أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى يونس - آخر محادثة مكتوبة للسيد -جوبلز-!















المزيد.....

آخر محادثة مكتوبة للسيد -جوبلز-!


مصطفى يونس

الحوار المتمدن-العدد: 4460 - 2014 / 5 / 22 - 10:37
المحور: الادب والفن
    


العالم يتأرجح في عينيه..
جسده منهك ،كأنما تراكم تعب السنين عليه في لحظة واحدة..كل شيء حوله يبدو بعيدا جدا و صامتا..لا يملأ أذنيه سوى صوت دقات قلبه الذي صار يبدو له كدق الطبول..يحافظ على اتزانه بصعوبة شديدة..
جملة واحدة يهذي بها عقله المتعب و تتمتم بها شفتيه..
- آه يا كلارا!..أين أنت يا كلارا؟!..أين أنت يا عزيزتي؟!
بعيون زائغة و قدم مرتعشة نزل "ايفان جوبلز" سلم الطائرة..منظره المهيب لافت للأنظار بقامته الممشوقة و زيه العسكري وكم النياشن و النجوم اللامعة على صدره و كتفيه..
- كلارا!..كلارا!..أين أنتِ؟
برغم بلوغه الخامسة والثمانين وما رسمه السن على ملامحه من تجاعيد ولون شعره الفضي الظاهر تحت الكاب وتلك الطريقة المتأنية التي صارت تميز مشيته منذ أعوام مضت،غير أنه لم يزل بطريقة ما يملك جسدا مستقيما جعل مظهره الى جانب زيه الغامق اللون و الكاب المرتفع فوق جبهته عسكريا و مهيبا. لكن ما كان يعتمل في في نفس السيد"جوبلز" كان يتناقض كثيرا مع تلك الهيئة المهيبة التي أجبرت أغلب من كانوا في المطار أن يصير محط انظارهم وربما اعجابهم الصامت أيضا..ملامح تحمل الكثير من التعب والارهاق.
- كلارا!..كلهم..كلهم يا كلارا!..لم يبق أحد؟
استلم حقيبته من على السير المتحرك و ظل يجذبها خلفه حتى باب المطار.كان يجر قدميه في صعوبة لا متناهية.. كان يحتاج إلى الراحة بشكل ملح، كل شيء فيه كان يعاني من آثار رحلتي طائرة ذهابا و إيابا دون راحة تذكر فيما بينهما. شيء لم يكن بالسهل على رجل في سنه يحمل بداخله هذا الكم من الأمراض.
أشار لأحد سيارات الكاب "التاكسي"، وألقى بداخلها جسده المنهك تاركا سائقها الشاب ذو الملامح الهندية يحمل حقيبته إلى الصندوق الخلفي..ذهنه كان خاويا تماما..وشفتاه تتمتم بكلمات غير مفهومة.
انطلقت السيارة تنهب الطرقات اللامعة تحت أضواء الأعمدة لافتات المحلات الصاخبة، مما سمح للهواء الرطب بأن يلمس بشرته لمسات حانية منعشة. كانت سماء "نيويورك" تمطر قبل هبوط الطائرة بما يزيد عن الساعة.
- إلى أين يا سيدي؟
سأله السائق الذي لم يكن قد رأى "جوبلز" شكله حتى الآن. التفت له بعينين زائغتين ..كان ذهنه فارغ من الكلمات كأنما نسي اللغة. لثوان ظل صامتا مشدوها قبل أن يتمتم بحروف متحشرجة ونصف مبهمة
- كلارا.اذهب بي إلى كلارا
يبدو أن صوته كان منخفضا إلى درجة أن السائق لم يسمع..عرف ذلك من وجهه الذي تحول إلى علامة استفهام كثيرة..فرفع من نبرة صوته..
- المقابر يا بني.. اذهب بي إلى المقابر.
برغم كل علامات التعجب على وجه السائق، غير أنه لاذ بالصمت ، و انطلق بالسيارة وسط زحام الشوارع اللامعة تحت الأضواء.
أغمض "جوبلز" عينيه..ذهنه تختلط عليه عشرات الصور..تستدعي أذنه الأصوات..
الخندق..الطائرات..البنادق التومبسون..رائحة زيت التنظيف ..آه..ملمس الثلوج..ليالي البرد الدافئة بنيران المدافع..
"كيلرمان" ملامحه ملطخة بالطين ..يرى وجهه على ضوء القذائف البعيدة ..في الخندق يتمسك به و هو ينتحب..
