أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي















المزيد.....



في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 1189 - 2005 / 5 / 6 - 11:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


السلطة (في المعاجم اللغوية): الُملك والقدرة. وفي المعاجم الفلسفية، هي مفهوم سياسي اجتماعي اقتصادي، يشير إلى النفوذ المعترف به كليّاً لفرد أو نسق من وجهات النظر، أو لتنظيم، ذلك النفوذ المستمدّ من خصائص معيّنة أو من تقديم خدمات معيّنة. والسلطة أنواع: دينية، شرعية، نفسية، روحية، أبوية، اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، استبدادية، شمولية، ديموقراطية الخ...
كما أنّ السلطة عنصر هام من عناصر الدولة، والسلطة العامة كوظيفة اجتماعية، تمارس من قبل جيش، وبوليس، وموظفين، ومحاكم، وأنظمة العقاب والزجر المختلفة. وحسب الماركسية؛ في مجتمع تهيمن فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تكون الدولة دائماً أداة قمع في أيدي الطبقة المستغِلة السائدة، فالسلطة هنا تستخدم لقهر الجماهير المستغَلة، بغض النظر عن شكل وطبيعة الحكم. ويرى لينين أنّ "أشكال سيطرة الدولة قد تكون مختلفة. فرأس المال يظهر سلطته على صورة ما حيث يوجد شكل ما، وعلى صورة أخرى حيث يوجد شكل آخر؛ ولكن من حيث الجوهر، تبقى السلطة في يد رأس المال: فسواء وجد الحق المقيد أو غيره، أو وجدت الجمهورية الديموقراطية، وبالأحرى بمقدار ما تكون هذه الجمهورية ديموقراطية، تظهر سيطرة الرأسمالية هذه بفظاظة أكبر وقحة أكبر. إنّ إحدى الجمهوريات الأكثر ديموقراطية في العالم هي الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية؛ وليس في العالم مكان (ومن زار هذه البلاد بعد سنة 1905 يتصور ذلك دونما شك) تظهر فيه سلطة رأس المال، سلطة قبضة من أصحاب المليارات على المجتمع كله بمثل الفظاظة التي تظهر فيها في أمريكا، بمثل الرشوة السافرة التي تظهر فيها في أمريكا. فرأس المال، مادام موجوداً، يسيطر على المجتمع كله، وليس من جمهورية ديموقراطية أياً كانت، ليس من حق انتخابي أياً كان، يمكنه أن يغير شيئاً في فحوى الأمر".
تطور مفهوم السلطة، وآلية الحكم في الدولة العصرية. وأصبحت السلطة تحتاج إلى مجموعة من الصفات، والشروط، كي يعترف بها، ولتمتاز بالشرعية، والديمومة، ولتستطيع البقاء.. ومن أهم هذه الصفات: الرضا والقبول من أبناء المجتمع، والتداول السلمي، والمساواة القانونية والحرية، لتبني دولة لجميع أبنائها. ويعرف أحمد زكي بدوي السلطة "أنها القدرة على التأثير، وهي تأخذ طابعاً شرعياً في إطار الحياة الاجتماعية، والسلطة هي القوة الطبيعية، أو الحق الشرعي في التصرف، أو إصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته" (انظر:
Ahmed Zaki Badawi, A Dictionary of the social sciences English –
French – Arabic with an Arabic – English Glossary and a French – English Glossary (Beirut: Librairie du Liban, 1978)
وبيّن فوكو الطبيعة الحيوية ـ السياسية لصيغة الحكم الجديد، أو السلطة؛ مؤكداً أنّ "القوة الحيوية هي أحد أشكال القوة التي تنظم الحياة الاجتماعية من داخلها، عبر اتباعها وتعقبها وتفسيرها واستيعابها وإعادة صياغتها. فالسلطة لا تستطيع بلوغ القيادة الفعالة لمجمل حياة السكان إلاّ حين تصبح وظيفة عضوية حيوية يبادر كل فرد، طوعاً، إلى احتضانها وإعادة تفعيلها: "لقد أصبحت الحياة الآن... أحد أغراض السلطة" كما يقول فوكو. أما الوظيفة الأسمى لهذه السلطة فهي إغناء الحياة أكثر فأكثر، في حين تتركز مهمتها الأولى على إدارة هذه الحياة. وبالتالي فإنّ القوة الحيوية تشير إلى حالة يكون فيها إنتاج نفسها، وإعادة إنتاجها، موضوع الرهان المباشر في عملية السلطة.
