السفن أيبقى ماض نضالي لأحد؟ أيحمي الجزائر هذا الماضي من حاضر أجمل ما فيه وجوه حكام دميمين دمويين أرادوا بالماضي أن يأخذ هذا النهج وهذا الشكل، الدم يوم ينعدم المصل بعد أن عهروا كل شيء، وأنهوا كل شيء، ودمروا كل شيء، حتى البطاطا في أرض البطاطا أيا أرض البطاطا التي كانت الجزائر الطيبة تطعم منها كل فرنسا غدت أكلة للسفراء!

* * *

وأجدني أصرخ بالقراء الذين مشت عليهم "غيرية" غيري على غيري ألا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تكتفوا بقراءة الصفحات الأولى من الكتاب أو بشذرات منه على الرغم من أنها تفترض حالة درامية لحسيبة بنت بوعلي ولعلي لابوانت وللعربي بن مهيدي تفترضها افتراضًا لغاية فنية ليس غير، لاستفزاز تلح عليه كلمة الغلاف، ولتشويش كان هدفًا لرامبو في قصيدة قلبت معايير الشعر الحديث في الكون رأسًا على عقب ضاربًا بها نعل الريح، ولوعيي الأكيد الشديد لشخصياتي أعود وأسجل حالما تنتهي مهمتها الفنية في النص عظمة نضالها وخصالها كأي تَمّ عندما نعرف أن التَّمَّ هو الإوز العراقيّ، أي أن النص يعيد إليها ماضيها المجيد بعد أن ينزع عنها اغترابها القسري السلطوي.

* * *

هذه صيحة في بحار قروش مكاتب لا حاجة لها إلى أمواج تنهار بدءًا من قرش مكتبنا الصغير التعيس في باماكو الأصغر الأتعس الراشق بالسهام إليه، حبسه أبو عمار لاغتصابه قبلة من فم آخر حورية بقيت لنا دون أن يرتدع إذ لم يزل يختلس رواتب موظفيه من بين ما يختلس القامع لهم وهو المقموع، فكيف لما يقمع المقموع مقموعين أكثر منه؟ المدمر لحس الدبلوماسية لديهم، حس بمثابة المد والجزر للأمواج ومنه يستمدون إنسانيتهم، ليمحق كل ما هو إنساني فيهم، فيغدو الواحد منهم أنشوفة طوع قدميه هو المسبّح تحت الأقدام تمامًا كما يفعل أي سجان كان بحارًا وصار جلادًا في الأرض المحتلة، يفتح الرسائل، ويراقب التلفونات، ويرسل الجواسيس، في الوقت الذي يزرع فيه المانجا وغير المانجا من موز مخمج وبرتقال محمض وأراشيد هارون الشديد بأموال منظمة التحرير، ويصدرها باسمها لحسابه الخاص. هذا وقد اكتشفت السلطات الجزائرية مؤخرًا في مطار هواري بومدين أدوية موجهة إلى مالي بحوزة أجنبي، فهل هي موجهة إلى سفارة فلسطين؟ علمًا بأن العيادة الفلسطينية تشتري الدواء دينًا وقرش السفارة –بل قرشها وأخطبوطها- يبيعه وهو يتفرج! فهنيئًا بأبي اللطف بسفرائه تجار الأوجاع الأماجد مصاصي الدم يوم ينعدم المصل صُناع الهزائم! وواحسرتاه على دولة تعتمد مثل سعادات هؤلاء السفراء السفاحين الجهلاء جهل الغبيين وجهل الأميين بعلم الأخساء أحمد الشيطان وأحمد عبد الرحيم وأحمد حماد في غينيا-بيساو سارق بواخر الإسمنت وبواخر العار القياديين القوادين المقودين الذين كان الواحد منهم جامع خراء أو عامل جهاز من غير أولئك البسطاء من عمال الأجهزة الشرفاء الرافعة لهم فلسطين الحنان فلسطين الحنين أكثر من تحية وسلام! صديقه موسى طراورة أخذه الشيطان إلى جهنم وبئس المصير وهو لم يزل قرشًا مسخًا على عرشه من المهد إلى اللحد كباقي إمعاتنا الخالدين من أشرار الملوك، فخيرها، يا ابن المقفع، من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيفة حولها النسور، فلنذكره بالفادي كونتا الذي قُتل بظروف غامضة بعد أن لطش منه أربعين مليون من الفرنكات الإفريقية، والممرضات اللاتي يَرْشُنَّهُ لأجل إرسالهم في بعثات إلى القاهرة بينما هي تجري على حساب الهلال الأحمر الفلسطيني، وكذلك السبعمائة دولار عدًا ونقدًا ثمن جواز سفر مالي يعطيكه في الحال، وناقلات البنزين التي يسعى إلى حوزتها بقوة السيف والتهديد والإطاحة بوزير من لدن العربي بشير... هذا ما نقلته زوجه الطيبة مريم التي أعطاها موعدًا في الليدو، فبصقت عليه. أما عن رواتب موظفيه كان ولم يزل يسرق معظمها فالفلوس لم تصل بعد أو أن خزينة السفارة لا نقود فيها. فلنُشْهِدْ عليه مامودو كايا سكرتيره الخاص المدني، رفع عريضة لأبي اللطف يشكو إليه الانحطاط الاستغلال وكذلك ممارسات السفير اللادبلوماسية الجائرة في حق موظفيه وفي حق القضية بعد أن صارت له القضية قضية سرقات ومكاسب شخصية عائلية تسيرها عائلة عديم الذكر "أبو رباح" ونسيبه "اللي الله ما يربحه"! الجاهل المطرود من الأردن صاحب جواز سفر موريتاني على التأكيد مزور! وبصفته عميدًا للسلك الدبلوماسي تصله مساعدات من كل حدب وصوب يلطشها ليس آخرها كراتين المعلبات المهداة من السفارة الكندية، يعرف كل هذا غازي الجبالي النائب العام.

