|
الجنادرية والمواطنة الافتراضية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4380 - 2014 / 3 / 1 - 12:18
المحور:
الادب والفن
في الثقافة والأدب، مثلما في علوم السياسة والاجتماع ثمة دلالات، ولعلّ تلك الدلالات لا تأتي الاّ بعد دراسة وتأمّل لتجارب وممارسات، وصولاً إلى نتائج، ولهذه الأخيرة معان إيجابية وسلبية، لأنها تعتمد على مدى التحقق، وهذا الأخير يكون مقاربة من الهدف ذاته، الذي يعني القدرة على الامتلاء، أي مدى التوازي بين الهدف والوسيلة، من خلال معيار، لا يأخذ بالتطابق بقدر سير التطبيق بموازاة النظرية، وكلّما اقتربت من ذلك، يمكن القول إن الدلالة تعني النجاح أو الفشل. مثل هذا الأمر نتفحصه من خلال تجربة مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث الذي يقام كل عام ومنذ 29 سنة، وقد حضرت نحو نصفها، واستمعت خلال حضوري إلى حوارات ونقاشات متعددة، عامة في جلساته المتنوعة، أو خاصة بدعوات كريمة من أحد مهندسي فكرة المهرجان الشيخ عبدالعزيز التويجري، وفي بيته العامر وبحضوره، وعند غيابه كان الشيخ التويجري عبدالمحسن واخوانه من حافظ على هذا التقليد الإبداعي الجميل، بجمع نخبة من المثقفين والمفكرين والباحثين ورجال الدين والسياسيين لأكثر من مرّة خلال أيام المهرجان، لمواصلة جزء آخر من حوارات المهرجان أو لطرح قضايا وإشكالات لم تطرح فيه ومنها قضايا راهنة، بعضها ذات أبعاد خلافية، وكلّ ذلك يتم بروح رياضية عالية. ما دفعني للكتابة عن الجنادرية هذه المرّة هو النقاش الذي دار في إحدى حلقات البحث، التي ضمّت المفكرين أبو يعرب المرزوقي ويوسف مكي وجمال سلطان وآخرين وشارك في التعقيب والحوار عدد من الباحثين ولعلّ ذلك سمة أخرى لهذا المهرجان المعمّر، الذي هو بحق يشكّل لقاءً بين مثقفين من الصعب جمعهم في مكان آخر، وقد شهد العالم العربي مهرجانات أخرى، لكن بعضها انقطع لأسباب عامة أو خاصة، موضوعية أو ذاتية، وبعضها الآخر كانت السياسة عاملاً سلبياً في توجهاته، والسمة الأخرى لهذا المهرجان، أنه يجمع المختلفين سواءً إزاء السياسات أو الآراء أو الأفكار أو المذاهب أو الاتجاهات، ويوفّر فرصة للحوار بينهم ضمن البرنامج أو خارجه في الغالب، وعلى نحو غير مقصود، وإن كان الهدف الحرص على التنوّع. خلال الأعوام الثلاثة الماضية كان الربيع العربي وتفرعاته هي الشغل الشاغل للحوار: الدولة المدنية وعلاقة الإسلام بالدولة، ودور الحركات الإسلامية والإسلام السياسي في مشروع الثورات وبرامجها ونتائجها الانتخابية، والإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام)، والإسلاملوجيا (استخدام الإسلام بالضد من تعاليمه السمحاء)، والأمن القومي العربي والسياسة الدولية والعامل الاقليمي، لاسيّما الصراع العربي- الإسرائيلي ودول الجوار الإيراني والتركي ومشروعيهما الإقليميين في ظل غياب أو ضعف المشروع العربي، وأمن الخليج وما يهدّده والمخاوف من الملف النووي الإيراني، والثقافة واللغة ودور التكنولوجيا والعلوم ووسائل التنمية والهوّية ومستجداتها والمواطنة وإشكالاتها. ما دفعني للكتابة عن الجنادرية هذه المرّة هو النقاش الذي دار في إحدى حلقات البحث، التي ضمّت المفكرين أبو يعرب المرزوقي ويوسف مكي وجمال سلطان وآخرين وشارك في التعقيب والحوار عدد من الباحثين، لاسيّما وأن فكرة المواطنة حديثة في الأدب السياسي والقانوني، مثلما حداثة فكرة الدولة ذاتها، وإنْ كان للمسألتين علاقة بتاريخنا، لكن الفكرة المعاصرة وتجلّياتها تختلف عن إدارة اجتماع سياسي لمجموعة من البشر، ضمن المفاهيم التي جاءت بها الثورة الفرنسية وما تعمّق بعد الثورة الصناعية، وصعود الطبقة الوسطى، من تداولية السلطة سلمياً وإجراء انتخابات دورية وفصل السلطات وسيادة القانون وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان. وإذا كانت فكرة المواطنة الحديثة تقوم على عدد من القواعد الأساسية فمن أهمها: الحرية ولعلّها المدخل، فضلاً عن كونها الفضاء الضروري للقواعد الأخرى، ثم هناك قاعدة المساواة، بمعناها القانوني أولاً، وبمعانيها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تقوم على تكافؤ الفرص وعدم التمييز وحق اختيار الحاكم وغير ذلك. أما قاعدة العدل فتشكل أساساً لهما، والعدل ليس بمعناه القانوني والقضائي فحسب، بل بمعناه الاجتماعي، فالمواطنة ستكون ناقصة ومبتورة مع الفقر، وفي ظل التفاوت الاجتماعي الفاحش بين من يملكون ومن لا يملكون، وبين المحرومين والمتخومين وهكذا. ويحتاج العدل إلى ضوابط وأنظمة تسهم في رفع الحيف والغبن عن الفئات الضعيفة مثل المرأة والمجموعات الثقافية: الدينية والإثنية والقومية، وكذلك أصحاب الاحتياجات الخاصة وغير ذلك. كما تحتاج المواطنة لكي تكون مؤثرة وفاعلة، إلى المشاركة الواسعة في إدارة الشؤون العامة وعدم التمييز لأي سبب كان، في تولّي الوظائف العليا، ولعلّ تلك الأركان الأساسية تشكل مرتكزاً للهوّية بمعناها السسيوثقافي، بوجود اللغة والدين كعنصرين مؤثرين وأساسيين، إضافة إلى العادات والتقاليد التي يمكن أن تتأثر وتتفاعل مع الهوّيات الأخرى، عامة أو فرعية، محلية أو إقليمية أو خارج نطاق الإقليم. وإذا كانت ثمة واقعية في موضوع المواطنة، باعتبارها ركناً أساسيا للدولة العصرية، لا غنى عنه لتقدّمها ورفاه شعبها، فإن هناك من يدعو لنموذج آخر "لمواطنة افتراضية"، أساسها آيديولوجي يقوم على الهوّية الدينية أو الطائفية أو القومية أو الأممية بحسب مصدر التوجه، فالإسلاميون بمختلف تياراتهم سواءً جزؤهم الحركي أو الساكن، يعتبرون هناك "دار الإسلام" و"دار الشرك"، وهم وفقاً لهذا التقسيم قدّموا نموذجاً لمواطنة افتراضية أساسها عابر للحدود والجنسيات والقوميات والطوائف، وذلك بتجاوز مشروع "الدولة الوطنية"، لاسيّما عندما يتم الحديث عن مواطنة إسلامية. ومثله التيار القومي العربي، فإنه لا يعترف بالحدود والكيانات التجزيئية، التي فرضها المستعمر، ويتحدث عن فكرة مواطنة عربية، وقد نجد هذه الفكرة الجنينية قد أخذت طريقها إلى التطبيق التمهيدي مثل الحديث عن المواطنة المغاربية والمواطنة الخليجية، على الرغم مما حقق مجلس التعاون الخليجي من بعض النجاحات في التقارب والتنسيق، لكن ثمة عوائق أمام فكرة مواطنة خليجية أو كونفدرالية على هذا الصعيد، سواء تم توحيد العملة أو الاحتفاظ بها لحين، على طريقة الاتحاد الأوروبي. والماركسيون أيضاً يتجاوزون على فكرة "الدولة الوطنية"، وكان كارل ماركس هو الذي قال "ليس للعمال من وطن" بمعنى تجاوز الطبقة العاملة لما هو قائم باتجاه مواطنة أممية لشغيلة العالم. وسواءً كانت المواطنة الإسلامية أو المواطنة العروبية وربما الكردية غداً أو غيرها، أو المواطنة الأممية بنموذجها السوفييتي أو الكوبي الأمريكي اللاتيني، فإنها جميعها صيغ لمواطنة افتراضية، تقوم على الموقف السلبي من فكرة الدولة الوطنية، فهو الجامع بينها، علماً بأن الكثير من المشكلات القانونية والسياسية، تواجه مثل هذه الأفكار في ظل غياب صيغة قانونية مثل صيغة الاتحاد الأوروبي مثلاً، لكن هذه الصيغ ذات الطبعة الآيديولوجية الملوّنة، التي تأخذ اسماً دينيا (المواطنة الإسلامية) واسما قومياً (المواطنة العروبية أو العربية) واسماً أممياً (المواطنة الأممية)، فإنها ترضع من ثدي واحد، فالأولى تسعى لقيام نظام إسلامي، والثانية تستهدف قيام نظام وحدوي قومي، والثالثة تريد بناء الاشتراكية، وفقاً لوحدة الطبقة العاملة على أساس مركز أممي وفروع مرتبطة به. لعلّ الفكرة النظرية التي تروّج لها التيارات المختلفة تصطدم بعدد من الجوانب العملية، فيما يخص الدولة الوطنية وهويّتها، ناهيكم عن عدد من الأسئلة الشائكة التي تواجهها مثل: تنازع القوانين، كيف السبيل للانتقال من دائرة المواطنة الوطنية إلى دائرة المواطنة الأوسع الإسلامية والعروبية والأممية؟ هل بإسقاط الرغبات على الواقع؟ علماً بأن ما طرحته موجة ما يسمى الربيع العربي وعموم موجات التغيير التي حصلت في أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية، أدّت إلى انبعاث الهوّيات الفرعية، وقادت إلى حروب وانقسامات وتشكيل دول أو حتى دويلات. أفكار من هذا النوع كانت محطّ نقاش وجدل خلال أيام الجنادرية، خصوصاً علاقة الدين كعقيدة، بالسياسة كممارسة ومساومة ومصالح، ومن جهة أخرى كانت فكرة الدولة المدنية حاضرة، لاسيّما باعتبارها "الكفيل بوضع حدّ لنزاعات القوة والهيمنة وتنظيم حياة الناس" بعيداً عن دينهم ولغتهم وعرقهم ولونهم وجنسهم ومعتقدهم وأصلهم الاجتماعي، وذلك بوجود مؤسسات ضامنة لحقوقهم في إطار سيادة القانون، كان ضمن عقد اجتماعي، وربّما هذا ما كانت تسعى إليه بعض حركات التغيير، حتى وإن هناك من حاول وضع العقبات في طريقها أو واجهها بتحديات، ناهيكم عن المنعرجات التي صادفتها، لكن ذلك هو الواقع بكل تعقيداته، وهو واقع وليس افتراضاً بكل الأحوال!!.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر تحتاج إلى مشاركة المهزوم لا الانتقام منه
-
استمرار الصراع في سوريا هو مصارعة على الطريقة الرومانية
-
نتنياهو وتصريحات كيري!
-
الحزين الذي لم تفارقه الإبتسامة
-
التباس مفهوم -الأقليات-
-
الأنبار . . الإرهاب والأسماك الخبيثة
-
دستور تونس والعقدة الدينية
-
من أين ظهر هذا التنين؟
-
المعايير الدولية للمحاكمة العادلة: قراءة في الفقه القانوني ا
...
-
رحل العروبي -الأبيض- !
-
“الوجه الآخر” لتركيا
-
جنيف 2 واستعصاء الحل!
-
النجف في الجامعة اليسوعية
-
مغارة -علي بابا- الأسوأ من ووترغيت!
-
دستور مصر: في الطريق إلى الاستفتاء !
-
جدليّة الكولونيالية !
-
العودة إلى ما قبل أوسلو
-
تركيا وبرزخ «الفساد»!
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة :ثلاثون عاماً على الإختفاء القسري
-
أحقاً هي السلطة الرابعة؟
المزيد.....
-
كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تن
...
-
ما مصير السجادة الحمراء بعد انتهاء مهرجان كان السينمائي؟
-
وفاة الممثلة الإيطالية ليا ماساري عن 91 عاما
-
البروفيسور عبد الغفور الهدوي: الاستشراق ينساب في صمت عبر الخ
...
-
الموت يغيب الفنان المصري عماد محرم
-
-محاذاة الغريم-... كتاب جديد في أدب الرحلات لعبد الرحمن الما
...
-
-أصيلة 46- في دورة صيفية مخصصة للجداريات والورشات التكوينية
...
-
-نَفَسُ الله-.. هشاشة الذات بين غواية النسيان واحتراق الذاكر
...
-
جبل كورك في كردستان العراق.. من خطر الألغام إلى رفاهية المنت
...
-
لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|