حين تصبح السلطة سياسية ـ حيوية بصورة كلية، فإنّ الجسد الاجتماعي كله يغدو متضمناً في آلية السلطة، ومتطوراً بصيغته الافتراضية. وهذه العلاقة تبقى علاقة مفتوحة ونوعية ومؤثرة... وبالتالي يعبر عن السلطة على أنّها رقابة تمتد إلى أعماق السكان، وتخترق كياناتهم على أصعدة الوعي والجسد ـ وعبر العلاقات الاجتماعية بكليتها في الوقت نفسه". (انظر: الإمبراطورية ـ إمبراطورية العولمة الجديدة ـ تأليف: مايكل هاردت، وأنطونيو نيغري ـ تعريب: فاضل جتكر ، راجع النص: رضوان السيد ـ ص53-54)
ومن المعروف تاريخياً أنّ الصراع الفكري حول أنظمة الحكم والسلطة تركز بين مذهبين أساسيين:
ـ مذهب الحكم المطلق: الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض، ويستند في أيديولوجيته إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، الذي أسس للنظام الأبوي البطريارخي Patriarchalism ، ووجد في السلطة الشمولية والاستبدادية استمراراً له.
ـ مذهب " العقد الاجتماعي Social Contract : الذي يفسر نشأة الدولة والسلطة على أساس تعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... ويمثل ذلك نقلة نوعية باتجاه الحكم الديموقراطي، حكم الشعب الحر..
وفي هذا السياق عرفت المجتمعات البشرية السلطة الاستبدادية، والسلطة الشمولية، والسلطة الديموقراطية متعددة الصيغ والأشكال...
السلطة الديموقراطية:
أثمر نضال الشعوب الأوربية بناء دول تقوم على القوانين والدساتير وفصل السلطات، مما حد من السلطة البطريارخية والاستبدادية، وأسس للسلطة الديموقراطية... والوسيلة الأساسية للانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية هي إعمال العقل وعقلنة العلاقات الاجتماعية، والاقتناع بأنّ الحكام ليسوا مقدسين، ولا يملكون أي حق إلهي في حكم الشعوب.. والتوصل إلى المبادئ الديموقراطية في الحكم...
نستطيع إجمال المبادئ التي حددها المفكرون، لخلق مجتمعات وبنى اجتماعية تكفل مبدأ العدالة والمساواة في الفرص المتاحة لجميع الناس في الأنظمة الديموقراطية، فيما يلي:
ـ بناء نظام سياسي اجتماعي وفق عقد اجتماعي أساسه التراضي بين الحكام والمحكومين..
ـ فصل السلطات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وتنظيم العلاقة بينها وفق أسس وقوانين واضحة، وعدم هيمنة أية سلطة على الأخرى..
ـ سيادة القانون والمساواة أمامه، والتطوير المستمر للقانون بما ينسجم مع التطور الاجتماعي..
ـ الحرية بالمعنى العام هي منطلق الديموقراطية والمساواة في الاستفادة من الفرص المختلفة لتطور الفرد والمجتمع..
مرت الديموقراطية بمراحل مختلفة حتى وصلت إلى الشكل والصيغة الحالية المعروفة على الصعيد الإنساني، ولكل مجتمع صيغة، أو شكل خاص من أشكال ممارسة الديموقراطية، وفي الوقت نفسه لها ميزات وصفات عامة مشتركة... ومن أشكال الحكم التي عرفت بالديموقراطية، وتحتاج إلى نقد ما سمي بالأنظمة الديموقراطية الشعبية، التي تعد من وجهة نظرنا، ديموقراطية الشكل، ديكتاتورية المحتوى.