* * *

أما أخي المحامي أيمن، السكرتير الثاني، فقد عزله عن كل عمل إداري لأن حذاءه أشرف منه، وهو يخشاه لعينيه الصادقتين الكاشفتين للأسرار اللتين لا تهابان تماسيحنا النذلة تحت ذريعة أنه خدم الجزائر أكثر مما خدم فلسطين، وهو من كبر في الجزائر لما جاءها طفلاً وعلى قدميه تركع كل حوريات حيفا. مرورًا بقرش اليونسكو الأمي المرتدي ثوب سمك الكراكي تارة وتارة ثوب سمك موسى اليهودي، وذلك حسب ظروف القضم والهضم العائدة عليه بالمصلحة القاعد منذ عشرات السنين في نفس المكان المظلم لا يحس بالزمان يمر عليه وهو طول الوقت يتلفن لأبي فلان وأبي علان يداهن ويثرثر ويتآمر ليخلع صوصنا العام، فهو يحلم منذ مولده باعتلاء عرش مكتبنا في مدينة النور التي جعلوها ظلامًا وليصير جارًا لبريجيت باردو المدافعة عن حقوق الحيوانات سواء أكانت فقماتٍ أم قروشًا. لقد أعطى لفكه معنى القضم وكفى، فالسياسة الفلسطينية لديه قضم، والثقافة الفلسطينية لديه قضم بقضم كما هي عند غيره ممن هم على شاكلته في دائرة الخساسة، قضم ولطش ولهط وسمسرة.

