نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4366 - 2014 / 2 / 15 - 15:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بين الإله الحُلولي و الإله الشخصي.
تُخبرنا فرضية الإله الشخصي عن وجود كائن ٍ مُطلق في كل شئ، في العلم و القوة و الحكمة و الصفات، قرر لسبب ٍ ما نجهله أن يقول "كن" أي أنه شاء الكينونة، فنشأت عن هذه المشيئة "مخلوقات" هي الكواكب و النجوم و المجرات و التجمعات النجمية و كل ما يحيا بينهم و عليهم مثل النباتات و الحيوانات و البشر، و قرر لسبب ما أيضا ً لا نعلمه أن يهتم بأحد أنواع المخلوقات و الذي يسمي نفسه الإنسان، و الذي يعيش على كوكب ناء ٍ على أطراف المجرة، فظهر لبعض ٍ من نوع "الإنسان" و "أخبرهم" و "أنبأهم" عن نفسه، و أعطاهم "كُتبا ً" و "تشريعات" و أصدر لهم "أنظمة" و "قوانين" تقودهم في حياتهم حسب "مشيئته"، و أعلمهم علم اليقين أنهم حين يموتون ماثلون "أمامه" ليؤدي كل منهم "حساباً" عما فعل، و بحسب هذا "الجرد و الحساب" سيقضي معه حياة ً أبدية قي سعادة ٍ لا تنتهي أو يذهب إلى مكان ٍ كئيب لتعاسة ٍ لا تنتهي.
و لا تقدم هذه الفرضية أي دليل ٍ على صحتها مع أنها تُلح ُّ باستمرار و تطلب الإيمان و التسليم و القناعة المطلقة و تتجرأ بدون تردد أن تطلب من المؤمنين صياغة أنماط حياتهم و قولبة رؤيتهم للماضي السحيق الذي لم يعاصروه و للحاضر و ما فيه من أحداث و للمستقبل و ما سيحمله، بناء ً على هذه الفرضية، و تفرض عليهم تصورات معينة لا يمكن الانعتاق منها، و تستحضر في أذهانهم صورا ً لـ "وقائع" تمت في الحضرة الإلهية حيث لا الزمان زمان و لا المكان مكان، بين الإله و كائناته الخفية و التي في ضوئها تم تقرير مصير البشر و بناء ً عليها ينبغي عليهم أن يعيشوا و يحيوا و يحددوا أشكال تفاعلاتهم و نتائجها.
فرضية الإله الشخصي لا تُحب العلم أبدا ً و لا تعترف بنتائجه، لكن تنامي قوته و عِظم َ برهانه و شديد َ دليله يُجبرها على الدخول في "مفاوضات" تكتيكية تُحافظ ُ فيها على ما تستطيعه ُ من أرضها، و تحفظ ُ ماء وجهها عند انسحابها من أماكن تواجد سابقة لصالح تلك القوة النامية و أسلحة براهينها و مدكَّات أدلـَّتها، فهذه الفرضية تنشأ بدون برهان، و تحيا بدون برهان و تُلح ُّ على المؤمنين بدون برهان و ترسم حياتهم و مستقبلهم و تسيطر على عقولهم أيضا ً بدون برهان.
أما فرضية الإله الحلولي فتنشأ من ذات مُنطلق فرضية الإله الشخصي، و هي ضرورة وجود المُسبِّب لظهور السبب و المعلول لوجود العلَّة، و على الرغم أنها تحمل في طياتها نكهة الدين إلا أن جوهرها فلسفي ٌّ محض يحتضن العلم لباسا ً مُنطلقا ً في قولي هذا من جهة قبولها لكل النظريات العلمية و نتائج الأبحاث و انفصالها عن أي دعوة للصلاة و الصوم و التشريع المُنحدر من الغيب، و رفضها للوحي بأشكاله المختلفة كالإلهام أو الإملاء أو التجلي العلني للإله أو مندوبيه، مع إنكارها للنبؤة و الأنبياء.