- هتلر يريد أن يقتلنا..
السيرجنت "كوين" يشعل البايب و ينفث دخانه في وجهه
- أتى أمر تحرك لدعم صفوف الاستطلاع..
يصيح "مايكل فاير مان" و هو يضع عدة اللاسلكي على ظهره
- لا يمكننا التحرك في هذا الجو..
فيصيح فيه..
- نفذ الأمر..
"بوبي" محموم منذ أيام ..انه يبكي و يتمسك بياقته في ظلام الخيمة يكاد يرى بريق دموعه و وجهه المحتقن في صوته المتحشرج..
- كاثي ستبكي يا "جوبلز" حين تعلم بموتي..لا أريد لـ"كاثي" أن تحزن!
"ادوارد" يخرج من بين طيات ملابسه صورة طفله الباسم وهو يمتطي صهوة حصان خشبي..
- هل رأيت هذا الطفل الجميل..انه ابني توماس..سوف يبلغ الخامسة هذا العام.
"مايك" المدلل يلقي بوجبته في ضيق..
- البسكويت الجاف ..البسكويت الجاف..البسكويت الجاف..اللعنة على "هتلر"..اللعنة على "تشرشل".."ترومان " اللعين أيضا لا يبالي .. هؤلاء الـ..........كانوا سيموتون بعد تناول خمس قطع فقط من هذا الخراء الجاف الذي نأكله.
فتح عيناه فجأة كمن استيقظ من كابوس..ليجد نفسه داخل السيارة..امتدت يده تتحسس الأوسمة على صدره في حركة لا ارادية..
- آوه كلارا!..عزيزتي كلارا!
# # #
متحسسا خطاه في التربة الطرية المعشوشبة شق السيد "جوبلز" طريقه بين الشواهد المقبضة الصامتة جارا وراءه حقيبته..جسده منهك و بداخله حزن يسكن أحشائه كحجر..في كل خطوة كان يتمتم كالمحموم..
_ ها أنا قد جئت يا كلارا..ها قد جئت يا كلارا الحبيبة. أين أنتِ؟
انزلقت قدمه فتعثر و سقط، لكنه لم يعبأ بالطين الذي غمر بنطاله..شيء واحد كان يملأ مخيلته..صورة كلارا بمريلة المطبخ تهرول نحوه و تتعلق بعنقه كطفلة صغيرة..بكفه التي غمرها الطين حين استند عليها ليقف من سقطته تحسس مكان قبلة شعر بملمسها على خده و سمع صوتها الرقيق يهمس..
- متأسفة..لقد وسخت منكبيك برائحة البصل..و لكن لا تقلق..سوف أغسلها لك فورا. لا تقلق.
المسكينة كانت تعرف اعتزازي بزي الفسحة..ظلت تعتني به حتى بعد انتهاء الحرب و خروجي من الخدمة بعدها بسنوات..
بدأ المطر يعاود هطوله من سماء نيويورك بقطرات غزيرة..لكنه لم يبالي..ظل يمشي بخطاه المتعثرة حتى وصل لشاهد القبر الذي غسل تراب سنينه المطر فعادت حروفه بارزة
"كلارا جوبلز
"ارقدي في سلام فأنتِ في قلوبنا جميعا"
1918-1988
عندها ترك المجال ليده لتفلت الحقيبة..وانهار على ركبتيه على الأرض التي تزداد لينا تحت غزارة المطر..و ترك الكاب ليسقط عن رأسه كاشفا عن شعره الفضي خفيف
"آوه..كلارا..كلارا الحبية!..ها أنا قد عدت!..
هل تذكرين؟!..منذ شهر عندما كنت هنا..أجل يوم ميلاد "سام"..ابننا "سام"..لا أعرف أين هو الآن لكنني أصررت أن أحتفل بميلاده معك..انه منجزنا حتى و ان كان لا يهتم..لكنه منجزنا..أليست هذه كلماتك؟!
أخيرا تهدج صوته و استسلمت الدمعة في عينيه أمامها..أجل أمامها..عقله لم يكن أبدا ليفكر بأن الماثل أمامه الآن هو شاهد قبرها..
"منذ العام الماضي..تواعدنا جميعا-أنا أخبرتك- أن نذهب لنقضي اليوم أمام النصب التذكاراي و نحتفل بذكرى النصر معا..نحتفل بدماء الذين ذهبوا منا يا كلارا..أرسلت أيضا دعوة لـ "كاثي" ..زوجة "بوبي" الذي رويت لك قصة الحمى التي أودت بحياته..الدعوة عادت لي مرة أخرى..أعادها لي البريد..و حزنت جدا أنهم لم يستدلوا على عنوانها..علمت بعد ذلك أنها تزوجت من زمن..ربما أيضا نست "بوبي"..أعتقد أن هذا سيسعده نوعا ما..كل ما كان يقلقه لحظات احتضاره هو أنها ستحزن عليه. شيء بداخلي همس..لترتاح يا صديقي..فكاثي ليست حزينة..لكنني لم أستطع منع نفسي من البكاء لحظتها..كلما سمعت صوته المتحشرج بغليان الحمى في أذني ..
- كاثي ستبكي يا "جوبلز" حين تعلم بموتي..لا أريد لـ"كاثي" أن تحزن!..لا أريدها أن تبكي يا "جوبلز"
في هذه اللحظة تحولت دموعه لنشيج عالي ..انهارت قواه تماما..ظل فيما يشبه الهذيان يتمتم و الدموع و المطر يغسلان وجهه..
- لترتاح يا صديقي..ليست حزينة!..ليست حزينة!
بعد دقائق حاول أن يتمالك نفسه و يتكلم..
لكنهم سيأتون جميعا..نحن على وعد..سنذهب جميعا لنحتفل مع "بوبي" وباقي الرفاق الراحلين..اذا كان الجميع قد نسيهم فنحن لم ننساهم..تعلمت هذا منك يا كلارا..هل تذكرين عندما كنتِ تنهرين "سام" عندما يقترب من هذا الزي في الدولاب؟!..هذا زي أبيك البطل..يجب أن يبقى للأبد سليما هكذا ليتذكر و نتذكر جميعا بطولته و الدم الذي نزفه و رفاقه من أجلنا..
في هذا الصباح..ارتديت زي الفسحة..و وضعت النياشين..كنت أريد أن أمر بك لتلقي نظرة علي..تعلمين أنك مرآتي..انتويت ذلك و أنا أرتدي "الكارافات"..لم تكن يداك هناك لتعدلي من وضعه..آه يا كلارا..أشياء كثيرة أفتقدها و أنت بعيدة عني..لحظتها قررت أن أمر عليك..لكن..لكن..ميعاد الطائرة أجبرني ألا أفعل..لم يعد سهلا أبد أن أستيقظ مبكرا..
سافرت يا كلارا..كنا على وعد أن نتقابل جميعا..و نحتفل..
.............................................................
اختنق صوته بالدموع و بدأ نشيجه يعلوا مرة أخرى..
لكنني لم أجد أحدا..كلهم ذهبوا يا كلارا..لماذا لم تخبريني لابد أنك كنت تعرفين ذلك..لماذا لم تخبريني بأنهم ذهبوا اليكِ
لماذا لم تخبريني أنه لم يبق أحد ليحتفل معي؟
عند هذا كانت قوى السيد "جوبلز" قد استهلكت تماما و انهار في البكاء بصوت عالي و هستيري..
بعد حوالي الساعة..كان هناك سائق بملامح هندية يدلي بشهادته حول ذلك الراكب العجوز الغريب الأطوار الذي يرتدي زيا عسكريا الذي طلب منه أن يوصله للمقابر في ذلك الجو الممطر..مظهر الراكب و حالته جعلتا السائق يعود بعد أن غادر المكان و ينتظر حتى طال انتظاره و جعله يدخل ليطمئن على الراكب الغريب و وجده أخيرا مستلقيا أمام شاهد أحد القبور في حالة سيئة للغاية..كان محموما و يهذي.. فحمله إلى مستشفى مانهاتن حيث فارق الحياة..
يروي السائق بأن الرجل العجوز كان يهذي بكلمات غريبة طوال الطريق إلى المستشفى..ظن أنه يريد أن يقول له اسمه أو اسم قريب يمكن أن يتصل به، لكنه عندما حاول التركيز و الاصغاء وجد أنه يكرر عبارة واحدة..
لماذا لم تخبريني أنه لم يبق أحد ليحتفل معي؟
لماذا لم يبق أحد للاحتفال..معي؟!







#مصطفى_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سطور الدم...-1-
- عالية!
- عشت و رأيت...-شامية-!
- هوراشيو بعد ثورتين!


المزيد.....




- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...
- مسلسل طائر الرفراف الحلقة 67 مترجمة على موقع قصة عشق.. تردد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى يونس - آخر محادثة مكتوبة للسيد -جوبلز-!