فالديموقراطية الشعبية فكرياً هي استمرار وتطبيق لمفهوم ديكتاتورية البروليتاريا في دول أوربا الشرقية والمجتمعات ما قبل الرأسمالية... أما النظام الاجتماعي والسياسي الذي وجدت في كنفه، فقد عرف بالنظام الشمولي.
يتأسس النظام الشمولي على قيم أيديولوجية قريبة من القيم الدينية المقدسة، يخطها مفكرون مقدسون، ويطبقها زعماء مقدسون أيضاً... وهكذا يتشابه النظام الشمولي مع النظام البطريارخي، الذي يستمد مشروعيته من المقدس.. ومع التطور الاقتصادي والاجتماعي يصطدم هذا النظام مع متطلبات التطور والنمو، وتعجز الأيدولوجيا المقدسة عن إيجاد الحلول لمسألة النمو، وينحسر مريدو النظام في السلطة الحاكمة، التي تعمل على ابتلاع المجتمع وتتحول إلى سلطة استبدادية...
السلطة الاستبدادية:
يرى بعض المفكرين والباحثين أنّ السلطة الاستبدادية هي التي هيمنت في مختلف بقاع العالم ومراحل تطوره التاريخية، وقلما عرفت المجتمعات البشرية السلطة الديموقراطية... فما هي ميزات السلطة الاستبدادية، وما هي عناصر قوتها، وهل هي مرتبطة بعرق، أو قومية، أو طائفة... وهل تستمد وجودها وعناصر قوتها من طائفة، أو قومية معينة في المجتمع؟
السلطة الاستبدادية نقيضة الحرية. وتستغل السلطة الاستبدادية كافة جوانب الحياة والنشاط الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي لتعزيز سطوتها؛ وهي مطلقة الصلاحيات، تكتسب عن طريق الانقلابات، أو الوراثة. في ظل سلطة الاستبداد يشمل العسف والظلم جميع مجالات الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عن طريق توحيد القوى المستفيدة منها: السياسية والاقتصادية والمالية والدينية والعسكرية، وفي الوقت نفسه تشتيت وإضعاف القوى المعارضة لنهجها.
وتمر عملية بناء السلطة الاستبدادية بمراحل متعددة؛ تبدأ بالإجراءات المناهضة للحرية والديمقراطية، مثل إيقاف العمل بالدساتير الديموقراطية، وسن دساتير تلائم السلطة الاستبدادية، وتعطيل، أو حل البرلمانات، وتشكيل مجالس جديدة من المؤيدين لنهجها (الذين عرفوا بالمصفقين في الأرض)، والحكم بموجب قوانين الطوارئ، وحل الأحزاب، أو تحديد مجالات نشاطها، والهيمنة على وسائل الإعلام والصحافة.. وسن القوانين والأحكام التي تعزز هيمنتها القانونية والتشريعية على المجتمع، ويترافق ذلك مع إجراءات على الصعيدين السياسي والاقتصادي تؤمن لها جميع وسائل الهيمنة والتدخل في شؤون الاقتصاد والمجتمع، يساعدها في ذلك، غالباً، قطاع الدولة الذي تسميه القطاع العام، الذي يعزز قوة السلطة، ويجعل قبضتها تمتد "إلى تحديد أرزاق الناس وماذا يأكلون ويشربون، حيث أصبحت المواجهة بين الدولة والمواطنين مواجهة معيشية يومية متصلة وغير متكافئة"، كما يقول خلدون النقيب. (خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي"، ص202). وعلى الصعيد الاجتماعي تلغي مؤسسات المجتمع المدني، وتبادر إلى تشكيل بنى اجتماعية وجماهيرية ونقابية وتقيد نشاطها بالقيود، والقوانين، وآلية الانتخاب، التي تجعلها خاضعة باستمرار لمراقبتها والحد من نشاطها... وهكذا تخلق آلية لإعادة إنتاج سلطة الاستبداد باستنادها على بنى وقوانين ووظائف محددة تشمل المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية وأدوات الحكم، التي تتلخص مهمتها في حماية السلطة، ولا تستثنى من ذلك المؤسسات الدينية، وكما يقول صادق جلال العظم؛ فإن كل نظام حكم عربي، لا تنقصه المؤسسة الإسلامية التي تفتي بأن سياسته تتفق مع الإسلام. (انظر: صادق جلال العظم، "نقد الفكر الديني" ـ بيروت: دار الطليعة، 1969، ص 45-46( .. وهكذا تبنى "الدولة المخابراتية الأمنية" التي تقوم على القوة والعنف والاستبداد، وتستمد أسباب استمرارها من الرعب وليس من الشرعية.
وتتخذ هذه السلطة كافة التدابير لفرض هيبتها، خاصة عن طريق قمع القوى المعارضة لها، وتشديد مساءلتهم ومحاسبتهم، مع غياب مساءلة ومحاسبة الموالين الذين يقدسونها، فينمو الرعب، والخوف، والتقديس معاً. ومع تـفشي القمع والقهر وتهديد مصادر العيش، يهيمن الإذعان والطاعة والخنوع، لدرجة العبودية. كل ذلك لزيادة السيطرة على المجتمع، فتلغى حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية، لتحل محلها حقوق الموالين والمناصرين فقط، من كل طائفة وقومية ودين.. وتهيمن حالة من انسداد الأفق على كافة الصعد..
ومن ميزات الدول التي تهيمن فيها السلطة الاستبدادية استشراء الفساد في مختلف مفاصلها، ونظراً لأنّ الفساد ينشأ ويترعرع في أدوات وبنى سلطة الاستبداد الفوقية، وبطانيتها والموالين والمقربين منها، تصبح العلاقة بين الفساد والاستبداد عضوية، ويصبح كل شخص أو هيئة أو فئة غير فاسدة عدواً لسلطة الفساد، التي تبني وتّولد شبكة عنكبوتية اخطبوطية لحماية نفسها والفساد، وترويع من يتجرأ على انتقادها، ويصبح أي تغيير أو إصلاح بمثابة نافذة تهدد مصالح الفاسدين المحميين بآلة القمع السلطوية، التي تعمل على نشر ثقافة الفساد وتقديس السلطة التي تحميه، يساعدها في ذلك وسائل الإعلام التي تهيمن عليها، وأبواق بعض المثقفين وأصحاب الأقلام المأجورة... التي تصور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على أنّه في أفضل حال، فلا أزمات اقتصادية، ولا سياسية، أو ثقافية. ويصور الحال، في هذه الدول مهما كان نظام حكمها: ملكياً أم جمهورياً، رأسمالياً أم (اشتراكياً) على أحسن صورة.. فهذه وزارة الإعلام السعودية تصرح بأن ـ "الدولة والشعب يسيران في طريق واحد في ضوء الشريعة الإسلامية"، كما أنّه "ليس في المملكة مشكلات اجتماعية، لأن الدولة تكفل المجتمع بأكمله.." (انظر: المملكة العربية السعودية في المحيط الدولي، كتاب وزارة الإعلام، 2002.) كما تردد وسائل الإعلام في الدول (الاشتراكية) ودول (التقدم الاجتماعي)، التي تحكمها سلطات استبدادية، نفس الرأي، فالدولة والشعب يسيران معاً على هدى فكر الحزب القائد، والزعيم الملهم، ولا وجود لأية أزمات أو مشكلات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية...
كما تمتاز المجتمعات التي تحكمها السلطات الاستبدادية بالركود والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والتفاوت الكبير في توزيع الدخل الوطني.. ووجود فئة طفيلية فاسدة قليلة لا تتجاوز 5% من مجموع السكان تملك أكثر من 90% من الثروة الوطنية... من أراضٍ وعقارات وأموال، وثروات مع الجاه والنفوذ، وتتحالف مع السلطة السياسية التي تحول البلاد إلى مزارع خاصة بأفراد الحاشية والزبائن، بينما تعاني الغالبية الحرمان والفقر فضلاً عن فقدانها الممارسة السياسية... هكذا مع تعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، يولد الاستبداد السياسي وغياب الحريات والديموقراطية، يولد الاستبداد الاقتصادي.. ويترافق ذلك مع تدني وضع حقوق الإنسان فيها وانعدام أو التضييق الكبير على الحريات السياسية... ونظراً لمحاصرة وتقييد بل القضاء على المجتمع السياسي، وعدم السماح لتشكيل البنى والأحزاب السياسية والجمعيات بشكل سليم، تصبح هذه الدول والمجتمعات تربة مناسبة لظهور التطرف السياسي والديني، الذي يضيق الخناق على المجتمع أكثر فأكثر، في الوقت الذي تعتمد القوى الدينية المتطرفة نهج التكفير لكل من لا يوافقها الرأي، ويزداد التضييق على الحريات المصادرة أصلاً. هكذا تتم محاصرة وابتلاع المجتمع بمختلف طبقاته، وطوائفه وقومياته.
بؤس التفكير الطائفي المنغلق:
يربط البعض الحكم الاستبدادي بثقافة الشعوب، وهناك من يقول، على سبيل المثال، إن الثقافة العربية والإسلامية تؤسس وتبرر الإرهاب، ويضرب أمثلة كثيرة حول الفترات الطويلة من معايشة العرب والمسلمين وخضوعهم للحكم الاستبدادي... إلاّ أنّ الثقافة العربية والإسلامية التي أنتجت ابن رشد، والكواكبي ورفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الشهبندر، وعمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وفرج الله الحلو... وشهداء آب (أغسطس) 1915 في بيروت و6 أيار (مايو) 1916 في دمشق، وغيرهم من شهداء الحرية في فلسطين وباقي الدول العربية، وملايين المناضلين الذين قضوا خيرة سنوات عمرهم في السجون دفاعاً عن الحرية، تدحض هذه المزاعم... والثقافة العربية مثلها مثل ثقافة باقي الشعوب، ليست موضوعات جامدة بل هي نتاج الحياة وتتطور بتطورها.. كما أثبتت التجربة التاريخية أن الاستبداد ليس حكراً على قومية أو طائفة، أو دولة دون أخرى، بل إنّ بعض المجتمعات التي عرفت بالرقي والتحضر، والديموقراطية، هي عرضة لأن يحصل فيها نكوص، لتحل فيها سلطة استبدادية، تسخر الجيش والبوليس والدين والبنى الاجتماعية، وفق آليات ومؤسسات معينة، لتخدم وتحمي السلطة المطلقة والاستبدادية... ومن غير المنطقي لصق تهمة الاستبداد بهذه القومية أو الطائفة دون غيرها.. والسلطة الاستبدادية تفرض عند توفر الظروف والشروط الملائمة لولادتها، ومع تغيرت تلك الظروف تنتفي إمكانية وجودها..
وكون السلطة الاستبدادية قد تنشأ في وسط معزول، أو من منبت طائفي، أو قومي ضيق، لا يعني تطابق مصالح تلك الطائفة، أو القومية، التي ينشأ فيها زعماء السلطة، وتطلعاتها بمجملها مع تلك السلطة الاستبدادية..
فمتى تكون السلطة الاستبدادية طائفية؟ وهل تتحمل طائفة بعينها وزر الحكم الاستبدادي؟
من الأمثلة المعروفة عن السلطات الاستبدادية والحكم الشمولي التي عرفتها البشرية في القرن الماضي: الحكم القيصري في روسيا، الحكم النازي، والفاشي، الحكم الشمولي في دول أوربا الشرقية، وفي أمريكا اللاتينية حكم الديكتاتور بينوتشيت الذي نصبته وكالة المخابرات الأمريكية بعد قضائها على الحكم الديموقراطي برئاسة سيلفادور أليندي في تشيلي، كما نصبت ساعدت المخابرات المركزية الأمريكية في تنصيب أسرة الديكتاتور سوهارتو في أندونيسيا على جماجم مئات آلاف الشيوعيين، ودعمت تلك المخابرات عشرات السلطات الاستبدادية في العالم، وحكم بوكاسا وغيره في أفريقيا، وحكم البعث الصدامي في العراق وغيره، وشبيهه كثير في العالم، وفي البلدان العربية.
ألم تكن تلك السلطات متشابهة، من حيث البنية والأساليب والأدوات التي اتبعتها في الحكم؟ هل نستطيع أن نقول إن الجورجيين هم المسئولون عن السلطة الشمولية الستالينية. وهل تقف طائفة وحدها وراء ديكتاتورية بوكاسا أو بينوشيت؟‍! هل صحيح أنّ الطائفة السنية هي المسئولة عن ديكتاتورية صدام حسين...؟؟ وقس على ذلك.
تحمل مقاربة هذه المسألة الحساسة الكثير من المخاطر، وأهمها سوء فهم من يطرحها، ومحاولة نزع الأفكار من سياقها، ووضعها في خدمة فئة، أو طائفة، أو سلطة... وتبقى المقاربة العلمية الموضوعية هي السبيل الصحيح لتشريح هذه الظاهرة، والبحث عن الحلول الملائمة لمعالجتها...
إنّ عملية اغتصاب السلطة عن طريق الانقلابات، تسمح باستيلاء أشخاص، أو فئات على السلطة لا يملكون ثقافة ووعياً حقيقيين في مجمل المسائل السياسية، والفلسفية، والاجتماعية، يجعلهم يفرضون تصورهم الخاص في الحكم والسلطة، ويسنون قوانين، ويلزمون فئات الشعب على الانضواء في بنى ومؤسسات خاضعة لسلطة مخابراتهم... وفي نفس الوقت يبحثون عن مناصريهم ومؤيديهم ويقدمونهم ليحتلوا المراكز الحساسة والمفصلية في السلطة بغض النظر عن إمكاناتهم وثقافتهم ووعيهم، فتجد مساعداً يأمر جنرالاً، وتجد مراقباً فنياً يأمر مهندساً ودكتوراً في الهندسة، وتجد بائع ثلج يصبح نائباً لرئيس دولة، بل تجد رقيباً يرأس دولة.. ويصبح المعيار الأساسي هو مدى الولاء للسلطة، ويلغى الولاء للوطن، فما بالك بالكفاءة والنزاهة.. وكما قلنا تلغى حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية، لتحل محلها حقوق الموالين والمناصرين فقط، من كل طائفة وقومية ودين... حتى الولاء للقومية، أو الطائفة، أو الدين، أو الوطن يلغى، ويبقى الولاء للزعيم وللسلطة... وكل مؤيد لهذه السلطة، بغض النظر عن طائفته، أو عرقه، أو قوميته، أو إمكانياته، ينال نصيبه من العطاءات المنهوبة من الثروة الوطنية... وينال كل معارض، مهما كان انتماؤه الطائفي، سواء أكان من طائفة الجهة المهيمنة على السلطة، أو من غيرها ـ ينال أقصى حد من العقاب الذي يصل إلى حد التصفية الجسدية، أوفي الحد الأدنى التصفية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، عن طريق المحاصرة والتهميش... وتستخدم السلطات الاستبدادية سلاح التفرقة والتمييز بفعالية، فتفرق بين الطوائف وبين أبناء الطائفة الواحدة، وبدلاً من تلاحم المتضررين من هكذا سلطات ينكفئون ويتشرذمون، ويعادي بعضهم بعضاً لأسباب واهية، وترتفع أصوات بعض الذين يعانون من البؤس الفكري تعادي جميع أبناء طائفة زعامة تلك السلطات، بدعوى أنّهم يستفيدون منها ويحمونها، "فمن لا يستفيد مادياً يستفيد معنوياً" من هذه السلطات، على حد زعم هؤلاء... متجاهلين حقيقة التدمير الشامل الذي تسببه نلك السلطة والذي يطال جميع أبناء الوطن، من جميع الطوائف والأديان دون استثناء.. لكم تصدم هذه المواقف المسبقة، والمزاعم والاتهامات مواطنين وشخصيات يتجاوزون الطائفية ولا يقرون إلاّ بالانتماء الوطني، ويدفعون ثمن مواقفهم الوطنية المتحررة من قيود الولاءات، ويزيد في الحرقة أن يوجه هذه المزاعم والاتهامات، من يستفيد نسبياً من