أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - ماذا وراء تهرؤ النقود حتى الإنهيار















المزيد.....


ماذا وراء تهرؤ النقود حتى الإنهيار


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 4367 - 2014 / 2 / 16 - 18:05
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ماذا وراء تهرؤ النقود حتى الإنهيار ؟
[Degeneration of Money]

علّمنا ماركس كيف نقرأ التاريخ قراءة علمية دقيقة، إلا أن الشيوعيين الذين اصطفوا في صف المرتد خروشتشوف منذ العام 1953 بشكل خاص، حين بدأ الرجوع عن الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي، باتوا يرفضون قراءة التاريخ قراءة ماركسية صحيحة . وصلت الحركة الشيوعية حد التلاشي دون أن يقلعوا عن قراءاتهم الضالة المضللة . آتيناهم بقراءات علمية ودقيقة للتاريخ وبالعديد من الدلالات القاطعة التي تؤكد جميعها انهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي، وهو ما كان قد قرره المؤتمر التاسع عشر للحزب السيوعي السوفياتي في العام 1952 مؤكداً أن النظام الامبريالي سينهار في وقت قريب . آتيناهم بكل هذا لكن وكأن أحداً لم يقرأ ولم يسمع . كل ذلك لم يجعلنا نستسلم إلى الإحباط فنترك هؤلاء الضالين المضللين لحالهم، وذلك ليس لأهميتهم في مجريات العمل الشيوعي وقد باتوا بلا أدنى أهمية، بل لأن حقيقة انهيار النظام الرأسمالي في العالم هي وحدها الأساس ونقطة الإنطلاق لكل عمل شيوعي منذ ما بعد سبعينيات القرن الماضي وحتى قيام الثورة الاشتراكية في العالم كله من جديد . كل دعيٍّ للشيوعية ينطلق اليوم من نقطة أخرى غير هذه النقطة، نقطة انهيار النظام الرأسمالي، إنما هو لاعب في غير ملعب الشيوعية، وهو مضلَل ومضلِل، إسم الفاعل وإسم المفعول بذات الوقت .
ما يثير الاستنكار والغضب معاً أكثر من أي شيء آخر هو أن هؤلاء "الشيوعيين" الضالين المضللين يرفضون بدون أي معنى أو عذر التعرف على النظام الرأسمالي . عبثاً نشرح لهم بالاستناد إلى ماركس أن النظام الرأسمالي يقوم أساساً على تحويل قوة العمل المتجددة يومياً في العمال إلى بضاعة والهدف الأول والأخير من هذه العملية هو خلق الأموال الجديدة التي لم تكن موجودة قبلئذٍ ومراكمتها . دورة الإنتاج الرأسمالي تتمثل بالمحطات الثلاث (نقد ـ بضاعة ـ نقد) بحيث يكون النقد في المحطة الثالثة أكثر من النقد في المحطة الأولى وإلا توقف النظام الرأسمالي عن العمل . هذا هو النظام الرأسالي من ألفهِ إلى يائه ولا داعٍ لعدم التعرّف على هذا النظام أو الإدعاء بادعاء مختلف .

