أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاهر أحمد نصر - المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية -كما ينبغي لنهر- لمنهل السراج نموذجاً 2/3















المزيد.....


المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية -كما ينبغي لنهر- لمنهل السراج نموذجاً 2/3


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 1245 - 2005 / 7 / 1 - 13:39
المحور: الادب والفن
    


(2/3)
أفكار ممزوجة بالأسطورة والحكاية
تتضمن الرواية آراء وأفكاراً وأحكاماً تحتاج إلى تمعن وتدقيق، ولا أجد مبرراً كافياً كي تقتنع بها أديبة ومهندسة ذات اطلاع واسع وفكر وقاد، كأنّ تورد بحيادية، دون نقد أو إيراد حجج أخرى، وكأنّها تتبنى تلك المزاعم، بأنّ سبب ما جرى، هو أنّ أبا شامة "أراد أن يثبت لوجهاء حارته أنّه قادر أن ينتقم ممن لعنوا دينهم مئات السنين، سيرسلهم إلى ربهم، وأنّه سيطأ رأس كبيرهم "نذير" ويركعه، ويسترد كل ما ظن أنّه من حقه ومن حق أهله. كانت الجدة تتمتم: عديم وقع في سلة تين".ص109 كما أنّ التورية العميقة جعلت بعض المقاطع غير مفهومة للقارئ، الذي لن يستطيع ببساطة فك بعض الرموز والشيفرات التي تستخدمها الكاتبة: "لعل أم الصافي، قريبة أبي شامة، هي سبب الهجوم، كون الجد أحضرها كي تعتني بالعم العاجز، ترتب غرفته وسريره، تفرغ مبولته، تضع له المساند على الكرسي، ثم تستبدلها ليلاً بمخدة السرير..ص131
"تقول أم فطمة: إنّ سبب هجوم أبي شامة هو عمه حين اشترى قماش جلابية من الحارة وكان العم جميل هو الذي باعه القماش، مدّه عليه كي يتأكد من الطول، وعندما انحنى الرجل، سحب جميل القماش، إلى أسفل غامزاً أخوته، فقضى الرجل العيد بجلابية لا تغطي قصبة رجله".
"رأي أبي فطمة أنّه سواء كان السبب قريبة أبي شامة زوجة العاجز أم غباء عم أبي شامة صاحب الجلابية القصيرة، أم سخرية إخوته وبطرهم وغرورهم فقد كان الهجوم أعنف بما لا يقاس.
أما السبب الحقيقي للهجوم فلعله نذير، نذير الذي احتل أعلى غرفة في المنزل، وقد كان المفضل عند الجدة، يخافه الجميع".ص134
من الأفضل ـ من وجهة نظرنا ـ في حال إصرار الكاتبة على البحث في أسباب تلك المأساة، من الضروري والمفيد رؤية اللوحة كاملة، وتقديم كافة الحجج والآراء، والغوص في تشابك الهموم السياسية والاجتماعية وتداخلها مع الرغبة في تفتيت المجتمع وتشرذمه وإضعافه.. وهي إرادة قوى متشابكة المصالح... أي البحث فيما هو أعمق من تلك الأوهام الشائعة والتي ترد في الرواية دون تدقيق وتفكيك، من الضروري رؤيتها في البنية السياسية والاجتماعية السائدة، وليس بإعادتها إلى قرون خلت، تم تجاوزها من خلال تلاحم أبناء الوطن جميعاً في المعارك ضد الغزاة والطامعين... قد يثقل ذلك الرواية، ويجعلها أقرب إلى البحث في علم الاجتماع... ولكن طالما أرادت الكاتبة أن تبحث روايتها وتخوض في هذه القضايا، فمن الأفضل بناؤها على أسس سليمة، بدلاً من اتكائها على الأوهام المتوارثة، التي تعيدنا قروناً إلى الوراء في الوقت الذي نطمح فيه إلى ولوج العصر والتفكير بالمستقبل كما تفعل ابنة أخت فطمة...
ويتجلى اعتماد الكاتبة على الحكاية الشعبية التي لا تخلو أحياناً من التفكير الخرافي في مكان آخر من الرواية، عندما ترد قصة جفاف الينابيع عندما يحل في الأماكن التي تتدفق منها بشر من صنف آخر... ولا أعتقد أنّ الفكر السليم يؤيد ذلك: "أبو شامة أمسك الضفتين من القرنين، فللضفتين قرنان قديمان جداً لعلهما جبلان، كرهوا التاء المربوطة في نهاية اسم المدينة لأنها تاء تأنيث بل تاء المبالغة وربما البأس. كانت تنبع بين القرنين، ليلة النصف من شعبان، عين ماء، تستمر في تدفقها ثلاثة أيام تمام، ثم تبلعها القرون. عندما أشرف عليها رجال أبي شامة جفّ تماماً.."ص116
وتقع الكاتبة، ربما نتيجة الحالة النفسية التي ولدتها المأساة، أو نتيجة بعض الموروث المتداول دون تدقيق أو تمحيص، في خطأ كبير عند استخدامها لفظ اليهود للذم... "قال كاتب كتب أبي شامة إن معلمه "أبو شامة" كان يعاني من السأم بعد خراب الضفتين: ذرف دمعة لكآبة سيده وكانت لكنته العربية مكسرة. يقول عبد الحكيم عن هذه اللهجة: مثل اليهود".ص116 من الضروري ألا نقع في مثل هذه الأخطاء... فاليهود مثلهم مثل جميع شعوب العالم؛ نجد بينهم المجرم، كما نجد بينهم من تزوجها الرسول، ومنهم من أنقذ كتب ابن رشد، ودون في دواوين العرب... ومن بينهم من يدافع عن قضايا الشعب العربي الفلسطيني بشكل أفضل من بعض العرب والفلسطينيين والمسلمين... ومن بينهم من أبدع نظريات في الطب وعلم الاجتماع والفيزياء التي لعبت دوراً هاماً في تطور البشرية... إنّ استخدام أسماء القوميات والشعوب للذم أمر غير مفيد لا فنياً ولا أدبياً... كيف يكون شعورنا عندما يستخدمون في هوليود وغيرها نفس الأسلوب عند الحديث عن العرب والمسلمين..؟؟!
نذير
من الشخصيات الرئيسية في الرواية "نذير" وهو قائد الجماعة المناوئة لأبي شامة، الذي ورط جماعته في أمر أكبر من طاقتهم، بعد ساعة واحدة (من بدء الأحداث) "أخذ العم نذير ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وضع على كتفي ابنه شالاً صوفياً وسحب زوجته مغادراً بهدوء"... ولعل بعض صفاته الشخصية الذاتية تقود إلى النتيجة التي وصل إليها: "يفضل نذير نفسه على الجميع في طعامه الذي يطبخ خصيصاً له.. قام بتغيير أثاث البيت بحيث يصبح مناسباً لعقيدته وراحته وظروفه. أما ثيابه فقد كانت دائماً مغسولة ومكوية بحدة.."ص136 "حدث مرة أن نسوا (الأطفال) قيلولة نذير.. وما إن علا صوت أحدهم "حشيتودودة" لأنّ اللاعب داس على الخط، حتى استيقظ نذير من قيلولته غاضباً وأمر أن ينزل الأطفال إلى القبو خالعين ثيابهم مستلقين على المفارش العارية للأسرة الحديدية بعقاب طويل استغرق ساعتين.."ص134 هذه السادية لم تقتصر على أسلوب تعامله الأطفال، بل ولم ينج الكبار من عجرفته، ولسانه السليط الذي يعكس أخلاقه الخاصة: "من علٍ يتقن فن الحديث والإقناع. إن أخطأ أحدهم فلا مغفرة ولا نسيان، سوف يخضع لعقاب هادئ مذل من السخرية، وربما يخرج بلقب يطلقه نذير عليه، فيحمله طوال عمره، فأحد الأعمام لقب بـ "الجق" وآخر "كوساية"، وغيره "مسودة الصورة" جميل "النسونجي" وعبد الحكيم "كشاش الحمام". أما فطمة فلها ألقاب عديدة: "العصية، البستانية، يهود خيبر" وليلى "الشوكلاته".ص135
أما منهجه الفكري فهو الاعتقاد "بالمذهب السائد وحفظه بعناية، مداخلة وخارجه، حجج الدفاع عن وسائل التملص من المآزق التي لا بد وأن تحملها كل عقيدة، لم يكلفه هذا سوى وضعه كفنه على رأسه من أجل قول كلمة الحق التي يدعي، عمامة بيضاء كبيرة يثبتها بمهارة.. كانت أم الحب تقول: "كفنه على كيفه وكلمة الحق على كيفه... مصالح".ص135 وفلسفته لا تبتعد عن ذلك فهو يعود "حيناً للتراث وحيناً يستشهد بنظرية حديثة، قال العاص مربي الأجيال الذي ظن أنّ العم نذير سوف يرسل له كي يعلن توبته وراء محراب الجامع، كونه يدرّس الفلسفة ويحرض الطلاب بعيداً عن الأطر الجاهزة: عندما تنفذ الحجج لدى نذير فإنّه يصوغ نظريته الخاصة، بلا خجل، فالجميع مقتنع مسبقاً، لهذا لم يحتج إلى كبير عناء في السيطرة بمبدئه، لأنّهم مبهورون به وبعالمه المهيمن".ص135
وتصف الكاتبة أسلوب الإرهاب الفكري والنفسي الذي كانت تمارسه الجماعة من خلال نذير بفرض (توبة الناس أمام المحراب) والكاتبة هنا تتصف بالموضوعية وتظهر بعض السلبيات التي كانت تمارسها الجماعة بحق العباد، وتنصب نفسها ولية عليهم من دون وجه حق: "كان نذير يرسل الأعمام المطيعين إلى أي فرد لا يروق له في الحارة، يأمره بالمثول أمام الجميع يوم الجمعة، يعلن توبته وراء المحراب وعودته إلى صراط نذير، فأبو شامة لم يصل الحارة بعد حتى يجبر الناس أيضاً على التوبة، والعودة إلى صراط أبي شامة. من يتعاون مع أبي شامة من قريب أو من بعيد فسوف يستيقظ صباح الجمعة ليجد مظروفاً مغلقاً مرمياً من فوق باب بيته، مكتوب فيه: اسع للتوبة قبل أن يفوتك الميعاد. سيقضي الصباح باكياً في سريره كي لا يراه أولاده، وعندما تحين صلاة الجمعة سيتوضأ ويتجه إلى الجامع المذكور في ذيل الورقة، يؤدي الصلاة مع الجماعة، وبعد انتهاء الخطبة والأدعية يتجه منكساً رأسه وسط نظراتهم المذلة ليقف وراء المحراب قائلاً: إني أتوب ثلاث مرات. يدخل بيته ولا يخرج إلاّ لعمله حاملاً لقب "التائب".ص136 للإنصاف نقول هنا إنّ الأديبة منهل اتصفت بالموضوعية، خلافاً لرأينا الأول الذي سقناه في بداية البحث.
إنّ تلك الصفات والخصال التي ميزت نذير، وتصرفاته، وفراره جعلت البعض يوجه أصابع الاتهام إليه ووصفه بالمتواطأ مع أبي شامة: "قيل: إنّ الأسباب المباشرة، وغير المباشرة المذكورة عن هجوم أبي شامة هي أسباب سطحية، غير صحيحة... ربما تواطأ العم نذير مع أبي شامة، وهذا تفسير بعيد، أو ربما كان الأمر سوء تدبير من العم نذير وهذا تفسير قريب.."ص137
من ميزات السجن العربي، خط يكلف صاحبه عشرين سنة من السجن:
توثق الرواية حالات فريدة من سجن بعض الناس لعقود من الزمن لأسباب واهية وتافهة، فكتابة خط (سطر) على مخطوط تكلف صاحبه عشرين سنة من السجن: "ما فعله فيصل الراسب في البكالوريا أنّه باع راديو دراجة، وبضع علب من الجبنة الضاحكة لأحد العابرين دون أن يتوقع أنّ الضريبة ستكون استدعاءه لشرب فنجان قهوة هناك، لأنّ هذا العابر ذكر في اعترافه الدقيق والتفصيلي جداً، من الهواء الذي تنفسه في عمره حتى آخر كلمة تفوه بها، أنّه اشترى من فيصل الطائش جبنة البقرة الضاحكة وراديو صينياً تعطل منذ الليلة الأولى.
لذلك مكث فيصل ستة عشر عاماً.
هناك من أُخذ لأنّهم رأوا خط يده على نوتة دراسية لأحد المقبوض عليهم، وبعد بضع صفعات، تذكر المعذب صاحب الخط، فأحضر الأخير، غاب عندهم عشرين عاماً. وهناك من غاب خمسة عشر عاماً، لأنّه كتب اسم شخص على دفتر هواتفه دون كنية، فلما سألوه عن الاسم، نسي المناسبة التي سجل فيها اسم صاحب الهاتف، فاعتبر أنّه يستخدم الرموز. هناك من قضى ستة عشر عاماً، وفي كل يوم يقول له حراسه ألا يقلق، فلا يوجد عليه شيء سوى أنّ اسمه مثل اسم والد أحد المغضوب عليهم، وذلك يكبره سناً. ثم هل أنسى الفتاة ضاربة الآلة الكاتبة في الصحيفة التي تصدر في الحارة. لقد أخطأت بحرف واحد من اسم أبي شامة وكتبت الطاء بدلاً عن الشين "أبو طامة"، ولم تلحق أن تصححها لأنّها ضربت حتى نسيت اسمها"؟ص148
طقوس انتظار الأهل عودة السجناء السياسيين الأحبة والمفقودين
تتابع الفنانة المبدعة منهل رسم لوحاتها مستخدمة مشاعر القارئ وأحاسيسه مداة لها، وتذيب شغاف القلب حرقة مع أولئك المواطنين الذين يقضون ساعات حياتهم على مفارق الطرق ينتظرون لقاء الأحبة الغائبين، وكأنّهم يمارسون طقوساً خاصة، معلقين نظرهم بوهم سراب الأفق الذي أحكم الطغاة سده، فيعودون إلى ديارهم خالي الوفاض منكسرين تأكلهم حرقة مرة لا يمكن وصفها، وهل هناك حرقة أمر من فقد الأمل في لقاء غائب حبيب: "تنتشر الشائعات أنّ هناك دفعة من الرجال الغائبين عائدة من مجهولها، يتركون ما بأيديهم ويهرعون إلى هناك، ينتظرون عودة الابن أو الأب أو الأخ أو القريب.. تقسم العائلة الواحدة بعضها إلى فرق للانتظار، تؤدي مناوبات ليلية ونهارية، تعود الفرقة الأولى وليس لديها أي خبر لصاحبة البيت المنتظرة عودة الغائب، فيؤجل الأمل إلى اليوم الثاني..
فجأة من بعيد يشق ضوء الباص الكبير برد الليل وسواده، فيتدافعون إلى الحافلة الأولى، يتجمعون قاطعين جزءاً من الشارع. قبل أن يتوقف الباص تماماً، يهجمون هجمة واحدة على الأبواب والنوافذ، تعلو النداءات، أصوات رجال ونساء وأطفال ينادون متوقعين وصول ـ بابا.