* * *

لقد تاجروا بكل شيء بالقدس تراثًا وبالتطريز وبالفلكلور باسم جمعيات أبناء الشهداء والشهداء وعائلاتهم على حساب جهد وعرق أمهاتنا سمكات غزة ورفح وأريحا في البحر الحي وفقدان بصرهن في بطن بحر الاحتلال المدلهم، يدفعون لهن مائة فرنك لثوب تقليدي أنفقن في تطريزه عشرات الساعات، ويبيعونه بآلاف الفرنكات العائدة بالربح السمين على جيوبهم. أنت تأخذ كذا في تونس، وأنا آخذ كذا في باريس، لن نتفق، بل سنتفق، ويتفقون. وكاسيتات لأجل الانتفاضة يشتريها أجانبُ ناسٍ هم أشرف من أبناء جلدتنا وأشد حماسًا وأكثر إخلاصًا يتقاسمون أيضًا أرباحها ليبتاعوا عطورًا باريسية بينا كل عطور باريس وكل أنهارها لا تكفي لإزالة رائحتهم رائحة السمك المعفن الطالعة... ويدعي ابن أبي مسامكة هذا أن مكتبه مفتوح للجميع، فيداهنك، ويتملقك، وينافق في أمره معك، فإن كنت من أعضاء اللجنة التنفيذية يدعوك بلهجته المائعة اللواطية البائخة الفائحة بيا معالي الوزير، وإن كان لك حق عنده تقضيه يتخبأ وتقول لك سكرتيرته إنه في اجتماعات (تقولها لك بصيغة الجمع تقطع أواصر الأمل لديك وتشلك) لن تنتهي قبل 15 الشهر لشهر لم يبدأ! وأنت تعرف أن لا أحد يجتمع بأحد في اليونسكو الشاطئ المفتوح على الشاطئ إلا والكل يعلم بالاجتماع، فالمؤسسة دولية لا فلسطينية، وبرنامجها معد ومخطط له ومنشور في الصحف والمجلات من رأس السنة حتى نهاية العام، لكن اجتماعات قرش اليونسكو الصغير مثل سائر اجتماعات الهروبيين الخرعين من ملوكنا! تتصنع أنك تصدقها، فتسأل: أين تدور الاجتماعات؟ في أية قاعة؟ في أي بحر؟ في أي مرحاض؟ كي تذهب إليه وتحل مسألتك معه، فتفرقع في وجهك: لا أستطيع أن أقول لك! وكأن الأمر سر من أسرار آلهة الماء الآسن، لتخفي بالطبع كذبها وفي الوقت ذاته لتضفي على السردين الظان نفسه قرشًا هالة من العظمة والخطورة، وكأنه على مرمى حجر من فتح البلاد لا فتح رأسك، فأنت أدرى الناس بطبيعة الحجارة الكريمة من الكريهة. أما إذا ما انضغط وأصدر ترجمة لكتاب كل حول أو كل قرن، فالمترجمون يُختارون حسب مزاجه العرشيّ، يبحث عنهم في زحل أو في عطارد على أن يتصل بفلسطيني وإن كانوا أميين مثله لا يعرفون اللغة العربية ويجهلون الحروف الأبجدية (عندما تتكلم وإياه ثقافة يقول لك بصوته المخنث أنا جاهل)، لأنه يرى في كل فلسطيني قرصانًا مهددًا آخذًا لمنصبه، والكتّاب يُختارون أيضًا حسب مزاجه ومزاج أسياده في دائرة السفاهة مزاج قروش صغيرة وأخرى أصغر وكلها حقيرة. هذا ما جرى مع أنطولوجيا الشعر الخالية من كل شعراء الأرض المحتلة الملعونين سمكًا فضيًا وذهبيًا، وهذا ما سيجري مع أنطولوجيا القصة محاججًا بنفسي أنا البحار التياه التائه صاحب أربع مجاميع إلى حد اليوم في آن البحر وغدًا في آن البر إن جرى لنا في البر آن، لأنهم لو تركوا أدبنا للقارئ الغربي لما صفق لهم، أما عن فلسطين المرساة والمأساة والدعاية لها والدعوة إليها فآخر ما يهمهم... ألا فليسقط ملوك كهؤلاء القروش! أصحيح أن هؤلاء ديمقراطيون كما هم بكل قحة يتبجحون؟ يموت الشهداء من أسماكنا وهم لا يموتون، فلماذا لا يموت سوى غيرهم؟ لأنهم من ذوات قروش جبانة، يتخبأون وقت الخطب في سراويل زوجاتهم! قوافل من سمكنا طوتها سليمى وهم على أوسخ مناصبهم قاعدون، وكأن الشهداء يموتون لأجل أن يبقوا قاعدين حكامًا وهمومًا متداعين على أمخاخنا، شأنهم شأن كل حاكم عربي متقرش مجرم متسلط جاء بانقلاب عملته السي آي إيه، أما هؤلاء فلا انقلاب ممكن معهم ولا اغتيال، فمن يُغتالون هم أولئك المزعجون لسياسة إخضاع شعبنا سمكًا ومحارًا وإذلاله، ونقول أيضًا أما هؤلاء فهم مطبلون مزمرون مع البقية الباقية من مطبلي عربنا ومزمريهم، الطراسيح الخادمة لهذه السياسة، أو على الأقل هم دمى خائرة على شكل أسماك من شمع لا تزعجها، وهم لهذا السبب ثابتون في الموج مثبتون، فأين هي تلك الديمقراطية التي تغيرهم في نفوسهم وعلى كراسيهم؟ أين أثينا؟ وأين الهند؟ ديمقراطيون يمنعون رواية ليسوا ديمقراطيين، يمنعون نشرها كما فعلوا "بالعجوز" أو يمنعون توزيعها كما سيفعلون "بالقمر الهاتك"، ديمقراطيون تهددهم رواية هم بالأحرى جزارون خرعون كجرذان عكا، وإن كان لنا أفلاطون فلسطيني فليسقط أفلاطون! وإن كان لنا أرسطو آخر فليسقط أرسطو! وليحي الشرعي الصحيح الشرعي الصحي على شراع الانفلات السياسي؟

* * *

ماذا أقول الآن في مكتبنا الباريسي؟ مكتبنا أو مستنقعنا؟ لن أقول كل ما أود قوله وإلا احتاجني ذلك إلى كتاب! سأقوم باستحضار بعض الصور التي ليس من الممكن تمييزها إلا في المتخيلة لتراكم التفاصيل الواقعية على بعضها وامتزاجها حتى غدت سريالية، لأعكس جوهر أُم المصائب والاستغراق فيها... ها هي ذي صورها تأتيني إتيان أمواج الأمازون بقوافل من سمك الضارّ "البيرانا"، في كل مرة أغوص للبحث عنها أكتشف أنواعًا جديدة منها لم يعرفها الإنسان من قبل: الأسنان المشحوذة المربعة والمثلثة والمكعبة، العيون الجاحظة المقعرة والمسطحة والمفلطحة، الأنوف الفطساء الطويل منها والضخم والأقنى... الرؤوس القرونية، الأجنحة القدومية والأذيال السكينية! تراها كيف تلتهم الغيدر ومِنَحًا تُعطى لسنواتٍ ثمانٍ لأن هذا أخوه موظف في المكتب، يحرم ثلاثة طلبة من الدراسة بينما يقدم آخرون ملفًا يرفض عشرين مرة! ابن أبي مسامكة معه الحق في منحة لدراسة علم نفس ليعالج نفسه لا شعبه، أما أنا الذي أنا، ابن سلافة العنب، ليس معي الحق في منحة للطب أو الهندسة، تلك المنح التي يتم توزيعها على أصحابهم حسب شهادات مزيفة كما اكتُشف ذلك وافتُضح أمره وأمرهم في باريس!

* * *

تسهو قليلاً، فتقضم البيرانا لك ساعدك، تنظر في الدم الراشقك رشقًا، فترى أشلاء اتحاد الطلبة، اتحاد كان يهز فرنسا هزًا في عهدنا كيف مزقوه والهلال الأحمر كيف لوثوه وجمعيات الصداقة كيف طفّشوا أعضاءها وهرّبوا الكوادر ولم نعد نسمع شيئًا عن عدم سماعنا لما لا يفعلونه لأجل الانتفاضة اليوم، وغدًا لأجل الدولة إن كانت هناك دولة أو طبخة!

* * *

تفرك رأسك، فتقضم البيرانا لك ساقك وفخذك، تنظر في الغائط المغرقك غرقًا، فترى المطاعم المحجوزة طاولاتها والبيوت المشتراة لأغراض وطنية وهي كرخانات، التبرعات المسروقة والشيكات المشترى بها بيانوهات لعزف النوتة الزرقاء لشوبان، فتجيئهم من أعالي شجر غابات بولونيا بالبعوض الأزرق كي تنتقم منهم بالحمى الصفراء، لكن جلودهم لا تتأثر بلدغات تميت البعوض ولا تميتهم أصحاب الجلود الميتة: ما من متطوع أتاهم المكتب إلا وطردوه، ما من بنت دخلت عندهم إلا وسبتهم، وما من صحفية أرادت أن تسألهم عن حال الأهل إلا وبصقت عليهم... لياليهم كنهاراتهم موزعة بين مائة وثمانين حفلة كوكتيل لمائة وثمانين دولة في العالم تحتفل بعيدها الوطني وبين باقي أيام السنة أو نصفها الثاني حيث تجدهم قابعين في مقهى "السلامبو" يلعبون "اللوطو"، اليانصيب، وسباق الخيول، وبكرة السحب، فإذا سألت عنهم قيل لك هم في اجتماعات (بصيغة الجمع دومًا) أو في مهمات (بصيغة الجمع الدائم) في وزارة الخارجية!

* * *

أين هي تلك الريح الموسمية التي لم تهب عليهم بعدُ ماحقةً؟ وأين موج بحر دمنا المنتقم؟ أين هم لصوص البحار قراصنته الطيبون الآخذون لشرفنا وعتاد السفينة من لصوص المكاتب سوقيي الفضيلة زقاقيي الدائرة الساسة عشرة، الدائرة الأثرى في باريس، وضدهم سيجيء فيكتور هيجو من قلب شارعه العتيد متهمًا وشاهدًا وباصقًا؟

* * *

نعرج الآن على قروش مستشفى فلسطين في قاهرةِ مُعِزٍ لا عز له غير محظور التهريب من جثث الموتى حتى العقاقير بعد أن محا أطباؤه من مفهوم الطب والتطبيب كل معنى إنساني، من علاقة الطبيب بالمريض كل تعلق أنساني، من عاطفة المعالِج بالمعالَج كل حرارة إنسانية، بعد أن خنقوا الأمل بالشفاء بجرعة، بعد أن قتلوا أماني الصحة والعافية بِحَبة، بعد أن سملوا عيون الرغبة في الحياة بإبرة، ودفعوا الشيوخ من حيتاننا كالشبان إلى اختيار موت هو أرحم من كل قروش الرحمة. أيا أبا العبد الحوّ! من لا يعرف أبا العبد الحوّ أول فدائي من فدائيي مصطفى حافظ لما لم تكن هناك بعدُ منظمات ولا بنو قرش ولا آباء... زارع الزهر في بيروت بالرصاص والدموع؟ يعرفه أبو عمار، ويعرف ابنه الطيار في اليمن ونيكاراغوا والجزائر كيف قاتل وسيقاتل... جاء إلى مِصر عند عائلته بعد الخروج وذهابِ علمٍ ضيعوه، في النهار كان يتشبث بعصا من شجر زيتون القدس تكسرت، وفي الليل كان النوم يهجره على قارب يشق النيل إلى فكرة في رأس أخناتون ستغدو سمكة، فرعد في جسده شلل نصفي ليأخذوه حيث يقتلون فلسطين في مستشفى فلسطين على أيدٍ فلسطينية، ولما جاء الطبيب والممرضات ليكشفوا عليه وجدوا نصفه لحمًا ميتًا ونصفه ينبض بالرجاء الحي، فقال له الطبيب القرش أن لا شيء عندك، وما هذا الإزعاج؟ فارتعدت فلسطين في جسده، وقامت من جزئه المشلول صائحة، إلا أن القرش الطبيب دفعه من الرعب لست أدري أم من رد فعل إرادة المشلول على طريقة الواطين من أطبائنا في المعالجة، فوقع من التخت، ومات!

* * *

أيا إبراهيم جبر! من لا يعرف إبراهيم جبر المقاوم للحصار بدكانه المفتوحة على نوافذ المخيم وبشاحنات المواد الغذائية والحليب والطحين عبر كل الطرقات من مدن القطاع إلى مخيم البريج المحاصر؟ من لا يعرفك، يا جد الفلسطينيين الحادب علينا؟ من ضلعك جئنا، وعلى قدميك استشهدنا لأنهما لنبيّ. أردتَ أن تحمي أولادك الضاربين لجنود إسرائيليين لم يعودوا قادرين على النوم المريح، وأفقدوهم طعم الهواء المالح الهابّ علينا من بحر غزة الهوى المضني، أردتَ أن ترفع عن الجذع ضربة بجذع البندقية وعن الصدغ لكمات القروش العنيفة، فالكواكب التي لنا من الممكن أن تغدو مراكبًا، والمراكب التي لهم من الممكن أن تبحر في حِضنك وحِضنك مهدنا، لهذا أخذك الجنود كما يأخذون عالمًا، واعتبروك جيشًا يقاتل جيشًا، فما رحمك جيشهم الجرار وأنت سلاحك ذراعاك وأولادك أسلحتهم أصداف البحر. كنت شيخًا شابًا قبل أن يضربوك، وغدوت شيخًا كهلاً لما جئت مستشفى فلسطين ليعيدوك شابًا، فقال لك أبناء القرش أطباء الموت: عد من حيث جئت إلى لعنتك بدل أن ننفق عليك جهدًا وعنايةً ودواءً أنت الشيخ ننفقها على واحد شاب! فشتمتهم، وقلت أعود إلى العلاج عند الذين قتلوني! وبالفعل دخلت مستشفى تل أبيب هناك حيث القروش سمك والسمك بشر، وبعد ثلاثة أيام توفيت!