أُصيب النظام الرأسالي بعلة عجماء ولم يعد يعمل كما عهدناه يعمل، وعليه يترتب على الشيوعيين والماركسيين قبل غيرهم أن يعللوا مثل هذه العلّة الطارئة حيث نظام الإنتاج الرأسمالي هو المنطلق الكلاسيكي للعمل الشيوعي وهو الأساس الصلب الذي يقف عليه الشيوعيون للإنطلاق إلى الشيوعية .
خَلْق النقود الجديدة الإضافية الذي هو الوظيفة الكلية والهدف الأخير للنظام الرأسمالي إعتراه خلل كبير . في العام 1850 بعد أن وطّد النظام الرأسمالي أركانه، وبعد أن أصدر كارل ماركس وفردريك أنجلز بيانهما الشيوعي (1848) ، كانت قيمة أونصة الذهب، والذهب هو المعاير الأصيل والدقيق للقيمة، هي فقط 18.93 دولاراً. وبعد مائة عام أي في العام 1950 تطور خلالها النظام الرأسمالي تطوراً هائلاً وتجاوز الكهولة حتى اقتضاه الأمر إشعال حربين عالميتين كلفت البشرية عشرات الملايين من الضحايا بالإضافة إلى دمار هائل وسع القارة الأوروبية وإفلاس أغنى الدول، كل ذلك من أجل إعادة إقتسام سطح الكرة الأرضية بين مراكز الرأسمالية في العالم كمحيطات لها، بعد مائة عام خلق عبرها أطنان من النقود الثقيلة لم تتجاوز قيمة أونصة الذهب 34.72 دولاراً أي بزيادة 15.79 دولاراً وبنسبة 1.83% فقط . وفي العام 1971 وهو العام الأخير من عمر النظام الرأسمالي، وقد فكت الولايات المتحدة العلاقة الجوهرية بين الذهب والدولار وانسحبت من معاهدة بريتونوود التي تستوجب تلك العلاقة، في ذلك العام وصلت قيمة الأونصة إلى 40.62 دولاراً أي بزيادة 5.90 دولاراً أو بنسبة 1.17% عنها قبل عشرين عاماً . وهكذا فإننا نرى أن أونصة الذهب يرتفع سعرها النقدي ما بين 1.5 ـ 2.5 دولاراً كل عشر سنوات وهو ارتفاع طبيعي لربما ناجم عن زيادة عدد النساء اللواتي يتحلين بالذهب في العالم .
أما في العام 2011، أي بعد أربعة عقود فقط، فقد وصلت قيمة أونصة الذهب إلى 1571.52 دولارا أي بزيادة 1530.90 دولاراً أو بنسبة 3868.83% وهو ما يصل إلى 391.3 دولارا كل عشر سنوات، وهي زيادة مجنونة غير معهودة خلال 120 عاماً من عمر الذهب (1850 ـ 1971) حيث لم يتضاعف سعره سوى مرتين ! طبعاً لم تكن تلك الزيادة المجنونة ناجمة عن قصور في إنتاج الذهب أو أن إنتاجه أخذ يتطلب طاقة أكبر من الشغل، فقيمة النفط اعتراها ذات الجنون حيث كانت في العام 1950 قيمة برميل النفط هي 2.6 دولاراً فقط، وفي العام 1971 وهو آخر عام في عمر النظام الرأسمالي، والنفط أحد عناصر النظام الرئيسة، كانت قيمة برميل النفط 3.6 دولاراَ، أي بزيادة دولار واحد فقط ؛ لكنها في العام 2011 أصيبت بنفس الجنون وناهزت قيمة البرميل 120 دولاراً . تضاعف سعر الذهب أربعين ضعفاً ومثله تضاعف سعر النفط وسلع كثيرة أخرى خلال العقود الأربعة الأخيرة .
لما كان الذهب هو المعاير الوحيد للقيمة، ولما كان النفط هو السلعة الملك في جميع الأسواق فذلك يعني بالضرورة أن أسعار جيع السلع أصيبت بذات السعار وتضاعفت أسعارها بنفس النسبة أو بما يقرب منها .
ما علّة هذا الجنون وهذا السعار السعري ؟ تلك هي القضية التي لا يجوز إغفالها والقفز عنها حيث هي تحديداً الدالة الأقوى مباشرة على طبيعة النظام الإجتماعي السائد اليوم في العالم كله حيث سعار الأسعار هو نفسه حيثما توجهت !!

بعض القوم الغفل يزعمون أن النظام الرأسمالي انفلت متغولاً في الربع الأخير من القرن العشرين ولم تروّضة أية رياضة قبل التعولم (Globalization) حيث وصل القمة ليتملّكه السعار فكان إذّاك السعار السعري فتضاعفت الأسعار أربعين ضعفاً . هؤلاء القوم ليسوا غفلاً فقط بل وحمقى أيضاً . فسعر السلعة تحدده دائماً قيمة ساعات العمل المختزنة في تلك السلعة ؛ فهل ارتفعت قيمة ساعة العمل لأربعين ضعفاً أو حتى 10 أضعاف خلال العقود الأربعة الأخيرة خاصة وأن هؤلاء القوم أنفسهم يزعمون أن العولمة إنما كانت بهدف البحث عن العمل الرخيص !؟ لكي ترتفع قيمة ساعة العمل 10 أضعاف لا بد أن يكون مستوى حياة المجتمع بالمعدل العام قد تضاعف عشر مرات، وهذا ليس معقولاً ولم يكن، فما بالك بالأربعين ضعفاً !؟ لربما تضاعف مستوى الحياة بالمعدل ضعفين أو ثلاثة أضعاف لتتضاعف قيمة أونصة الذهب (40 دولاراً في العام 1971) ضعفين أو ثلاثة لتبلغ 80 أو 120 دولارا ً في العام 2011 وليس 1571 دولاراً كما وصلت فعلاً . ثم علينا ألا نغفل في هذا السياق عن التطور الكبير في أدوات الإنتاج التي غدت توفر من العمل البشري المختزن في السلعة أكثر من نصفه وهو ما ينعكس بالضرورة في خفض الأسعار بنفس النسبة ولنا أن نتوقع في هذه الحالة أن نشتري أونصة الذهب في العام 2011 بأربعين أو ستين دولاراً فقط وليس ب 1571 دولاراً .
أن يسعر النظام الرأسمالي ويتغوّل ذلك يعني أن يخلق نقوداً أكثر وأثقل لكنها ليست أخف بحال من الأحوال فلا تزيد قيمة أونصة الذهب عن 40 دولاراً في العام 2011 مثلما كانت في العام 1971 .
لماذا إذاً تستعر الأسعار لتصل بعيداً إلى ثلاثين أو أربعين ضعفاً !؟ لماذا كان سعر أونصة الذهب في العام 1971 هو 40 دولاراً فقط ووصلت في العام 2011 إلى 1571 دولاراً أي أكثر من 39 ضعفاً بينما خلال قرن طويل 1850 ـ 1950 وكان النظام الرأسمالي خلاله يتطور بخطى حثيثة ويوطد أركانه في كل الأرض لم يتضاعف سعر الأونصة سوى أقل من الضعف (18 : 34) ؟

الجواب الوحيد على هذه الأسئلة التي تدور حول قيمة النقود وسعرها هو أن النقود ما بين 1971 و 2011 قد فقدت من قيمتها القسم الأعظم أو ما لا يقل عن 70% وقد يتجاوز 80% في أحايين كثيرة . فلو أغفلنا 80% من قيمة الأونصة في العام 2012 وهو 1256 دولاراً لبقي 314 دولاراً وهو ما زال سعراً مرتفعاً جداً ويساوي زهاء ثمانية أضعاف سعرها في العام 1971 حين كان سعرها يتحدد وفق ميكانزمات النظام الرأسمالي وقانون القيمة الرأسمالية تحديداً . وبناءً على ذلك فإن المفقود من قيمة النقود هو أكثر من 80% وقد يصل إلى 90% لتبقى قيمة الأونصة 157 دولاراً وهو زهاء أربعة أضعاف قيمتها في العام 1971 وهذا سعر يمكن قبوله في مناخ التضخم النقدي المتفشي لأسبابه المعروفة ؛ لكن أن يرتفع السعر لأكثر من 39 ضعفاً فالأمر يعود لأسباب أخرى غير التضخم النقدي المعهود والسعار الرأسمالي المُدّعى .

أول ما تمليه هذه الحقائق والحسابات الدقيقة المتداولة في الأسواق هو أن النظام الرأسمالي لم يعد يعمل منذ سبعينيات القرن الماضي حيث أن عمل النظام الرأسمالي هو أولاً وأخيراً إنتاج النقود ثابتة القيمة طالما أنها المعيار الدقيق لقيمة ساعة العمل بهدف مراكمة الأموال أو إعادة تحويلها إلى ساعات عمل لتدوير عملية الإنتاج واستمرارها . دورة الإنتاج الرأسمالي (نقد ـ بضاعة ـ نقد) تعني مباشرة خلق نقود جديدة ثابتة القيمة طالما أنها التجسيد الدقيق لقيمة ساعة/عمل التي يصعب ملاحظة اختلافها في غضون عشر سنوات، وهي بذات الوقت الهدف الأول والأخير للرأسمالي . الرأسمالي يملك نقودا فيحولها إلى بضاعة من خلال شرائه ساعات عمل من سوق العمل لتتحول إلى بضاعة ويدفع بهذه البضاعة إلى السوق كي تتم مبادلتها لتعود إلى نقود من جديد . والهدف يتحقق بأن تكون النقود الجديدة بدل البضاعة أكثر من النقود القديمة أجور ساعات العمل . يشتري الرأسمالي يوم عمل 8 ساعات ويدفع للعامل قيمة 6 ساعات أو نحو ذلك ويبيع في السوق 8 ساعات ؛ وبذلك تكون النقود التي استعادها في السوق هي نقود ذات قيمة حقيقية تجسد ساعات عمل . لو أن النظام الرأسمالي ما زال يعمل حتى اليوم كما يدعي المفلسون سياسياً لما تجاوز سعر أونصة الذهب 80 دولاراً في العام 2011 أي ضعف قيمتها عام 1971 .
وكيلا يُقال أن فيض النقود هو التعبير الدقيق عن فيض الإنتاج، ومع أن ذلك لا يبرر السعار السعري حيث الزيادة في النقود توازيها ذات الزيادة في البضاعة، نشير إلى أن مجمل إنتاج العالم في العام 1970 لم يتجاوز 12 ترليون دولاراً (من دولارات 1990) وقد وصل في العام 2012 إلى 45 ترليون دولاراً وهو ما يعني أن إنتاج العالم تضاعف أقل من أربعة أضعاف فقط بينما تضاعف سعر أونصة الذهب أربعين ضعفاً ومثلها إرتفع ملك السلع برميل النفط . العلّة إذاً في النقود وتدهورها إلى هذا الحد المريع وأن يصل دولار 1971 إلى أن يساوي 40 دولاراً من دولارات 2012 !!

في العام 1971 بدأ الانهيار السريع للنظام الرأسمالي وهو ما دعا الولايات المتحدة إلى أن تفصل قيمة نقودها عن قيمة الذهب وكان ذلك اعترافاً صريحاً منها بأن نظام الإنتاج فيها وهو النظام الرأسمالي لم يعد يخلق بضاعة ونقوداً حقيقية . لو كان الأمر غير ذلك لما اضطرت الإدارة الأميركية إلى فك إرتباط عملتها بالذهب ليعاني الدولار جراء ذلك إنهياراً في أسواق الصرف مما اضطرها إلى إعلان خفض قيمة الدولار في العام 1972 ثم إعلان خفضه مرتين في العام 1973 ولما لم يجدِ ذلك فتيلا استنجدت الولايات المتحدة بالدول الرأسمالية الأربعة الأغنى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، فكان أن أعلنت هذه الدول مجتمعة كفالتها للدولار . اجتمع قادة الدول الخمس الغنية (G 5) في العام 1975 في قلعة رامبوييه في باريس وقرروا فصل نقودهم الصعبة عن الذهب وأن الثقة المالية التي يتمتعون بها هي الضمانة الوحيدة لقيمة نقودهم التي لن تعود صعبة . لكن الثقة بقدراتهم المالية ليست ذات قيمة محددة ومعروفة كالذهب ؛ ولذلك تجري مبادلة نقودهم في أسواق الصرف دون معرفة قيمتها الحقيقية بالدقة المطلوبة وبغير الضمانة المضمرة في بطن الضامن . وما يسنوجب الإشارة إليه في هذا السياق هو أن حيتان المال يعرفون تماماً مدى ملاءة كفالة هذه الدول لعملاتها وهي الملاءة التي تتهرأ كل يوم بعد أن فقدت هذه الدول محيطاتها بفعل ثورة التحرر الوطني العالمية وسُدّت كل المخارج لفائض الانتاج الرأسمالي فكان للنظام الرأسمالي أن يختنق بفائض إنتاجه . وهكذا توجه حيتان المال إلى المضاربة في البورصة حيث يغتصب هؤلاء الحيتان إنتاج العمال بصورة لصوصية صفيقة وأكثر وحشية من الأسلوب الرأسمالي . النشاط المتزايد للبورصات اليوم، والذي لا يخلق سنتيماً واحداً، لا يدلل على انهيار النظام الرأسالي فقط بل أيضاً على انهيار النقود .

طبعاً النظام الرأسمالي هو النظام الوحيد الذي ينتج نقوداً ذهبية . أما النقود غير الذهبية فهي تعود لنظام آخر غير رأسمالي يقيناً . قياساً على ارتفاع سعر الذهب خلال إزدهار النظام الرأسمالي ما بين 1850 و 1970 وقد تضاعف سعره، فإن أقصى سعر يمكن توقعه لأونصة الذهب لو استمر النظام الرأسمالي حتى العام 2012 هو 80 أو 90 دولاراً وليس 1571 كما هو الآن، وهو ما يعني أن الدولار كان قد فقد أكثر من 90% من فيمته أي أن كل دولار أميركي يحتوي على 90 سنتاً زائفة لا قيمة لها . من أين تأتت هذه السنتات الزائفة إلى صلب الدولار؟ تلك هي القضية التي يلزم معالجتها كي يَتَبَيّن العالم مسار تطوره وإلا فقد إنسانيته وفقد الحياة .

في العام 1972 أعلنت الأمم المتحدة نهاية الاستعمار في العالم وهو ما أفضي إلى انهيار النظام الرأسمالي في أرضه بفعل غرقه في فيض إنتاجه . ما هو غير متوقع في هذا السياق هو انهيار النظام الرأسمالي بفعل ثورة التحرر الوطني وليس الثورة الاشتراكية التي كانت قد انهزمت في مركزها، الاتحاد السوفياتي، بعدة وقائع ـ فرض العسكر في العام 53 إلغاء كافة مقررات المؤتمر العام للحزب الشيوعي السوفياتي واستولوا على المالية العامة لإنتاج الأسلحة، وهوجم ستالين رمز الاشتراكية وبانيها في العام 56، ثم إنقلاب عسكري ضد الحزب في العام 57 وطرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي للحزب، وانقلاب عسكري آخر ضد الحزب في العام 64 وإسقاط خروشتشوف. انهار النظام الرأسمالي في السببعينيات بعد أن فقدت البروليتاريا كل السلطة في الإتحاد السوفياتي مركز الثورة الإشتراكية . وهكذا انهارت الدولة الرأسمالية لا لتخلفها دولة البروليتاريا بل دولة البورجوازية الوضيعة نظيرة الطبقة التي فككت النظام الاشتراكي .

الخصوصية العامة للبورجوازية الوضيعة هي أنها تستهلك الثروة دون أن تنتج أي قدر منها . تبدع في إنتاج الخدمات خاصة عندما تكون كل السلطة بيدها، كما تبدع أيضاً في استهلاك الثروة . في أواخر السبعينيات تباهت الصحافة الأميركية في أن الاقتصاد الاستهلاكي (Consumerism) من ابتداع الغرب الرأسمالي بظنها ـ لكنه في الحقيقة قشة الغرب الغريق ـ سيقضي على الاشتراكية وهي لا تعلم أن الاشتراكية كان قد قضي عليها قبلئذٍ وأن الكونسيومارزم ستفترس فلول الرأسمالية شر افتراس .
ليس بلا معنى أطلق الإقتصاديون اسم "الكونسيومارزم" على نمط الحياة الذي انعطف إليه العالم الرأسمالي بشكل خاص ؛ المعنى بدلالة الإسم هو استهلاك الثروة بما يفوق إنتاجها . بمثل هذا المعنى ينتفي كل نظام للإنتاج أكان ذلك النظام الرأسمالي أم الإشتراكي . تناهى العالم إلى الكونسيومارزم ليس ابتداعاً لمحاربة الشيوعية بل هرباً من الثورة الاشتراكية . الكونسيومارزم التي دهمت العالم إثر مؤتمر رامبوييه 1975 وحتى اليوم مروراً بالأزمة المالية في خريف 2008 إنما هي فترة هروب من الاشتراكية، وهي كذلك فترة عبور من النظام الرأسمالي إلى الثورة الإشتراكية . لا يمكن أن تكون الاستهلاكية نظاماً اجتماعياً قابلاً للحياة ويؤمن الإستقرار طالما أنها لا تنتج بمقدار ما تستهلك . لذلك سيكون عمرها قصير والهروب من الاشتراكية عن طريق الإستهلاكية سيصل سريعاً إلى الطريق المسدود .
لكن لماذا نظام الاستهلاكية يستهلك أكثر مما ينتج وهو ما يقصّر عمره كما أنذرت أزمته في خريف 2008 ؟

عندما فكت سائر الدول المحيطية روابطها مع مراكز الرأسمالية العالمية وسُدّت بذلك مخارج فائض الإنتاج في هذه المراكز لم يبق أي حيلة لاستمرار النظام الرأسمالي في العمل وكان قد بدأ يغرق في فائض إنتاجه منذ انفجار ثورة التحرر الوطني في العام التالي لنهاية الحرب (1946) فانتهى إلى الانهيار مع بداية السبعينيات . ولما كان من الصعب على البروليتاريا أن تتولى السلطة إذّاك وتطلق ثورتها الاشتراكية بعد أن انهزمت الاشتراكية في حصنها فكانت قشة النجاة أمام قوى الإنتاج هي أن تتحول إلى إنتاج الخدمات فآلت السلطة كل السلطة إلى البورجوازية الوضيعة التي لا تنتج غير الخدمات . الخدمات ليست إنتاجاً مادياً ذا قيمة تبادلية يضيف ثروة للمجتمع ويتطلب تصديراً، لكن دولة البورجوازية الوضيعة وقد غدت صاحبة السلطة المطلقة أخذت تشتري الخدمات بضاعتها بكلفة ساعة عمل البورجوازية الوضيعة المبدعة في الاستهلاك . وقد رتب ذلك على البروليتاريا أعباء إضافية انعكست في تراجعها الكمي قبل النوعي . البروليتاريا ومهما استبدت بها دولة البورجوازية الوضيعة (دولة الرفاه ـ Welfare State ) وابتزت من إنتاجها أضعاف ما كان يبتزه الرأسماليون لن تستطيع أن تغطي الاستهلاك الكلي المتزايد لطبقة البورجوازية الوضيعة بما في ذلك كلفة إنتاج خدمانها .
لكل ذلك بتنا نرى طبقة البروليتاريا في الدول الرأسمالية المتقدمة سابقاً قد انكمشت حتى حدود 40% من حجمها السابق وانخفض مستواها المعاشي وتلاشى دورها السياسي على الصعيد الوطني وهمدت ثوريتها وتهمشت وتفككت إثر ذلك أحزابها الشيوعية . ليس هذا فقط بل وعندما لم تعد البروليتاريا قادرة على الإنفاق لتغطية الاستهلاك المتعاظم للبورجوازية الوضيعة فإن دولة البورجوازية لا ترى بأساً في الاستدانة من الخارج لتغطي قصور الخدمات . ولذلك ترى الولايات المتحدة اليوم مدينة للخارج بمبلغ 18 ترليون دولار وبريطانيا 10 ترليون وألمانيا 6 ترليون وفرنسا 5 ترليون واليابان 4 ترليون ؛ وهكذا فالدول التي اجتمعت في رامبوييه في العام 1975 بحكم أنهى الدول الخمس الأغنى في العالم تحتل اليوم رأس قائمة الدول المدينة وهي الدلالة القاطعة على أنها لم تعد رأسمالية ولم تعد تخلق نقودا التي هي من خَلْق الرأسمالية وحدها .
النظام الرأسمالي يخلق نقودا من خلال إنتاج البضائع الذي هو ديدن الرأسمالية لكن نظام البورجوازية الوضيعة يصطنع ويستدين نقودا لتغطية مبادلة الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها . يوظف الرأسماليون نقودهم في إنتاج بضائع ذات قيمة أكبر من قيمة نقودهم وهم بهذه العملية يولدون نقودا حقيقية مليئة القيمة. لكن البورجوازية الوضيعة تبيع خدماتها على البروليتاريا من خلال الرأسمالي وتقبض نقوداً تفرغها من قيمتها البضاعية التي تستهلكها دون أن تنتج بالمقابل أية قيمة تبادلية وهي بذلك تفسد النقود . تستهلك البروليتاريا الدولار لتعطي دولاراً وعشرن سنتاً وتستهلك البورجوازية الوضيعة الدولار فلا تعطي سنتاً واحداً . في اقتصادات اليوم في الدول الرأسمالية سابقاً تبلغ أجور البورجوازية الوضيعة أربعة أمثال أو خمسة أمثال ما تقبضه البروليتاريا وعليه تفسد البورجوازية الوضيعة حوالي 90% من كتلة النقد المتداول سنوياً إذ تفرغها من قيمتها البضاعية . ليس هذا فقط، فالبضاعة الرأسمالية أخذت فيا بعد السبعينيات تحمل في جوفها خدمات تفوق نسبتها في قيمة البضاعة الحصة الأعظم وهو ما لا يترك في النهاية إلا جزءاً صغيراً من فائض القيمة كربح للرأسمالي المنتج للبضاعة . رد فعل الرأسمالي بالطبع سيكون حالتئذٍ الإقلاع عن الإنتاج الرأسمالي والهروب إلى الضاربة في البورصة حيث هناك يفترس البروليتاريا بصورة وحشية دون أن يغامر في الإنتاج بعد أن كان يستنزف دماءها عن طريق الانتاج . لذلك يمكننا أن نؤكد على أن عمر الكزنسيومارزم قصير وأقصر مما يمكن تخيله .
من هنا فقط يمكن تفسير سعار الأسعار حتى تضاعفت قيمة أونصة الذهب أربعين ضعفاً خلال السنوات الأربعين الأخيرة ووصلت قيمتها إلى 1571 دولاراً في العام 2011 . البورجوازية الوضيعة تستهلك البضاعة ولا تنتجها ولا تخلق نقوداً، وبذلك فقط تتهرآ النقود وتنهار .



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد
- حصن الماركسية الحصين (4)
- حصن الماركسية الحصين (3)
- حصن الماركسية الحصين (2)
- حصن الماركسية الحصين (1)
- مانيفيستو القرن الحادي والعشرين (الأدلجة)
- مانيفيستو القرن الحادي والعشرين )النقد - (Money
- مانيفيستو القرن الحادي والعشرين ( عبور مختلف إلى الإشتراكية ...
- رسالة إلى قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني
- تخلّف الخطاب السياسي (الإقتصاد)
- تخلّف الخطاب السياسي (الإشتراكية)
- الرأسمالية انهارت لكن على أعينهم غشاوة
- تخلّف الخطاب السياسي ( وحدة اليسار )
- تخلّف الخطاب السياسي (سور برلين)
- تخلف الخطاب السياسي
- الإخلاص للثورة الإشتراكية لا يتحقق إلا بالوعي
- الطبقة الوسطى تختطف السياسة وتذوِّتُها
- المادية الديالكتيكية والدولة الخدماتية
- الماركسية ليست بحاجة لشهود
- إشتراكيون لا يدركون ماهيّة الإشتراكية


المزيد.....




- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...
- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - ماذا وراء تهرؤ النقود حتى الإنهيار