في فرضية الإله الحلولي، يُعتبر الوجود انعكاسا ً عن قوة ٍ ما، كل ُّ ما فيه تجل ٍ لبعض ِ ما فيها و تعبير ٌ عنه و إخراج ٌ لكينونتها ملموسا ً و محسوسا ً، حيث يكون الإله ُ هُنا هو الوجود ُ نفسه و تكون الكائنات ُ هي ترجمة َ وجود ِ الكائن، و بذلك يحل ُّ واجدها فيما أوجده و يتحد الموجِد مع المُوجَد في كيانه، و بهذا يتألم الواجد حين يتألم الموجود، و يفرح الواجد لفرح الموجود، و يتعب الواجد و يستريح حين يتعب الموجود و يستريح، و يعيش الواجد حين يعيش الموجود و يموت الواجد ِ ظاهريا ً لا في الحقيقة حين يموت الموجود حقيقة ً و ظاهرا ً، لأن موت الموجود و فناءه هما زوال الشكل و الترجمة ِ لبعض قوة الواجد الخاصين بهذا الموجود، و تحوُّل القوة و ترجمتها لنفسها إلى وجود ٍ جديد بحسب قوانين الفيزياء و الكيمياء و البيولوجيا، في الُتربة بعد الدفن لمن يدفنون أو حين الحرق لمن يحرقون أو في أي عملية تحدث على ذلك الجسد الذي لم تعد الطاقة ُ تجري فيه كما كانت حين محياه.
في فلسفة الإله الحلولي تتحقق العدالة التي تغيب عند الإله الشخصي، فالأول حال ٌّ في كل موجود، يتألم مع الطفل الذي يموت على صدر أمه و يفرح ُ مع المرأة ِ التي تنعتق ُ من أغلال ِ ظالم ٍ معتد ٍ و يحيا مع كل صرخة ٍ مولود ٍ خارج ٍ من الرحم لتوه، و يحزن ُ مع الإبن ِ الذي فقد أباه، و يموت ظاهريا ً مع الأب يشاركه الموت حينما تنتهي ترجمة قوة ِ الواجد في شكل الموجود "الأب المائت" و تتحول إلى حياة ٍ جديدة في التربة. تبلغ العدالة ُ في فرضية الحلول مُنتهاها حينما تكون هي "الوجود" نفسه، حين يكون العدل أن يحدث ما يحدث و أن يصير ما يصير و أن يتحقق ما هو قابل ٌ للتحقق، و أن يتشارك الواجد مع الموجود في كل هذا، و هي تقدم ُ رؤية فلسفية للوجود و الألم و المعاناة و العدالة في آن ٍ معا ً، لكنها رؤية علمية في لباسها الفلسفي، باهتة في إنسانيتها، مُتجردة من زخم الشعور الإنساني، مُنفصلة عن حاجة الإنسان للبقاء و الاستمرار بفعل الغريزة و السعادة بفعل استحقاقات الإمكانيات البشرية، و للأمان بوصفه ضرورة ً للبقاء البدائي، و للنمو التطوري نحو اكتمال الإنسانية و تحقيق كامل إمكانياتها.
لذلك تبقى فرضية الإله الحلولي مجرد فلسفة لتفسير الوجود و الكينونة، بعقلانية أعلى بمراحل من لا عقلانية فرضية الإله الشخصي و عجز تلك الأخيرة عن تفسير الألم و منشأه و معناه و غايته و غياب العدالة و انتشار الظلم و رُعب العشوائية، دون أن تستطيع تلك الأولى أن تقدم أي برهان ٍ على صحتها، فتتساوى الفرضيتان في غياب الدليل و البرهان و المنطق لكن تبقى الأولى أقرب إلى الإنسانية من حيث احترام العقل و اتباعه في كل مناحي الحياة و عدم تقيد المؤمنين بها بأي دين ٍ أو كتاب ٍ أو تشريع ٍ غيبي أو عقائد غريبة عجيبة أو ممارسات صلاة ٍ أو صوم ٍ إلى كل ما هو في فضاء الإله الشخصي و قصص ما قبل النوم.