* * *

أما أنتِ، يا جدتنا العجوز، فلم يكن أحد يعرفك، ثم عرفك الكل بعد كل ما عانيتِهِ في مستشفى الذين أهلكونا، وهذا هو السيناريو: المكان خان يونس: منع التجول، الحجارة، الانتفاضة. الجيش يطارد ولدًا والولد طائر. الجنود القاتلون لأبيه أول الانتفاضة يطاردونه آخر (؟) الانتفاضة حتى بيت جدته. الأب استشهد والعم في الحبس. الأخ الأصغر نائم يأخذ الجنود بضربه. الأخ الأكبر بطل مصارعة يخطف أكبر سكين ويقتل جنديًا وضابطًا. الأخ الأوسط، ذاك الولد الطائر، يتمكن من الهرب. الجنود يأخذون بضرب المصارع والأخت النائمة تدخل في عينها رصاصة. الجنود يأخذون الأخوين الأكبر والأصغر إلى المستشفى، وبعد فترة يعتقلونهما. العجوز تبقى وابنة ابنها المصابة في عينها. الناس كلهم سمكًا وحمامًا يؤازرونهما. يأخذون ابنة الابن إلى مستشفى لم ينفع العلاج فيه. بعض القابضين بالدولار يقولون للعجوز اذهبي إلى مستشفى فلسطين، المستشفى مجهز بأحدث الأجهزة والأطباء مهرة وخاصة هم إنسانيون! التاكسي يوصل العجوز وابنة ابنها من خان يونس، بعد أن تقطعان جهنم سيناء، حتى باب المستشفى والأمل يحدوا الجدة بشفاء حفيدتها. العجوز تحكي للطبيب المناوب، طبيب كان أبوه جاسوسًا للإنجليز واليوم هو جاسوس للإسرائيليين. أبوه يقتل الناس خارج المستشفى في الأرض المحتلة وهو يقتلهم داخله. الطبيب يقول للعجوز: يا عجوز، اذهبي إلى مستوصف عين شمس! العجوز تقول للطبيب: أنا أعرف عين شمس أو عباد شمس؟ ! جئت من خان يونس، وضعني التاكسي عندك، قالوا لي أنتم ستساعدوننا.. لكنه يطردها!

* * *

ثم جئتِ، يا ستَ الحُسْنِ، رأيتِها مع حفيدتها ذات الثماني السنوات، وهي تبكي، فذهبتِ إلى الطبيب، وأخذتِ تعاتبينه، فكيف سيُخضع حُسْنُكِ قرشًا غادره الحس بالجمال؟ ولما وجدتِ ألا فائدة هناك، أعطيتِ جدة كل الفلسطينيين عشرة جنيهات لتعود طبيبًا رَفَضَتْهَا وقالت: مُحَرّمة عليّ مستشفياتهم، مُحَرّم علي دواؤهم، أما الآن فسأرجع إلى خان يونس الحوت الذي يأبى، وخلينا تحت الاحتلال أحسن لنا من هؤلاء السارقين للأدوية البائعين لها في السوق السوداء! كنتِ تعرفين، أيا ستَ الحُسْنِ، أن ذاك الطبيب أو القرش ذاك القرش أو المجرم يهرّب الأدوية المتبرع بها لصيدليات القاهرة ولا يصرف للمرضى المصابين بالقلب غير الأسبرين. أطباء جاؤوا بالواسطة، وشهادات مزورة بحماية هلال الدم الفلسطيني: "فوفو" –كنية أخ ياسر عرفات- وعصابته. حملت العجوز حالها وحفيدتها وعادت من حيث جاءت إلى القطاع المحتل القطاع الحنون، عادت في نفس النهار.

* * *

وأنت، يا دكتور عبد القادر، الكل يعرفك لقدرك قبل أن يعرفك لمهارتك. كنت "الكل بالكل" في مستشفى غزة وعيادة الدامور –سكانه من بقايا مخيم تل الزعتر- وفي صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة كنت تذهب إلى المخيمات وإلى كل من هو متواضع من الناس، كل ما هو متواضع من المستوصفات، وكل الناس كانوا يحلفون بحياتك. بعد 82، ذهبت إلى ألمانيا، فسلمك الألمان موقعًا هامًا في مستشفى كبير، وأعطوك مسئوليات معتبرة، لكنك لما سمعت بمستشفى فلسطين الحديث تركت كل امتيازات العشر السنين مع ألمان يرون الإنسان في الإنسان لو كان قرشًا ولو كان مريضًا، منصبك تركته، وحياتك المرفهة أنت وزوجتك وأولادك، ونزلت إلى القاهرة لتعمل في مستشفى التي لم يأخذوا منها سوى اسمها، والتي جعلوا منها أعرافًا، وها أنت لغاية أمس لم تستلم قرارًا بتعيينك ولا بتجديد إقامتك، فقط لأنك كشفت عن حرمناتهم ولأنك تصلي! وفي الأخير، قررت العودة إلى ألمانيا، وصارت لك ألمانيا فلسطين!

* * *

لا، لا حاجة لنا إلى جدران تنهار، لأن كل شيء في العالم العربي منهار: الثقافة، الاقتصاد، الجبال، الأخلاق، كل شيء، كل شيء منهار بعد أن عملوا على انهيار الإنسان فينا. كيف نستطيع تحرير البلاد والانهيار شامل؟ والانتهازيون مثقفون أو حكام؟ والدماء مياه؟ لكن شعبي العظيم مروض البحار لم يقل بعدُ كلمته الأخيرة. وإني أقول له في هذا المقام إذا ما حصل شيء يكون لنا فيه دمار وكوارث –وهذا ما هو حاصل في جهنم الأمم- فالثورجية الفلسطينيون والتقدمجية العرب والمسقفون (بالسين لا بالثاء) ممن هب ودب هم من ورائه قبل أن يكون من ورائه قروش الشيوخ والأمراء والملوك والرؤساء –فلا فرق بين جرب اللسان في تحطيم الكيان- الذُّهانيون الراكعون في الليل والنهار تحت نعل أمريكا الحنون المتعرون على المكشوف، بعد أن خلعوا كل أثواب الكرامة، وتوحدوا لأول مرة في تاريخهم في أحضان بوش الرحمن الرحيم، تاركيننا لمئات السنين في حضيضهم أسفل سافلين، حضيض حق القرش وشرعية السرطان ونظام الأخطبوط العالمي الجديد التدجيل والتدجين، فأولئك كنا نفرق عن خطأ فيهم بين محمود أمين الجاهل مثلاً وأنيس مهزوم أو إبراهيم تعسة، وهؤلاء يتذابحون أو يدقون البرق في فكوك بعضهم البعض لجيفة سمكة نتنة تمضي في شارع بيغال العرب، ويتلاحمون عورة تلتحم بعورة في اللحظة التي يبيعون فيها وطنًا أو يخضعون شعبًا، فأين أنت، يا عبد الله بن ميمون القداح؟ ومتى تكون عودتك، يا الحسن الصباح؟ وأنت، يا حمدان القرمطي؟ ويا صاحب الزنج وكلنا اليوم زنج؟

* * *

مرة أخرى ينطبق عليهم قول أبي العلاء المعري في أحكام الكواكب، أحد أعظم الشعراء الذين مارس عليهم مطبلو الثقافة أكبر عملية تعتيم لم يعرفها شاعر من قبله –وعرفتها أنا من بعده- لأنه شاعر للعقل شاعر العقل لا شاعر الحاكم الديوث والقارئ الطُّرسوح الذي يريدونه أن يبقى غبيًا وجاهلاً، فإذا اجتمع احتلال العقول واحتلال الاقتصاد صارا أخطر من احتلال الأرض وكل البحار:

مَساجدُكُمْ ومَواخيرُكُمْ سَواءٌ، فبُعدًا لكم من بَشَرْ
وما أنتم بالنباتِ الحميدِ ولا بالنخيلِ ولا بالعُشَرْ
ولكن قَتادٌ عديمُ الجَناةِ كثيرُ الأذاةِ، أبى غيرَ شَرّْ
وليلكم أبدًا مظلمٌ، فهل تَرْقُبونَ صباحًا جَشَرْ
فيا ليتني في الثّرى لا أقومُ إنِ اللهُ ناداكُمُ، أو حَشَرْ
وما سرني أني في الحياةِ وإن بان لي شرفٌ وانتشرْ
أرى أربعًا آزرت سبعةً وتلك نوازلُ في اثني عشرْ

* * *

لقد قضوا ليلهم ونهارهم طوال عمر الثورة وعمر البحر منذ العام 65 وهم يعملون على تهميش المثقف الفلسطيني، الشاعر والروائي والقاص والمفكر والفنان والطالب والقارئ وسمك المرجان، هم الأميون حيوانات العلم، ليعلوا على ثقافة أسقطوها، فسقطوا في هامش السياسة اليوم بعد أن صنعوا سقوطهم بأيدي الصاعدين من أذل الحكام العرب مذ قامت العرب على وتد أمريكا الساقطين بشروط إسرائيل الأمر والنهي والإسفين الذين باعوها وباعونا وصنعوا نفيهم الكليّ.

يخيفهم الأدب هؤلاء، الأدب الخالد.

يرعبهم الأديب هؤلاء، الأديب الملقي بعتاد سفينته والمشهر سيفه على رقابهم.

يغيرون من ظلال مؤخراتهم، فكيف لما يكون الأمر متعلقًا بظل "العجوز" العملاق؟

أما الآن، فلنتركهم مؤقتًا في بحر دمنا يغرقون، ولنستمتع بقراءة "العجوز" الخالدة الصارخة في وجه مغتصبي أرضنا وحقنا في الحياة من أعداء يهود وأعداء عرب أبوهم ليس إسحق وليس إسماعيل ونبيهم ليس محمدًا وليس موسى.


باريس يوم السبت الموافق 17 مارس/آذار 1990





* أعيد النظر في هذا الإعلام في غمرة المساومات السياسية المصيرية وخوازيقها الجهنمية على فلسطين والفلسطينيين والأمة العربية من أعلى مستويات قروش أولي الأمر إلى أحطها دركًا بما في ذلك دائرة الثقافة البائعتنا عضلات أونطة الكلمة وطق الحنك والبلطجة في زمن تحت كل ذي جهل جهيل وازْفِنْ للقرد في دولته، في وقت يقول عنه البعض ليس وقتًا للصراحة ولا للحساب والوقت لديهم واحد لا وزن له في السراء والضراء في صحراء الرمل وصحراء الماء لأنهم مع المطبلين إذا طبلوا ومع الباكين إذا بكوا ومع الناهقين الناعقين إذا شكوا، بينا نرى فيه اليوم وقتًا للصراخ أقوى ما يكون عليه الصراخ: نعم لمنظمة التحرير التي صنعها شعبنا بشهدائه ودمائه وبنادقه وحجارته وأكف نسائه وتضحياته وعلى أجساد سمكه وطيره وحيتانه، وألف لا لهم هم الذين أودوا بنا إلى ما نحن عليه اليوم بعد أُم المعارك من أُم المآسي لا فرق بينهم وبين أشد أعدائنا من القرش العربي الربيب إلى القرش الراشد في التوراة بطشًا بنا... نعم وألف نعم للوطني البديل!


باريس يوم الأحد الموافق 11 أوت/آب 1991



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العجوز مقدمة الطبعة الفرنسية
- موسى وجولييت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
- موسى وجولييت الفصل الرابع والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الخامس والثلاثون والأخير
- موسى وجولييت الفصل الثاني والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثالث والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الحادي والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثامن والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل التاسع والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل السابع والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل السادس والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل الرابع والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل الخامس والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل الثاني والعِشرين
- موسى وجولييت الفصل الثالث والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل الحادي والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل العِشرون
- موسى وجولييت الفصل الثامن عشر
- موسى وجولييت الفصل التاسع عشر


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية