|
جذور الانقسامات
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4556 - 2014 / 8 / 27 - 09:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليست المذاهبُ هي التي خلقتْ الواقع، الواقعُ هو الذي خلقَ المذاهب. في خروجِ العربِ المسلمين من الجزيرة العربية للعالمِ الفسيحِ واجهتْ إداراتِهم ونصوصَهم الدينيةَ أوضاعُ البلدانِ المختلفة التي دخلوا فيها. كان الانقسامُ متأصلاً في تلك البلدان المفتوحة بين البدو والحضر، وبين أهلِ الباديةِ وأهلِ الزراعة. انقسامٌ تاريخي موضوعي صار له قرون، ناشئ من التكوين الاقتصادي وجغرافية الأرض ذات الأنهار المحدودة الكبرى وبين الصحارى الشاسعة. فكانت المدنُ القليلةُ والقرى في مجابهةٍ دائمة مع أهلِ القفار، وحين جاءَ العربُ كانوا أهلَ قفارٍ وصحارى، وواصلوا نموَّ الحضارةِ في شكلٍ مبتكر ومستفيد من تجارب الأمم الأخرى، أي إنتاج حداثة لم تصمدْ طويلاً لتنامي الديكتاتوريات العريقة داخلهم وخارجهم، أي ظهر استبدادُهم الداخلي عبر الاحتكاك بشموليات عريقة في الشمال والبلدان المفتوحة، ومن صعود القوى الاجتماعية التي ارتفعتْ مع مداخيل الفتوح. كان زوالُ النظامِ المساواتي السياسي الوامض عودةً لتقاليد الشرق الاستبدادي القديم، وكان هذا لا بد أن يظهرَ في أفكارِهم وثقافتهم، بل في صميم تفسيرهم للدين. حين ورثوا الحضارات القديمة، وأفكارها وبعض شعائرها، كيفوها بمصالحهم وتاريخهم الخاص. الانقسام التاريخي الطويل بين أهل البادية وأهل الزراعة، صار انقساماً بين أهل الحكم وأهل الفلح، بين القبائل المتسيدة وجماعات الأرض. وبتعابير القدماء إنها انقساماتٌ بين أهل المدر وأهل الشعر. بين أهل المدن وأهل القرى. وقد تصور كلُ مذهب بأنه الحق، والمذاهب الأخرى هي غير الحق، دون أن يدركوا بأنهم خريطةٌ ملونةٌ للحياة الاجتماعية وتعددها، بأنهم فسيفساء العرب والمسلمين وأخوتهم من الأديان الأخرى كذلك في ظروف متحولة أبداً. فهم يتصارعون بشدة في زمن ويتوحدون بقوة في زمن آخر، ليس ذلك يجري سوى لأنهم جماعات متداخلة متعاضدة متناقضة حيناً في بنية اجتماعية واحدة سائرة للنمو أبداً عبر صراعاتها وعبر تنامي وحدتها وعملها. حين ينمو في العالم العربي مذهب أهل المدن والسيطرة والتحكم يصير ذلك توحيداً وترابطاً لوطن مهدد أو متوجه للفتوح، وهنا لا تنفع مسالمةُ أهلِ الزراعة، وطرق الصوفية، ومن ضربك على خدك الإيمن أدرْ له خدَك الأيسر، بل تغدو القوةُ وسيلةً للتوحد، وتشكيل النظام العربي، ولكن القوة المتجبرة والاستغلال الفظ لجمهور الزراعة والحرف والتجار، تغدو مُفكِّكةً للبلد الواحد، والملة المُجمِّعة، والمذهبُ المعارضُ يغذي عقلانيةَ المذهب الحاكم، بإعادته للصوابِ وعدم التجبر وفهم آلام الناس. وحين يجمحُ المذهبُ المعارضُ ويصيرُ هدماً وتفكيكاً يحتاجُ لمن يعيدهُ للصواب، لأن خسائرَ تمردهِ تصيرُ أفدحُ من الظلم، وهكذا تجري وحدةُ الأضداد الدينية والاجتماعية، وما يربحه جيلٌ يخسره جيلٌ آخر، وما تعانيه أجيالٌ تصلحهُ أجيالٌ أخرى. والوعي المحدود لأجيالٍ غارقةٍ في الغرور الاجتماعي، والقراءة الحَرفية للنصوص ، مع العصا الضاربة على أي قراءات أخرى، وأي حركة مستقلة من الأعضاء الباحثة عن الحياة والحرية العضوية، يصيرُ وعياً غامضاً ضائعاً في الوجود، مُلتبساً، لأنه نشأة الحرية الضعيفة في الاستبداد الكبير العنيف. المذهب المسيطر المتحكم والمذهب المعارض، تصورات أهل المدن وأهل البادية، أهل الحكم وأهل الزراعة، تعبر عن زمن اجتماعي، والزمن الاجتماعي يتطور، ولن تبقى أبداً التقسيماتُ القديمة، وثنائية الإنتاج الزراعي والإنتاج الحرفي، وأهل الثغور وأهل الريف، بل سيظهرُ الإنتاجُ الصناعي التوحيدي، حينئذ سيحتاجُ أهلُ الدين الواحد لبعضهم البعض، ويكتشفون وحدتَهم في انقسامهم، وسيرون أن الدولة الدينية المذهبية قاصرة عن لم شملهم، وأنهم أكبر من الفسيفساء الصغيرة المفرقة وبحاجة لمجتمعات علمانية ديمقراطية تتجاوز هذه الخلافات العتيقة.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انتهازيةُ التحديثيين
-
صراع الرساميل في تركيا
-
نشاطٌ صحفي نسائي
-
القوميون والشمولية
-
تقطع الوعي البحريني
-
داعش ليس أسطورة
-
أين التجار؟ عاشت الليبرالية!
-
نساءٌ مريضات في العصر النفطي
-
انتهازيةٌ نموذجيةٌ
-
تصاعدُ الفاشية فكرياً في إيران
-
الشعبُ والجيشُ معاً
-
اليسارُ المتكلس
-
تخلف الشعوب جذر الاستبداد
-
التفاعل مع العصر
-
تجريبٌ مستمرٌ
-
انعطاف علماني جذري
-
تحولات أفغانستان
-
ثقافة الخرافة والتعصب
-
اليهودية وإنتاج العنصرية (2)
-
اليهودية وإنتاج العنصرية (1)
المزيد.....
-
يهود يتظاهرون في نيويورك احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعا
...
-
القمة العربية الإسلامية في الدوحة.. نجاح مرهون بمراجعة التحا
...
-
التعليم كجبهة في الحرب الناعمة: بين الاستخراب الغربي وبناء ا
...
-
خليج الجنة في تركيا.. رفاهية خفية على شاطئ لا يقصده سوى الأث
...
-
أردوغان يعين صافي أرباجوش رئيسا للشئون الدينية التركية
-
مظاهرة يهودية في نيويورك ضد مشاركة نتنياهو في اجتماعات الأمم
...
-
نيويورك.. يهود يحتجون على مشاركة نتنياهو في اجتماعات الأمم ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة 2025 على النايل سات والعرب سات
-
تردد قناة طيور الجنة 2025 على النايل سات والعرب سات
-
تردد قناة طيور الجنة 2025 على النايل سات والعرب سات
المزيد.....
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
المزيد.....
|