أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد حمدان - تلك نظم ولى زمانها















المزيد.....


تلك نظم ولى زمانها


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 4394 - 2014 / 3 / 15 - 09:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



شباب الثورات العربية ، صناعها والفاعلون فيها ، المؤازرون المشاركون من بعيد ، ومثقفون من كل لون ، خصوصا ذوو الميول اليسارية ، يعايشون قلقا ومخاوف مشروعة ، تجاه مستقبل هذه الثورات عموما ، والمصرية على وجه الخصوص . القلق والمخاوف يغذيها ، ما يصفونه باحتمالية عودة مصر لإحياء نظم الدكتاتورية العسكرية ، التي حكمت مصر على مدى الستين سنة الماضية ، حسب قولهم . ويستمد هذا القلق ، وهذه المخاوف ، مشروعيتها من المطالبة الشعبية الواسعة بترشح قائد الجيش ، المشير السيسي ، لرئاسة الجمهورية ، ونجاحه شبه المؤكد في حال فعل ذلك .
تستند مخاوف الشباب ، وقلق المثقفين ، إلى حقيقة أن فكر المشير السيسي السياسي ما زال مغلفا بالغموض . كما ويفتقر موقف المشير لأحد أهم أعمدة الفعل الديموقراطي ، أي حزب سياسي قوي ، يشكل أداته الرئيسية في تطبيق برامجه ، وتعبئة الجماهير لدعم سياساته . ولأن الجيش هو البديل ، يكون الطريق قد انفتح واسعا مرة أخرى ، حسب قولهم ، لعودة الديكتاتورية العسكرية ، وبما يعني من فشل لمبادئ الثورة .
ويلفت الانتباه في هذا الطرح ، ما يذهب إليه البعض من نقد لتدخل الجيش في 30 حزيران – يونيو - و3 تموز – يوليو – الماضي . بمعنى أن هذا التدخل هو ، في حقيقة الأمر ، نوع من انقلاب أجهض ثورة الشعب الحقيقية ، وقطع الطريق على الديموقراطية . ومن منظورهم كان استمرار الحركة الجماهيرية ، سيوصل إلى ذات النتائج ، دون المخاطرة بعودة الديكتاتورية العسكرية .
ويبدو أن عشرات المؤشرات ،التي تتالت في السنة والنصف التي حكمها الإخوان – فترة المجلس التشريعي + فترة مرسي – لم تقنع هؤلاء المتخوفين والقلقين ، بأن الإخوان أغلقوا بوابات الديموقراطية ، وبالضبة والمفتاح . كما يبدو أن الأحداث الدامية المتتالية – أحداث الاتحادية ، النهضة ورابعة ، كرداسة والمنيا ، حرق الكنائس ....الخ – ثم شن الإخوان ، والعصابات المتحالفة معهم ، حرب الإرهاب ، لم تقنعهم أن القمع ، وما يترتب عليه من مسيل لأنهار الدم ، في مصر والمحيط ، شكل العقيدة ، فالوسيلة المعتمدة ، للتعامل مع أية تحركات شعبية سلمية ، تعارض سياساتهم .
التهوين من هذا الخطر القائم ، والماثل ما يزال ، والقلق من ما يوصف بخطر عودة الديكتاتورية العسكرية ، يدفع إلى التساؤل : هل مثل هذا الخطر الأخير حقيقي ؟ وهل هناك مبرر فعلي لما يفرزه من قلق ؟
المعرفة حرية :
تردد ، ويتردد ، في مصر وحولها ، زعم بأن ثورة 23 يوليو ، هدمت بناء ، وقطعت مسار ، ديموقراطية كانت قائمة ، تتطور وتترسخ . قلت " زعم " ، لأنه قول يتجاهل حقيقة ثابتة ، بأن مصر ، حتى ثورة 23 يوليو ، وحتى بعدها بسنوات ، كانت مستعمرة بريطانية ، ومحكومة ، فعليا ، من قصر المندوب السامي البريطاني ، المستند إلى وجود عسكري منتشر على الأرض المصرية ، خصوصا في منطقة القناة . والحقيقة أيضا أن معاهدة الجلاء ، التي أبرمها عبد الناصر مع الحكومة البريطانية ، لم تنه ذلك الاستعمار . فاستعمار مصر انتهى فعلا وحقيقة مع خروج آخر جندي بريطاني ، وفرنسي ، في العام 57 ، عقب العدوان الثلاثي في العام 56 . كما يتجاهل حقيقة وجود نظام ملكي مطلق ، يتناقض بالضرورة مع الديموقراطية المنشودة .
ما لا يتذكره المتخوفون من عودة الدكتاتورية العسكرية ، أن مصر ، ونظام عبد الناصر ، لم يشكلا حالة فريدة في التاريخ الحديث . كانا جزءا من مسار عالمي ، تساعد الإطلالة عليه في كسب معرفة ، تمنح صاحبها حرية تمكنه من الرسو على شاطئ الحقيقة .
نهاية عصر الاستعمار :
بداية لا أظن أن هناك حاجة للتذكير، بأن نهاية الحرب العالمية الثانية ، دشنت الطريق لزوال عصر الاستعمار . ففي العقدين اللذين تليا الحرب ، فازت عشرات الشعوب باستقلالها ، ورحلت جيوش المستعمرين عن أراضيها . ووجدت حكومات الشعوب المستقلة هذه نفسها في مواجهة مهمتين كبيرتين . تمثلت الأولى في اختيار وبناء نظام للحكم ، يضع البلد على طريق المستقبل . أما الثانية فتتمثل في العمل على إزالة إرث الاستعمار الثقيل : وقف نزف الثروات المنهوبة ، استعادة الكرامة المسلوبة ، ومعالجة ثالوث الجهل والفقر والمرض . وبكلمة وضع نلك البلدان على طريق التنمية ، فالمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية .
وتكفي نظرة خاطفة على خارطة العالم كي يمكن للمرء تمثل أبعاد هاتين المهمتين . آسيا كلها ، باستثناء اليابان وتركيا ، كانت مستعمرة ، وواجهت هاتين المهمتين . كذلك كان حال قارة أفريقيا بأسرها . ومثلهما كانت قارة أمريكا الجنوبية ، باستثناء بعض البلدان التي ظلت مستعمرة ، لكن بدون وجود عسكري على أراضيها . وإذا أضفنا أمريكا الوسطى وجزر الكاريبي وجزر المحيطات : الهادي والأطلسي والهندي ، يمكننا رؤية هذا الكم الهائل من الشعوب ، التي كانت تبحث عن طريق لحكم نفسها .
لا يغيب عن البال أن الاستعمار نقل لعديد من هذه البلدان ، صورة ، أو شكلا من ديموقراطية بلاده . بمعنى أنه سمح بإنشاء أحزاب ، وإقامة نقابات ، وإصدار صحافة ، وحتى بوجود برلمان . ولكن كل ذلك لم يضع تلك البلدان على طريق الديموقراطية . وكان مجافيا للحقيقة الزعم بأن نظم الحكم التي نشأت ، كانت أقدامها قد وقفت على أرض الديموقراطية .
خيارات زمن الحرب الباردة .
وما لا يتذكره الخائفون والقلقون أن نهاية الحرب العالمية الثانية لم تدشن عصر زوال الاستعمار فقط . هذه النهاية دشنت أيضا عصر الحرب الباردة . فقد كان من نتائج تلك الحرب – العالمية الثانية – أن خرج كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ، قوى عظمى ، وتربعا معا على عرش العالم . ولأن كلا منهما يقف على رأس نظام اقتصادي - اجتماعي عالمي ، يناقض الآخر ، ويقول أنه يملك مفاتيح حل مشاكل العالم ، ولأن التناقض بينهما تناحري ، ولأن قوة الردع النووي التي امتلكها كل منهما حالت دون مجرد التفكير في حل هذا التناقض عسكريا ، كانت الحرب الباردة .
ولأن القوتين العظميين الجديدتين ، خرجتا من الحرب ، تطوق رأسيهما هالات من البطولات والإنجازات ، والسمعة العظيمة ، كان من الطبيعي أن تتوجه لهما ، أنظار الشعوب الخارجة للتو من قهر الاستعمار ، كما أنظار قياداتها الباحثة عن مستقبل شعوبها ، وأن تستلهم منهما الأفكار والتجارب والخطط والبرامج والإنجازات .....الخ . وكان من الطبيعي أن يحتل نظام الحكم ، فالتنمية ، والتخلص من عبء الإرث الاستعماري ، وعلاج ثالوث الجهل والفقر والمرض ، رأس اهتمامات تلك القيادات .
ولأن التناقض بين نظامي القوتين ، تعدى الاقتصادي الاجتماعي إلى السياسي والثقافي والفكري ....الخ ، فقد وجدت قيادات عديدة ، للشعوب المستقلة ، نفسها تواجه أكثر من معضلة ، في استلهام التجارب ، وفي الخيارات عموما .
الاتحاد السوفييتي مثلا كان قد اختار ، ومنذ نشأته قبل أكثر من ثلاثة عقود ، تبني شق العدالة الاجتماعية من الديموقراطية ، وناصب شقها السياسي العداء . هو من حول موضوعة حل وحظر الأحزاب السياسية ، وتثبيت وحدانية الحزب الحاكم ، من تجربة اقتضتها ظروف الحرب الأهلية ، إلى عقيدة سياسية ثابتة . وهو من أصدر صحافة ، وأقام إعلاما موجها . ذلك عنى الإطاحة ، ومرة واحدة وإلى أجل غير معلوم ، بالديموقراطية السياسية ، وإقامة سد منيع أمام تطوراتها المستقبلية ، وفي المقدمة موضوعات الحقوق والحريات بتنوعاتها الواسعة . عنى ذلك أيضا تكريس نظام حكم شمولي ، تحول إلى استبدادي قمعي ، ارتكب جرائم إبادة ، في أغلب مراحله . لكنه في ذات الوقت تمكن من توظيف كامل طاقات جهاز الدولة ، وقوى الأمة ، في إقامة المشروعات الكبرى ، والخطو بالتنمية ، خطوات واسعة ، حلت الكثير من مصائب ثالوث الجهل والفقر والمرض ، الذي كانت أمم وشعوب الاتحاد السوفييتي مبتلاة به . وفي الحساب الأخير مثَّل كل ذلك إلهاما للعديد من الشعوب المستقلة حديثا ، والتي صارت دولها تعرف بالعالم الثالث .
الشيوعية وأحجار الدومينو :
وكانت المفارقة أن الولايات المتحدة ، وحلفاءها الأوروبيين ، وضعوا أمام أنظار قيادات الشعوب المستقلة ، والشعوب ذاتها ، ممارسة للديموقراطية ، ومن حيث الجوهر ، مطابقة تماما ، وربما أكثر غلوًا وتطرفا ، من الممارسة السوفييتية . فالتناقض التناحري مع الاشتراكية رفع مبدأ رئيس وزراء بريطانيا ، ونستون تشرتشل ، الاستعداد للتحالف مع الشيطان في محاربة النازية ، إلى عقيدة حاكمة وموجهة لكل فعل الولايات المتحدة وحلفائها ، في التصدي للشيوعية ومحاربتها .
فقد كان على الولايات المتحدة وحلفائها ، وبعد النصر على النازية والفاشية ، مواصلة تطهير القارة الأوروبية من هذه اللعنة . كان عليهم ، على الأقل ، حصار الفاشيتين ، الإسبانية والبرتغالية ، الابنتين الشرعيتين للنازية ، وإجبارهما ، ولو على التخفيف من ارتكاب جرائم القمع في بلديهما ، وعلى اتخاذ خطوات في اتجاه الديموقراطية . لكنهم فعلوا العكس تماما ، بضم هاتين الفاشيتين لأحلافهم . وبعد ابتكار نظرية الدومينيو ، وتحولها إلى عقيدة لدى الدوائر الغربية ، احتل منع تطبيق هذه النظرية ، رأس سلم جداول عمل هذه الدوائر . ومؤدى تلك النظرية أن تحول قطر رئيسي من الأقطار المستقلة حديثا إلى الشيوعية ، يؤدي بالضرورة إلى تتابع هذا التحول في عديد من الأقطار المجاورة ، تماما مثلما يؤدي سقوط الحجر الأول من أحجار الدومينو ، إلى تتابع سقوطها وحتى الحجر الأخير .
ولأن الدول المستقلة حديثا كانت هي الأكثر قابلية لتطبيق نظرية الدومينو ، ولأن انتقالها للديموقراطية يفسح المجال ، ويوفر المناخ والتربة لحرية حركة الأحزاب الشيوعية ، ومن ثم يرفع احتمالية وضع هذه النظرية موضع التطبيق ، فقد لجأت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى استحضار الشيطان نفسه كخيار بديل للديموقراطية في البلدان حديثة الاستقلال .
استحضار الشيطان :
وبالعودة إلى أحداث تلك الفترة يقفز إلى الذهن سؤال : هل بدأ استحضار ذلك الشيطان من الصين ؟ ربما . فقد كان انتصار الثورة الصينية ، في العام 49 ، حدثا هائلا وعالمي الأبعاد . ودشن تحالف الولايات المتحدة مع جنرال الصين المهزوم ، تشاي كان تشيك ، بداية استحضار الشيطان ، كما تدشين أحلاف الشياطين . فبعد أقل من سنتين خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها ، الحرب الكورية ، حائلة دون توحيد كوريا تحت راية الشيوعية . وسلمت الحكم في سيئول إلى حفنة من الجنرالات . وبعد الانتصار الفيتنامي المدوي على الاستعمار الفرنسي ، في معركة ديان بيان فو الشهيرة ، عهدت بلدان الديموقراطية بنظام فيتنام الجنوبية إلى حفنة أخرى من الجنرالات .
كانت حكومات الجنرالات ، بما تمثل من دكتاتورية عسكرية استبدادية ، وبما تملك من قدرات واستعداد على ممارسة العنف ، واستخدام صنوف القمع ، ومع ما يواكب كل ذلك من فساد ، مالي وإداري وسياسي وأخلاقي ....الخ ، هي الشيطان الذي بحثت عنه الإدارات الأمريكية ، لكونها الوحيدة القادرة ، بصفاتها المشار إليها ، على وقف زحف الشيوعية ، ومنع تساقط حجارة الدومينو . ونظرا للنجاح الذي حققته هذه الدكتاتوريات العسكرية ، في شرق وجنوب شرق آسيا ، فقد شهدت عقود الخمسينات والستينات والسبعينات ، تعميما لها على كل القارات التي انسحب عنها الاستعمار . ومعروف أن أمريكا اللاتينية نالت الحظ الأوفر منها . وربما ما زال بعضنا يذكر أن بعضها وقع فريسة عشرات الانقلابات العسكرية . ووصل الأمر ، عند الولايات المتحدة وحليفاتها ، حد أن قيام نظام وطني في بلد ما ، يرفع شعارات للعدالة الاجتماعية ، يستدعي أن تواجهه المخابرات المركزية الأمريكية ، بانقلاب يقوده الجنرالات ، ويغرق البلد في بحور من الدماء ، ويستقر على تلال من جماجم البشر ، كما حدث في اليونان ، ما بين العام 67 والعام 74 ، وفي الأرجنتين ، بين العامين 76 و83 ، وتشيلي ما بين 73 و 90 .
صعود الدكتاتوريات :
في تلك الحقبة شهدنا صعود الدكتاتوريات العسكرية ، بقيادة الجنرالات ، في الفلبين ، باكستان ، اندونيسيا ، الكونغو ، نيجيريا ، أفريقيا الوسطى ، والعديد العديد من الدول الأخرى . وظلت هذه الديكتاتوريات حليفا موثوقا ، يلقى كامل الدعم ، من الإدارات الأمريكية والفرنسية والبريطانية . ورغم أن فساد بعض هؤلاء الجنرالات ، كالإمبراطور جان بيدل بوكاسا ، أفريقيا الوسطى ، والجنرال مانويل نورييغا ، بنما ، تجاوز كل الحدود ، إلا أنهم تمتعوا بالرعاية حتى اللحظة الأخيرة . وأظنه من نافل القول الإشارة إلى أن هذه الديكتاتوريات سفحت من الدماء ، وأزهقت من الأرواح ، وقيدت من الحريات ، واعتدت على الحقوق ، أكثر من مجموعة حروب دموية وغير عادلة ، وقعت في تلك الأثناء ، ولا أقل من تلك وقعت على أيدي ستالين ، وبلدان ما توصف بالنظم الشمولية .
ولم يتوقف استحضار الشيطان والتحالف عند تدبير الانقلابات العسكرية ، وحكم الجنرالات . تعداه إلى التحالف مع النظم الرجعية ، شديدة العداء للديموقراطية - العالم العربي كمثال - ، وإلى التحالف مع سائر الأحزاب ذات الأصول الدينية ، والأخرى المعادية للديموقراطية . وسجل ما عرف بجبهات الدفاع عن الحرية – نيكاراغوا وأنغولا كأمثلة - حافل بجرائم تفوقت في وحشيتها على تلك التي ارتكبتها أعتى الديكتاتوريات العسكرية . ووصل الحال حد التحالف مع تيارات الإسلام السياسي ، والتي أفرزت القاعدة ، وغيرها من التنظيمات التي ترى في الديموقراطية طاغوت العصر .
الاختيار :
يطالعنا الآن من يزعمون أن مصر ، كانت تملك تجربة ديموقراطية ، جاء انقلاب عبد الناصر ليقطع مسارها . ومثل هذا القول يتردد في بلدان عديدة أخرى ، العراق وسوريا على سبيل المثال . ولا يتوقف أصحاب هذا القول عند الحقيقة الصارخة ، وهي أن الهند وحدها ، من بين عشرات الدول المستقلة حديثا ، اختارت طريق الديموقراطية ، وبتصنيفها حالة استثنائية ، ارتكزت إلى الحالة الهندية الاستثنائية . إذ من المعلوم أن الإدارات الاستعمارية استزرعت في البلدان المستعمَرة صورة من الحكم القائم في البلد الأم . بمعنى أنها أقامت برلمانات ، سمحت بإنشاء أحزاب ، وبإصدار صحف ، وإنشاء نقابات ......الخ . وحتى أنها أقامت نظما تعليمية ، وبنت مستشفيات ،وغير ذلك كثير مما يمكن وصفه بلبنات بناء الديموقراطية . لكن ويا للعجب ، فباستثناء الهند لم تتطور هذه البدايات إلى ديموقراطية ، في أي بلد من البلدان المستَعمرة ، وللأسباب التي أوردناها سالفا . والحقيقة أخرى تمثلت في أن القادة المسكونين بتطلعات وآمال شعوبهم ، توجهوا أول ما توجهوا إلى الولايات المتحدة ، وإلى الغرب عموما ، بحثا عن حلول ، وعن مساعدات لتنمية بلدانهم . واستغرقوا في مثل هذا البحث سنوات . وكان صادما أن الولايات المتحدة ، كما بريطانيا وفرنسا ، طالبتهم ، بديلا لطرح الحلول ، ومد يد العون ، بالانخراط في جهود مكافحة الشيوعية ، بما ذلك الدخول في أحلاف ، تحت رايتها وحلفائها ، دون أن تنفحهم ببارقة أمل لحل مشاكل شعوبهم .
ولأن بعض هؤلاء ، كجمال عبد الناصر على سبيل المثال ، كان مسكونا ، بالإضافة لما سبق ، بقضية العدالة الاجتماعية ، غدا طبيعيا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، وأن يستلهم النموذج السوفييتي ، أو بعضه . ومرة أخرى من نافل القول الإشارة إلى أن سمعة الاتحاد السوفييتي آنذاك ، كانت في أوجها ، إذ لم يكن قد تم الكشف عن جرائم نظام ستالين بعد .
إذن فقد رسا خيار عديد من قادة العالم ، الساعين لتنمية بلدانهم ، ولتخليصها من إرث الاستعمار الثقيل ، ولإرساء شيء من قواعد العدالة الاجتماعية ، رسا على خياراستلهام النموذج السوفييتي ، للتنمية و للديموقراطية الاجتماعية . كان من هؤلاء ، إضافة لجمال عبد الناصر ، موديبو كيتا في مالي ، كوامي نكروما في غانا ، أحمد سيكوتوري في غينيا ، جوليوس نيريري في تنزانيا ، باتريس لومومبا في الكونغو ، أحمد بن بيلا ، ثم الهواري بو مدين في الجزائر ، أحمد سوكارنو في أندونيسيا ، جواهر لال نهرو في الهند ...وغيرهم كثير . والطريف أن من بين هؤلاء القادة كان اثنان فقط من أصل عسكري ، هما جمال عبد الناصر والهواري بومدين . وكل هؤلاء ناصبتهم الإدارات الأمريكية العداء . شتتت جهودهم ودفعتهم دفعا نحو معاداة الديموقراطية السياسية ، والحرص على بناء وتعزيز دكتاتوريات استبدادية . وهنا لا بد من استذكار الدور الذي لعبته إسرائيل ، والصراع معها ، في تعزيز الدكتاتوريات العربية ، عسكرية كانت أم حزبية ، وهذه مسألة تحتاج وقفة لوحدها . والملفت للانتباه أن هذه النظم التي أشرنا إليها ، آلت جميعا إلى نفس المآل ، باستثناء الهند ، التي شكلت ، كما سبق وأشرنا ، حالة خاصة .
عصر جديد :
انقلب الوضع بعد الانتصار الكاسح للولايات المتحدة وحلفائها في الحرب الباردة . سقط الاتحاد السوفييتي وتفكك ، وانحلت المنظومة الاشتراكية ، وانحسر خطر الشيوعية ، ولم تعد نظرية الدومينو قائمة . وبتربع الولايات المتحدة وحيدة على عرش العالم ، انتفت الحاجة لأحلاف الشياطين ، الذين سبق وأدوا أدوارهم باقتدار ونجاعة ، والذين تحولوا في الوضع الجديد إلى عبء غير محتمل .
ولأن الولايات المتحدة وحلفاءها ، استخدموا الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان ، أسلحة فعالة في الحرب الباردة ، كان الوفاء لها في العهد الجديد ، ولو مظهريا ، أمرا في غاية الأهمية . هكذا اجتاحت العالم ، ومن بداية تسعينات القرن الماضي ، موجات عاتية اكتسحت نظم الشياطين البغيضة ، وأحلت محلها نظما ديموقراطية . والمتطلع الآن لخريطة العالم لا يكاد يرى نظاما ديكتاتوريا واحدا ، من تلك الموسومة بالعلامة الأمريكية .
نخلص من كل ذلك لنقول : لقد حدث تغير كبير على العالم . لم يعد العالم كما كان . عهد الديكتاتوريات ولى ، وإلى غير رجعة . لم تعد هناك مصلحة ، لا لأمريكا ولا لغيرها في رعايتها . قد يقال : ولكن الإرهاب الذي يجتاح شرقنا ، وهو منجز أميركي بامتياز ، قد يوفر الحافز لعودة البحث عن حلف الشياطين . وأقول : ولكن الديموقراطية ، وهو ما تعيه الإدارات الأمريكية ، هي الحل ، ولهذه المسألة بالتحديد . مسألة أخرى مهمة ، وهي أن الديموقراطيات التي نشأت على اتساع القارات ، لم تلحق ضررا ، لا بالمصالح الأمريكية ، ولا بمصالح حلفائها . والأهم أنها لم تشكل عائقا ، ولم تصنع عقبات ، كما لم تضع عراقيل ، أمام عولمة رأس المال .
إذن لو افترضنا وصول العسكر اليوم ، إلى رأس نظام ما ، وبالطريق الديموقراطي ، فإن تحويله – النظام - إلى ديكتاتوري استبدادي ، هي مسألة غدت خارج الزمن . مثل هذا التحول ، كما سبق ورأينا ، يحتاج لمناخ عالمي ، وإلى راعي وداعم ، وهو أمر غير متوفر في هذا العصر الجديد . غدت الديموقراطية اليوم ، سمة العالم الجديد ، ما بعد الحرب الباردة . وإذا كان صحيحا أن العملية ما زالت مستمرة ، وأنها قد تشهد بعض التعرجات ، هنا أو هناك ، لكن الصحيح أيضا أن مناقضة هذه السمة العالمية ، ومحاولة السير عكسها ، تقع في خانة المستحيل .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقاطعات بين الديان 2 صفات الآلهة
- تقاطعات بين الأديان 1 عبد المطلب ( جد الرسول ) هل كان نبيا
- حوار أملاه الحاضر 19 عدالة الإسلام 3 فلسطين اللبن والعسل
- حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية
- حوار أملاه الحاضر 17 العدالة في الإسلام 1 الغنائم
- من فتنة عثمان إلى فتنة مرسي
- حوار أملاه الحاضر 16 خروج مؤقت آخر عن المسار
- عبد المجيد حمدان- كاتب وباحث واحد قادة اليسار الفلسطيني- في ...
- وبات لزاما عليتا التصرف كدولة
- حوار أملاه الحاضر 15 الشريعة وتطبيق الحدود 5 خروج مؤقت عن ال ...
- حوار أملاه الحاضر 14 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 4 ...
- حوار أملاه الحاضر 13 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 3 ...
- حوار أملاه الحاضر 12 الشريعة وتطبيق الحدود ....الجنايات 2 حد ...
- قراءة في ثورة الشباب المصري 18 الإخوان ودولة الخلافة
- حوار أملاه الحاضر 11 الشريعة وتطبيق الحدود حد الجنايات 1
- حوار أملاه الحاضر 10 الشريعة وتطبيق الحدود ملك اليمين والمجت ...
- حوار أملاه الحاضر 9 الشريعة وتطبيق الحدود ....زنا الإماء
- حوار أملاه الحاضر 8 النبي وتطبيق حد الزنا
- حوارأملاه الحاضر 7 الشريع وتطبيق الحدود حد الزنا 2
- حوار أملاه الحاضر 6 الشريعة وتطبيق الحدود ....الزنا (1)


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد حمدان - تلك نظم ولى زمانها