أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الخامس شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة 2/2















المزيد.....


إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الخامس شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة 2/2


صباح الانباري

الحوار المتمدن-العدد: 4407 - 2014 / 3 / 28 - 07:50
المحور: الادب والفن
    


إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين
الفصل الخامس
شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة
2/2
ثانياًــ عبد الوهاب البياتي، يوسف الصائغ، لوركا:
لنغادر الآن مسرح الطرب وشخوصه، وندخل في فضاء الشعر كي نعرف ردة فعل الأحياء بعد خطوة واحدة من موت الشعراء، ولنبدأ من قصيدة (البياتي) ومن الإشارة إلى عنونتها التي اكتفت بلقب الشاعر (البياتي) نظرا لذيوع شهرة هذا اللقب الذي عُرِفَ به عبد الوهاب كشاعر رياديّ مجايل للسياب والملائكة، وهما أول من كسر العمود، وبدد التفعيلة، واستبدل وحدة البيت بوحدة القصيدة، ولا يخفى على القارئ ما للبياتي من أثر في الشعر العراقي والعربي جعله من طلائع شعراء تلك المرحلة.
في شخصية البياتي ثمّة ما يغري على تناولها، والاشتغال على منجزها. وربما بسبب هذا انتقاها أديب كمال الدين لتكون واحدة من الشخصيات الممثلة للشعر وتجلّياته، والشهرة ومقتضياتها، والشخصية وشطحاتها، والموت ونتائجه. وقد وضع أديب كمال الدين يده على أبرز المثابات في تاريخ هذه الشخصية شعرياً حيث استخدمها، بطريقة الاسترجاع والاستذكار عندما بدأ بروايته لشخصية البياتي الماثل بفروسية في قفص اتهام الشعر. يقول أديب كمال الدين مفتتحاً القصيدة وموجّهاً الكلام للبياتي مباشرة:
كنتَ تجيدُ لعبةَ الشعرِ بنجاحٍ ساحق:
تجيدُ لعبةَ البوكر الشعريّ
والنرد الشعريّ
والدومينو الشعريّة.
وفي الشطرنج
أنتَ الأستاذ الذي يمررُ الجنودَ بخفّة
ويطلقُ السهامَ من فوق القلاع
بمهارةٍ وبدقّة.(7)
هل أراد أديب للبياتيّ مدحاً حين جعل منه لاعباً مجيداً لكل أنواع اللّعب الشعريّ؟ هل أراد الكشف عن مهارات البياتي في لعبة الشعر؟ وهل الشعر لعبة ترفّه عن لاعبها الماهر كما تفعل الدومينو والنرد وسائر اللعب الأخرى؟ لا ينبغي لنا استعجال الرد لأننا أمام شاعر يحمّل القصيدة أكثر من معنى، ويلبسها أكثر من وجه، ويجيد الإزاغة عما يضايقه من الأفكار المضادة. ولا ينفكّ يعلن عن قدرة البياتيّ التي اكتسحت الشاعر الديناصور، والشاعر المهرّج، والبهلوان، والدونجوان ببطولة فردية مثيرة وقائمة على شدة البأس والشكيمة في قيادة المبارزات الشعريّة حتّى يحل المقطع الثاني وتحل معه رواية أديب كمال الدين الجديدة عن البياتي والتي يقول فيها:
كنتَ تجيدُ لبْسَ القميصِ الأحمر
وحمْلَ لافتةِ الشغيلةِ والتقدّمِ والصراعِ الطبقيّ،
والبكاء على ناظم حكمت
حينما يقتضي الحال.(8)
وهي رواية تفتح أمامنا باب التشكيك بما قاله الشاعر عن البياتيّ ففي البيت الأول من هذا المقطع ذكّرنا أديب كمال الدين إلى أن البياتيّ كان يجيد لبس القميص الأحمر وأراد من هذه الإشارة بيان انتماء البياتيّ للحزب الشيوعي العراقي، وتعكّزه على شعارات الشغيلة والصراع الطبقي، وتجييرهما لتسويق شهرته الشعريّة حسب. يخاطب أديب البياتيَّ قائلاً:
تعرفُ كيف تسخّرُ ماردَ الإيديولوجيا
لتلميعِ عرشكَ الشعريّ (9)
وقد ثبت هذا بعد تخلي البياتيّ عن الحزب الذي ساهم فعلاً بإيصال صوته لقاعدة الحزب الجماهيرية الواسعة آنذاك.
ولا يقلّ فعل التسويق هذا عن تجييره لعلاقته بالشاعر التركي الثوري ناظم حكمت لتسويق ثوريته ويساريته التي انتهت بالاسترخاء في احضان سلطة الحزب الشمولي الحاكم. وبالطريقة نفسها ذرف الدموع عليه كلما اقتضى الحال. فلم تكن الدموع من أجل ناظم حكمت حسب بل من أجل البياتي نفسه وإلا لماذا يبكيه "حينما يقتضي الحال" فقط؟ ربّ مجيب يقول أليس هذا هو عين ما نفعله حين نتذكر أحباء لنا رحلوا وتركوا في أنفسنا لوعة الفراق؟ والجواب نعم نحن نفعل هذا ولكن ليس كلما اقتضى حالنا وجود مخرج مما نحن فيه إلى ما نريد الوصول إليه. ولا حاجة بنا الآن للعودة إلى المقطع الأول لنجيب عن الأسئلة المؤجلة فقد وضحت الإجابة، وظهر المسكوت عنه، وما خفي وراء الكلمات. ولا أدلّ على هذا من قول الشاعر:
وتسخّرُ عفريتَ النقد
لخدمةِ سبأكَ الوهميّ.(10)
في هذين البيتين تجلّى تقييم أديب كمال الدين لتجربة البياتي الذي سخّر النقد ليرتقي به إلى مصاف لم يبلغها أحد من الشعراء. فهل كانت تجربة البياتي ضرباً من الوهم؟ وهل العيب فيما أنجزت أم فيما انتهزت؟ تلك موضوعة لا مجال للمجازفة والتحليق بأجوائها في هذه البحث لذا سنترك لغيرنا أمر سبر أغوارها، والوصول إلى حقائقها التي لم تعد دفينة كما كانت.
في المقطع الثالث تصل بنا القصيدة إلى ما نريد الاشتغال عليه، إلى الموت أو إلى ما بعد الموت بخطوة واحدة حسب حيث يستدرك أديب كمال الدين في مفتتح هذا المقطع قائلاً:
لكنْ قبل أن تموت بقليل،
وقد صرتَ شيخاً عليلاً،
بدأ أعداؤكَ بالصعودِ إلى المسرح
وهم يتهامسون.(11)
لقد قلب حضور الموت السحر على ساحره بعد أن وهنت قواه، وخارت فاعليته، وفرضت الشيخوخة عليه عللها وضعفها فاستطالت ألسن أعدائه وبدأت همسها المريب. وعلى الرغم من عظمة المتهامسين ومكانتهم في الشعريّة العربية إلا أنهم لم يستطيعوا الوقوف في حضرة البياتي ليصرّحوا بما يخفون ويضمرون. وبعد رحيله بخطوة واحدة حسب، وقفوا بشموخ ليشتموه من على منصات الشعر والثقافة:
في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض،
شتموك
وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً
حتّى صرتَ "الشاعر الضحل" لا "الشاعر الفحل"!(12)
تلك علّة ابتليت بها رياديّة الشعر العربي ولا تزال. كما ابتليت بها السياسة العربية ولا تزال. فقد سعى بعض الشعراء ليكون حادي ركب الشعر ومسيرته الطويلة. وسعى بعضهم ليشار إليه بها على أقل تقدير. ولما لم يكن ذلك في مستطاعه انتقل من السعي وراءها إلى شتم من استأثر بها وهو العارف أن ثمّة من هو أحق بجدارة عالية، وبقدرة كبيرة، وبشاعرية فائقة. وهذا هو الحال الذي استنتجته القصيدة في مقطعها الختامي الأخير إذ اطلق الشاعر وهو لا يزال مخاطباً البياتيّ آهةَ أسفهِ المرير:
واأسفاه
هكذا هي حال الشعر!
ولم تكن تلك الحال هي الوحيدة حسب، فثمّة حالات أخرى انتبه إليها أديب كمال الدين ضمن اشتغاله على شخصيات مهمة كشخصية الشاعر يوسف الصائغ في قصيدة (لافتات يوسف الصائغ) التي جاءت بثلاثة مقاطع يبدأ أولها بما قبلها، باعترافات مالك بن الريب. فمن هو هذا المالك الذي تماهت اعترافات الصائغ باعترافاته؟
إنه شاعر تميمي من نجد، وقاطع طريق، ومجاهد في الحرب ضد خراسان. شعرَ بدنو أجله لأسباب اختلف الرواة عليها. كتب قصيدة رثاء لنفسه، اعترف فيها باستسلامه للموت بعد أن كان يده الضاربة، وعُدّت من أفضل ما كتبه العرب في باب رثاء الذات. يقول بن الريب في هذه القصيدة: (13)
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجـــــــــــــــدْ........ سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيـــــــــا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانــــــــــــــــــــه........ إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيــــــا
ولكنْ بأطراف (السُّمَيْنَةِ) نسوة.. ..... عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما بيــــــــــــــــا
ومنها أيضاً:
يقولون: لا تُبْعِدْ وهم يَدْفِنوننــــــــــــــي........ وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيــــــــــــــــــــــــا
غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غـــــــدٍ........... إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويـــــــــــــا
وكمالك كتب يوسف الصائغ أجمل قصائد مجموعته (اعترافات مالك بن الريب) لكنه لم يستطع صون تلك الـ(اعترافات)، أو الحفاظ على سموّها، وتألقها، وتوهجها فاعترف ماثلا بين يدي الطاغية، معلناً ولاءه المطلق، وتخلّيه عن مالك، وعن التي انتظرته عند تخوم البحر(14) ولأنه ظلّ حاملاً لجثّة بن الريب بعد أن تسبب في قتله فأنّ أديباً يدعوه إلى تركه ليرقد في أمان وسلام:
حاملاً على ظهرِك
جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،
واقفاً تحتَ لحية ماركس الكثّة
وشوارب ستالين الصخريّة
لتهتفَ بملء الفم
تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ
ومقارعةِ الإمبرياليّة.(15)
في هذا المطلع الواضح البسيط نجد ثمّة مقاربة بين شخصية الصائغ وشخصية البياتي فكلاهما استظل بفيء اليسار، والأممية، والصراع الطبقي. وكلاهما نَضا قميصه الأحمر مستبدلاً "بسرعة البرق" لحية ماركس الكثة بلحية عفلق الحليقة، وشوارب ستالين بشوارب صدام حسين. لقد رفع الصائغ لافتاته الجديدة ومنها لافتات الحرب، وكتب أردأ القصائد في مدح ولي نعمته الجديد مما حدا بأديب مناداته ليطرح بصدق أسئلته المتأسفة الدامغة: "لمَ خذلتَ نفسَك؟" و"لمَ خذلتَ مالكاً معك؟" و"لِمَ خذلتَ سيّدةَ التفّاحاتِ الأربع؟"، وليطالبه بإنزال مالك من على ظهره بعد أن ولّى زمن الهتاف تحت اللحى والشوارب الأيدولوجية. لقد رحلت الشوارب المقدسة، ورحلت معها اللافتات والشعارات الرنانة والطنانة، ورحل الصائغ أيضاً وبعد خطوة واحدة من الموت بدأ الكل يحتسي خمراً ولكن من تراب.
في جماجم من تراب
ليشربوا مرعوبين مذهولين إلى الأبد!(16)
لقد أضاء أديب كمال الدين في هذه القصيدة والتي سبقتها الجوانب المعتمة من حياة الشخوص، وجعل من صورهم واضحة وجليّة، ومن إنجازهم الشعريّ أو المعرفي أداة إدانة لاعوجاجهم وانحرافهم واستبدالهم ذهب الفكر بالتبن كي تأتي الخطوة الأخيرة، فيما بعد الموت، وامضة خاطفة لم يحسبوا لها، قبل خطوة أو يزيد، حساباً. ويبدو أن أنموذج (لوركا) في شعر أديب كمال الدين يختلف تماماً عن نموذجيه السابقين (البياتي والصائغ) فلم يغيّر لوركا في مساراته الفكرية، ولم يطلق الشعارات تحت قبضة الطاغية الفولاذية ولم يتراجع أمام جبروت وطغيان فرانكو ولهذا استحق الرثاء الخالص، والتمجيد الذي لا تشوبه شائبة، والمديح الذي لا غبار عليه والذي جاء بعد عدة جمل سينية سوّفت (في المقطع الأول) موت الشاعر الغرناطي على يد فرانكو، أو أتباعه، أو رصاصه المسعور كما سوّفت البكاء عليه من قبل القتلة، وأشباههم، وأعدائهم في المقطع الثاني الذي تساوى فيه البكاء عليه كمغدور به مع يوسف النبي كمغدور به أيضاً في دلالة قطعية على نقاء لوركا وقداسته:
سيبكي عليكَ، إذنْ، أخوتُك:
أخوةُ يوسف
مثلما سيبكي الشيخُ الكبير
والمرأةُ التي جُنّتْ بحُبّك
والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ.
حتّى الذئب سيبكي عليك!(17)
من الطبيعي في شعر أديب أن الشخصية مأخوذة بما جُبلت عليه، وما وصلت إليه. مأخوذة بإنسانيتها، وصونها لجوهر تلك الإنسانية. مأخوذة بطيبتها وبخبثها أحياناً، أو بكل ما ملكت يمينها وهي لهذا وذاك لا تمثّل فرداً مجرداً ففي كيانها تتماهى عشرات وربما مئات بل آلاف الشخصيات. ولعلّ شخصية الشاعر هي الشخصية المركزية التي تناسل منها كم هائل من الشخوص على مدى مسيرته الإبداعية. وكأن لا فرق بين لوركا على سبيل المثال وبين أديب وبينهما وبين يوسف الصدّيق أو سائر الشخصيات التي لم ترضخ لظلم وقسوة الظروف القهرية المحيطة. حتّى الشخصيات التي عدّت على الجانب الآخر فأنها على الرغم مما شاب سلوكها من انحراف وانتهازية وأنانية إلا أنها لا تخلو من جانب مشرق ينزهها عن الاستسلام للدنايا.
في المقطع الثالث ثمّة تسويف آخر يشي بفعل القتلة الذين سيبحثون عن قبر لوركا ليذرفوا دموع التماسيح كل يوم لا حُبّاً وفقداناً للوركا بل لغاية دنيئة في نفوسهم يرتجونها.
أما المقطع الرابع والأخير فهو مقطع استدراكي استدرك الشاعر فيه معللاً خلود قصائد لوركا على الرغم من زيف الزمن الفرانكوي استدراكاً أدّى وظيفته المركزية وإن لم يجترح الخطوة الأولى ما بعد الموت مباشرة إلا من خلال ما آلت اليه حياته التي امتلأ بها مجدداً.
هكذا امتلأتَ بالحياةِ إذنْ،
يا أيقونةَ الشِعْر،
وصارت شمسُ الأنهارِ سفينتك
وقمرُ الفضّةِ دليلك
وشعراءُ الفجرِ في كلِّ مكان
نوافذَكَ التي تتألقُ بحروفِك
أيّها الغرناطيّ القتيل.(18)
في هذه القصيدة وفي هذا المقطع تحديداً استخدم أديب كمال الدين فعل الصيرورة والتحوّل من حال إلى أخرى (صارت) لبيان ما آلت إليه حالة لوركا بعد اطلاق الرصاص الفرانكويّ على جسده النحيل. القصيدة بمقاطعها الثلاثة وحتّى طليعة المقطع الرابع إذن كانت تحكي قصة حياة لوركا في الزمن الفرانكويّ الذي قتل فيه وقد تحولت بعد فعل الصيرورة لتحكي لنا ما حدث بعد خطوة واحدة من الموت حسب.
ثالثاًــ الحسين بن منصور الحلّاج:
لم تكن النماذج السابقة التي اشتغلتُ عليها في هذا الفصل هي النماذج الوحيدة التي تصلح لبيان حالة ما بعد الموت بخطوة واحدة فقط، فثمّة نماذج أخرى لها من الأهمية ما للنماذج السابقة ومنها قصيدة (إنّي أنا الحلّاج). وهي قصيدة تماهى فيها أديب كمال الدين والحلّاج وانصهرا في شخصية واحدة، فمن هو هذا الحلّاج القرين؟ ولماذا اختاره أديب كمال الدين ليكون الناطق في هذه القصيدة؟ وعلى من تعود عنونتها؟ أعلى الحلّاج نفسه أم على أديب كمال الدين؟
الحلّاج هو أبو مغيث الحسين بن منصور الحلّاج ولد في أحدى قرى البيضاء الفارسية عام 244 هجرية، وترعرع في واسط العراق، ودرس المناهج الصوفيّة، وتبحّر في حروف اللغة ونقاطها وترميزها باعتبارها مادة اللغة الأولى، وتوصل لحقيقة الأشياء من مسمّياتها وهو القائل على سبيل المثال لا الحصر: "سُمِىَ عزازيل، لأنه عُزِلَ، وكان معزولاً في ولايته؛ ما رجع من بدايته إلى نهايته، لأنه ما خرج عن نهايته".
وكان أوّل المتصوّفة الذين تحدثوا عن النقطة والدائرة ثمّ ثبت كلاهما، من بعده، كمصطلح في اللغة الصوفيّة. له كتاب (الطواسين) وفيه يستجلي قيمة الحروف وتراكماتها اللغوية والدلالية مؤكداً أن التجليّ الأتم لها في القرآن. ويعدّ الكتاب انجازاً، وتطويراً، وتتويجاً بارزاً لمسيرة اللغة الصوفيّة. حُكِمَ عليه بالسجن، وفيه عُذّب وجُلد وقُطّعت أطرافه ثمّ رأسه وأُحْرِقت جثّته وقيل أنّ رماد جثته جُمعَ ووضِعَ فوق مئذنة لتذريه الرياح إلى كل مكان. وقيل رُمِي رماده في نهر دجلة عام 309 هجرية. من أشعاره التي قادته إلى الصلب:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنــــــــــــــــا ....... نحن روحان حللنا بدنـــــــــــــــــــا
فإذا أبصرتني أبصرتـــــــــــــــــــــــه .......وإذا أبصرته أبصرتنـــــــــــــــــــا

ونظراً لتشابه شخصيتي الشاعر والحلّاج، كمتصوّفين ذاقا مرارة العيش وشظفه، اختار أديب كمال الدين الحلّاج ليكون (المخاطِب) الناطِق باسم القصيدة. ويكون هو (المخاطَب) المتلقي لفحوى خطابها الحلّاجيّ. وعليه فأن العنونة تعود تبعا للفاعل المخاطِب في القصيدة إلى شخصية الحلّاج. وفي الوقت نفسه نحكم بعائديتها لأديب كمال الدين باعتباره خالق مفرداتها، ومؤثث لغتها، والمسيطر على حركاتها وسكونها، والموجه لرأس السهم على لوحة بياناتها. وبمعنى آخر أن الشخصيتين معاً تعملان وفي آن واحد على لعبة النص من خلال الضميرين (أنت أنا) و(أنا أنت).
في مطلع القصيدة يخاطب الحلّاج الشاعرَ الحروفيّ (أنت أنا) كما لو أن الشاعر يخاطب نفسه (أنا أنت):
لا تقتربْ من ناري!
من نارِ قلبي وسرّي،

فإنّي أخافُ عليكَ من النار(19)
ثمّة نهي واضح وأكيد في هذا المطلع استخدمت فيه (لا) أداة لنهي الشاعر عن الاقتراب من نار المخاطِب (الحلّاج) بحزم وجزم غير قابلين للمداولة بعد أن أدرك الحلّاج مدى الخطر المحدق بالشاعر الذي بدأ الاحتراق فعلاً بنار القلب وسر العشق. ولما فشل في نهيه صار يحذره فقط "فكنْ على حذرٍ" ولما لم يأخذ الشاعر بتحذيره عاد لاستخدام النهي ثانية:
لا تقتربْ!
أخافُ عليكَ من الصلب
وما بعد الصلب.(20)
الشاعر غير هيّاب بالصلب ولكنه توّاق لمعرفة ما بعد الصلب خلافاً للحلّاج الذي يخاف عليه أن يرى الصلب ولا يخاف عليه مما بعده فهو يستهون ما سيُقال بعد خطوة من موته على ما قيل قبل موته وهو يخشى على الشاعر الشقاء، ومناصبة الأعداء، والصعود إلى خشبة الصلب. ومع خشيته وخوفه من الهلاك فأنه يعرف معرفة يقينية أنّ الشاعر لم ولن يتجنب الاحتراق بنار المعرفة التي خبر الاحتراق فيها مئات المرات:
لا تقتربْ!
فلقد احترقتُ قبلكَ ألفَ مرّة
وما ارعويت.(21)
ومن النهي والجزم ينتقل إلى الأسئلة التفسيرية والتوضيحية بأمل اقتناع الشاعر بما حذّر منه وما وقع له من قبل أن يضع الشاعر خطوته الأولى على طريق الغياب الأبديّ." كيف يُسمّونكَ حين تموت؟" وهو سؤال تشكيكي غرضه إقناع الشاعر أنّ كل شيء سيتبدل بعد الموت بخطوة واحدة فلا الحروفيّة ستظلّ على حروفيتها الخالصة، ولا معجزة الحرف الإلهي ستظل على إعجازها، ولا أسطورة النقطة ستظل على أسطوريتها، وسيكون تقييم تجربة الشاعر العرفانية والمعرفية آنذاك قائماً على أسس غير واقعية ولا منطقية لأنهم:
سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة
وبمقولاتهم الجاحدة
لتضيع كما ضعتُ من قبلك؟
أم سيقيسونكَ بمحبّتهم القاسية
وبعشقهم المزيّف
لتضيع ثانيةً كما ضعتُ من قبلك؟(22)
هنا تلتقي رؤيتان لما بعد الموت: رؤية الحلّاج الذي مرّ بالتجربة وقسوتها، ورؤية الشاعر الذي تنبّأ بها وعانى في سبيلها ومن جرّائها. والرؤيتان أكدتا في هذه القصيدة ما أكدته قصيدة (البياتي) من هول الـ "مقولات الجاحدة" وغير المنصفة، وتلك التي قادت الشعراء إلى الضّياع. وهذه النقمة كلها أراد الشاعر استبصارها بعد أن تنبّأ بها خوفاً من أن يعامل إرثه الحروفيّ بالجحود نفسه، وبالتقييم نفسه، وهو العارف أن هذه هي حال الشعر على مرّ العصور والأزمنة.
لقد مررنا بمثابات التشاخص الثلاث، وعبرنا مساحات الموت الافتراضية، وتوقفنا على دكة الغياب الأبديّ في رحلة لم تصل إلى نهايتها فثمّة مساحة رابعة أخرى لا تزال قيد الغموض، ولا يزال الشعر متهيّباً من الخوض في بحورها أو في مجاهيل بحورها العامضة فما من أحد عاد منها ليروي عنها روايته التي لا يتلبسها الغموض ويكفينا أننا غامرنا فخضنا رحلتنا الاستكشافية في إشكاليّة الغياب وتشاخصه في حروفيّة الشاعر أديب كمال الدين.
نقاط الاستنتاج:
• شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة: هم الشخوص الذين عبروا خطّ الحضور المؤقت إلى عالم الغياب الأبدي، وخطوتهم ما بعد الموت تعني تلك المسافة الحرجة التي تبدأ بعد موتهم مباشرة.
• اشتغل الشاعر على شخصيات مصطفاة وملائمة لما تتطلبه غاية قصائده، وخطوتهم ما بعد الموت المرتبطة مع شخوص المرحلتين السابقتين بسلسلة الأقوال وردود الأفعال السلبية والايجابية التي باحوا بها بعد رحيل الشخصية بخطوة واحدة.
• الشخصيات التي اختارَها شعرياً، واشتغلنا عليها نقدياً جلّها من الراحلين إلى العالم الآخر بطريقة فيها من الدرامية ما يجعلها مؤهلة للتناول شعرياً ونقدياً. وتنقسم على فئتين: الأولى من الشعراء، والثانية من المطربين أو من لهم صلة بهاتين الفئتين. وقد اقتصرنا في اشتغالنا عليهم على التخصيص دون التعميم تجنباً للسقوط في المطبّات الحرجة.
• ركّز الشاعر في هذه المجموعة من القصائد على الخطوة الأولى لما بعد انتقال الشخصيات إلى العالم الآخر موضّحاً من خلالها، ضمناً، فكرته عن الشخصيات، وجوهر موقفه من نتاجها الإبداعي، وحكمته بلبوسها الوعظيّ، والحروفيّ، والإنسانيّ.
• لم نجد كبير فرق بين لوركا على سبيل المثال وبين أديب كمال الدين، وبينهما وبين يوسف الصدّيق أو سائر الشخصيات التي لم ترضخ لظلم وقسوة الظروف القهرية المحيطة.

السؤال الذي يظل ماثلاً بعد رحلة البحث الطويلة هذه هو: هل يمكن لرحلة مقبلة أن تتوغل في أعماق المساحة الافتراضية الرابعة؟
أتمنى ذلك حسب.

..............................
إشارات واحالات
(1) من لقاء للشاعر نُشِرَ في صحيفة الزمان- لندن 1- 7- 2009.
(2) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 24/ قصيدة: (صقر فوق رأسه الشمس) وهذا العنوان مأخوذ حرفياً عن قصيدة الشاعر الراحل رعد عبد القادر (صقر فوق رأسه الشمس).
(3) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 105.
(4) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 65.
(5) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 65.
(6) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 39.
(7) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 114.
(8) (9) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 114
(10) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 114.
(11) (12) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 114.
(13) (مالك بن الريب) ويكيبيديا الموسوعة الحرة/ الشبكة العنكبوتية.
(14) (انتظريني عند تخوم البحر) قصيدة طويلة من قصائد يوسف الصائغ التي استلهم فيها حياة الشاعر الراحل من قبله بدر شاكر السياب.
(15) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
(16) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
(17) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
(18) الحرف والغراب/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ ط1/ بيروت 2013/ ص 58.
(19) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 17.
(20) المصدر السابق.
(21) المصدر السابق.
(22) أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ صفحة 17.
يتبع







#صباح_الانباري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الخامس شخوص م ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الرابع شخوص ع ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الرابع شخوص ع ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثالث شخوص م ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثاني تمهيد ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثاني تمهيد ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين/ الفصل الثالث/ شخوص ...
- شكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثالث شخوص ما ...
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين/ الفصل الأول 2/2
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين/ الفصل الأول 1/2
- قراءة في قصيدة الشاعرة د. اسماء غريب (اليكَ شمسي في عيد العش ...
- الاحتراق عِشْقاً في مجموعة السماوي (أطفئيني بنارك)
- سيرة ذات حروفية.. قراءة في سرة أديب كمال الدين الابداعية
- كتاب موت الرواية.. أزمة الخيال الفني بعد عام 1985
- العنونة وجمل القص في مجموعة صالح الرزوق (تشبه القصص) أوراق ف ...
- القواسم المشتركة في قصص د. صالح الرزوق حضور بصيغة الغائب
- محي الدين زنگنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة
- أضف نونا قراءة في كتاب د. حياة الخياري
- قراءة في أنشودة النقيق للكاتب المسرحي راهيم حسّاوي
- العنف في المسرح


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الخامس شخوص ما بعد الموت بخطوة واحدة 2/2