هذه الحالة، أو من يدعي أنّه علماني بعيد عن التفكير الطائفي، في الوقت الذي يُخشى فيه أنّ يصب مثل هذا الطرح أو التفكير والإدراك واللاشعور، الصادر عن بعض (العلمانيين، والذين يعتقدون أنّهم متحررون من التفكير الطائفي) يصب، من حيث الجوهر، في دائرة التفكير طائفي، الذي يظلم مروجيها بالدرجة الأولى، ويفقد المجتمع من وحدة القوى المناهضة للاستبداد، فضلاً عن ظلم من توجه إليهم هذه الاتهامات جزافاً... إنّ فقدان منهج التفكير السليم يؤدي إلى عدم رؤية الغابة المنتصبة وراء شجرة... والأمثلة كثيرة على ذلك؛ وهي جلية بسيطة تصادفنا يومياً... لنأخذ، مثلاً، أداة واحدة من أدوات السلطات، وليكن جيش المخبرين، هل هم حكر على طائفة بعينها، أم أنّهم من جميع الطوائف... ومن سيقوم بطباعة هذا المقال وتقديمه... هل هو من طائفة محددة؟؟.. لقد تراقص حول سلطة ص. حسين، على سبيل المثال، منافقون ليسوا من السنة فقط، بل ومن الشيعة والأكراد والمسيحيين وغيرهم... كما أنّ السلطة الاستبدادية لم تضطهد طائفة دون أخرى، بل كان من بين المضطهدين سنة وشيعة وأكراد وتركمان ومسيحيين وكلدان وآشوريين..الخ. ومن المنطقي التساؤل إن كان اضطهاد تلك السلطة الاستبدادية للمفكرين والمثقفين من مختلف الطوائف والقوميات متفاوتاً أو مختلفاً، هل كان اضطهادها للجواهري والبياتي وكاظم السامرائي وغيرهم أنعم، أو أرق، أو أخف، أو أقسى من اضطهادها لهادي العلوي، وجبرا إبراهيم جبرا، وحمزة الحسن، ورزكار عقراوي وغيرهم كثر، مع التقدير للجميع، والمعذرة عن عدم إمكانية ذكر الأسماء، لأنّ ذلك يحتاج إلى مجلدات؟؟!! ألا تضم المقابر الجماعية رفات مناضلين من مختلف القوميات والطوائف والأديان، بما في ذلك طائفة الحاكم المستبد؟؟!! كما بجل أئمة مساجد وكنائس من مختلف الطوائف، الطغاة، ووقف وراء هؤلاء الأئمة رعاياهم مبجلين خاشعين... لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ السلطات الاستبدادية تعتمد على الموثوق بهم، وكثيراً ما تجدهم في العائلة والعشيرة والقبيلة والطائفة المقربة، لكن هذا لا يعني أنّ تلك السلطات لا تجد أضعاف هؤلاء من المنافقين والوصوليين والانتهازيين في الطوائف الأخرى، التي تبدو من حيث الشكل متضررة، وفي الواقع فالمجتمع ككل بمختلف طوائفه هو المتضرر... كما أنّ اعتماد تلك السلطات على المقربين من طائفة الزعيم لا يعني أنّها تخدم هذه القبيلة أو العشيرة أو الطائفة.. إنّها بطبيعتها لا تخدم إلاّ ذاتها... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إذا كانت الطائفة تمثل أقلية في مجتمع ما، فهي بطبيعة تعدادها تجعل السلطة مضطرة لعدم الاستغناء عن المناصرين لها من باقي الطوائف... وعند محاسبة السلطات الاستبدادية من المنطقي محاسبة كل من دعمها وساندها من مختلف الطوائف، وليس من طائفة محددة...
والشيء عينه ينطبق على السلطات الاستبدادية في جميع دول العالم، بما فيها العربية... فهل كانت سلطة بينوتشيت سنية، أم شيعية أم من طائفة مسيحية منفردة، وهل كانت سلطة بوكاسا أو تشاوشيسكو وغيرها من السلطات الاستبدادية،، سنية أم شيعية أم طائفية؟؟!!
لا تزروا طائفة وزر سلطة...
إنّ السلطة تتغذى وتقتات من مختلف شرايين المجتمع، وتتطفل على جميع طوائفه التي تحاصرها.. قد تسخر فئات من طائفة معينة أكثر من غيرها في بعض وظائفها، خاصة البوليسية والأمنية، إنما مصدر قوتها ينبع من إنهاك المجتمع ككل، وخضوع جميع الفئات والطبقات لهيمنتها، وتزويدهم لها بعناصر القوة... والجميع يتحمل مسئولية ديمومتها... ولو قدر إجراء إحصاءات دقيقة لعدد المستفيدين من هذه السلطات في أي بلد، من أفريقيا إلى آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا لوجدتهم من جميع الطوائف والأعراق والقوميات، والمتضررين كذلك...
من الضروري عدم استخدام هذه الآراء في سياق تبرير أي ظلم أو اضطهاد حلّ بأية طائفة أو قومية من السلطات الاستبدادية... على العكس تماماً من الضروري محاسبة تلك السلطات على ما اقترفته، ومن أكبر الأخطاء القول: عفا الله عمّا مضى، ويوازي هذا القول، من وجهة نظرنا، جرائم المستبدين... والمحاسبة تكون موضوعية بمعرفة جوهر المسألة وكنهها الحقيقي... ولن يتم ذلك إلاّ من خلال بناء دولة على أسس عصرية متحضرة تبني مؤسسات تحدد مفهوم السلطة ولا تدعه عرضة لنزوات الأشخاص، يسود فيها العقل وحق المواطنة السياسية والاقتصادية، لجميع أبناء الوطن دون تمييز أو استثناء...
إنّه لمن الضروري تذكر حقيقة أن شهداء آب (أغسطس) عام 1915 في بيروت، وشهداء 6 أيار (مايو) 1916 في دمشق، وغيرهم من الشهداء اللاحقين، وسجناء الحرية، ضحوا بأغلى ما يملكون في سبيل بناء الدولة الوطنية الحرة.. وخير ما يمكن أن نقدمه لتخليد ذكراهم، هو بناء أسس دولة المواطن والقانون المتحررة من الظلم والاستبداد، ومن كل تمييز قومي أو طائفي... لتسمو الأوطان حرةً متحررةً من الاحتلال والاستبداد، ملبية وصايا الشهداء حافظة لذكراهم العاطرة.
طرطوس ـ عيد الشهداء ـ 6 أيار (مايو) 2005 المهندس: شاهر أحمد نصر



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عيد العمال العالمي منارة النضال في سبيل الديموقراطية
- حالة الطوارئ والأحكام العرفية والاستثنائية تضعف البلاد وتخدم ...
- ملامح التغيير الذي ينشده السوريون
- الرواية التجريبية ، والخطاب القصصي النسوي ـ أدب نجلا علي نمو ...
- دور الترجمة في نشر الفكر التنويري في عصر النهضة
- لن ينقذ الوطن إلاّ صوت العقل
- كيف أصبح شيخ الأدب في البلاد شيوعياً؟
- سحر السحر
- إنهم يخافون المصطلحات، إنّهم يخافون المستقبل
- رفيق بهاء الدين الحريري، يا من سرت على درب المسيح، سلام عليك
- نهاية الصهيونية
- تحية وتهنئة إلى الشعب العراقي
- رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية خطوة إلى الأمام ونظرة ف ...
- أحلام التغيير بعقلية وأدوات قديمة ـ قراءة نقدية في مشروع برن ...
- لأسباب مبدئية
- عشر وصايا إلى فقراء سوريا
- الحوار المتمدن عنوان المستقبل الحضاري
- وديعة رابين والتزام بيريز ونتنياهو وباراك بها في مذكرات بيل ...
- القفزة النوعية في أدب أمريكا اللاتينية جديرة بالتمعن
- قراءة نقدية في الوثيقة التأسيسية الثالثة للجان إحياء المجتمع ...


المزيد.....




- شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال ...
- مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا ...
- إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح ...
- في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض ...
- لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
- 3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
- الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
- مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال ...
- كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
- واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي