أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - شكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثالث شخوص ما قبل الموت 1/2















المزيد.....


شكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثالث شخوص ما قبل الموت 1/2


صباح الانباري

الحوار المتمدن-العدد: 4385 - 2014 / 3 / 6 - 15:00
المحور: الادب والفن
    


إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين
الفصل الثالث
شخوص ما قبل الموت
1/2

"هكذا ظهر وبقوّة في قصائدي حمورابي ونبوخذنصر وكلكامش وأنكيدو والمعرّي والتوحيديّ والحسين والمأمون والشريف الرضيّ وغيرهم. ومع هذا بالطبع ظهرت رموز الإنسانية الكبرى كنوح وإبراهيم الخليل ويوسف وموسى وعيسى ومحمد (صلوات الله عليهم)، كما ظهرت رموز الإنسانية الأخرى ذات البعد المسرحي والتراجيدي كأوديب وهاملت وأوفيليا وماكبث! كلّ هذا ظهر لأنّ شعري معنيّ أولاً وأخيراً بالإجابة عن معنى الحياة وسرّها، وعن معنى الموت وسرّه، ولماذا كُتِبَ على الإنسان مثل هذه الرحلة العجيبة المليئة بالأحزان والمآسي: الرحلة التي لم يخترها لا في توقيت الولادة ولا في توقيت الموت!"(1)
أديب كمال الدين
*
تمهيد:
شخوص ما قبل الموت: هم شخوص مرّوا تحت (حاء) الحياة، والحُبّ، والحرب. خبروا مباهج (الحاء) ومنافيها، ونالوا منها أسوأ ما تمنحه للبشر من قهر، واضطهاد، وتغييب، وموت. هم عكازة الشاعر في الصحراء والمنفى، ومقوده في ترويض البحر والموت. منهم من ارتبط به بعروة الصداقة مثل: د. حسن ناظم، وعماد حسن. ومنهم من ارتبط به بعروة الأدب والفن مثل: زوربا، وفيروز. لكل واحد منهم ما يميّز شخصيته، وعطاءه، وأسلوبه في العيش، لكنهم جميعاً يقعون تحت مؤثّرات الموت إلى أجل مسمّى بمن فيهم شخصيته التي تمارس حضورها بطرق مختلفة: فمرّة من خلال حضوره المباشر المكافئ للشخصية المركزية مثل قصيدة (تمسّكْ بها واستعنْ)، ومرّة كشخصية مركزية مثل قصيدة (فيروز)، وقصيدة (المطربة الكونية)، ومرّة يتجلّى حضور شخصه كصوت ناقل لأخبار ما قبل الموت كما في قصيدة (زوربا) وقد تختفي شخصيته أحياناً وراء سطور القصيدة كمبدع لها، وخالق لشخوصها، ومتحكّم بأحداثها، ومسيطر على أداء الشخوص فيها وهذا ينطبق على أغلب القصائد، ومرّة يظهر لنا كحرف في مواجهة مصيرية مع الموت مثل قصيدة (صيحات النقطة)، ومرّة كشخصية منشطرة إلى منادى ومنادى عليه حيث تقوم الشخصية الثانية بمناداة الشاعر أو أن الشاعر ينادي على نفسه بنفسه مثل قصيدة (لِمَ أنت)، ومرّة كشخصية تفتتح القصيدة حسب، لتباشر الشخصية المهيمنة دورها مثل قصيدة (حوار) وعلى الرغم من تعددية هذا الحضور واختلافاته إلا أن القارئ يستطيع، بقليل من الصبر، (القبض) على شخصية الشاعر متنكّراً بواحد من أقنعته التقنية المختلفة فما باله وهو العارف معرفة يقينية بوجود الشاعر في كل قصائده كخالق لها، ومبتكر لتفاصيلها؟ ليس حضور شخصية الشاعر واختلافات سبل حضورها هو ما نريد الوصول اليه حسب، فهو لا يشكّل إلا واحداً من الأهداف الستراتيجية التي تسعى هذه الدراسة إلى تحقيقها. لقد اهتدينا لشخصيته بسهولة ولكن هل نستطيع الاهتداء إلى شخصيات القصائد بالسهولة نفسها إذا افترضنا قدرتنا على ذلك؟ وهل يمكننا تصنيفها بحسب ما وردت في مجاميعه كلها؟ ربما نستطيع ولكن ليس دون سلطان يصل بنا إلى جوهرها المكنون. وما دمنا بصدد شخصيات القصائد وتجربتها في الحياة أو خوضها معركة التنديد بالموت لنا أن نسأل: هل يمكن لأيّ شخصية تصادفنا أن تكون مركزية في قصيدة ما؟ ولماذا لا تكون كذلك وهي تمارس حياتها، وتقلّبات تلك الحياة، وتبدلاتها بشكل يومي وتفصيلي؟
اذا استعرنا من )غوته( أن "الفن هو الفن، لأنه ليس الحياة" فإننا نجزم أن الشخوص في القصائد ليست كما هي في الحياة أيضاً. وإذا صار نقاد المسرح لا يمتدحون العقدة في العمل المسرحي، ويكتفون بمدح الشخوص كونها كائنات بشرية نقتنع بوجودها الحقيقي فإننا نذهب مذهب مَن يعترض على هذا في الشعر. بل ونحرّض ضده في واقع الحال. إن عبارة كائنات بشريّة نراها ذات عموميّة على درجة عالية من النقيصة ذلك لأننا ندّعي فقط أننا نعرف بعضنا بعضاً ولكن في حقيقة الأمر أننا لا نعرف بعضنا بعضاً إلا ظاهرياً. الشاعر والمبدع هما من يخبرنا ببعض أسرار الشخصية من زاوية نظر محددة برؤيتيهما المتلائمتين مع طبيعة تلك الأسرار. ولو جرّبنا هذا على واحدة من قصائد أديب كمال الدين لوجدنا أن الشخصية فيها تخطّت حاجز الحياة متحوّلة إلى عالم أضاف لها ما جعلها مختلفة ومغايرة لأصلها الأول فشخصية (يوسف الصدّيق) على سبيل المثال وطفولته المنتهكة امتزجت بطفولة أديب كمال الدين وحرمانها ويتمها مما جعلها مركبة من مجموعة صفات صبت كلها في مصب مشترك واحد انصهرت فيه متحوّلة إلى مصل جديد منه خلق الشاعر الشخصية الجديدة بعِبَرها، وجوهرها، وبوحها المتصل والمنفصل في آن واحد. وإذا كان خطّ الشخصية البياني (يوسف الصّدّيق) قد أشار رأس السهم فيه إلى مسار أفقي تصاعد قليلاً فأنه في قصائد أديب كمال الدين (البئرية) أشار إلى مسار متصاعد باتجاه ذروة شعرية درامية ملتحمة بهدف القصيدة وستراتيجيتها. ولا غَرْوَ إذا نحن قلنا إن شخصيات القصائد عند أديب كمال الدين تلبس، أحيانا، لبوساً درامياً متأتٍ من تأثير الدراما على تكوينه المعرفي منذ بداية مشواره الأدبي.
قد يبدو أديب كمال الدين في قصائد ما قبل الموت مرناً حدّ تقبّله بعض الشخوص ممن لا يتوافقون وإيمانه المطلق، ولا غَضاضة في هذا فالقضية غير محددة أو مقتصرة على ما هو عام في هذه العلاقة داخل القصيدة لأنّ القصيدة حددت هدفها الذي سنجد أنها تنتهي إليه دوماً، في هذا القسم على أقل تقدير، وإن جاءت بصيغ مختلفة مثل قصيدة (زائر شقّة البارك رود). ثمّة قصائد أخرى تندرج تحت هذا القسم وهي التي تناولت الحروف أو النقاط كشخصيات لها أثرها وتأثيرها في حياة ما قبل الموت ومنها على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة (حُبّ) وقصيدة (ارتباك) وقصيدة (اكتشافات الحرف) وقصيدة (حلم) من مجموعة الشاعر (شجرة الحروف) فضلا عن قصيدة (شين الموت) من مجموعة (الحرف والغراب).
قد يعتبر أحد ما أن أغلب قصائد الشعراء، وأديب كمال الدين واحد منهم، تقع ضمن هذا التقسيم المنفتح على الحياة بشكل واسع للغاية، وهو محقّ إذا لم يأخذ محدداتنا بعين الاعتبار، وهي محددات تمسّ الجوهريّ من منجز الشخوص في حياتهم السابقة للرحيل الأخير إلى عالم الموت، ولهذا سنجد قصائد أديب كمال الدين التي اشتغلنا عليها في هذا القسم حصراً متشابهة إلى حد ما في عمومياتها، ومتوافقة في نتائجها، ومتقاربة في نهاياتها، وممثلة لدورة الشخوص الزمانية التي تجمعها وحداتها الزمانية المتقاربة. وبما أن شخوص هذا القسم استأثروا بمساحة غير محددة في قصائد أديب كمال الدين لذا ركّزنا اشتغالنا على بضع قصائد منها أملاً في إعطاء صورة واضحة للمهم والجوهري في موضوعتنا الرئيسة. ولا بد لنا ونحن نتناول موضوعة الشخوص أن نشير إلى إهداءات الشاعر التي اقترنت بأسماء شخصيات محددة أنها لم تكن مجرد إهداءات حسب، كما هو شائع أدبياً بين جمهرة الكتاب والمبدعين، بل تجاوزت ذلك إلى وضع الشخوص (المهدى إليهم) في مركز الحدث داخل القصيدة. إنهم أبطالها المحوريون أحياناً، والمشاركون لشخوصها المحوريين أحياناً أخرى. وهذا لا يلغي طبعاً وجود إهداءات تقليدية سابقة في قصائده مثل قصيدة (محاولة في السحر) والتي لم نعثر فيها على أثر للدكتورة بشرى موسى صالح، وقصيدة (محاولة في البهجة) التي لم نعثر على شخصية حسين درويش فيها، وكذا الحال بالنسبة إلى فيصل عبد الحسن وغيرهم.

نماذج من شخوص ما قبل الموت:
أولاًــ حسن ناظم:
في قصيدة (تمسّكْ بها واستعنْ)(2( تتجلّى شخصية حسن ناظم في أربعة مقاطع على سبيل المثال: الأول إخباريٌ يخبرنا الشاعر فيه أن صديقه الذي جمع الدنيا في حروف ثلاثة (ح ، س، ن) كان دليله الوحيد حين سقطت الشمس وتشظّتْ وعمّ الظلام فصار لِزاماً على الشاعر أن يجمع شظاياها، وصار على حسن ناظم أن يتماسك ليكون دليلاً. من هنا يبدو أن حسن ناظم هو المعني في عنونة القصيدة من خلال فعليها (تمسّكْ واستعنْ). الفعلان هما شرطا الصداقة التي أرادها أديب أن تكون طوق نجاة مما هما فيه وكأنّي به يقول لصديقه إن لم تفعل هذا وذاك فإننا من الهالكين.
في المقطع الثاني وهو مقطع استفهامي ولكن ليس بقصد الاستفهام التعجيزي حسب، بل بقصد ترفّع الشخصيتين أيضا (أديب وحسن) عن الدنايا، والتدليس، والتبليس، ومدح السلطان. وبقصد بيان الاستحالة على كليهما أن يكون شأنهما شأن المتمسكين بأذيال وليّ نعمتهم من السَفَلة، والمطبّلين المزمّرين، وأنصاف الشعراء، وأنصاف البشر. وعليه كان محالاً عليهما جمع شتات الحقيقة في ظرف أقل ما يُقال فيه أنه ظرف عصيب.
في المقطع الثالث يتكرر الاستفهام التعجيزي ولكن بصيغة مَن يقوم بالفعل فتأتي ردّة الفعل على غير هواه:
حين مدحنا حاءَ الحُبّ
نلنا حاءَ الحرب،
وحين مدحنا حاءَ الحريّة
نلنا، بكرمٍ أسطوريّ، حاءَ الحقد(3)
وكان من نتائج هذا أن امتلأت حقائبهما بالبرد، والمنافي، ولم يبقَ لهما طوق نجاة في بحار الغربة إلا التماسك في المقطع الأخير من القصيدة وهو مقطع معطوف على عنونة القصيدة (تمسّكْ بها واستعنْ) يفصح أديب كمال الدين فيه عن عروة ذلك التمسّك القائم على حرفي الياء والسين (يَس) وبهما يحيلنا إلى السورة القرآنيّة السادسة والثلاثين (سورة يَس)، ولكن لماذا سورة ياسين تحديداً؟ لأنها تضمّنت الإخبار بقصة أهل القرية (انطاكية على الأرجح والتي كان يحكمها ملك يدعى انطيخس) التي كذّب ملكُها ومريدوه الرسلَ الذين أرسلوا إليهم بالحق المبين، واضطهدوهم كما اضطهد الطاغيةُ ومريدوه الصديقين: في بغداد دافعاً بالشاعر إلى الاغتراب، وفي بابل فارضاً المنفى على حسن ناظم. ولأجل نهوضهما معاً (المغتربُ والمنفيّ) رأى الشاعر أن لا مندوحة عن استخدام فعلي الأمر (تمّسكْ واستعنْ) ليأمر ناصحاً صديقه التمسّك بعروة هذه السورة، والاستعانة بها:
علّها تعلّمنا كيف نرقص
ذات يومٍ
مثل الدراويش على بابِ بغداد
أو علّها تعلّمنا
كيف نجمعُ شظايا الشمس
حين يصطادنا الموت
ولا بد أنْ يصطادنا الموت
يا أخي ودليلي!(4)
القصيدة إذن اشتغلت على حياة الشخصية المركزية فيها (حسن ناظم) فضلاً عن شخصية الشاعر التي طرحت نفسها من خلال الضمير أو الصوت الموكّل برواية قصة الشخصيتين معاً، وملازمتها لشخصية القصيدة بعد أن ألغت الفواصل بينهما. القصيدة أيضا ادخرت كمّاً هائلاً من الحقائق الاجتماعية والسياسية كان ممكناً التطرق إليها ولكن ما همّنا ويهمّنا في هذا البحث هو التركيز على المسافة الفاصلة بين الشخصية ونقطة الموت كما مرّ بنا في تمهيدنا للتشاخص والحروفيّة والموت.
ثانياًــ فيروز، المطربة الكونيّة، عفيفة اسكندر:
إذا كانت شخصية الشاعر في القصيدة السابقة قد طَرَحَت نفسها بشكل مكافئ للشخصية المركزية أو التي افترضنا مركزيّتها فأنه في قصيدة (فيروز) جعل من شخصيته مركز القصيدة ومحورها(5) كما جعل من شخصيته مركزاً ومحوراً لقصيدة (المطربة الكونيّة) باستخدام أغاني السيّدة أم كلثوم أداة فنية انعكست من خلالها معاناته عبر مراحل حياته من الاستقرار إلى التشتت فالاغتراب. وهذا هو عين ما فعله في قصيدة (فيروز) إذ جعل من الشخصية الثانية داخل القصيدة أداة فنية لتأكيد حالات الحدث الرئيسة الثلاث باستخدام أغنيات فيروز كأيقونات تدخر كمّاً معلوماتياً أو استذكارياً أغنى الشاعر عن الدخول في التفاصيل التي من شأنها أن ترهّل القصيدة، واستكمالاً للمقارنة نقول أن القصيدتين اشتغلتا على الحالات الثلاث المشار إليهما: الاستقرار، والتشتت، والاغتراب في قصيدة (المطربة الكونية). والطفولة، والشباب، والكهولة في قصيدة (فيروز).
يقول في قصيدة (فيروز):
كنت أسمعُها منذ الطفولة،
منذ الدشداشة اليتيمة
والسرير الوحيد(6)
في مطلع القصيدة هذا ثمّة محددات أوليّة مهمة في شخصية الشاعر منها ما هو ذوقيّ سماعيّ متأثر بطرق السمع والانتقاء المهذبين "كنت أسمعها منذ الطفولة" والسماع هنا متعلق بالسيدة فيروز، وبعائلة الشاعر التي دخل صوت فيروز إليها كطقس يومي توارثه واعتاد عليه. ومنها ما هو اقتصادي يشير إلى انتمائه الطبقي، أو الفئوي "منذ الدشداشة اليتيمة". ومنها ما يتعلّق بالشعور المبكر بالوحدة المنتجة "السرير الوحيد". ويقول في مطلع قصيدة (المطربة الكونيّة):
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو لواعج روحي
وارتباكها الأزليّ
إلى أغنياتكِ المزهرةِ بالشوقِ والأنين،
إلى صوتكِ الذي تحفُّ به


ملائكةٌ من الدمعِ والياسمين،
إلى نيلكِ وشمسِ أصيله الغامضة.(7)
الرقم بداية يشير إلى النضج والحكمة. يقول أديب كمال الدين في أحد حواراته: "الأربعون رقم مقدّس دينياً وشعبياً وسحرياً وفلكلورياً وخرافياً. فهو سن الحكمة والنبوة والنضج" (8) وسنجد أن أديباً يكرره في قصائد أخرى مثل (محاولة في الرثاء) إذ تبدأ القصيدة مطلعها كما يأتي:
في الأربعين
في العامِ الأربعين
جلستُ على بابِ الحُلْم
كان الحُلْم نحيلاً كموعدٍ ضائع
طيّباً كنارٍ بدويّة(9)

ومن هذا الرقم يأخذ المعدود مسمّياته فيها مثل الصيحة الأربعين، والليلة الأربعين، والخزانة الأربعين، والطعنة الأربعين، والباب الأربعين. وفي قصيدة (محاولة في الابصار) يسمّي الدمع في الأربعين خرافة (10). وعود على بدء فان هذا الرقم يشير في (المطربة الكونية) إلى زمن الطفولة، وإلى الأسْرة التي منحت المطربة الكونية أولويات السماع المستمر، وإلى لواعج روح الشاعر، وصوت أم كلثوم الذي "تحفّ به ملائكة من الدمع والياسمين". لقد تلازمت حالة السماع عند الشاعر لأم كلثوم وفيروز مع تقدمه في العمر مرحلة إثر مرحلة بعد أن ابتدأ معهما منذ الطفولة. واذا كانت الحرب قد فرضت عليه عزلة ما في (المطربة الكونية) فأن هذه العزلة قد امتدت لروحه التي لم يزرها أحد في قصيدة (فيروز):
لذا لم يصلْ
إلى بابِ روحي أحد
ولم يزرني أحد.(11)

فهو لم يكن على اتصال دائم مع مجايليه من الشعراء الرسميين (إن جازت التسمية) ولم تتوافق محددات السياسة مع جموحه وتطلعه إلى البعيد يوم ذاك، ولم يهدف من وراء الزيارة التواصل بالمفهوم الشائع للتواصل. أما الحالة الثانية فمرتبطة بصورة البحر المسموع عنه ذهنياً "شايف البحر شو كبير" وغير المنظور اليه واقعياً ثمّ تشكّلت صورته (بعد الرؤية) كحالة أقسى من خناجر النساء، وسيوف البرابرة. لقد شكّلت هذه الحالة تشاؤمية رؤية الشاعر الشبابية التي سينتقل منها إلى الشيخوخة وهو لم يزل يسمع صوت فيروز الشجيّ "ضاق خِلقي يا صَبي". لقد كبر الصبي، وكبرت عذاباته، ومكابدته حتّى راح:
يحدّق في النقطة
ساعة تشييع الأمل
إلى مثواه الأخير،
وليرقص مع الحرف
وسط الطريق الفسيح إلى المقصلة.(12)
لقد جاءت النهاية في هذه القصيدة (الطريق الفسيح إلى المقصلة)، بعد استعراض ما حفلت به من حياة ما قبل الموت، متقاربة مع نهاية قصيدة (تمسّكْ بها وأستعنْ) والتي قال فيها:
"لا بد أن يصطادنا الموت"، وكذلك جاءت على درجة عالية من التقارب والتشاؤم مع نهاية (المطربة الكونيّة) التي كان فيها يتبع أثر صوتها:
إلى المنافي السعيدة
حيث الموت الذي لا يعرفُه أحد
ولا يسألُ عنه أحد،
أعني إلى المنافي السعيدةِ التي ترى الموت
لوحةً معلّقةً فوق جدارٍ قديم!(13)
ولم تكن النهاية في قصيدة (عفيفة اسكندر) مختلفة عن القصائد السابقة فقد ظلت تغنّي الأغنية نفسها "حتّى فارقتها الروح". القصيدة جاءت بمقطعين متساويين اشتغل الأول على خبر موتها، وشكواها إلى الله كي يظهر (الحوبة) في المفارقين حبيباتهم، واشتغل الثاني على الجزم والاستدراك إذ لم يظهر الله حوبتها، ولم يستجب لأغنيتها المخضرمة لكنها ظلّت على الرغم من هذا الجزم تستدرك شكواها على مدى ثلاثة أزمنة سميت بأسماء القتلى وقاتليهم: الملك وقاتله، والزعيم وقاتله، والطاغية وقاتله، وتشكّل هذه الأزمنة، في واقع الحال، تاريخ العراق الحديث المبنيّ على أساس قتل اللاحقين، بموكب السلطة، للسابقين لهم في دورات مستمرة على المحور ذاته في بغداد التي رآها الشاعر دون روح:
مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،
مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،
مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.(14)
ثالثاًــ زوربا، زائر شقة البارك رود
في قصيدة (زوربا) حاول الشاعر أن يذكّر شخصية (زوربا) بالمصير نفسه ولكن بطريقة تشي ببعض المغايرة. ولمن لا يعرف زوربا نقول: لم تكن شخصية زوربا شخصية حقيقية. إنها من ابتكار الكاتب الروائي الكبير(نيكولاس كازنتزاكي) وانها مُثّلتْ في السينما بتشخيص الممثل العالمي (إنتوني كوين). وقصيدة (زوربا) واحدة من القصائد التي اشتغلت على التسويف التام المبني على معرفة سابقة بهذه الشخصية من الناحية النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وتمتاز بسلوكها الفكه، وروحها المنفتحة على المرح حتّى وهي تمرّ بأعلى درجات الإحباط والقهر. وعندما تكون عاجزة تماماً عن التعبير الدقيق عن نفسها فأنها تلجأ للرقص حسب. وربما بسبب هذا بدأ الشاعر قصيدته بتسويف الرقص "سترقص، إذن، يا صديقي" (إذن) هنا جاءت حرف جواب ومكافأة لما سبق من المعلومات التي ادخرتها الشخصية الأيقونية (زوربا) واستنتاجاً عاماً مستخلصاً من تلك المعلومات. سنلاحظ ونحن نتابع رقص (زوربا) أن الشاعر اشتغل في البدء على حركتين رئيستين لقدميّ الشخصية: "سترفع قدمك إلى الأعلى" وقد ترتّب على هذه الحركة ابتسامة زورباوية هي مزيج من الشهوة والسخرية. و"سترفع قدمك الثانية" وترتب عليها النظر إلى البحر الهائل، والغامض، والمخادع الذي لا سبيل إلى ترويضه بالرقص كما جاء في القصيدة. الشاعر يضع زوربا بين اختيارين تعجيزيين: ترويض البحر أو ترويض الموت. وهنا الطامة الكبرى فزوربا سيواجههما بالضحك والسخرية:
ما لنا وللموت في هذه الساعة النادرة؟
(سحقاً، إذن للموت!) (15)
لكن هذه الشخصية الشفّافة بمرحها، والأريحية بطبعها، وبقلبها المفعم بالطفولة، والمحبة،
والسخرية ستظل تضحك ساخرة بلا مبالاة. يقول أديب كمال الدين:
وستضحكُ حقاً
ليس من حلمِكَ الذي تناثرَ فوق البحر
ولا من جسدِكَ الذي لم يعدْ يصخب مثلما البحر
ولا من البحرِ الذي لا يستمع لموسيقاك الهائلة
فهو مشغول بعُريه الفادح منذ ألف عام.
ستسخرُ. ممن إذن؟(16)

من الرقص؟ أم الرمل؟ أم الحُبّ؟ أم الحظّ؟ أم الخوف؟ ولا تملك إلا أن تقول رافضة (لا) لكل هذا. وستكرر لاءاتها حتّى تنهار فوق الرمال مطلقة عند نفسها الأخير (لا!) بشيء من التعجب. وربّ سائل يسأل علام التعجب بعد تلك اللاءات المفرطة في النهي، والردع، وثقة الالغاء التام؟ لم تجب القصيدة، ولا الشاعر، ولكن نيابة أجابتنا علامة التعجب (!) في آخر القصيدة وهي ترى إلى القادم بثقة، ومهابة، وكبرياء، وجبروت ليتسلّم روح الجسد الذي انهار فوق الرمال. لقد كانت شخصية زوربا كما وصفناها تماماً في حياة ما قبل الغياب (الموت) ولكن ماذا عن الشخصية في قصيدة (زائر شقّة البارك رود) التي جمعت بين اثنين على درجة عالية من التناقض المقصود، في مساحة محددة، هما: الله وزائر شقّة البارك رود. أو لنقل الايمان المطلق، والتشكيك التام؟ ولكي يتقبّل القارئ هذه الشخصية بما هي عليه فإنّ أديباً يمنحها صفتين مثاليتين هما: الصداقة والطيبة. إنّ الله في هذه القصيدة ليس شخصية من شخوصها، إنما هو رمز تِقَويّ حسب. أما الشاعر فيها فأنه يطرح شخصيته كصوت ممثل لشخصية تمثله، وتلقي بظلالها على شقّة البارك رود.
المقطع الأول، وهو قصير نسبياً، يشي: أولاً بعزلة المكان التي لا يبددها سوى الله والزائر،
وثانياً اعتكاف الشاعر، واستغراقه في صفاء روحيّ تتجلّى عبره صورة الله الخالصة النقية، وغير المشوبة بالشك، وثالثاً كون شخصية الزائر غير مقصودة بشكل مجرد لذاتها، وإنما هي محض رمز أو حالة تفضي إلى بلورة الروح، وتسامي اليقين، وتنزههما وخلاصهما من الشك في أن الله:
سيكون في نبضةِ الروحِ
حرفاً من الشمس. (17)
في المقطع الثاني من هذه القصيدة يسوّف الشاعر زيارة هذا الصديق (الشك) كما لو أنه لص يتسلّل للمكان ساعة تكون عزلته على أشدّها، والليل على آخره: "وهو يحملُ موتاً خفيّاً بين أضلاعه" وعلى الرغم من تأثيره الدهيّ على يقين الشاعر(الصوفيّ)، وتسلله إلى أعماق إيمانه تسحره الحروف وأسرارها، وتدهشه (يس، وطسم، وكهيعص)(18) فلا يستطيع التكتم على ما شاهده من التجارب البيّنات مثل تجربة نوح وقومه، وإبراهيم وقومه، وموسى وقومه، والحسين وقومه لكنه على الرغم من هذا سينكر خلق الله للكاف والنون، وبعثه لنوح بطوفان، وموسى بعصا، كما سينكر الكاف والنون أيضاً ليخرج في آخر القصيدة مبتسماً:
من شقّتي في البارك رود
في هدوء عجيب.
لقد نجح الشاعر في شخصنة الشك داخل القصيدة، ونجح في تأجيج الصراع بين الشك
واليقين، ولم ينتصر لأحدهما دون الآخر، أو ينحاز لنفسه أو ليقينه، وخيراً فعل إذ أشرع أبواب القصيدة على القادم من الزيارات ذلك لأنّ الصراع لا يزال قائماً (بين الشك واليقين) حتّى الساعة، وربما حتّى انتهاء شخوصهما على هذه البسيطة.



#صباح_الانباري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين/ الفصل الأول 2/2
- إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين/ الفصل الأول 1/2
- قراءة في قصيدة الشاعرة د. اسماء غريب (اليكَ شمسي في عيد العش ...
- الاحتراق عِشْقاً في مجموعة السماوي (أطفئيني بنارك)
- سيرة ذات حروفية.. قراءة في سرة أديب كمال الدين الابداعية
- كتاب موت الرواية.. أزمة الخيال الفني بعد عام 1985
- العنونة وجمل القص في مجموعة صالح الرزوق (تشبه القصص) أوراق ف ...
- القواسم المشتركة في قصص د. صالح الرزوق حضور بصيغة الغائب
- محي الدين زنگنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة
- أضف نونا قراءة في كتاب د. حياة الخياري
- قراءة في أنشودة النقيق للكاتب المسرحي راهيم حسّاوي
- العنف في المسرح
- استقراء الصامت والصائت في مسرحية ياسر مدخلي (عزف اليمام)
- قراءة العنونة وفحوى النص في مسرحية د. حمدي موصللي (هولاكو عل ...
- قراءات تأويلية في مسرحية إبراهيم حسّاوي (السيدة العانس)
- هكذا رأى الخيّام زنگبادي
- بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية
- خليل المعاضيدي بين شهادة الشعر و استشهاد الشاعر
- الارتقاء في نزهة الشاعرة فرات إسبر بين السماء والأرض
- التحويلية في نص عبد الباسط أبو مزيريق (افعل شيئاً يا مُت)


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - شكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الثالث شخوص ما قبل الموت 1/2