مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي – 9

حسن محسن رمضان

الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 17 - 18:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

تُعتبر قضية الأب مارسييل مارسييل (Father Marcial Maciel) هي الأكثر شذوذاً ضمن المناخ الكنسي الرسمي المسيحي. فهذا الراهب الكاثوليكي، الذي كان أحد الرجال المقربين من البابا يوحنا بولس الثاني ومِن المؤسسة الرسمية في الفاتيكان أيضاً، لم يكتفي بالاعتداء الجنسي المتكرر على الأطفال (الذكور بالتحديد)، ولكن تطور الأمر لديه إلى الاعتداء جنسياً على (ابنه) أيضاً. فهذا الراهب الكاثوليكي، الذي مِن المفترض أن يكون عازباً، قد (انجب سراً من نساء متعددات) بعد علاقات غير شرعية معهن، وذلك بالإضافة إلى نشاطه المستمر حتى في سن متأخرة في الاعتداء الجنسي على الأطفال. إلا أن ما صدم الرأي العام هو ليس تقدّم بعض هؤلاء الضحايا برفع الدعاوى القضائية ضده، ولكن لأن (ابنه غير الشرعي من أحد هؤلاء النسوة قد تقدم بشكوى قضائية يتهمه فيه بالاعتداء الجنسي المتكرر عليه أيضاً). فقد كان يأخذ ابنه معه، تحت دعوى السفر وقضاء العطلات، إلى أحد غرف الفنادق ويعتدي عليه هناك. ولم تسقط الدعاوى القضائية ضد مارسيل مارسيل إلا بسبب وفاته في سنة 2008 [لعينة من الأخبار والأفلام عن الأب مارسييل، انظر الهامش رقم 1 و 2]، ولكن الدعاوى القضائية أعيد رفعها ضد جماعة (فيلق المسيح) (Legion of Christ) التي أنشأها هذا الأب الكاثوليكي ومارس شذوذه الجنسي ضد الأطفال تحت غطائها، وذلك بسبب أن عدد مَن اعتدى عليهم جنسياً من الأطفال تم وصفهم بـ (الدزينات من الضحايا) (Dozens of victims)، ولم يكن من المقبول، أخلاقياً، أن تنتهي تلك القضايا بموته. حاولت هذه الجماعة إنكار ما فعله مؤسسها هذا، ورفضت الاعتراف بمسؤوليتها، ولكن في فبراير 2014، أي منذ ثلاثة أشهر فقط، وأمام سيل الأدلة والبراهين على ما أسمته هذه الجماعة بـ (الحياة المزدوجة لمؤسسها البيدوفيل وزير النساء) و (حجم الشر والفضائح) نددت هذه الجماعة بالأب مارسييل مارسييل واعتذرت لـ (ضحاياه المتعددين) [انظر الهامش رقم 3]. هذا الاعتذار وضع دفاع البابا يوحنا بولس الثاني، شخصياً، عنه أمام الاتهامات المتكررة منذ عقود طويلة، ومعه المؤسسة الرسمية الكنسية كلها، تحت طائلة الانتقاد [تخيل فقط: رجل دين يُتهم تهماً متعددة كثيرة جداً، من أشخاص مختلفين لا تجمعهم روابط مشتركة، بالشذوذ الجنسي ضد أطفال صغار لمدة عشرات السنوات ويرفض البابا يوحنا بولس الثاني حتى مجرد التحقيق في الأمر، بل يتولى هو شخصياً الدفاع عنه، ويباركه علناً أمام كاميرات التصوير مرات متعددة في أوجه ضحاياه]. ولكن تلك الاتهامات وما نتج عنها من نتائج أبرزت أيضاً جزئية خفية، ولكن خطيرة جداً، في حياة هؤلاء الكهنة المسيحيين. إذ هذه الحادثة، ضمن شواهد وأدلة إحصائية وتحليلية أخرى، أبرزت حقيقة أن هناك (نزعة لدى الكهنة المسيحيين وشمامستها في إنشاء علاقات جنسية طويلة المدى مع الأطفال)، وليست مجرد علاقات عابرة. هذه المقالة سوف تتطرق لهذه الجزئية بالذات ضمن هذه المشكلة السلوكية في الفضاء العقائدي المسيحي.