يردد المنتظرون أسماء غائبيهم التي غالباً ما تكون بكنية واحدة فيعيد تردادها السائق ومعاونه والركاب المسافرون في الباص، يعيدون الأسماء المناداة بتوسل لله وقدره ولكن.. من بين مئة عائلة تنتظر، تحظى عائلتان بغائبهما، وتغادران معتذرتين متنيتين بحرارة عودة بقية الغائبين."ص149
التعذيب المستمر في السجن السياسي:
نتعرف بعد (عودة أحمد) الذي أُخذ مع الذين تم اعتقالهم وهو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، على بعض أنواع التعذيب التي تمارس في السجون العربية، والتي تركت بصماتها على تصرفاته غير المالوفة، وعاداته في الحياة بعد خروجه من السجن: "لم يكن يرفع رأسه مطلقاً، لا يفتح عينيه، يقول كلمته ويسارع إلى خفض وجهه، راصاً يديه الممدودتين إلى جنبه.
"نظرت إليه يتناول فطوره ببطء ثم بسرعة، يأكل فتات الخبز الذي يسقط منه، بأصابع صفراء ناتئة العظام، يصمت طويلاً، هزيل هو: هزيل، إنّه يكاد يتكسر على كرسيه، لمَ لم تفرح لعودته"؟ص153
ـ قال ابن العم إنّه سيخضعك لعلاج فيزيائي يمكنك من تحريك عظامك المتيبسة.ص153
ونتعرف على وصف للمكان الذي حشر فيه السجناء، وتعامل السجانين الوحشي مع ضحاياهم: "هنالك في المكان الذي لا يتسع لأكثر من خمسين رأساً مزدحمين، كان يحشى فيه مئتان، ينامون تسييفاً "راس وعقب" كتلاً لحمية، كانت رجالاً قبل الغياب. سوف يقع براس أي واحد منهم أو أكثر من واحد لقب المعلم، بفتح العين وشد اللام وفتحها. المعلم هو صاحب العلامة، والعلامة هي قرار ذلك العسكري الذي تصاعد في رأسه، يطلقه على ضحيته، إن تحركت، أو تنفست، أو حتى إن لم تفعل شيء، كم يشتاق العسكري للقاء "المعلَّم". يبدأ وجبته الشهية في فترة التنفس الصباحية للكتل اللحمية، بسلسلة من الشتائم كمقبلات، ثم يهوي بسوطه الحديدي على جسد صاحب العلامة، ثم بالعصا الحديدة، بعد ذلك يرمي السلاحين، شوكته وسكينه، ليلتهمه بيديه وه يكز على أسنانه من اللذة، بعد أن يمل من يديه، سوف يسقطه أرضاً، يدعسه بحذائه الحديدي، وعندما يحس بعظام المعلم تتكسر تحت قدميه، سوف يصل إلى ذروته يتركه يزحف إلى باب المكان الذي تتزاحم عنده الكتل اللحمية التي تنفست حتى الاختناق والتي ستسمح للمعلم أولاّ بالدخول متحملين سوطاً على الظهر أو على الرأس أو على الأضلاع".ص154
"أما الحلاقة فغضب لا يغضبه رب اليهود.."ص157
"كنت كل يوم أرى نفسي محشوراً في علبة سردين، مصفوفاً فيه أربعة رؤوس بأربعة رؤوس. عند النوم تفرش العوازل التي هي ربع بطانية مخيط عليها قطعة من قماش الشوادر، لكل منا مساحة بعرض شبر ونصف... سنين وركبتاي مطويتان وظهري مقوس خلال النهار".ص161
يلغي السجن وأساليب التعذيب الوحشية كل الصفات الإنسانية، والأمل في الحياة، ويحطم مشاعر الإنسان، ويجعله يشعر بالدونية: "تمنينا لو كنا خرافاً، بل نملاً أو أي حشرة حقيرة"... "لا لم نكن نحلم بالحرية أو نهاية للحجز، كنا نحلم أن ينسونا".ص161
ونظراً للغياب الطويل للمعتقلين دون أية محاكمة، أو إشهار سبب الاعتقال أو اعتراف السلطات باعتقالهم، فقد حصل أن سجلوا في عداد الموتى... لأنّ السلطات التي اختطفتهم لم تعترف بأنّها تعتقلهم، وبالتالي وجب تسجيلهم موتى في السجلات الرسمية... وبعد تحريرهم يضطر ذووهم إلى إعادة تسجيلهم في دوائر النفوس: "دخلت فطمة تطمئن على نوم أخيها أحمد الذي سيعاد تسجيله حياً بعد توفيته في دائرة النفوس وفي دفاتر المختار المستعجل".ص157
الحياة أرحب من السجن وأقوى من الموت، ولن يوقفها الفساد:
مع استمرار الحياة ينشغل الناس بهمومهم، وينسون قتلاهم وسجناءهم ومنفييهم، على الرغم من هول ما أصابهم... "الحارة تغيرت، فالاغتراب يطبع كل حجر غادر مكانه وبات تحت رحمة رجال أبي شامة".ص128 حتى أحمد الذي قضى زهرة شبابه وأفضل سني حياته في السجن ظلماً وبهتاناً تغير، وأخذ يستنكر مساعدة أخته فطمة لضحايا المأساة "ما هذه العادات؟ إطعام أبي رحمون ولميا وأعمامي، يعني ماذا ينقصهم"؟ بل يريد أن يؤكد ذكورته ويفرض رأيه على أخته التي ضحت بأغلى ما لديها لتصون البيت والحديقة والقضية التي ضحوا في سبيلها، أما أحمد فلم يجد مبرراً لذلك "يجب أن نقطع شجرة النارنج، ونخفف من امتداد النخلة والدالية..".. ويتزوج ويسكن في بيت عروسه ويعامل فطمة بجفاء... وتقوم النسوة بمحاولة يائسة علهن يفزن بمعرفة مصير أبنائهن، فلذات أكبادهن، ولم يحصدن إلاّ الخيبة، وكأنّ لسان الحال يقول لا يسأل لئيم إلاّ عديم: "ذات مساء لملمت النساء فيه الأساور، هدايا صباح أعراسهن و"كردان" أول صبي ولدن، وما تبقى في صررهن من ليرات ذهبية، ارتدين السواد واتجهن باكراً سرباً واحداً إلى قصر أبي شامة ملتصقات ببعضهن بخطوة واحدة وباتجاه واحد، شفاه مرتجفة، جفون محمرة، يحاولن نسيان النقمة واتقان أساليب الرجاء والتذلل، من تقبيل اليد القذرة إلى ترداد قصائد المدائح... انتظرن أمام البوابة الأولى ساعات وأمام الثانية ساعات".ص144 "عندما دخل رجال أبي شامة كان ريق النساء قد جفّ تماماً، فاكتفين بدموع صامتة ثم طردن خائبات".ص145
أما فطمة فـ: "تضيق بنسيانهم، تتوق أن يفيقوا على واقعهم الذي يترجح، فيؤرجح مستقبل أطفالهم. لا تكف عن تذكيرهم، حتى باتوا يتهربون في بعض الأحيان من دعواتها، راجين أن تندمج معهم في حفل النسيان الذي يعيشونه في كل المناسبات".ص36 "تتذكر هطول الرصاص عليهم وتساقط الجثث على بعضها. كان حظها جيداً أنّ جثتها الحية لم تتأثر بالماء المغلي الذي سكبه أحد رجال أبي شامة على القتلى كي يتأكد من موتهم... الجثة التي تأوهت من نار الإبريق نالت نصيبها من الرصاص الجديد".ص121
وتصور الكاتبة حالة البؤس التي يعيشها الناس في ذلك المجتمع، وخاصة الأطفال والشباب الذين ترهقهم البطالة، وتدفعهم لممارسة أعمال وضيعة تافهة، تعكس بؤس الوضع الاقتصادي للبلاد... "جيل جديد يكبر دون أن تطاله يد أبي شامة. رغم انهماكهم الحزين في الشغل يبدو على وجوههم الجوع والنعاس. بضائع مختلفة زهيدة الثمن ملأت الأرض القذرة. وضع أحدهم كتلة صوف أمامه كأنّه هربّها من فرشة أمه. يريد بيعها وهو لا يكف عن التثاؤب. صبي آخر يبيع شيئاً صغيراً جداً "فتيلة" قداحة منادياً بصوت حاد على بضاعته غير المرئية... صف من الهواتف الصينية التي تتعطل بعد استخدامها بيومين.."ص60
كل هذه الدلائل تبشر بأنّه "لن يأتي الربيع بعد الآن للحارة "بيلبق"الخريف لحارتك أيتها البستانية".ص124 فالمدينة "عندما حوصرت بالصناعات حاولت بطريقة جد غامضة، ربما مبهمة، ابتكار علاقة بين تصوف الشرق وحيل الغرب. أخذت تناقشين فلسفة الحيل وتبعدين الأشياء عن واقعها لتضميها إليك، أنت من تستطيع أن تحتضن كل المتناقضات في حدس واحد، كشف واحد".ص127
وفرضت على المجتمع أساليب هستيرية جديدة للتعبير عن الطاعة والولاء، والاستسلام لواقع الحال، يصعب على كبار المبدعين تصوير فظاعتها ولامعقوليتها : "في وقت واحد طُرقت الأبواب جميعاً، بصمت وإيماءة واحدة من رجال أبي شامة كان الجميع على الجسر فوق النهر، متجمعين حاملين الرايات والأعلام. قال فارس وهو يهم بالاختفاء عن الأعين كي لا يشارك في هذا التجمع: يحيون ابا شامة، يشكرونه على أنّه قتل أولادهم، هدم بيوتهم ونهب تجارتهم، ها هم يصفقون بحماس لا نظير له، بل بهيستيريا لا يمكن أن يرصدها أهم رجال الفكر والفلسفة في العالم".ص170 وأصرت الجهة المنتصرة بفرض رؤيتها وأسلوبها الخاص في معالجة المأساة؛ "بعد أن رفع الجميع الراية البيضاء، اطمأن أبو شامة إلى أنّ شتيمته لهم أصبحت نشيداً صباحياً يردده الصغار..ص171 أمر رجاله بإعداد جداول معقدة مليئة بالأعمدة والسطور، تصرف بموجبها تعويضات لأهل الضفتين إن اعترفوا أنّ موت الرجال كان من وباء نذير، وأنّ الدفن لم يكن جماعياً على شكل تلال، وإنما كلّ في قبره ووجهه إلى القبلة".ص171 وتجعل الكاتبة بأسلوبها المميز القارئ يعيش مرارة الهوان والضعة التي دفع الإنسان إليه "اختلطت أحاديث النسوة بين من موتت زوجها، ومن موتت ابنها.
نسي الناس الحارات التي اقتلعت من أصلها، الشباب والأطفال الذين عذبوا وغابوا، وانشغلوا بالفتات".ص172
قال عبد الحكيم كشاش الحمام: على أية حال فقد وزع من التعويضات على أهل الحارة من الجمل أذنه، فيما تقاسم الجمل رجال أبي شامة أنفسهم، دون أن يملئوا استمارة، من يحاسبهم؟ أبو شامة لم يكن لديه وقت لهذه الترهات..
كما أكل أخ لحم أخيه، موتت الأمهات أبناءهن وأزواجهن وإخوتهن، وقبضن التعويض الزهيد الذي رممن به بعض الجدران التي هدمت.. في حين ظلّ في الحارة الكثير من الأرامل اللواتي لم يعرفن إن كن أرامل أو زوجات رجال غائبين إلى أجل غير مسمى.."ص173
صارت المبادئ في مهب الريح، انهارت القيم، ارتاح الجميع، هذا يخفف عنهم الأعباء.."ص174
ترصد الأديبة منهل السراج بعض جوانب تطور الأحداث عند الطرف الآخر، وتتابع بعض تفاصيل رسمه للمستقبل، باعتمادها أسلوب التورية الذي لا مناص منه: "رأت فيما يرى النائم أنّ أبا شامة يمسح على رقبته، ويفاخر أنّ لديه تالوتة جديدة متفكراً باسم لها، سقطت القديمة في غفلة منه.."ص181
كما ترصد تطور الحياة الاجتماعية والسياسية البائسة؛ "شكل أبو سليم الجربوع نقابة سماها "حمار ولا عار" وبدا بتسجيل أسماء من تبقى من الرجال".ص187 ونظراً لعمق المرارة وانسداد الأفق تتجنى البنية السائدة حتى على الطفولة التي زجّت قسراً في مستنقع لا ذنب لها في ولوجه: "أما الأطفال الجدد، وهم حمير بالولادة، (تزيد الكاتبة هنا التجني على الأطفال، وأعتقد أنّها غير موفقة في هذا الوصف، وربما كان أبو العلاء المعري أكثر إنصافاً منها، فحياة الأطفال من جناية الآباء، ولا يمكن أن يكونوا جميعاً مشوهين بالولادة، بل هم يدفعون ثمن قبح وتشوه الحالة التي ولدوا فيها) فإنّ أولى الكلمات التي رددوها هي كلمات نشيد الشتيمة، وعندما وصلوا سن البلوغ هيئت لهم بطاقة الحمار".ص189
ونتيجة للحالة العامة الفاسدة التي فرضت على البلاد والعباد أراد الأهل أن ينشأ أبناؤهم مشوهين، علّ ذلك يشفع لهم ويحميهم من بطش الوحوش "أريد أن يطلع "خويتة" حتى لا يأخذوه مع الذين غابوا".ص221
ولا تنسى الكاتبة أن تبين دخول خط جديد في الحياة، يفرض نفسه في عصر المعلوماتية، ولا تستطيع أكثر المجتمعات تخلفاً تجاهله، وأبرزت ذلك من خلال وصفها حياة أسرة أخت فطمة العصرية.. واهتمامات ابنة أختها لميس بالكومبيوتر والرحلات ومعرفة العالم..



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية كما ...
- قراءة أولية في مشروع الوثيقة التأسيسية لتحالف الوطنيين الأحر ...
- أعيدوا الاعتبار إلى الفكر الاشتراكي الحضاري الديموقراطي المت ...
- نشطاء ومثقفون في طرطوس يناقشون مسائل الدولة ـ الديموقراطية و ...
- في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي
- عيد العمال العالمي منارة النضال في سبيل الديموقراطية
- حالة الطوارئ والأحكام العرفية والاستثنائية تضعف البلاد وتخدم ...
- ملامح التغيير الذي ينشده السوريون
- الرواية التجريبية ، والخطاب القصصي النسوي ـ أدب نجلا علي نمو ...
- دور الترجمة في نشر الفكر التنويري في عصر النهضة
- لن ينقذ الوطن إلاّ صوت العقل
- كيف أصبح شيخ الأدب في البلاد شيوعياً؟
- سحر السحر
- إنهم يخافون المصطلحات، إنّهم يخافون المستقبل
- رفيق بهاء الدين الحريري، يا من سرت على درب المسيح، سلام عليك
- نهاية الصهيونية
- تحية وتهنئة إلى الشعب العراقي
- رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية خطوة إلى الأمام ونظرة ف ...
- أحلام التغيير بعقلية وأدوات قديمة ـ قراءة نقدية في مشروع برن ...
- لأسباب مبدئية


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاهر أحمد نصر - المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية -كما ينبغي لنهر- لمنهل السراج نموذجاً 2/3