إن الانعتاق الفكري و الجسدي في فرضية الإله الحلولي يُساعد الإنسان على المضي في حياته بتصالح ٍ مع محيطه و مع العلم، فهو يختار لنفسه ما يقتضيه الظرف الزماني و المكاني و المُجتمعي و ما يتناسب مع ذوقه العام و تفضيله الشخصي، و لذلك لا يُقولب نفسه و لا يقبل أن يُتقـَولب، و لا يستمد بقاءه من الحضرة الإلهية الغائبة و عالم الملائكة و الشياطين و تصارعاتهم البدائية لكن المُجنَّحة، و هو لا يحتاج إلى التفكير الدائم بالثواب و العقاب، و الحشر و الدينونة و الولاء و البراء و الدم و الفداء. فبهذا الانعتاق يصبح ُ قادرا ً أن يمارس الخير لحبه و يجتنب الشر لشره، و يساعد و يبني لإيمانه بالتضامن و عقيدته في البناء، فتتنقى أفعاله الإنسانية من شوائب الإرادة الغيبية، و يُصبح فعله الإنساني إنسانيا ً كاملا ً بكل أبعاده، و شفافيته التي يُرى من خلالها جوهره البشري كاملا ً بكل ما فيه من ارتقاء البدائية نحو الأنا الأعلى الإنساني.
يذهب كثيرون أبعد من الإله الحلولي و يمدون الخيط على استقامته، فيعدون الحلولية مجرد رغبةٍ للانعتاق من الدين دون أن يكون لها القدرة أن تنعتق بالكامل، فيبقى من الدين راسب الإله وحده بعد أن يتم تهذيب شكله و تقليم أظافره المخيفة و يُلبس لبوس العلم و يُترك قابعا ً في الفكر و حاضرا ً في حيزي الوعي و اللاوعي معاً، و يصف من يمدون هذا الخيط أنفسهم باسم الملحدين الذي أخرجوا الإله الحلولي كما أخرجوا ذاك الشخصي قبله، و يقبلون ما يقبله الحلولي بالضبط لكن بدون الإله.
يتأرجح بندول الحقيقة مُتراقصاً على قطر دائرة ِ الحلولية و الغنوصية و الإلحاد، فأينشتاين لم يكن يؤمن بإله شخصي لكنه قال بوضوح أن عظمة هذا الكون تجعله يشعر بالتواضع الشديد، بمعنى أنه لا يستطيع أن يُنكر وجود الكيان الحال و لا يؤكده أيضاً، أما البروفسور ريتشارد دوكنز و هو وجه الإلحاد القوي و رائدهُ الفذ يُدهشك حين يقول بكل جرأته التي نعرفها أنها يعتبر نفسه في بعض الأحيان "غنوصياً" بمعنى و كما يقول هو أنه كعالم ٍ لا يستطيع نفي وجود الكائن الأعلى أو وجود حتى "أرنب عيد الفصح"، أي أنه لا دليل لديه على عدم الوجود بنفس الطريقة التي لا دليل لدى المؤمن بالإله الشخصي أو الحلولي على الوجود.
QUID EST VERITAS؟
ما زلت أعتقد أن الحقيقة هي الإنسان، و الحب، والأمل في غد ٍ جديد، في العلم و التطور و التقدم و بناء المجتمعات، و في أخلاقيات عُليا تحمي الإنسان و ترتقي بالنوع، و بعد كل هذا سواء ً كان الإله موجودا ً أو غير موجود، في الحقيقة لا يهم، لأنه إن كان موجودا ً فلا بد أن هذا الكمال الإنساني و ارتقاء النوع أقول لا بدَّ و أنه سيجد قبولا ً و ترحيبا ً لديه، و إن لم يكن موجودا ً فلا داعي للتفكير فيه أصلا ً.
أحبُّ هذا المشهد من فلم PASSION OF CHRIST، و على الرغم من كونه مقطعا ً عاطفيا ً لا شأن له بالعقل و المنطق إلا أنه يحفزني دائما ً على التفكير، و الانعتاق من الخوف، و الانطلاق و الحرية،،،،
،،،، نحو الإنسان و اكتماله، نحو ملئ الحب.
HTTP://WWW.YOUTUBE.COM/WATCH?V=7SENWR91KQA
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