تقرير (جون جاي) (John Jay Report)، وهو دراسة قامت به كلية جون جاي للعدالة الجنائية (John Jay College of Criminal Justice) ونُشر في سنة 2004، واسم التقرير كاملاً هو: (طبيعة ومدى انتشار مشكلة الاعتداء الجنسي على الأطفال من جانب الكهنة الكاثوليكيين والشمامسة في الولايات المتحدة الأمريكية) (The Nature and Scope of the Problem of Sexual Abuse of Minors by Catholic Priests and Deacons in the United States). ففي هذا التقرير فإن النزعة نحو (إنشاء علاقات جنسية طويلة المدى مع الأطفال تبدو واضحة جداً عند الكهنة المسيحيين). ففي الفترة من سنة 1950 إلى سنة 2002 كان هناك عشرة آلاف وستمئة وسبعة وستون (10667) شخصاً قد تقدم باتهام موجه ضد كهنة مسيحيين بخصوص التحرش الجنسي بالأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها [لاحظ أن هذا الاحصاء يشمل فقط الحالات التي قررت الخروج للعلن وكشف الاعتداء، مع إلغاء الملفات التي لم تكن تستوفي شروط الدراسة، ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن الأرقام الحقيقية هي أضعاف هذا العدد بكثير]. إلا أن الملاحظة المثيرة للاهتمام هي أن (التحرش أو الاعتداء الجنسي المتكرر امتد في بعض الحالات إلى سنوات طويلة) مما يشير إلى (استمرار علاقة الكاهن الجنسية بالطفل إلى مدة زمنية لا يمكن تأطيرها ضمن "العلاقات الطارئة" أو "قصيرة المدى"). ففي 38 بالمئة فقط من مجموع البلاغات حدث التحرش الجنسي وانتهي خلال سنة واحدة، أما باقي النسبة، أي (62 بالمئة) من إجمالي البلاغات، وبما مجموعه حوالي (6600) بلاغ، امتد هذا الاعتداء الجنسي على الضحية إلى أكثر من سنة واحدة. وجاء تفصيل الإحصاء كالآتي:

في أكثر من 21 بالمئة استمر التحرش لأكثر من سنة واحدة ولكن لأقل من سنتين. وفي 28 بالمئة استمر الاعتداء أو التحرش ما بين سنتين إلى أربع سنوات. و 10 بالمئة استمرت العلاقة الجنسية بين الكاهن والطفل ما بين 5 إلى 9 سنوات. وأخيراً أقل من واحد بالمئة استمرت العلاقة الجنسية لمدة عشر سنوات أو أكثر [انظر الهامش رقم 4].

وأيضاً، فإن هذه الدراسة كشفت عن عدد مرات الاعتداء الجنسي للضحية الواحدة من بداية تلك العلاقة الشاذة إلى نهايتها. فإذا بهذه الأرقام (تؤكد بدورها النزعة الأكيدة لدى الكهنة المسيحيين لتكوين علاقات طويلة الأمد مع الأطفال بدلاً من علاقات عابرة). فقد جاء هذا الاحصاء مستخدماً حوالي تسعة آلاف وخمسمئة حالة اعتداء (9493 حالة اعتداء) ضد الأطفال، ولتكون تفاصيلها كالآتي:

الاعتداء جنسياً على الطفل لمرة واحدة فقط -------- (29 بالمئة)
الاعتداء جنسياً على الطفل لأكثر من مرة واحدة --- (أكثر من 18 بالمئة)
الاعتداء جنسياً على الطفل لمرات كثيرة جداً ------ (حوالي 53 بالمئة)

فالرغبة في تعدد حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال لدى الكهنة تصل نسبتها إلى 71 بالمئة من نسبة الحالات التي خرجت للعلن ووضعتها الدراسة في موضع الفحص، وهو ما يؤكد تلك النزعة لديهم لتكوين علاقات طويلة المدى مع ضحاياهم من الأطفال.

إلا أن (الأخطر) في هذه الدراسة الاحصائية هو ملاحظتها أن (أغلب الكهنة الذين اعتدوا جنسياً على الأطفال كانوا [يتعمدون] بأن يختلطوا اجتماعياً ويقووا صِلاتِهم بعائلات الضحايا). بل إن التقرير أشار بصورة واضحة لا لبس فيها إلى أن أغلبية (الكهنة المسيحيين ذوي النزعة البدوفيلية قد كوّنوا صداقات مع عوائل الأطفال الضحايا مما يتيح لهم قضاء وقت أطول معهم داخل بيوتهم وضمن محيط عوائلهم). ففي عينة شملت (5295 كاهن) متهم بالبيدوفليا، وُجِد فيها النصف تماماً، (حوالي 50 بالمئة)، من هؤلاء الكهنة جمعتهم علاقات صداقة مع عوائل الضحايا. وأيضاً، ضمن عينة شملت (1834 كاهن) متهم بالبيدوفيليا، كانت النسبة حوالي 31 بالمئة (559 كاهن) سعوا إلى جعل الطفل يقضي الليل بطوله معهم مستغلين العلاقة الاجتماعية بعوائلهم. أما ضمن جميع أعداد الكهنة المتهمين بالبيدوفيليا في الولايات المتحدة خلال فترة الدراسة كان هناك حوالي 80 بالمئة منهم يتعمدون الاختلاط الاجتماعي بعوائل الضحايا (داخل منزل العائلة). هذه العلاقة الاجتماعية الوثيقة مع عوائل الضحايا قد صاحبها أيضاً نزعة متزايدة لدى الكاهن المسيحي لإعطاء الأطفال تنازلات خفية بعيداً عن أعين الأبوين وصلت إلى حد السماح لهم بقيادة سيارة الكاهن وهم دون السن القانونية بكثير(!) [النسبة هي أكثر من 8 بالمئة، انظر الهامش رقم 4]، وذلك في سبيل خفض ممانعة الطفل من جهة، ومن جهة أخرى ضمان الكتمان لِما يحدث بينهما. بل التسهيلات [الهدايا] التي قدمها هؤلاء الكهنة المسيحيين للضحايا الأطفال شملت مواد جنسية مصورة (أكثر من 8 بالمئة)، تقديم خمور ومشروبات كحولية ومواد مخدرة (حوالي 39 بالمئة)، وتقديم أموال (حوالي 21 بالمئة).

المثير للغرابة في هذه الدراسة أنها لاحظت أن الكاهن المسيحي خلال محاولاته الانخراط في علاقات طويلة المدى مع الأطفال ضمن العائلة الواحدة، فإن بعضهم (قد حاول التحرش الجنسي بأخوان أو أخوات الضحية أيضاً). فضمن عينة شملت (6350 كاهن مسيحي) متهم بالبيدوفيليا، كان هناك (1842 كاهن) منهم، أي بما نسبته 29 بالمئة، قد حاولوا أيضاً التحرش الجنسي إما بأخ الضحية أو بأخته (في محاولة منهم للجمع بين ضحيتين أو أكثر ضمن نفس العائلة الواحدة). ومِن ما مجموعه (10667 فرد مختلف) تعرض للاعتداء الجنسي عندما كان طفلاً من جانب أحد الكهنة المسيحيين، كان هناك ما نسبته أكثر من (17 بالمئة)، (أي 1835 شخص)، قالوا بأن أخاه أو أخته قد تعرضوا أيضاً للاعتداء الجنسي من جانب كاهن مختلف.

الخلاصة هي أن هناك نزعة واضحة لدى الكهنة المسيحيين لإنشاء علاقات جنسية مع الأطفال طويلة المدى بدلاً من نزوات عابرة. وفي سبيل تلك النزعة فإن الكاهن يلجأ إلى العديد من الأساليب، أهمها وأخطرها هي تكوين علاقات صداقة وثيقة مع أهل الطفل الضحية. ومتى ما تم له ذلك فإن الاستهداف لا يتوقف عند طفل واحد على الأرجح، ولكنه يشمل أي ضحية أخرى ممكنة داخل محيط تلك العائلة المستهدفة.


...يتبع



هــــــــــــــــــــوامــــــــــــش:


1- خبر في الصحف الأمريكية عن قضية الأب مارسييل مارسييل وابنه:

http://www.nydailynews.com/news/national/father-marcial-maciel-dad-sexually-abused-raul-gonzalez-claims-lawsuit-article-1.181520


2- فلم عن قضية الأب مارسييل مارسييل ومقابلة مع ابنه المعتدى عليه:

http://www.youtube.com/watch?v=PoMGws-bc7A


3- اعتذار جماعة (فيلق المسيح) (Legion of Christ) واعترافها بأفعال مؤسسها مارسييل مارسييل:

http://www.nytimes.com/2014/02/07/world/legionaries-of-christ-denounce-founder-marcial-maciel-degollado.html?_r=0


4- تقرير جون جاي:

http://www.usccb.org/issues-and-action/child-and-youth-protection/upload/The-Nature-and-Scope-of-Sexual-Abuse-of-Minors-by-Catholic-Priests-and-Deacons-in-the-United-States-1950-2002.pdf

#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات