أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هاملت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة















المزيد.....



هاملت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4335 - 2014 / 1 / 15 - 15:23
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (36)


د. أفنان القاسم


هاملت

HAMLET


رواية



إلى الهنود الحمر



القسم الأول

عند ملتقى ساكرامنتو والأَمِرِيكان ريفر، كانت الأعلام والأشرطة في كل مكان من مربى ماشية العائلة كييركغارد، وكان المدعوون في أبهى حللهم، ورعاة البقر هنا وهناك، بذقونهم الحليقة وجَزْماتهم النظيفة وقبعاتهم الجديدة، وكأنهم جزء من الطبيعة الوديعة، فتغريد العصافير كان طليًا طلاوة الكلام، وانسياب الأمواج كان رقيقًا رِقة أصابع الأطفال، ومداعبة الأنسام كانت لطيفة لطف الشِّعر بالشعور، وأعراف الخيل كانت تتهدل تهدل الشعر الطويل للبنات، وألوان الربيع كانت تصرخ صراخ المعذب بالجمال، والأشعة الشقراء كانت تتسلل من بين أغصان الشجر غير عابئة بما يمكن أن يقع في الكون من مأساة، لأن من طبيعتها عدم الاكتراث، بينما الاكتراث كله يخيم على البناء الدانمركي الأبيض القائم في الوراء بأعمدته وطوابقه وأجنحته وحجراته وممراته وملحقاته لإنجاح الحفلة. كانت الحركة من الداخل إلى الخارج كبيرة وكثيرة، وكأنها تسعى من وراء السعادة دون أن تدري كيف تسعى من ورائها، ودون أن تدرك أن التعاسة ليست نفيها، وإنما ضلعها المتشاكل في مثلثين غير متشابهين، كالحب والكره، الفرح والكرب، الحماس والإحباط، اليقين والشك، الثقة والمَظِنَّة، الفراغ والانشغال، الإخلاص والخداع، خداع الحواس، خداع البصر، خداع النفس، الرياء، الاحتيال، الكيد، الغِش، الغدر، الخسة، المكر، الدجل، المخاتلة. وكان الخدم السود يقومون على إعداد كل شيء: المِنَصة وحَلْبة الرقص والموائد والمشاوي والمشروبات والمقبِّلات والمأكولات وأكاليل الزهر وأهاليل النهار ونجوم الليل في عِزّ الظهيرة، فيتركون لمسات أياديهم على كل شيء كالقدر الأبيض. أحمق هو القدر الأبيض، لكنه يعرف الطريق إلى الأشياء، ليقلل من اختلاقها. والسماء كانت زرقاء، قبة العقائد كانت، وكانت منصفة، زنبقة متعددة الأشكال كانت. كانت بعيدة عن أمواج النهرين، وقريبة من أحلام العائلة كييركغارد، أحلام المستوطنين، أحلام البريّ من الخنازير، وأماني قطعان البَيْسون، وخيبات الهنود الحمر، لأن قطعان البَيْسون كانت إحدى أمانيهم، كالرمال والرياش والسهام والماء والنار والرماد والعناكب الذئبية والضفادع الذهبية وجذوع الأشجار الضاربة إلى الحمرة. جاء نفر منهم على خيولهم، كانوا هم أيضًا في أبهى حللهم: الرياش على رؤوسهم والقلائد حول أعناقهم والفؤوس بأياديهم وظلالهم الأبدية تتبعهم. كان رئيسهم الشيخ، قدم الجبل، يجر جوادًا أسود كالليلِ في دَمْسِهِ، والموتِ في أناقته. وعلى مقربة منه، كان برق السماء، الشاب النبيل الطلعة كالجواد، يعبس، وفي عبوسه كل الجمال. عَجَّل رينالدو، رئيس رعاة البقر، الدخول في البيت الكبير ما أن لمحهم، وما لبث أن خرج بصحبة العظيم هانس كييركغارد وأخيه كلوديوس وبولونيوس، اليد اليمنى لكلوديوس، وعدد من الرجال المهمين الذين اصطفوا كلهم بانتظار وصول وفد الهنود الحمر. ومن الشرفة الواسعة، أطلت صاحبة المقام الرفيع جيرترود، ربة البيت، في ثوب الدانتيل الأحمر، وهي ترعد وتبرق، وأطلت الصديقات في أثواب الدانتيل الأبيض.
نزل أبناء الطبيعة عن مطاياهم، وتقدم قدم الجبل بالزين، وابتسامة تخلب العقل على شفتي مقيم الحفلة تجذبه إلى لآلئها، بينما يزداد برق السماء عبوسًا في الوقت الذي يزداد فيه جمال وجهه لدرجة أن الناظر يرى في الجمال ابنًا للتجهم، كالقمر ابنًا للدجى. انحنى رئيس "الميوُك" بين يدي العظيم هانس كييركغارد، وقال:
- جئناكم بهذا الجواد كما لو كنا نجيئكم بفِلذة كبدنا وفاء بعهدنا.
وما أن سمع الشاب الحَرُون هذه الكلمات حتى قفز على حصانه الأبيض، وغادر المكان على عجل. التفت كلوديوس إلى يده اليمنى بولونيوس، فأشار بولونيوس إلى رينالدو باللحاق به. امتطى رينالدو واثنان آخران من رعاة البقر أحصنتهم، وجروا على إثره، والشيخ الحكيم يقول:
- برق السماء ولدُنا لم يلده نهر ساكرامنتو بعدُ كما ولدنا، لهذا طبعه لم يلن، ووميضه لا بد له من أن يحرقه ذات يوم، فالوميض يحرق كل من لا يخرج من الماء، وكل من لا يقرأ الكلام المكتوب على الموج، وكل من لا يدرك أن على النهر السير إلى المصب الذي كان بمشيئة الروح الكبرى.
مد الحبل الرابط به الحيوان الحَرِك إلى صاحب مربى الماشية، فشكره هذا، وهو يدمدم: "لك صداقتنا، يا قدم الجبل!". انحنى رئيس القبيلة بإجلال، بينما قاد رعاة البقر خيول الهنود الحمر إلى أرض مسورة مع غيرها من الخيول والجواد الأسود إلى المَرْبَط مع لا غيره من جواد. صعد السَّنيّ هانس كييركغارد ومن معه على المِنَصة، جلسوا كلهم من وراء طاولة إلاه، وراح يخطب بالمدعوين المجتمعين المتجمعين من أمامه:
- نحن نجتمع اليوم، وقد حلت بهجة العيون محل مَكْرُهَة النفس، فمن منا ينسى كمستوطنين ما قاسيناه من آلام حتى الآلام عجزت عن احتمالها، ومن منا ينسى ما واجهناه من أوهام حتى الأوهام انطلت عليها خداعها، ومن منا ينسى ما قدمناه من تضحيات بالنفس والولد والمال حتى التضحيات غدت غيرها، غدت أُضحيات البشر أنفسهم في قربان العالم. ونحن في كاليفورنيا على عكس غيرنا، على الأقل في المناطق التي تحت إمرتنا، تعاملنا مع الأهليين بكل أخلاقية وكل عدالة وكل إنسانية، لم نقتلهم، ولم نحرقهم، ولم نبعدهم، تركناهم يعيشون كما عاشوا دومًا على طبيعتهم، ففهمونا وفهمناهم، وبدورهم تركونا نسعى في هذه الأرض التي لا حد لها، ومكثوا في الحدود التي لأنفسهم حددوها، هذا هو العهد الذي كان ما بين أفلاذ الأرض وما بيننا ولم يزل، وهذا هو المعدن الذي نشتق منه أقوالنا وأفعالنا. أما إذا كان الذهبُ الشيطانَ لبعضهم، فنحن نقول لهذا البعض الذهب من بطن الأرض جاء، هذه الأرض التي كان الطمي أديمها والماء دمها، وما الشيطان سوى الإنسان. ونحن هنا، في ساكرامنتو، سنحارب الشيطان المحارب للشيطان في الشرق بقطار ينقل السلام من الغرب، وعلى دويّ المدافع سنؤسس لعصر جديد من التقدم ينقلنا من الزمن الزراعي إلى الزمن الصناعي، الحرية أمه، والمساواة ابنته، والأخوّة شقيقته اللَّح من أمه وأبيه.
صفق الجميع لسحر الكلام تصفيقًا حارًا، فتركهم يفعلون حتى صمتوا، وبعد ذلك قال:
- أَدَعُ الكلام للسيد لاوسون، مبعوث الحكومة الفدرالية.
وجلس دون أن يتحرك السيد لاوسون القاعد إلى يساره ببذلته القاتمة الفضفاضة، وشعره الأسود الغزير المفروق من الوسط، وحاجبيه الكثين. فتح محفظة ضخمة، وراح يبحث فيها، والكل ينظر إليه، وينتظر. رسم كلوديوس كييركغارد، القاعد إلى يمين أخيه، على شفتيه ابتسامة هازئة، إلى أن أخرج مبعوث الحكومة الفدرالية في الأخير ملفًا ضخمًا، وهو ينفخ. فتح الملف، وراح يقلب الأوراق التي يحتوي عليها، ثم، وكأنه تذكر، أخرج عدسته المربوطة بِعُرْوَةِ سِترته من الجيب الخارجي، ووضعها على عينه اليمنى، ثم على عينه اليسرى، فتضاعف حجمها، وانشغل بالقراءة، والكل ينظر إليه دومًا، وينتظر. وعلى حين غِرة، خلع العدسة تاركًا إياها تتدلى على صدره، وهتف:
- اليونيون باسيفيك ريلرود، سكة الحديد هذه ستوجد على الورق حالما يوقع صاحب المقام الرفيع هانس كييركغارد على العَقد الذي بين أصابعي وأنا، بوصفي ممثلاً للحكومة الفدرالية.
وانهمك في البحث بين أوراق الملف إلى أن وجد ما يريد. قدم إحدى الأوراق للعظيم كييركغارد، لكنه جذب يده، وأدلى:
- أريد فقط أن أعلق على كلمة صاحب المقام الرفيع هانس كييركغارد قائلاً إن القطار الذي سينقل السلام من عندكم أو الحرب من عندنا، هذا لا يهم، هذا القطار، المهم أن يأتي بمزيد من المستوطنين إلى هذا الفردوس، وذلك من أجل أن يرفعوا على قممه الشماء علم المعرفة والرخاء.
عاد يقدم الورقة الرئيسية إلى السَّنيّ هانس كييركغارد، فعلق هذا على التعليق:
- شرطَ اقتسام كل شيء مع الأهليين.
حملق مبعوث الحكومة الفدرالية غير راض، ثم أشار بكلتا يديه إلى الخدم السود، وهو يردد بِحَنَق: ريشة ومداد، ريشة ومداد... وبسرعة، اختفى هؤلاء من وراء الأعمدة.

* * *

وبرق السماء يعدو بحصانه، كان الجمال على وجهه يبدو مرعبًا، كانت للجمال خاصية الرعب، ومن العادة أن يرعب ما هو مرتعب، ولم تكن متعة الرعب كمتعة الجمال، على الرغم من كون الواحد ملمحًا للآخر. كانت متعة الرعب تستند إلى إحساس بعدم الاطمئنان، عدم الرضاء، عدم العودة إلى الوراء بحثًا عن لحظاتِ الفرحِ، في زمن يحبو المرء فيه على الأربع، وكلِّ زمنٍ الرعبُ فيه لا مكان له، والهلع، والترح، والقلق، والانتظار، والارتعاش، واللهاث، وكل ما يقيد الحرية من صنوف عدم الحرية. كانت الحرية هي الجمال، من الخارج هي الجمال، ومن الداخل هي الجمال. وبرق السماء يعدو بحصانه، كان جماله عدم حريته، لهذا كانت تقاطيع وجهه الأسيلة ترتعد من الرعب. وهو عندما نظر إلى الوراء، رآهم، وهم يجيئون في إثره، رعاة البقر الثلاثة، لهذا كانت خوالج نفسه الشديدة تدق جدران صدره من اليأس، فصرخ ليسمع صوت جماله، وليرفع فأس حريته. كان من الواجب عليه أن يقاتل بفأس حريته، ليسترد فِتنته، ويرفع منزلته، لكنهم بمسدساتهم أردوه قتيلاً. دار اثنان منهم بجثته الجاثية على الأرض كجثة شجرة اقتلعت من جذورها، الجدارة حُلْيَتُهَا، العطاء قلم حُمْرَتِها، الموهبة قمرها الماسيّ، فلبرق السماء كانت طريقته في توكيد ملكاته، وبالتالي توكيد أنه جميل، وبما أنه جميل، أنه حي، حتى وهو ميت، وأنه موجود، حتى وهو غير موجود، فكل قضية هي موجبة أو موجبة وليست موجبة أو سالبة. أما الثالث، رينالدو، فطارد الحصان إلى أن جذبه بحبل ذي عقدة لفّ بها عنقه، وعاد به، ليُلقوا برق السماء على ظهره، ويشدوه برباط، ويتركوا الحصان يعدو في الطريق التي يعرف خط خطوطها كما تعرف الطريق حفر حوافره.

* * *

لم يكن هناك مكان واحد لقدم في حَلْبة الرقص، فالنساء والرجال يرقصون "الدانس كنتري" على إيقاع الأكورديون والناي ليحمدوا الله على نَعْمائه، فبفضله سيزرعون سكة الحديد الأطول في التاريخ، وفي خيالهم كان إنجازها قد تم على الرغم من أن العمل بها لم يبدأ، كانت هذه هي روحهم، روح رواد المستحيل المطوعين للعاصيات من الرياح، المحطمين للوعرات من الجبال، المنتصرين على جحافل الصحراء. كان حبورهم قبل خلقهم، هكذا هم كانوا، روادًا في كل شيء، الحياة لديهم مشروع سينجز، والوجود واقع سيتحقق. كل شيء كان من أمامهم، الجحيم كالنعيم كان من أمامهم، كل شيء كان ابنًا للمستقبل، يكفي أن تعدهم هذه الأرض الخيمرية بوعد مجنون حتى يرقوا بأنفسهم إلى مستواه. كان في حبورهم الشك واليقين شيئًا واحدًا، الحب والكره، الجرأة والجبن، الرفعة والنذالة، الحكمة والمخاتلة، الصدق والافتراء، الرغبة والاشتهاء، اللذة والإضناء، إضناء الجسد، وإضناء الظل، وإضناء الطبيعة، إضناء الطبيعي، إضناء المادي، إضناء المعنوي، كان الإضناء لديهم متعة الخلق.
رقص السنيّ هانس كييركغارد مع زوجه صاحبة المقام الرفيع جيرترود، وكأن الموسيقى كانت لهما وحدهما دون أحد آخر سواهما، وكأنها صُنعت لتمايل جسديهما، وكأنها عُزفت لإلهين أرضيين، وكل الباقين ملائكة أو شياطين، كانوا من اللهو بحيث نسوا من كانوا، ولماذا هم يرقصون، بينما كل تاريخ فتح الغرب كان يتمايل مع الجسدين الملكيين. وكانت الأرض التي تسحقها أقدامهما ترتعش من فرط الحبور، والطيور تسقسق من فرط السرور، والأمواج تبقبق من فرط التهلل، وهنا وهناك بعض المدعوين الذين ما زالوا يشربون ويأكلون.
خرج العظيم هانس بزوجته من حَلْبة الرقص، وأخذها بين ذراعيه.
- جيرترود، قال الزوج السعيد، لماذا لم يخلق الله سوى جيرترود واحدة على وجه الأرض؟
- لكي تكون فقط لك، يا سيدي، قالت الزوجة السعيدة.
- أحقًا لكي تكون جيرترود فقط لي ولا تكون لأحد غيري؟
- وهل يشك سيدي في هيئته؟
- جيرترود، يا حبيبتي، أنت يقيني.
- هانس، يا حبيبي، أنت يقيني.
- لما يعجز العبد عن معرفة معبوده، لما يعجز المعبود عن معرفة عبده، سأقول لهما ها هي جيرترود.
- وأنا سأقول لهما ها هو هانس.
- عندما أسمع هذه الكلمات، كلماتك التي أسمع، لو كنت أعمى لرأيت، ولو كنت سقيمًا لبرئت، أنا أعمى الفؤاد بحبك وسقيم النفس.
اعترضهما كلوديوس، فقال أخوه الكبير له:
- لماذا تعترض على النهر اجتيازه، يا كلوديوس، وعلى البحر اندفاقه، وعلى الرمل قصته مع الريح؟
- أنا لا أعترض، يا سيدي، أجاب الأخ الصغير بأدب جم، أنا زورق في النهر، وشراع في البحر، ومجذاف في الرمل.
وبعد قليل:
- هل تسمح لي بالرقص مع صاحبة المقام الرفيع جيرترود؟
- هل تسمح لك صاحبة المقام الرفيع جيرترود بالرقص معها؟
ولم يدعها تنطق من الكلام قليله.
- ها أنا أعهد إليك بإنجيلي، يا كلوديوس، قرر السنيّ هانس، فاحرص عليه حرص يهوذا على قبلته، ولا تطل كثيرًا.
فضحك الأخ الصغير، وقال:
- بعد اثنين وثلاثين زمنًا موسيقيًا، كما تريد الرقصة، أعيدها إليك، صاحبة المقام الرفيع جيرترود.
- سأقول لك ما أفكر فيه، يا سيدي، قالت سيدة القلوب والنفوس.
- يا للحظ أن أسمع ما تفكرين فيه، صاح صاحب المقام الرفيع هانس إعجابًا، مجرد سماع ما تفكرين فيه أنت تغدقين عليّ من الكرم ما لم يغدقه أحد.
- مع هانس أو كلوديوس الرقصة هي الرقصة، همهمت جيرترود بمكر.
- تعجبني هذه الفكرة، يا حبيبتي! ألقى السنيّ هانس. أنا كلي شكر لك، كلانا كله شكر لك، أنا وأخي. ها أنت تكرميننا نحن الاثنين! يا لحظنا نحن الاثنان، أليس كذلك، يا كلوديوس؟
- هو كذلك، يا سيدي، وأنا شاكر لفضلك.
- اشكر فضل صاحبة المقام الرفيع.
- أنا شاكر لفضل صاحبة المقام الرفيع، لفضلها وفضلك.
- ستجدينني هناك، يا حبيبتي، همهم السنيّ هانس، مع السيد لاوسون، إنه لا يتوقف عن الشرب.
راح كلوديوس يراقص زوجة أخيه كما لم يرقص أحد في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب، لم يكن يرقص على الأنغام، كانت الأنغام تجاري رقصه، والراقصون يجارون رقصه، والأشجار تجاري رقصه، والأحجار، والأتبار، والمناخل، والجماجم، والجلود، والمهاميز، والحوافر، كل شيء كان يجاري رقصه. ضحكت الرائعة جيرترود، وقالت لاهثة:
- كلوديوس، حقًا أنت ترقص كما لا يرقص أحد شرقًا أو غربًا، شمالاً أو جنوبًا.
- ليس أنا، أجاب أخو زوجها.
- لا تكن متواضعًا إلى هذه الدرجة كأخيك.
- ليس أنا، ولكن أنتِ.
- أنا! أنا التي لا تعرف كيف تمشي وهي تفتح واسعًا عينيها!
- أنتِ، أنتِ، معك أصبح أنتِ.
- أنتَ بفضلي إذن راقص ماهر؟
- جيرترود، أنا بفضلك كل شيء.
عاد رينالدو ورفيقاه، فنزل رئيس رعاة البقر عن جواده، وذهب يهمس في أذن بولونيوس، ومبعوث الحكومة الفدرالية يضرب على حقيبته بيد ثقيلة، ويقول للسنيّ كييركغارد:
- ما هي سوى بضعة أسابيع، أكون قد سلمت العَقد لأولي الأمر لتبدأ أشغالك، يا صاحب المقام الرفيع، أشغالك الجبارة، ولو كان قطارك ها هنا اليوم، لما احتاجني الأمر إلى أكثر من بضعة أيام، بضع ساعات. من هنا إلى هناك، اتركنا ننهي قنينة الويسكي هذه التي لم يزل مليئًا نصفها، وسآخذ الدِليجنس. على أي حال، الشمس لم تزل في سمتها. شمس كاليفورنيا هي هكذا، وكأنها لا تتحرك.
- خذ حذرك من شمسنا، يا سيد لاوسون، فهي تخدع وتخون كمن يخدع ويخون زوجته، قال العظيم هانس كييركغارد، وهو يبتسم.
رفع السيد لاوسون رأسه، وهو يغمض عينًا، ويفتح أخرى، وهو يضع عدسته على هذه العين، وعلى هذه العين، وهو يهمهم: "في الشرق نحن لا نعرف شمسًا كهذه!"، وجرع كأسه التي ما لبث أن ملأها.
استأذن بولونيوسُ سيدَ المكان، وذهب مع مأموره، ومأموره يقول:
- لقد تم كل شيء كما أمرتم، يا سيدي، لحقنا برق السماء، وأرديناه قتيلاً، ثم بعثنا بجيفته على ظهر جواده إلى قبيلته.
- ليس كل شيء، يا وتر المثلث القائم! عارض بولونيوس، فما هذه سوى الخطوة الأولى من سلسلة خطوات تتتالى الواحدة بعد الأخرى.
- تعرف أنا طوع أمركم في كل شيء، يا سيدي.
- أعرف، وإلا كانت نهايتك على يدي، يا وتر المثلث القائم!
- وما هي الخطوة الثانية، يا سيدي؟
- انتظرني ريثما أكلم السيد كلوديوس.
- سأنتظرك، يا سيدي.
- يا وتر المثلث القائم!
- هذه الكُنية...
- كِناية.
أول ما لمح كلوديوس يده اليمنى يقترب، خرج بجيرترود من حَلْبة الرقص، وطلب إليها أن تنتظره قليلاً ريثما يرى ما يريده بولونيوس.
- سألتحق بهانس، قالت السيدة الجليلة.
- هناك شيء أود تقديمه لكِ، سارع كلوديوس إلى القول.
- هناك شيء...
- أود تقديمه لكِ.
وبينما احتدم الرقص من ورائها، رأته على بعد عدة أمتار، وهو يقطب عبوسًا، ويتكلم بفم متوتر، مرة يمد هذه الذراع نحو الشرق، ومرة تلك الذراع نحو الغرب، وبولونيوس لا يفعل سوى تحريك رأسه سمعًا وطاعة. وفي الأخير، ذهب مهرولاً بأمر من كلوديوس الذي ما لبث أن عاد، وهو يخبئ عبوسَهُ تحتَ قناعِ ابتسامِهِ، وذهب بجيرترود إلى زاوية بعيدة عن الأنظار، والحيرة غمام يطفو على محياها.
- الغالية جيرترود، همس أخو الزوج، سأضع حدًا لحيرتك في الحال.
ومن جيبه أخرج عِقدًا من الذهب ذا عدة صفوف، وهو يضيف:
- أتمنى ألا يكون كل هذا الذهب ثقيلاً على عنقك.
- الذهب حتى ولو كان ثقيلاً هو خفيف عند الحمل، همهمت جيرترود، وفي عينيها تلمع آيات الشكر.
- الحق أني لم أفكر في هذا.
- وفيم كنت تفكر؟
- في عنقك الرقيق.
- هانس، أخوك، لم يفكر في هذا أبدًا، والهدايا لديه طقس من الطقوس الهندية.
- هذا لأنه يحبك، من يحب تغفل عنه مثل هذه الأمور، أريد القول لا يبحث عن تبرير لحبه، خاصة إذا ما لم يعد الحب جديدًا، ينبع من قلب مفتوح العينين دون أن يرى، ومن عقل ممدود اليدين دون أن يلمس.
- إنه بالفعل لا يبحث عن أي تبرير لديّ.
- وأنتِ؟
- أظن وأنا.
- يا له من محظوظ!
- هلا ساعدتني على وضعه؟
- حالاً.
أحاط العنقَ العاجيَّ بالذهب، وكان لا بد من أن يدفع ذلك الوضع الغير العادي إلى تصرف غير عادي، ليس التصرف الاستثنائي الذي يحصل في الزمن الاستثنائي، تصرف غير عادي، فقط، يبرره الشرط، فطبعت جيرترود قبلة على وجنة كلوديوس. اغتنم أخو الزوج الفرصة، واغتصبها من ثغرها قبلة، قاومتها في البداية، وَقَبِلَتها في النهاية.

* * *

كان الجواد الذي تركبه الجميلة أوفيليا، ابنة بولونيوس، يخب في الجنة التي كانتها ساكرامنتو، وكان هاملت، ابن هانس كييركغارد، يتبع على حصانه من ورائها. لم يكن يريد الذهاب إلى حيث يرغب هو بل إلى حيث ترغب هي الذهاب، فترك نفسه نقطةَ التقاءِ مستقيمٍ مع مُسْتَوٍ. ما كان يشغلها الحزين هاملت، وهي بعدوها من أمامه، كانت تفكر في إبعاده عن حزنه. دارت بحصانها فوق رابية، وتوقفت، ففعل مثلها، ونزل الاثنان عن مطيتيهما.
- سنجلس على الكلأ الأخضر، اقترحت أوفيليا، وسننظر إلى الأفق الأزرق.
جلس هاملت إلى جانبها، وسرّح نظره إلى الأزرق.
- هل هذا هو لون الرّياء؟ تساءل هاملت، لأن الأزرق لو كان لون الرِّياء، فالرّياء معبدي.
- الأزرق لون الفرح، همهمت أوفيليا.
- الأزرق لون الحزن، همهم هاملت.
- ننظر إلى الشيء الواحد، ونؤوله على طريقتنا.
- نحاول الهرب من الأشياء، فنتبع غيرنا، لكن الأشياء تتبعنا.
- أردت إبعادك عن حزنك، بينما الحزن في عينيك، خلافًا لما فكرت فيه.
- أنا الأفق إذن، الطبيعة اللامعقولة.
- لماذا، يا هاملت؟
- لما يزرق الأفق يغدو حزينًا كهاملت.
- لماذا أنت حزين وأنت معي؟
- آه! ما أبشع هاملت.
- لماذا أنت كئيب؟ لماذا أنت كاسف، مغموم، مكتئب؟ لماذا أنت هاملت، يا هاملت؟
- أسئلة، أسئلة، ليس ذنب الأسئلة!
- لماذا أنا أوفيليا؟ لماذا نحن هاملت وأوفيليا؟ لماذا نحن نحن؟
- كل هذا لأني حزين.
- أنت حزين، لماذا لا تبكي؟
- عندما أكون حزينًا، أنا كالخيول لا أبكي. آه! يا ليتني كنت تمساحًا.
- آه! يا ليتني كنت حزنك.
وراحت أوفيليا تبكي.
- أنت تبكين، همهم هاملت.
- ليس هذا لأنني حزينة.
- إذن لماذا؟
- لأنك أنت حزين.
- أعطيني إذن دمعي، يا أوفيليا.
- ماذا ستفعل به، يا هاملت، وأنت لا تبكي؟
- كيلا تبكي أنتِ، كيلا تبكي لأجل حزني. لم أختر أن أكون حزينًا، هكذا، كمالك الحزين. الحزن حياتي، الحياة، الوجود دون ابتسام، فالابتسام هو القناع الذي نختبئ من ورائه، لهذا كان الابتسام أبشع ما في الإنسان، لهذا يبتسم الضباع، لهذا تحزن البَيْسونات، ولا تستطيع البكاء، ورعاة البقر، الذين هم نحن، يسوقونها إلى المذبح. أنا بَيْسون حزين، يا عزيزتي، من جلدي يصنع الهنود خيامهم وألبستهم، ومن عظمي يسحق الرجال البيض ما يسمدون به الحقول والنفوس. هذه هي أسبابي.
- أنا لا أحتاج إلى أسباب، حبي لك لا يحتاج إلى أسباب، كعبادتي التي لا تحتاج إلى "لماذا"، ولا إلى تبريرات، أحتاج فقط إلى الفهم، فهم حزنك، كي أحبك وحزنك، كي أبكي لحبك لا لحزنك، كي يدغدغني حبك حتى الحزن، وحزنك حتى إراقة كل ما في عينيّ من دمع لا يرقأ.
- من بصاق.
- الفم يبصق لا العين.
- العين تبصق كالفم على من هم مثلي.
- عين المهرج ربما، لكني أنا، لا أملك عين المهرج.
- لأنني المهرج الذي تبصق عليه الكلمات من عيونها عندما أنطق بها لتوجد.
- انطق بي، هاملت، لأوجد.
- لكنكِ لن تبصقي عليّ.
- سأذرف الدمع عليك، كما هو عهدي، وأترك للمهرج بصاق الكلمات، وعسل النحلات، و...
- لماذا لا تقولين خراءها؟
- وزيت البلسم.
- لا تقلقي من أجلي، فكل هذا جنون.
- سأقلق من أجلك، لأن كل هذا جنون.
- في مرآة جنوني، أنعق كي أشنف الآذان، وأنبح كي أنذر اللصوص، وأحمحم كي أنقذ القُواعات البرية. في مرآة جنوني، الغراب غير نذير شؤم، والكلب غير وفي النفس، والحصان غير قاسي الحافر. في مرآة جنوني، كل شيء جميل لما يكون النقيض للجمال، لهذا الجنون أبشع شيء في الوجود. في مرآة جنوني، كل شيء دميم لما يكون المعارض للدمامة، لهذا الجنون أحلى شيء في الوجود. هل للجنون مظهر في مرآة الجنون؟ ستقولين لي الحزن جنونك، الحزن وجودك. في مرآة جنوني، الأفق الأزرق أسود أو أصفر أو أخضر أو أحمر أو أخرأ أو أشخخ، وكل كاليفورنيا جذع شجرة باسقة، جذورها الميتافيزيقية الكون. انظري إليّ في مرآة جنوني كيف أموت من ضَحِكٍ يستغلب عليّ إلى حد أن يبكي الضحك كما تبكين، يا حبيبتي.
انفجرت الجميلة أوفيليا ضاحكة تحت نظرة هاملت المستنكرة، أخذته بين ذراعيها، وهي تداوم على الضحك. كانت تردد: "آه! ما أيقن الشك. آه! ما أيقن الشك."، وراحت أَصْرُحُ المذاهب تنهار في خيالها. كانت في تلك اللحظة سلوكها الفريد. ليكن ما يكون. رمته فوقها، وجعلته يدخل في مرآة جنونها.

* * *

على ألحان الطنطن، كانت حلقة الدمار والبناء أشبه بإحدى حلقات زحل، وهي تضم كل شباب الهنود الحمر بوجوههم المصبوغة بلوني الحرب: الأحمر والأسود، وقبضات رماحهم المحفورة بالملاحم، وأكفال خيولهم الصاهلة من الذعر غير بعيد هناك، مدفوعة بحضور كائن خفيّ محبو بقوى فَوْطبيعية. وكان جثمان برق السماء مرفوعًا على الحطب في وسطها، وهم يطلقون صرخات الثأر، يحركون أجسادهم حركة الأمواج، ويخفقون أذرعهم خفق الأجنحة، وينحنون انحناء الأشجار مع الرياح. كانوا الطبيعة المتوحشة، الطبيعة الحرة، أحرارًا كانوا في أرض الآباء، مسالمين لا يفكرون في الأذى، ولا يسعون إلى حلب نملة. وبشكل متناقض، كانوا يلحقون الأذى بمن يلحق الأذى بهم، يغدون عدوانيين، ويختلط الأمر عليهم، بدافع آخر غير حريتهم يختلط الأمر عليهم، فيكون كل البيض ضحاياهم، حتى أولئك الذين لم يكونوا طبيعيًا ضدهم. أشعلوا النار، وراحوا يذبحون الديوك الرومية، ويلقونها في المجمرة، وكأنهم يريدون بذلك أن يذبحوا ويحرقوا المستوطنين كلهم دون تمييز. اعتلى هندي مصبوغ الوجه صباغةً حادةً صهوةَ حصانِهِ، وهو يُعلي بندقيته إعلاءً مبالغًا فيه، وسار شيوخ القبيلة إلى جانبه مشيعينه بمظاهر التكريم كما لو كان ذاهبًا إلى حتفه، فتتبعه الأشجار، والشيوخ ينادونها، يرجونها، يدعون الروح الكبرى لتحفظها، يشكرونها، حتى انطلق، كالسهم انطلق، وغاب عن الأنظار. في الوقت الذي كانت فيه أوفيليا تنحني برأسها، وتنظر إلى أعناق الكلأ المحطمة، وتقول:
- لم أكن يومًا سعيدة هذه السعادة.
لكن هاملت كان يذهب من ورائها ولا يلبث أن يأتي، ويقول:
- كيف أكون سعيدًا وأنا أجهل كل شيء عن السعادة.
- السعادة هي هذا، أن تجهل كل شيء عنها.
- السعادة ربما كان لها اسم آخر، وربما هي عكس كل ما نعرف عنها، ربما هي حادث طارئ، احتمال من الاحتمالات، وتبعًا للحال التي نحن فيها، لديكِ انطباع، وأنتِ تدعسين هذه الأرض، بأنك تمشين على أثداء النساء.
- لم أكن أعلم أن السعادة على مرمى حجر.
- والثمن الكبير الذي دفعتِهِ؟
- هذا ليس مهمًا.
- لقد أَخَذَتِ الأشياءُ بعضَها برقابِ بعضِها.
- هاملت، لا تكرهني.
- لواحدة مثلك حبٌ هو الكره.
- هاملت، لا تكرهني، لا تكرهني. أنا لست أمك، فلا تكرهني. أنا لست أختك، فلا تكرهني. أنا لست ابنتك، فلا تكرهني. أنا لست زوجتك، فلا تكرهني. لا تكرهني لتدوم سعادتي، ولئلا تكون سعادتي غير ما هي عليه في هذه اللحظة التي تغيرت فيها كل حياتي، عند المتعة الأولى والآلام الأولى والولادة الثانية. لا تحبني، ولكن لا تكرهني. كعاهرة. نعم، كعاهرة. هل يحب أحد العاهرة التي ينام معها؟ هل يكره أحد العاهرة التي تترك لأظافره جسدها؟ كعاهرة لا تكرهني. كنحلة تفتح فخذيها للريح. كسنبلة خائنة بطبعها. كوردة دون أثداء. اكرهني لو شئت فيما بعد، أما الآن، فلا تكرهني، لتدوم سعادتي، فالسعادة لا تدوم.
تحت، في السهل، مضى المحارب الأحمر على حصانه: كان لا يبالي بشيء، لا الصخور كانت تعيقه، ولا الأشجار، ولا الأرواح، حتى ولا البروق أو الرعود، حتى ولا الفيضانات أو العواصف، حتى ولا الهيجانات أو الزلازل. كان يمضي كالريح التي تعرف إلى أي اتجاه تؤم، وكان الاتجاه مملكة الدانمرك.
- أنا عاهرتك، يا كييركغارد، منذ الساعة، ألقت أوفيليا، وهي تنهض بوجه اربدت تقاطيعه.
لم يهتم هاملت بها، وبما تقول، كان يحاول الطيران عن حافة الرابية، والريح تدفعه، وكان يقول:
- أحس بأني أطير، كالكوندور أطير!
- أنا عاهرتك، ألحت أوفيليا.
- أنا والريح جسد واحد.
- مثلنا منذ قليل.
- أنا والريح.
- أنا والنهر.
- النهر لا يغذي أحلامي.
- بلى.
- لا يحقق أحلامي.
- هذا ما لا يدركه غيرُ جسدٍ ذي شرخ.
- لا يجعل منها كوابيس الحياة.
- جسدٌ ذو شرخ، يا دين الرب!
- الريح أن تقتربي من العالم الوحشيّ وأن تعيشي بحدة.
- جسدٌ ذو شرخ لأولئك الذين يستثمرون أنفسهم من أجل السعادة على أرض بكر لا تعرف الرياح، هنا تكمن العُقدة. تمامًا كما يجري على المسرح، فالمسرح هو الجسد المفتوح على العالم، ونحن لسنا بحاجة إلى ممثلين يُفْهِمُوننا حقائقنا، أريد القول فظائعنا.
- وإذا ما أردنا أن نلعب لعبة المحتمل واللامحتمل لنوسخ أرواحنا أو ننظفها، فماذا سنفعل؟
- سنترك ذلك للعواصف، العواصف أقدر منا على الانتقام لنا.
- أين العواصف؟ بنات القحبة أينها؟ أين الأعاصير؟ أين الزوابع؟ أين الأنواء؟ أين مقتلعو الأشجار؟ أين مفجرو البراكين؟ أين مبدعو الحريات من عدم؟
- لن يجد الجواب لديه كبيرًا كما لم يجده صغيرًا، لن يجده لديّ، لن يجده لدى أخي لائِرتس، لن يجد الجواب لدى أحد. لماذا لم نلعب اليوم كما كنا نلعب البارحة؟ لماذا بدلنا لعبتنا؟ هل كبرنا حقًا؟ هل هذا هو السؤال الذي يشمل كل الأسئلة؟ سؤال يبقى دون جواب؟
- لماذا لم تقولي لي إننا سنكبر، يا أوفيليا؟
- لتطرح السؤال.
- يا أوفيليا، لِمَ كل هذا الخداع؟
- بعد كل ما فعل، ها هو يلجأ إلى صدر مامي! مامي، قولي له ما يريد أن يسمعه، غني له ما يُطْرِب أذنه، اصنعي له فطائرك التي يحبها. هاملت، اترك مامي، وتعال، لم نلعب كل لعبتنا، العواصف لعبتنا، عليك أن تأتي بها. اترك مامي، قلت لك اترك مامي! إذا لم تتركها ذهبت! لا تريد أن تتركها؟ اترك مامي، اترك مامي!
- يا أوفيليا، لِمَ كل هذا الإلحاح؟
- اترك مامي! مامي، لا تقولي له ما يريد أن يسمعه، لا تغني له ما يُطْرِب أذنه، لا تصنعي له فطائرك التي يحبها، عاقبيه بما يرغب! هاملت يحبك. عاقبيه بحبه! هاملت يطيعك. عاقبيه بطاعته! هاملت يدافع عنك. عاقبيه بدفاعه! وأنا أيضًا أحبك، وأطيعك، وأدافع عنك، لهذا أنا أكذب، فأنا لا أحتمل عقابك. هل تسمعني، يا هاملت؟ مامي لن تعاقبك، ستعاقبك بحبها مامي، هذا كل ما تقدر عليه. بحبها. مثلي أنا. بحبها لا بخداعها. هل تسمعني، يا هاملت؟ أنت لا تسمعني. وأنت مع مامي، أنت لا تسمع أحدًا. أنت لا تسمع لأحد. تسمع مامي. تسمع لمامي. اترك مامي قلت لك. لا تريد أن تترك مامي؟ طيب، ابق! سأتركُكَ، أنا. أنا ذاهبة.
امتطت أوفيليا حصانها، وتركته يصيح من ورائها:
- أوفيليا!
فلم تجبه.
- أنا الكلمة الخرقاء، يا أوفيليا!
امتطى بدوره حصانه، وعجل اللحاق بها، وما لبث أن تجاوزها.

* * *

قال العظيم هانس كييركغارد لزعيم الهنود الحمر:
- سأجد القاتل، فأعاقبه، هذا عهد أقطعه على نفسي.
- وفيت بعهدك ونكثت عهدك، جمجم قدم الجبل، وراح يبكي من شدة الحزن.
- القاتل أمري.
- ستنطق الحجارة التي ارتوت بدم ولدي لتقول لك من القاتل.
- الحجارة لا تنطق، ولكنها ستنطق.
- قلوبكم الحجارة، والقيّوطات أحن على أبنائها منكم.
- أنت لست قيّوط البراري والشِّعاب، يا قدم الجبل.
- يا ليتني كنته.
- وحياتك التي خاطرت بها من أجل إنقاذي في يوم مضى؟
- يا ليتني لم أخاطر بها.
- هذا ما لم أنتظر سماعه من فمك.
- ما تسمعه ليس من فمي، ما تسمعه من فم ولدي الذي قضى نحبه.
- الأموات لا تتكلم، يا قدم الجبل!
- الأموات هم نحن الأحياء الذين ينتظرون على حواف قبورهم، الإناث لئلا يلدن، والصغار لئلا يكبروا.
- لم أقتل في يوم مضى امرأةً منكم أو طفلاً.
- في بلد لا يعرف سوى منافحة الحرب، كل شيء يكون بعد أن كان، اليوم ولدي برق السماء، وغدًا البرق والرعد، فلا يكون في السماء ضوء، ولا على الأرض ماء. في بلد لا يعرف سوى ترويض الخيل، كل شيء يساق بعد أن سُوقَ، اليوم النفوس، وغدًا الوطاويط والسناجب، فلا يكون في الشجر ليل، ولا على الروابي نهار. في بلد لا يعرف سوى طعم المال، كل شيء يباع بعد أن بِيعَ، اليوم نهر ساكرامنتو، وغدًا الأنهار والبحار، فلا يكون في المياه أسماك، ولا على الشواطئ رمال.
- ما تعني بهذه الكلمات؟
- هذا أمر مفهوم.
- أنت لا تدرك ما تقول.
- أنت ترى في الأمر خبثًا.
وأخذ ينوح كما تنوح القيّوطات، هذه الذئاب الصغيرة، وكل من كان معه، فسالت دمعة من عيني صاحبة المقام الرفيع جيرترود، وسارعت بالدخول إلى البيت الكبير، تحت نظرة أخي زوجها الساخطة.
- اخرس، يا قدم الجبل، فقد أفزعت بنواحك روحنا الحساسة، نبر كلوديوس.
علّى الشيخ المنكوب صوته وكل من كان معه، كان صوت الحزن والاستغاثة.
- يا أيها البرق ابرق، قال، وهو يرفع رأسه إلى السماء، فلتحرق الأزرق وما فيه بنار النجوم! يا أيها الرعد أرعد، فلتُغرق الأرض ومن هم عليها بدمع المُغَيِّر! يا أيها البرق، يا أيها الرعد!
- يا أيها البرق، يا أيها الرعد! استجار كل من كان معه.
انتشرت الغيوم هنا وهناك، فتسلل الرعب إلى قلوب البعض، لكن كلوديوس لم يبق في قوس صبره مِنْزَع:
- قلت لك اخرس، يا قدم الجبل، واذهب عنا بعيدًا أنت وخزعبلاتك!
أخذ يدفعه، ومن كان معه، وكلهم يردد: "يا أيها البرق، يا أيها الرعد!". امتطوا أحصنتهم، وغادروا مربى الماشية، في نفس الوقت الذي اخترقه هاملت وأوفيليا، وسماء الربيع ترعد وتبرق.

* * *

شقت الدِّليجنس طريقها بأقصى سرعة، فالخيول الستة التي كانت تجرها في عنفوان شبابها، وهي بعد أن حصلت على ما تحتاجه من الراحة، بدت الرحلة كما لو كانت أولى رحلاتها. وضع السيد لاوسون عدسته على عينه ليتأمل المسافرين، فابتسمت له العجوز المتصابية الجالسة أمامه ببلاهة، وبسرعة نزع العدسة، وتركها تتدلى على صدره. ألقى نظرة على الشاب الجالس إلى جانب المرأة، كان ذا عشرين ربيعًا، وكان يبتسم هو الآخر ببلاهة، وعلى الرجل الجالس إلى جانبه، كان في مثل عمره، وهو يغط في سبات عميق. ولكي يهرب من ابتسامتي الشمطاء والفتى، جمع محفظته في حضنه، وأغمض عينيه، وما لبث أن ذهب في سبات عميق، قطعته فجأة طلقة رصاص، ثم عدة طلقات، أرسلها من بنادقهم رينالدو وصاحباه المختبئون خلف الصخور. سقط السائقان صريعين، وصهلت الخيول صهيل الذعر والفزع، فأخرج السيد لاوسون رأسه من النافذة، وهو يحاول وضع عدسته على عينه دون أن ينجح. دفعته المرأة، وأخرجت رأسها لتفجره رصاصة. صرخ الرجال الثلاثة، والجثة تسقط كالقدر في أحضانهم، بينما عجلات الدِّليجنس تدور دورات عجلات عربات الشياطين في جهنم بأقصى ما يكون. لم تكن النهاية، فرعاة البقر الثلاثة تمكنوا من اللحاق بالخيول المجنونة فزعًا وذعرًا، وعملوا على تهدئتها، فإيقافها. فتح رينالدو باب العربة، ورأس المرأة منه يتدلى، وبمسدسه أردى الرجلين قتيلين. كان السيد لاوسون قد خرج من الباب الآخر، وراح يركض، كالممسوس راح يركض، وهو يدري ألا فائدة هناك، وأن النهاية ستكون بين لحظة وأخرى، لكنه سيقول للشياطين في جهنم إنه حاول إنقاذ روحه لما سقط فجأة إثر طلقة أصابته في ظهره. قَلَبَهُ رينالدو بقدمه، وخلصه المحفظة التي بقي يشد عليها بذراعيه. فتحها بحثًا عن الملف الخاص باليونيون باسيفيك ريلرود، وهو يقذف بباقي الملفات، إلى أن وجده. ألقى المحفظة أرضًا، وأعطى جثة مبعوث الحكومة الفدرالية ظهره، لكنه ما لبث أن عاد، قطف من صَبّار عملاق زهره الأصفر، ونثره على صدر القتيل، ووضع العدسة على العين الناظرة من قلب الموت إلى سماء غائمة بدأت تمطر.

* * *

لم يعرف هوراتيو، الصديق الأسود، كيف يعبر عن مشاعره، وهو يرى الغضب يغزو جسد وروح هاملت، وكأنه الغضبُ قد غدا، وربما شيئًا آخر أعظم وأقوى وأعتى تعجز اللغة عن دعوته غضبا، فها هي كل عضلة من عضلاته تختلج، وتقاوم الأوتار دون أن يفعل فيها شيء، وكل نَسَمة من نَسَماته تئن، وتنادي الأحياء دون أن يؤثر فيها صوت. كان كل وجهه يصرخ من لسع النار بسوطها، وكانت النار تعوي بفيهِ كلبٍ، وهي تلتهم له الكِيان، وكان كِيانه ينهار في جوفها، وكل كِيانه يقهقه، فراح هاملت يقهقه، كالمعتوه راح يقهقه. لم يكن يدري ما يفعل، ولِمَ يفعل. كانت النار تدغدغه، وهو كالقبرات، كالقبراتِ لا يفعلُ سوى الضحِكِ مَعَ القبرات.
- اللعنة على النار التي تلتهمك وتدغدغك في آن! قال هاملت، وهو يضغط قبضتيه كمن يريد أن يعتقل اللهب فيهما. اللعنة على السعير، اللعنة على الضرام، اللعنة على جهنم، جهنم الروح، جهنم الأماني، جهنم العجز، العجز العاجز، المهاب، الهياب، ابن المومس! اللعنة على هاملت، هاملت الذي ها هو الآن يسعى إلى التنصل من مسئوليته بأي ثمن، ولا يرى كيف ينقذ روحه! اللعنة على روح هاملت التي لا تعرف كيف ترفض لتعرف كيف تثير! اللعنة على إثارة النفوس التي نفس هاملت تظل غريبة عنها، فلا يبقى له سوى أن يرفع الصليب المقدس على كتفيه!
- سيدي وصديقي، ارأف بنفسٍ هي في ريِّق العمر، رجا هوراتيو.
- انظر إليهم كيف يستعدون للحرب بِحَمْو العاشق وحَمِيّة المعشوق وكأنهم مذ جاءوا إلى الوجود ما انتظروا إلاها، نبر هاملت، وهو يفتح النافذة ضاربًا دفتيها. انظر إليهم، تابع، وهو يجذب هوراتيو، ويدفع رأسه خارج النافذة، انظر إلى بنادقهم، انظر إلى مهاميزهم، انظر إلى ظلالهم، ظلالهم العملاقة، ظلالهم البيضاء، ظلالهم الطائعة طوع ظلال الكلاب، انظر إلى عيونهم التي تتقصى دومًا ناحية واحدة تجيء منها الطبيعة المتوحشة، ناحية واحدة، ناحية واحدة ولو كانت عدة نواحٍ، عيونهم التي تنتظر دومًا انبثاق الحوافر من الغبار، فيسقط العالم في الغبار، وتغيب عن العين ملامحه. يجب على العين ألا تميز شيئًا، هكذا تسهل مهمة البنادق، وترتاح الضمائر.
- سيدي وصديقي، أنا أحتمل حزنك ولا أحتمل غضبك، غضب نفس يفوق أضعاف ما لك من عمر، همهم هوراتيو.
- احتمل غضبي ولا تحتمل حزني، هوراتيو، ليكون غضبي قويًا، همهم هاملت، أقوى ما يكون، لتكون ثورتي عظيمة، أعظم ما تكون، ولئلا أنفي عني طبيعتي المتوحشة.
- هاملت، ابن سيدي صاحب المقام الرفيع، طبيعته متوحشة!
- هاملت، ابن سيدك صاحب المقام الرفيع، كما تقول، هو كل أولئك الهنود، كل تلك الغابات، كل تلك المستنقعات، كل تلك الوديان، كل تلك الأنهار، كل تلك البراري، كل تلك الصحاري، كل تلك الضواري، كل تلك الوحوش غير الآدمية، التي لم تعرف الحضارة أبدًا، لأن الحضارة تبقى عنها غريبة، وهي ابنتها، كالمومس في الصالون. هذا هو هاملت، ابن سيدك صاحب المقام الرفيع، مومس في صالون!
- لقد عمل سيدي صاحب المقام الرفيع والدكم كل ما في وسعه ليحول دون الحرب، لكن النجاح لم يكافئ جهده.
- حالة القوة القاهرة، أليس كذلك؟ بالتأكيد! على الحرب أن تتربع، يا صديقي، على الدم أن يتعفن، على الجسد أن يتفسخ، على الكوندور أن يتشمع، على الذهب أن يتهرأ، على الحرب أن تتربع كل يوم ولأدنى سبب، وإن لم يكن هناك سبب اخترعناه. هكذا نقول حربنا، كما نقول أرضنا، وأحصنتنا، وقطعان ثيراننا، كما نقول نساءنا، وأبناءنا، وزنوجنا.
وأخذ هاملت من النافذة يصرخ:
- أنا كل ما ليس لكم!
- هاملت، لا تثرهم، أرجوك، توسل هوراتيو، لا تحل دون ما سيفعلون، لا تغضب، لا تأخذ مكان الله، فالغضب لله وحده، كما كانت تقول لنا سيدتي صاحبة المقام الرفيع والدتكم، كي ترشدنا وتعلمنا، واترك كل شيء للعواصف، العواصف هي غضب الله، ونحن أمام غضب الله لا نستطيع أن نفعل شيئًا. هل يستطيع الدوريّ أن يفعل شيئًا أمام هدم العواصف لعشه؟ كل هؤلاء طيور لن تقدر على شيء مهما قويت أمام غضب الله.
- أيها المسيح الدجال! تقول هذا لأنك لم تزل موسومًا كالأشجار بعبوديتك لا تجرؤ على فعل أي شيء، وتنسى مبدأ الوجود: كيف تَصْنَعْ أَصْنَعْ.
- سيدي صاحب المقام الرفيع والدكم، يا من طعامه العدل ولباسه، عندما أعطانا الحرية خفنا منها، لأننا نحن الزنوج بين الهيمنة والتعالي كنا عبيدًا كأي طبيعة محتقرة، ولن نكون يومًا أحرارًا.
- الحرية! أينك أيتها الحرية؟ لو كانت الحرية امرأة لاغتصبتها!
- الحرية ليست الغضب.
- هل تكون الروع؟
- الحرية ليست الطبيعة المتوحشة.
- هل تكون الطبيعة المتحضرة؟
- الحرية أن تكون سيدي وصديقي في آن.
- يا لك من مأفون، يا هوراتيو! للمومس أيضًا يمكن أن أكون سيدًا وصديقًا. ضاق أفق تفكيرك، فعانت الحرية عبئًا على عبء. أتعرف ما الحرية كما أراها؟ خليط من رائحة التبغ وشوربة الكرنب، هذه هي حريتنا. لهذا لم نكن يومًا أحرارًا إلا في صنع الحرب كما نصنع شوربة الكرنب وندخن التبغ. لهذا تجدني غاضبًا، منهم ومني، فأنا لا أفعل ما يجب عليّ فعله بهذا الغضب الخراء، أتركني في جوفه، وأغلق عليّ.
- هذه اليد، كما كان دأبها دومًا، ستحميك، ستدافع عنك، ستموت من أجلك، فتعال إليها. هذا الليل سيلفك بذراعيه، سيحن عليك، سيُدْفئك، فثق به. هذا الصدر سيرفعك، سيعلو بك، سيجعل منه لك جناحًا، فارْقَ إلى قمم الكون.

* * *

كانت الحركة كبيرة داخل الصالون وخارجه، ومما كان يثير الانتباه في الخارج ترامي الهنود المُغَرَّبين على قدمي الكسل هنا وهناك، لا حول لهم ولا حيلة، وهم يدخنون الأعشاب، ويحتسون ماء الحياة، أو ينامون ملء أجفانهم. في الداخل، كان الرواد من كل صنف: رعاة بقر ولاعبو ورق ولاعبو بليار وشاربو ويسكي ومعاشرو مومسات. ومن بين الرواد كان رينالدو ورفيقاه، رينالدو يلعب البوكر، ورفيقاه يداعبان مومسًا لا تتوقف عن الثغاء. كان العازف على البيانو يعزف ويدخن السيجار في نفس الوقت، وكانت ثلاث راقصات يقمن على الخشبة بالرقص خطًا، وثلاث أخريات يدرن به، وهن يتمايلن، ويدندنّ، ويغنجن، لما فجأة حضر أحدهم، وصاح: "لقد وصلوا!"، فتدافع الكل إلى باب الخروج.
رأى الناس غيمة الغبار التي تثيرها عشر عربات تجرها الخيول عند بداية الشارع الرئيسي، فتقدمهم رينالدو وراعيا البقر الآخران مع الشريف مارسيلوس وأعوانه، بينما ظل الهنود المُغَرَّبون يترامون على قدمي الكسل هنا وهناك، خشبًا نَخِرًا، صخرًا خَرِبًا، سمكًا جَوَ ًا. بعد الضجة التي أعقبت وصول الركب، هجم المستقبلون ليخرجوا الجرحى أو ليسألوهم عن ذويهم ممن يشاركون في الحرب الأهلية. حاول رينالدو إبعاد الذين سقطوا على لائِرتس، ابن بولونيوس، ذي الكتف الملفوفة بضماد ملوث، باللين، دون أن ينفع شيء معهم، ولائِرتس يبتسم على شكل مرؤوس أبيه المترنحِ بين الحَنَقِ وضبط النفس، وبالشدة، عندما أصابه اليأس.
- كل هذا من أجل رصاصة لم تخترق الكتف تمامًا، علق لائِرتس ضاحكًا.
- لم تخترق الكتف تمامًا، يا سيدي، أعاد رينالدو.
- أو الذراع، أو الفخذ، أو القفا، أضاف لائِرتس دون أن يتوقف عن الضحك.
- لتحركا القفا، أيها الماخور! صاح رينالدو برفيقيه اللذين يتعاونان على حمل الجريح.
ثم لابن سيده:
- كلاهما يخريني! إنهما لا ينفعان لشيء آخر غير الضغط على الزناد، هذان الخرعان!
- حذار! طلب لائِرتس من راعيي البقر، جرحي لم يزل طريًا.
- العربة ليست بعيدة، يا سيدي، قال الأول.
- الفاصوليا البيضاء خير ألف مرة من الفاصوليا الحمراء، يا سيدي، قال الثاني.
- عن أي فاصوليا يتكلم؟ سأل لائِرتس رينالدو، وهو يبتسم، على الجبهة لم نأكل غيرها.
- لا تنتبه إليه، يا سيدي، أجاب رئيس رعاة البقر، فما هذا سوى استطراد لا غير.
- استطراد، وهو لم يفه بكلمة واحدة منذ وصولي!
- إنه يواصل حواره الدائم.
- عن الفاصوليا؟
- البيضاء، الفاصوليا البيضاء، يا سيدي، عاد الثاني إلى القول، وعلى عكس الرأي الذي لصاحبي، هي خير ألف مرة من الفاصوليا الحمراء.
- بل الفاصوليا الحمراء، أكد الأول. هل تعرف لماذا، يا سيدي؟ لأن ضراطها أقوى وأسوغ رائحة! عندما يفقع، كل الجنوب يفقع معه، وعندما تنتشر رائحته، يشمها من هم في المكسيك.
- كل هذا هراء، يا سيدي، نفى الثاني. هل تعرف لماذا الشماليون هم صامدون إلى اليوم، يا سيدي، بفضل الفاصوليا البيضاء.
- حقًا! أكلنا منها حتى القيء، أكد لائِرتس.
- الفاصوليا البيضاء كانت مدافعكم الثقيلة، يا سيدي، ورائحة ضراطها العفن أكثر سوغًا من رائحة ضراط الفاصوليا الحمراء أو السوداء أو الشقراء أو غيرها، إنها كرائحة النساء بعد المضاجعة.
- لهذا السبب يصمد الشماليون في رأيك؟ تهكم الأول، لأنهم يحاربون وهم يظنون أنفسهم يضاجعون.
- سأزرع الفاصوليا البيضاء، يا سيدي، قال الثاني، وسأعمل منها ثروتي طالما بقيت الحرب.
- لن تبقى الحرب إلى الأبد، همهم لائِرتس.
- ستبقى الحرب إلى الأبد.
- لكي تبيع فاصولياك البيضاء؟
- سأعمل على أن تبقى الحرب إلى الأبد.
- ستعمل كيف، تهكم الكاوبوي الأول، بضراطك؟
- أي نعم، بضراطي، أكد الكاوبوي الثاني، وسترى ما تفعله رياحي الصابيات.
حيا لائِرتس هذا الجريح أو ذاك، وهو يسمع من يردد: "أكرمتهم الحرب! أكرمتهم الحرب!"
- اعتن بنفسك جيدًا، صاح لائِرتس بأحدهم.
- لا بد، أجاب الآخر، وإلى أقصى مدى.
- نعم، إلى أقصى مدى، همهم ابن بولونيوس، وقد اربد وجهه.
- هل كانت الحرب مريعة إلى هذه الدرجة؟ سأل رينالدو.
- تقول مريعة؟
سكت رينالدو دون أن يعلق حتى العربة التي يجرها حصان.
- ها هي، قال راعيا البقر للائِرتس.
ومدداه عليها.
ربط رينالدو حصانه بالعربة، وصعد ليقودها، بينما امتطى كل من الرجلين جواده. فكر لائِرتس في أخته أوفيليا، وابتسم. كيفها أوفيليا؟ رائحة شعرها، رائحة ثوبها، رائحة جسدها. لا تكبر أوفيليا. كم من مرة ضربها هاملت، وهم صغار، فتذرف دموعها على صدر لائرتس، ويشم رائحتها، شعرها، ثوبها، جسدها، ويجذبها إليه. لم يكن يحقد على هاملت، لولاه لما ضمها بين ذراعيه بكل هذه القوة، ولما تركت أوفيليا نفسها بكل هذا الاستسلام. لم يكن يحقد على هاملت، كان يخاف على أوفيليا، وكهاملت في لحظات هدوئه، كان يضغطها على صدره، ويشم رائحتها. رائحة الموت الطيبة رائحتها، هكذا كان يحدد رائحتها، كالكميات النسبية في الكيمياء. تقاطرت في خياله قبلات هاملت، وبان التأكل على وجهه تأكل التضاريس بفعل الرياح. لهذا السبب، قال لائِرتس لنفسه، لهذا السبب وقع في غرام هاملت، لقبلات هاملت، لسقوط الأزهار، لزمن السقوط.
وهما على أبواب مربى ماشية صاحب المقام الرفيع، وكل هذه الاستعدادات الحربية، التفت رينالدو إلى ابن سيده، وقال:
- إنهم الهنود.
- الحرب، همهم لائِرتس، الحرب أينما ذهبنا.
- أما عن هذه، فهي ليست حربًا.
- أحس أن قلبي ينقبض.
- نزهة صيد، نزهة صيد ليس إلا.
- لجملتك حيوية أجدها هنا ولم أجدها هناك.
- حيوية الاستخفاف، الاستخفاف المؤسِّس.
- على التأكيد، الاستخفاف المؤسِّس.

* * *

تابع هاملت لهوراتيو:
- اللعنة عليك، يا هوراتيو! أنا لا أريد يدك ولا ليلك ولا صدرك، أنا أريد يد الشيطان، وليل الملاعين، وصدر الساحرات في اليونان القديم، أنا أريد أن تصنعني المأساة.
- ما أسهل أن تصنعك المأساة لو تشاء المأساة، همهم الرجل الأسود.
- هم يصنعونها، كل هؤلاء هم يصنعونها، يتقنون صنعها، وهي لا تتقن صنعهم، فكلهم أبناء للوطاويط، كلهم ينهضون في الليل للبحث عن ضحاياهم. هل هذا هو ليلك، يا هوراتيو، الذي سيلفني بذراعيه؟ كلهم يخبئون صدورهم تحت أجنحتهم خوفًا من رمح أو سهم. هل هذا هو صدرك، يا هوراتيو، الذي سيرفعني؟ كلهم يضغطون بأصابعهم على أزندة مسدساتهم الواحد ضد الواحد والواحد ضد الكل والكل ضد الأرياش الملونة وأقواس قزح. هل هذه هي يدك، يا هوراتيو، التي ستحميني؟
- سيدي وصديقي، ستحميك هذه اليد عندما تحمي نفسك، وسيلفك هذا الليل عندما لا يكفيك النهار غطاء، وسيرفعك هذا الصدر عندما يكثر أعداؤك، ولا تكفيك كنزة واحدة من الزرد لتقاوم أعداءك قبل القضاء على أعدائك، وارتقاء الفضاء.
- خفف من غُلوائك، وإلا قتلتك!
- والمأساة التي تريد أن تصنعك؟
- ستكون طريقي إليها، يا هوراتيو، لن تكون ضحيتي كما تكون ضحاياهم، ربما ستكون ضحيتي الأولى، ولكن فقط لأتعلم، فالمأساة أن تتعلم كيف تصنع الموت لتصنعك المأساة.
- أنا لم أصنع الموت الذي تريد، همهم هوراتيو، لم أصنع حتى نعلاً لهاديس، لم أتحرر من حياتي، دومًا ما كنت نعلاً لحياتي، فحياتي حذاء للآخرين الذين أنا مأساتهم، لكنى لست المأساة التي تبحث عنها، فجد لك واحدًا غيري، جد لك واحدًا أبيض كلائِرتس تحبه كما تحبني، هو، يمكنه أن يكون طريقك إلى الإغريق. الإغريق كلمة غالبًا ما تتكرر على لسان سيدتي صاحبة المقام الرفيع جيرترود، الكلمة التي أكثر ما يروق لها في قصص الأولين. كلما نطقتها، أنظر إلى عينيها، فأرى فيهما كوندورَ من كوندورات المسيسيبي يصفق جناحيه بعنف، النار تهجم عليه من كل ناحية، وهو يصفق جناحيه كالمجنون، كالملعون، كالهارب من قدره، وكانت سيدتي صاحبة المقام الرفيع والدتكم تبتسم كما لو كانت لا ترى الطائر المسكين.
- أنا هو هذا الطائر، همهم هاملت، أنا هو المأساة التي تَصْنَعُنِي في عيني أمي.
نشب صوت النادبات فجأة في كل مكان من مشرب الماشية، فأدرك مَسْمَعَ هاملت وهوراتيو، وصدى صوتِهِنَّ المُضْنَى.

* * *

بينما كان الطبيب يلف كتف لائِرتس بضماد أبيض، صب بولونيوس بعض الويسكي في قدح قدمه لولده، وقال، وهو ينظر إلى أوفيليا، ابنته:
- ها هو لائِرتس يعود إليكِ، أيها القلب البكر الذي لم تهزه العواطف!
- يعود إلينا، يا أبي، صححت أوفيليا.
- يعود إليك أولاً، أكد الأب، لتقنعيه ألا يتجاوز الحد، فيخفُتُ الحماسُ الذي يملأ صدره. أخوك لائِرتس كان من بين أوائل المتطوعين لحرب أهلية لن تكون رابحة لأحد، فالكونغرس بالحرب أو بدون الحرب يعمل بصوتين للأغلبية في صالح إلغاء الاسترقاق، وكل هذا مضيعة للوقت ليس إلا.
- كل هذه القتلى مضيعة للوقت ليس إلا، يا أبي، قالت أوفيليا ساخرة.
- السياسة المسوِّفة هي هذا، مضيعة للوقت على الوقت، كل هذه القتلى، أوضح بولونيوس، والحمد لله أن أخاك قد عاد بكتف قتيل، هذا أفضل من جسد قتيل، إلى أبعد حد.
- لو كنت مكاني، يا أبي، رد لائِرتس مربد الوجه، لفضلت العودة بكتف وصدر وبطن وفخذ وساق وقدم، بكلك قتيلا.
- ما أسهل الأمر لو يرغب أخي، رمت أوفيليا ساخرة دومًا، وكل استعدادات الحرب عندنا، حربنا الصغيرة، لعبتنا المفضلة، نزهة صيدنا في أرض الوحوش الحمر. شكرًا على كل شيء، لقد حفظتم حياتنا، كل هذا سببه الغضب، ولكنكم جعلتمونا أمة، كل هذا لعنة الأجداد، ولكنكم أقمتم لنا حدودًا منيعة، شكرًا على كل شيء.
- اسمع يا لائِرتس، طنَّ الأب، هذه ليست حربك، حربك كانت هناك، مع قوات الاتحاد، إياك أن تتحرك من مكانك، أنت مصاب في كتفك، تركوك تذهب لأنك مصاب في كتفك، ولأن الحرب بالنسبة لك انتهت، فلا تبدأها هنا من جديد. الهنود مسألتي، سأتغدى بهم قبل أن يتعشوا بي، هل تفهم؟ سنواجه البربرية بالبربرية، وهي على كل حال ليست المرة الأولى، أليس كذلك، يا عزيزتي أوفيليا؟
- هو كذلك، يا أبي، هو كذلك، أكدت ابنة بولونيوس ساخرة دومًا وأبدًا.
صب اليد اليمنى لكلوديوس لنفسه بعض الويسكي في قدح، وجرعه قبل أن يضيف:
- اعتدناهم واعتادونا! حربنا ليست كحربكم، حربنا ككل شيء يعتاد المرء عليه، كالأكل والشرب والنوم وقتل البَيْسون وتربية العجل وترويض الحصان ونقع المسدس وتلميع المهماز ونصب السياج وعما قريب مد السكة الحديدية، فلا تقلق من أجلنا، ولا تقحم نفسك في خرائنا، فالحرب أيًا كان شكلها خراء.
- خراء جميل، يا أبي، قالت أوفيليا، وبسمة هازئة تزهر على ثغرها، ليس بقدر الخراء الهندي، ولكنه يظل جميلاً. سنتزين به، سنلبسه، سنطبخه. كفانا خراء كل يوم، يا مامي، نريد طبقًا آخر أسهل علينا لتنظيف أسناننا!
- أوفيليا، ابنتي، لهث بولونيوس، ماذا دهاك؟ منذ متى كل هذا الويل؟ ومن هو ذاك الذي من ورائه؟ هل هو هاملت؟
- هاملت، هاملت، هاملت!
- لم أقصد بكلامي عن الحرب غير حمل الشيء على الشيء، لا أكثر.
- مامي لا تفهم من الفلسفة لا قليلها ولا كثيرها، لائرتس ربما، أما مامي...
- لن أترك نفسي تقع في شَرَكِكِ، يا أوفيليا، رد لائِرتس، أفضّل أن أشرب كأسي، كأس السُّم أكثر استساغة من اقتيات السَّوْفِ.
تركه أبوه يترع كأسه، فأخذها منه ليضعها جانبًا والكأس التي بيده، وأعاد:
- نعم، اعتدناهم واعتادونا، هذا كل ما في الأمر.
أعطاهما ظهره، وخرج.
قالت الجميلة أوفيليا، وهي تمسك بيد أخيها، وتواصل ساخرة:
- كهنودنا، أولئك الجنوبيون كان من الواجب عليكم سحقهم عن بكرة أبيهم، هذا ما عناه والدنا باعتدناهم واعتادونا، والمثل المعروف يقول من شب على خُلْقٍ شابَ عليه.
- الحمد لله أن الطلقة لم تحطم عظمك تمامًا، قال الطبيب.
وراح يجمع أدواته، ويرميها في حقيبته.
- هذا ما قاله طبيب الجبهة الذي استخرجها، أكد لائِرتس.
- لكن يبدو أنك لم تعتد حرب الانشقاق، ولن تعتاد أية حرب، فأنت لم تدافع عن نفسك كما يجدر الدفاع عن النفس، أضافت أوفيليا.
- إنها طبيعتي، برر لائِرتس.
- ألا تدافع عن نفسك كما يوجب ذلك؟
- كل واحد منا إنتاج طبيعته.
- مع السلامة، هتف الطبيب.
- مع السلامة، قال الجريح، أشكرك.
- مع السلامة، قالت أوفيليا.
- ثقتي بعدوي أكثر من ثقتي بسلاحي، أوضح لائِرتس.
- ثقتك بعدوك؟ هل يثق أحد بعدوه؟
- لا، ولكن أنا نعم، شيء كفعل أقبله طوعًا.
- كفعل قدريّ.
- كفعل كلي العقل.
- حتى صاحب القلب المجنون لا يفهمك.
دخلت صاحبة المقام الرفيع جيرترود، في ثوب الدانتيل الأحمر، وعانقت الجريح:
- أقلقتنا عليك، يا لائِرتس، قلقًا عظيمًا!
- من أجل هذا القلق العظيم هذا الجرح الذي كنت أتمنى أن يكون أعمق وأعرض.
- قلقي عليك سيظل قلقي عليك، قلقًا عظيمًا، صغيرًا كان جرحك أم كبيرًا.
- شكرًا، سيدتي، همهم لائِرتس.
- شكرًا، سيدتي، همهمت أوفيليا.
- أوفيليا هنا وكأني أوفيليا، أثنت جيرترود.
- شكرًا، سيدتي، أعادت الجميلة أوفيليا.
- عندما كنتم صغارًا، عادت جيرترود بخيالها إلى الوراء، كان لائِرتس يأتيني شاكيًا "لقد ضرب هاملت أوفيليا!"، فتنفين، أو أنك تقولين إنه لم يضربك كثيرًا، قويًا، إنه لم يوجعك، وعلى العكس، لما كان هاملت ولائِرتس يمرضان، كنت تقضين الليل معي قرب سريرهما.
- كان الأمر بالنسبة لي كمن ينتهز الفرصة السانحة، بررت ابنة بولونيوس.
- كمن ينتهز الفرصة السانحة؟
- كي أواصل اللعب معهما.
- كان مرضهما نوعًا من اللعب.
- كانت طريقتي، كي أبعد عنهما المرض، أو أجيء به، كي أُضحكهما، كي أُسليهما، كي أُغضبهما، كي آخذ منهما ما أشاء، كي أُعطيهما ما أشاء، هكذا كانت طريقتي، شيئًا من اللعب.
- وكان يسعدنا ذلك، اعترف لائِرتس.
- هذا ما أردت دومًا معرفته، قالت جيرترود لابن بولونيوس، وهي تبتسم.
حط الصمت، فسألت أم هاملت:
- وهاملت، أينه؟
- العالم قائم قاعد في الخارج، برر لائِرتس عدم حضور هاملت.
- هذا العالم ليس عالمه.
- لا بد أنه قادم.
- إنه يسوق حياة عابثة، قالت جيرترود مشغولة البال.
- هذا منطقه.
- العبث؟!
- العبث الممكن، كما يقول الشاعر.
- على العكس، تدخلت أوفيليا، ليس هناك أي عبث، ليس هناك أي لامنطق، ليس هناك أي لاممكن في حياة هاملت، بما أنه وُلد هكذا.
- إنه اللامعنى لحياة بأكملها، همهمت أم هاملت مهمومة قبل أن تذهب.
- هاملت اقترف ذنبًا صغيرًا في لحظة غضب كبير، اعترفت أوفيليا لأخيها مترددة، بدافع غير العقل لديك، فاختلط الإقدام والانتقام لديه، وها هو الآن يعيش عاره.
- ماذا فعل لك، أيها القلب البكر الذي لم تهزه العواطف؟ سألها أخوها قلقًا.
- لم يفعل شيئًا كبيرًا.
- وعاره الذي يعيشه الآن؟
- لم يغوني، فاطمئن.
- سأقطع تمتعه لو وقع كما أقطع التفاح والإجّاص.
- اعتبره واحدًا من أعدائك.
- ليس عندما يتعلق الأمر بأختي.
- أعرف أنك لن تغضب غضبه، لن يكون بمقدورك أن تغضب غضبه، فغضب هاملت فوق كل غضب، يكفي أن تقول هذا غضب هاملت. أنت لن تساويه في غضبك لا بُعدًا ولا كمية!
- تنسين أن لي من الصفاء ما يفوق غضب هاملت مرات، وأنني بصفائي أستطيع أن أهزم هاملت المدان.
- ليس الوقت وقت الحديث عن الهزيمة والكل يستعد لقتال سيكون ضاريًا بين لحظة وأخرى، أضف إلى ذلك أنني لا أريدك أن تكون غير عادل مع هاملت، أن تسومه خَسْفًا، كما لو كان أبي من يقول.
- لن أسومه خَسْفًا، الخسوف أهون عليّ.
- عندما يتعلق الأمر بنا، أنا وهاملت، هذا لا يخصك، هذا لا يخص أحدًا سوانا، أنا وهاملت، هذا لا يخص أحدًا سوى هاملت وأوفيليا.
قبلته من خده، وطلبت قبل أن تذهب:
- عليك أن ترتاح بين ذراعي خرائنا الجميل، يا لائرتس.

* * *

سقط الليل سميكًا على مربى الماشية، وكان رعاة البقر في حالة تأهب على الرغم من استبعادهم لهجوم الميوُك، والشمس في فراشهم تنام. قطعت حبل الصمت حوافر تقترب على الطريق الترابي، فسارعت الأصابع تبحث عن الأزندة، إلا أن صفيرًا خفف التوتر. بعد عدة لحظات، استطاع الكل أن يميز فريقًا من المقاتلين على رأسهم الشريف مارسيلوس. دخل رجل الأمن والنظام على التو مكتب السنيّ هانس كييركغارد المحاط بكلوديوس وبولونيوس وبعض جلسائه، وقال:
- لم يكن بوسعنا سوى المشاركة في الدفاع عنكم، يا صاحب المقام الرفيع، فهل نقف مكتوفي الأيدي وسلامتكم مهددة؟ مَنْ حَذِرَ سَلِمَ، كما يقال.
- سلامتنا ليست مهددة إلى هذه الدرجة كما تتصور، شريف مارسيلوس، أجاب العظيم هانس، ومكانك هناك لا هنا، لحفظ الأمن والنظام.
- الأمن والنظام لا شيء في هذه اللحظة الخطرة، أخي صاحب المقام الرفيع، تدخل كلوديوس، أم أنك تراهن دومًا على حل سلمي مع هؤلاء الوحوش؟
- هؤلاء الوحوش، كما تقول، إذا لم يهاجمونا مع الفجر، وهم، حسب اعتقادي، لن يهاجمونا، ذهبت بنفسي هذه المرة لأتوصل إلى حل سلمي مع قدم الجبل، رئيسهم.
- ولكن، يا سيدي، همهم بولونيوس، الليل طويل في مملكة الدانمرك، وهو دامس هذا المساء، كل شيء متوقع في مساء دامس، وخيرًا فعل الشريف مارسيلوس بمد يد العون، هذا هو عمله، إن لم يكن الأمن والنظام، فهو العون والمساندة.
- حسنًا، ولكني أتمنى أن يخيب أملك.
- لن يخيب أمل أحد سواك، أخي صاحب المقام الرفيع، نبر كلوديوس.
- كلكم على يقين إذن بوقوع المجزرة.
- إذا وقع مثل هذا فعل، فمن شرط الواقع، برر كلوديوس، لأن بناء المحطة لن يتم هنا.
- هنا قلب ساكرامنتو، نبر العظيم كييركغارد، مربى الماشية هذا.
- وبعد عشر سنين؟ اقترح بولونيوس بدهاء، عشرين سنة؟ ثلاثين؟ أربعين؟ قلب ساكرامنتو أين سيكون؟
- لن آمر بإبادة النساء والأطفال، عاد العظيم هانس كييركغارد ينبر، هذا ليس عهدي، هذا ليس شرفي، هذه ليست مروءتي وطبيعتي وسلطتي.
- هذه حقيقة لا مِرْيَة فيها، رد الأخ الصغير. كل ما هنالك أن مركز ساكرامنتو لن يكون هنا في مستقبل نحن بُناته ونحن رواده، وعلى المحطة التي سينطلق منها قطار اليونيون باسيفيك ريلرود أن تكون في مركز المدينة، في مركز جمهورية الدانمرك، جمهوريتنا عما قريب، عندما نعلم أن الجمهورية قحبة، أكثر من طاقتها!
- قحبة الجمهورية؟ لفظ السنيّ هانس دهشةً، إذن لن تكون جمهوريتي!
- ليست بالضبط هي، بل قدرها مع أصحابها. كل واحد منهم يريدها لنفسه، وهم من الكثرة بحيث يصعب عليها إرضاءهم جميعًا.
- إذا كانت الجمهورية دين الغد، فسيكون هذا شعاري كما كان شعارًا لغيري ممن يعرف الطريق إلى القلوب: لكم دينكم ولي دين!
- الجمهورية لن تكون غير ما تكون.
- سيكون الليل طويلاً أكثر مما هو عليه كي نفكر في الأمر، وعند الصباح، يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى، رمى السنيّ كييركغارد قبل أن ينهض، ويغادر وكل الحاضرين ما عدا كلوديوس وبولونيوس.
عندما وجد الاثنان نفسيهما وحيدين، قال الأول للثاني:
- لا بد من القيام بالخطوة الثالثة كما اتفقنا، وستكون الحاسمة. هكذا نحن، منهجنا يعتمد العقل فيما لا علاقة له بالعقل.

* * *

مع الساعات الأولى للنهار، شن الهنود الحمر هجومهم. كانوا كثيري العدد، ولم يكونوا كثيري العُدَّة. امتطوا أحصنة النار، ودببة النار، وخنازير النار، ورافقتهم قيّوطات النار، وكوندورات النار، وببغاوات النار. قاتلوا بشراسة، وقتلهم المتمترسون قتلاً لا هوادة فيه. استعملوا أحدث البنادق والمدافع، فتطايرت أجساد الخنازير والدببة والأحصنة مع ممتطيها، والتهمت الأرض الحمراء توت أبنائها. وفي لحظة من اللحظات، تلقى رعاة البقر أمرًا من رينالدو بترك الهنود الحمر يتسللون إلى قلب مربى الماشية، مما اضطر السنيّ هانس كييركغارد إلى القتال، وأخوه كلوديوس، واليد اليمنى لكلوديوس، بولونيوس، والد لائِرتس، ولائِرتس، وهوراتيو، والباقي من السود. أطلقوا الرصاص من نوافذ البيت الكبير أو من شرفاته وأسطحه، وتمكنوا بصعوبة من إطفاء نار نشبت في أحد أجنحته.
- خسئت أيها الشيطان! نبر هاملت، وهو يخترق حجرة صديقه الأبيض، بغضب وألم. حتى أنت تقتل، يا لائِرتس!
- أقاتل، رد لائِرتس، وهو يرشق الميوُك من وراء النافذة، اعتادت كتفي على القتال، كتفي لا نفسي.
- كتفي تجهل القتال، ولن تعرفه أبدًا كي تعتاده.
- الحرب ليست للأكتاف الناعمة.
- ربما كانت لي كتف أوفيليا أختك.
- أو جيرترود أمك.
- والألم، هل تعتاده الأكتاف؟
- تعتاده.
- الألم يسري إلى رأسي.
- الألم من الوجود ألمك.
- لماذا تداوم على القتال طالما أنك تعرف فروض المسألة؟
- أنا لا أعرف كل شيء.
- ألم تقل لك أوفيليا؟
- قالت لي إنك اقترفت ذنبًا صغيرًا في لحظة غضب كبير.
- بل ذنبًا كبيرًا في لحظة غضب صغير.
- لهذا.
- لستُ من طراز الأبطال.
- خوفك ليس كبيرًا.
- أكبر من هذا الخوف؟ أكبر من هذه القوة؟ أكبر من هذه المشيئة؟ خوفي شجاع، وقوتي ضعف، ومشيئتي جبانة. ترفس قفاي، كلما رميتهم أنت بطلقة، ولا أفعل شيئًا. عجبًا! هذا يؤلم، ولكني لا أفعل ما يجدر بي أن أفعل. ستقول لي ألمك الألم من الوجود، هذا الوجود ابن القحبة! لماذا يقتلون النعام؟ لماذا يقتلون الطواويس؟ لماذا يقتلون الببغاوات؟ هذا العُجْب بالنفس الخراء! أي اطمئنان يحيلني إليه غضبي؟ أي ضبط للنفس؟ أي عون للعقل؟ ما هو، هذا الماخور؟ لم ينم أحد ليلة أمس، والكل يفكر كيف يقتل النعام، كيف يقتل الطواويس، كيف يقتل الببغاوات، وأنا كنت أمارس الاستمناء. سأدلك على ضحاياك، يا لائِرتس. انظر إلى الهندي هناك.
- ولكنها الشجرة!
- والحصان هناك.
- ولكنه البرميل.
- وجيش الأفاعي هناك.
- ولكنه السياج.
- يا ماخور الخراء!
- ماذا فعلت لأختي لتتعذب روحك إلى هذا القدر؟
- هل هي سلامة نيتي التي تدفعك إلى تصور ما لا يمكن تصوره؟
- حتى يُؤَلَّف بينَ الضَّبِّ والنون.
- أم فوضى عقلي؟
- ينالَ حَظَّهُ مِنَ التَّنْويه.
- خراء عقلي، أيها الماخور! ككل عقل ظَنُون!
وانفجر هاملت باكيًا، فجعل لائِرتس بندقيته تسقط من يده، وجاء ليضمه.
- هدئ روعك! ابتهل لائِرتس، إني هنا، كاللقلق أقف على ساقي الوحيدة! قدمت ساقي الأخرى لهاملت هدية، وإذا ما طلب يديّ الاثنتين، قدمتهما له، وإذا ما طلب ذراعيّ، قدمتهما له، وإذا ما طلب قلبي، عقلي، روحي، وهو على أي حال، سلبني قلبي وعقلي وروحي! لماذا أحبك كل هذا الحب؟ لم تكن أبدًا عادلاً، وأوفيليا أختي تطلب مني معك ألا أكون لاعادلاً! هي لا تعرف أن ظلمك عدلي، وضيمك إقساطي، لا تعرف أن الحب بين رجلين لهو حقد الطبيعة، لهذا كانت الطبيعة كهاملت لاعادلة، لهذا كانت أوفيليا ساق الطبيعة الوحيدة، لهذا كانت كلها لك كما أنا كلي لك، لهذا كانتني أختي دون أن تكونني، هكذا هي في كل نقائها، لوحتها والبحر هائج والفضاء غائم والانتظار أقوى من كل المعارك، لوحة كل الصفات الأخرى لوحتها، فيعجز اللسان عن وصفها.
- أوفيليا، كيف أصف لك أوفيليا؟ لا توجد صفات تصفها! وصفها يلغي الصفات، فعلها يلغي الأفعال، حالها يلغي الأحوال!
- أعرف، هي كل ما هو رائق لنا.
- وكل ما هو قادم، كل ما هو بعيد، شيخوختنا غدًا كطفولتنا أمس، إنها الولع بالأطفال والولع بالشيوخ.
- أعرف، هي كل ما هو عكر لنا.
- إنها التأليف الفوضوي للكاتب، الحب الحرام للطائر.
- أنت لا تستطيع أن تحبني وتحب أختي، هاملت، كلينا.
- كلاكما يستطيع.
- أن يحبك.
- وأن يحب أحدكما الآخر.
- عندما كنا نستحم نحن الثلاثة عراة في نهر ساكرامنتو، كانت أوفيليا تقبلني من فمي كما كانت تقبلك من فمك، كنا نحب بعضنا، كنا صغارًا، كنت تحبنا أنا وأختي، اليوم أصبحنا كبارًا، اليوم أنا وأوفيليا نستطيع أن نحبك، أما أنت، فلا تستطيع أن تحبني وتحب أوفيليا.
- هذا لأنني لا أستطيع أن أبادلكما حبكما لي أنتما الاثنان.
- أوفيليا، غطت بحبها سائر القلوب.
- حبي ليس حبًا.
- حب ليس حبًا يسبب الأذى لاثنينا، لأوفيليا ولي.
- لثلاثتكم، لأوفيليا ولك ولهوراتيو.
- في حساب الكميات، هوراتيو لأوفيليا ليس شيئًا كثيرًا، إنه الزنجيّ في نهاية المطاف، تتحكم أوفيليا في مصيره كما يشاء لها التحكم، أما أنا، أخوها، فلن تقدر على قتلي، لن تقتلني، وهي تنظر في عينيّ.
- ستقتلك أول ما تعطيها ظهرك، فهي على أي حال ستقتلك، أخاها كنت أم غير أخيها، إذا ما تعلق الأمر بحبها، حب المهووسين حبها. لهذا، على أوفيليا ألا تعرف، إلا إذا وَلَدْتَ مني، إياك أن تلد مني.
- ستعرف، وعند ذلك لن يكون غضبك وقتيًا.
- أريده أن يكون أبديًا.
- ستكون نهاية أوفيليا.

* * *

لم يمنع المهرج القتال، ولم يخفف ضربات الهلاك. وعلى العكس، حمي وطيس المعركة على مرآه. كانت الروح الكبرى متنكرة في سيرك الخلق. حاول المهرج أن يسرق الضوء، ولم ينجح، النار، ولم ينجح، الماء، ولم ينجح، الغذاء، ولم ينجح، الحيوان، ولم ينجح، الإنسان، ولم ينجح. تحول العالم إلى غراب ينعق محلقًا في سماء القتال، فأحضر المهرج قيّوط الهَزْلِ، وذبحه. كان يريد أن يعاقب العالم، ومن توت العالم انبثقت ضفدعة امتطاها كما يمتطي راعي البقر حصانه، وترك المحتربين يلعبون أدوارهم في سيرك الحياة.

* * *

كان هوراتيو يجندل الهنود الحمر من كوخه القذر، ويبكي، فسأله هاملت:
- لماذا تبكي، يا هوراتيو؟
- لأنني أقتل الهنود، أجاب الرجل الأسود، وكأني أقتل واحدًا منا، هكذا يولد القذرون. من يقتل هنديًا مُدانٌ هو إلى يوم القيامة، الملائكة أعداؤه والشياطين أعداؤه، هذا ما علمتنا إياه سيدتي صاحبة المقام الرفيع جيرترود.
- لا تقتلهم، فتنقذ الروح التي جَعَلَتْهَا والدتي تعاني صدقًا لأول مرة، صِدْقٌ لا يُصَدَّق، فهل تَصْدُقُ، يا هوراتيو؟
- كيف أحميك إذا لم أقتلهم؟
- كان شرطك أن أحمي نفسي لتحميني، وأنا لا أريد أن أحمي نفسي، لا أريد أن أتوقف على غيري، لا أريد أن يقال عني إنه يخشى الموت... عندما يكون إعصار هناك، عليك أن تمسك بالريح لتحتمي.
وخرج هاملت معرضًا نفسه للخطر، فصاح هوراتيو:
- يا سيدي وصديقي، لا تسعَ إلى حتفك بظلفك، لا تسعَ إلى غضب الله، الله لا يرضى عن المغامرين المخاطرين بحياتهم.
- سآخذ الشجرة بين ذراعيّ أخذ العاشق لامرأة، وأضاجعها بينما أنت تقتل الهنود الذين تبكيهم، فلا تبكيهم، وتبكيني. آه! كم أريد أن تبكيني لا أن تحميني.
أخذ هاملت يضاجع الشجرة تحت زخ الرصاص والسهام، مما استثار رغبة هوراتيو. راح ينفخ، ويلهث، ويتوسل. ترك مخبأه، واندفع مخاطرًا بنفسه، محتضنًا إياه، شامًا، لاعقًا، عابدًا، قانتًا، هامسًا: "لقد استثرت الليل أسفل جلدي!"، ثم جذبه إلى الداخل.
- كدنا نموت نحن الاثنان، ارتعد الرجل الأسود من الرعب.
- كدت أنجح لأول مرة في حياتي، ارتعد ابن العظيم كييركغارد من الرعب.
- نجاحك الموت؟
- نجاحي الوحيد.
- هاملت ليس في كامل قواه العقلية، همس هوراتيو لنفسه، واحدٌ كريمُ الخِلْقَةِ مثله.
- الأول والأخير... لم أكن أريد أن يكون أبي أبي، فكان فشلي الأول، بالأحرى الثاني. في الواقع، لم أكن أريد أن يحب أبي أمي. بعد ذلك، كانت لي سلسلة من الفشل لا تعد ولا تحصى، فشل من كل نوع، كلها خراءات، أمراض نفسية وهمية تُعجز علم النفس عن أن يكون علمًا، وأفعال طُهرية دُعرية تلخص حياتي.
- يبدو لي أنني أسمع في صوتك صوت من أقتلهم.
- لأنهم جاؤوا إلى الوجود.
- لأنهم فشلوا في الدفاع عن أنفسهم.
- يا ماخور الخراء! احتد هاملت، فشلي ليس لأن الناس ضدي، هذا جزء من كل، صغير من كبير، قليل من كثير، ولكن لأني لا أنتمي إلى عصري، ولكن لأني لا أنتمي إلى زمني، ولكن لأني تركت نفسي للريح، وحملت لعنتي وسَوْأَتي، أنا متروك ملعون مسوء لا أدافع عن نفسي!
- أنت إحساسك بنفسك، هاملت السيد والصديق، دافعت عنها أم لم تدافع.
- هل تريد أن تعرف، يا ماخور الخراء؟ انفجر الشاب الضائع صائحًا، أحس بأني قذر، هذا ما أحس به، نظيف أنا مع ذلك، كالخنزير أحس بأني قذر، بماذا يحس الآخرون الذين يغرقون في القذى والقذارة؟ كل هؤلاء القتلة هم لا يحسون بأنفسهم، هم يحسون بحرية أسلحتهم، وجمال طلقاتهم، بفرح الموت الذي يصنعونه، هم يحسون بمرح العالم.
من قلب المعركة، انبثق حشد فوضوي من كلاب تنبح، وترسل همرة من الكلام والشتائم، فيسيل من بين أنيابها اللعاب. كان يبدو عليها أنها تريد المشاركة على طريقتها في القتال، ولا تدري أنها تعيق القتال، وأن المتحاربين سيضطرون إلى قتلها. حضر في أعقابها شاب أسود، أخذ يناديها، ويحاول جمعها، وهي لا تسمع له، تواصل النباح، وكما وضح من عنادها، الاحتجاج على ما يجري لا المشاركة فيه، مما أطرب هاملت. أخذ ينبح مثلها، ويرسل همرة من الكلام والشتائم، ومن بين أنيابه يسيل اللعاب، حتى اللحظة التي اخترقت أجساد الحيوانات المتمردة طلقات من كل صوب بما فيها طلقات هوراتيو.
- توقف، أيها المجرم! صاح هاملت، توقف عن قتل إخوتي، إنهم بمصداقية ملائكتك، أيها السفاح!
- لن تنجح معي، يا سيدي وصديقي، رمى هوراتيو، وهو يداوم على الجندلة، سأبقى فشلك الدائم، أنا الحيوان القادم من أحشاء الظلام الإفريقيّ.
- وهو؟ ذاك الشاب الأكثر غباء من قمر ساكرامنتو؟ هلا حافظت على رأسه؟
- سيكون واحدًا زنجيًا أقل، فتبكيه الأقمار السوداء معي.
- ستضحك الزَّنجية عليك، الطبيعة.
- فلتضحك، آه! كم أريدها أن تضحك. أنا لا أضحك على الإطلاق، وهي، أريدها أن تضحك.
وأخذ هوراتيو يضحك.
- اخرس، أيها الرجل الأسود!
- دعني أضحك لأتذكر أني يتيم أبي وأمي، دعني أضحك لأدرك أني عشيق سيدي وصديقي، دعني أقهقه لأهلك مع الهالكين.
- الرائحات أكثر من الجائيات، فلتخرس!
- سأخرس، لكن في هذه اللحظة الحاسمة الزَّنجية لن تخرس. "سأبعص" إلى هذا الشاب الأكثر غباء من قمر ساكرامنتو برصاصة في بوزه، وأضع حدًا لحلمه.
- المذنبون الملاعين المتروكون لا يحلمون، بالنسبة لهم لا شيء سيتغير، الكلمات تحلم عنهم، وتأمل في أتعس لحظات حياتهم، تدغدغ الأقلام التي لا ينفد مدادها أبدًا.

* * *

قطع كلوديوس الممر الطويل، والطلقات لا تتوقف من كل نواحي البيت الكبير. كان يحدّث نفسه قائلاً بصوت عال: لو فجرت القمر، الأرض تبقى، ولو فجرت الشمس، الأرض والقمر يزولان! كان يقصد بالقمر بولونيوس، وبالأرض الهنود، وبالشمس أخاه هانس. سيقتل هانس، ولا بأس أن يقوض العالم، سيعلي عالمه. كان لا يشك في ذلك. سيخلق عالمًا كالله في ستة أيام، ويجعل من اليقين طريقه. العظمة التي هي هانس ستغدو معيارًا للماضي، الشرف، المروءة، الرزانة، الحكمة، العهد، الوفاء بالعهد، الجمود الألفي للعقل، الجمود الألفي للبطن، الجمود الألفي للجسد، للوطن، للدانمرك، الصورة الراسخة، الكمية الثابتة، القضية المقلوبة، إرادات الآلهة التي لا تعرف الكتابة، ولا القراءة، ولا الكلام. سيتكلم بيديه، بقدميه، بعينيه، بحاجبيه، بجبينه، برأسه، بشعره، بكل عضلة من عضلات جسده، ويجعل من حركاته شكل القياس لحركات كل الأقوياء في العالم. الكاميرات والصحف والأضواء، ستجعل منه شمس زمانه، ومن الزمانِ المحيطَ لأحلامه، أحلام لن يسعها الكونُ بأسره، وسيخلُدُ في ضمير البشر.
دخل كلوديوس مكتب السنيّ هانس كييركغارد المطلق ناره من إحدى النوافذ، فبادره هذا أول ما رآه بطلب:
- تعال إلى عوني، يا كلوديوس، وحدي لا أستطيع ردهم.
لكنه تقدم من أخيه، وهذا كله اطمئنان إليه، وقتله بطلقة في ظهره. تأكد من مصرع الشمس، كجبل من الجثث، كنهر من الزواحف، كبحر من القروش، كصحارى من السيوف، كسماء من المخلفات، كسراب من الكتب المقدسة، كمرآة يسكن فيها الجن والإنس، ككتاب مفتوح لن يقرأه أحد، كلوحة مغلقة على ملحمة انتهت، وبدأ يتأمل بعين الاشتهاء والطمع رسم أخيه المعلق في إطار ضخم على الجدار، ويرى بعين الله رسمه. راح يحلم أحلامًا ليست على مستوى الإنسان، راح يحلم بنفسه على الهند ملكا، وبالبيت الكبير تاج محل لجيرترود، وبأمريكا الدنيا. راح يحلم أحلام العباقرة والمجانين، أحلام الساعين إلى الفتك بإنسانيتهم من أجل سعادة الإنسانية أو على حساب سعادتها، فالأمر ليس مهمًا، وتحت وطأة شرط اللحظة المهول، لم يكن الأمر مطروحًا. كان الحلم، كان الوهم، كان الهاجس. رائع حقًا هو الهاجس، لأنه مُرَوِّع، كالجريمة رائع، كالتوت الأخويّ، كالأفق الرماديّ، كالغد الأخضر. يكون الغد أخضر بعد كل جريمة، حتى ولو كان أسود، حتى ولو كان أزرق، حتى ولو كان دمويًا بلون الياسمين. ستتعلم الكلاب النباح بوجه آخر، وسترقى النجوم على سلالم الفضاء بخلاف ما تفعل مذ كانت النجوم، وستقرص القلوب عقارب أخرى غير عقارب الحزن، لمتعة الحزن، وقد غدا الحزن قوسًا في دائرة النفوس. هكذا لن يكون الفرح خفيفًا، والتعاسة لن تغدو ثقيلة. نظر كلوديوس مرة أخرى إلى جثة أخيه، وأرسل نفسًا مديدًا في نفس الوقت الذي أطلقت جيرترود فيه من الطابق العلوي صرخة حادة، فخف الصعود إليها، كالكوندور الذي شرب من النافورة إكسير الحياة، كالقيّوط الذي عض من الطريدة قلب السموّ، كالغبيراء التي جعلت من الأوهيو مَضْجَعَ الهوى. كم كانت الجريمة فاتنة في تلك اللحظة، خالقة، خلاقة، خفاقة، مبدعة، محولة، مصممة، رواقية، بطولية، لاألمية، لحظة أراد المحارب الهندي فيها زرع رمحه في صدر حبيبة الزمن الوفيّ، فأرداه قتيلاً ليردي الخداع، ويدفع عن نفسه تهمة عدم الوفاء. جاءت صاحبة المقام الرفيع، في ثوب الدانتيل الأحمر، ترتمي بين ذراعي أخي زوجها باكية شاكية، وعبرت عن شكرها وامتنانها بقبلة طويلة من ثغره. وبدوره، وصل هاملت بعد سماعه هو الآخر لصرخة العبث المنبثقة من تاج محل الخير والشر، ورأى أمه، تحت رسم له طفلاً، وهي تعانق عمه.









القسم الثاني

كانت الزنابقُ في مَضْرِب الهنود الحمر تبكي الزنابقَ، فلا عينٌ هناك تذرف الدمع عليها، وكانت بقعُ أزهارِ البَبْرِ تُشْبَعُ بلون العقيق، فيزداد جمالها على جمال، وتُعمى الجبال لجمالها. أظلم النهار على أكف الموج، فارتدى نهرا ساكرامنتو والأَمِرِيكان ريفر شِفَّ الدُّجى. البراكين التي لم تَصْحُ، تعالى دخانها، والأشجار التي لم تَعْدُ، تداعت قاماتها، والصخور التي لم تَحْبُ، رزحت تحت أعبائها، والروابي التي لم تَشْدُ، حارت في أمرها، والذِّئْبَات التي لم تَلْغُ، غَمَضَت لغتها، والغيمات التي لم تَنْبُ، ثقلت أمطارها، والسماوات التي لم تَبْدُ، عتمت أقواسها، والآلهة التي لم تَغْفُ، اغتمضت أعينها، والملائكة التي لم تُفَضّ بكارتها، لا تُفَضُّ، أطلقت للشياطين الحَبْل على الغارب، كيلا تقطعَ الأملَ فيما تصبو إليه، يائس أملها، والأرواح التي لم تَرْجُ، ولم تَسَلْ لِمَ، امحت أفواهها، والأشباح التي لم تَأْلُ، غدت رمادا، والكلاب التي لم تَعْوِ مع الذئاب، ولم تَجْثُ مع الثعالب، هامت في كل واد، والحوافر التي لم تَعْدُ، ازدردتها المستنقعات، والرماح التي لم تَغْلُ، أحجمت البطون عن اختراقها لها، والسهام التي لم تَرْبُ في النعمةِ، هدهدتها النهود، والطبول التي قالت للعالم ما أقبح العالم، ولم تقل للعقول ما أحلى العقول، لم تَسْنُ ومضًا في الوادي الكبير، والمناقير التي تَفَتّح النرجس عليها، لم تَذُبْ ذوبان الماء في المرايا، لم تَطِرْ، لم تُبْحِرْ، لم تَرْسُ في ميناء الذات، والمخالب التي رَقّت على بطن أهوج، لم تَحْدُ بها الشهوات، والأنياب التي آثرت أعناق الشُّحْرِيَّات، لم تَسْمُ من قبورها ليلاً لتمتص دماء الغافين، والتوت الذي كان كاليفورنيا لنابليون، لم يَحْلُ على شفة الدولار، والدعسات التي قالت للأقدام أنت مملكتي، لم تَغْفُ بين أسنان البحر، واللمسات التي وثقت بالرياح، لم تَفْلُ فِلْوَ العواصف، والقبلات التي سعت على الأفخاذ إلى هلاكها، لم تَرْجُ الشلالات، والأحلام التي كانت أحذيةً، لم تَعْلُ الرؤوس، والأماني التي عرفت الطريق إلى الحلمات، لم تَلْهُ مع السكاكين، والأوهام التي أزهرت في حدائق النفوس، لم تَنْحُ نحو القلوب، والآهات التي جعلت لونها الشحوب، لم تَكْبُ كبو الجواد، والتنهدات التي انبثقت من عَكَرِ النهود، لم تَصْفُ ما تحت الشعور، والأنفاس التي شربت من الهواء أعذبه، لم تَنْجُ من أحابيل البيئة...
كان ذلك لاجتنابِ ضررٍ ليس في الحسبان، وكما أضاع أحدهم صراخه سدى: "ليس الخطر ما نرى وإنما ما لا نرى!"، فليكن الجحيم.

* * *

قرعت أجراس الكنيسة، وهم يُخْرِجون جثمان السنيّ هانس كييركغارد، إلى عربة سوداء، وحشد من المشيعين يتبع صاحبة المقام الرفيع جيرترود التي تعتمد على ذراع كلوديوس، شقيق المرحوم زوجها. كم كانت مشعة في ثياب الحزن، السيدة كييركغارد! كم كانت مشتهاة، وهي تُنَشِّفُ بمنديلها الدمعات السائبة على خدها! كم كانت أبعد ما يكون عن الموت، والموت أبعد ما يكون عن مملكة الدانمرك! كم كان الحزن فَرِحًا! كم كان راعي البقر دَمِثًا! كم كان القبر أَنِسًا! كم كان ديونيسيوس شاربًا وممثلاً ! كم كان هرمس بطلاً ولصًا! كم كان أبولو باهرًا وشاعرًا! كانت كل شيء يتحول، إرادة الذهب كانت، للنويسات إمتاع العين، الأوباشُ منها والأشراف، وللحيوانات ارتواء اللسان، اللواحمُ منها والصُّهْبُ. ومن حولها كانت تثير أهواء الآلهة، وتبًا لعابديها إن هم رؤوا فيها أنفسهم عرايا في فراشها! وكانت تثير أحقاد الناس، لأنهم ليسوا موتاها، وهذا ليس حدادها عليهم، وهذا ليس حزنها لأجلهم، وهذا ليس دمعها الذي كانوا سببه كي تمتد أياديهم من قبورهم لتمسحه لها. كانت جيرترود، وهي في ثيابها السوداء صورتها عارية في الظلام، جسدها الأبيض، شلال الموت، عُقاب الوقت، لحن الخلود، كانت الوهم الحقيقي عندما ينام المرء وحده في الفراش، والحقيقة الوهمية عندما يصحو في الصباح ولا يجد أحدًا معه. كانت جيرترود، يكفي أن يقول المرء كانت جيرترود.
في المقبرة، أنشد القِسُّ قبل ذهاب الفقيد إلى دار الخلد:

"عندما لم أعد هنا، أطلقوني
اتركوني أرحل
لدي الكثير مما أفعل وأرى
لا تبكوا وأنتم تفكرون فيّ
للسنوات الجميلة كونوا شاكرين
لقد منحتكم صداقتي
احزروا فقط احزروا
السعادة التي حبوتموني إياها.
أشكركم للحب الذي أبداه لي كل واحد منكم
الآن حان الوقت لأرحل وحدي
ستحزنون لفترة قصيرة
وستجيئكم الثقة بالراحة والمؤاساة
سنفترق لبعض الوقت
فاتركوا للذكريات تخفيف ألمكم
لست بعيدًا والحياة ستواصل الحياة...
إذا ما احتجتم إليّ نادوني أَجِئْ
حتى لو لم تستطيعوا رؤيتي أو لمسي، فسأكون هنا
وإذا ما استمعتم إلى قلوبكم، فستشعرون جليًا
برقة الحب الذي سأجلبه معي
وعندما يحين موعد رحيلكم
سأكون هنا لاستقبالكم
غائبًا عن جسدي حاضرًا مع الله"

آمين!

* * *

جرع هاملت من الويسكي الكأس تلو الكأس في الصالون، وهو لا يبدو عليه أنه عازم على التوقف. كان فريسة لِرَهَقٍ أقرب إلى قَطْلِ الأشجار، ولم يكن حزنه على أبيه الحزن المرافق له كل يوم، لم يكن ألمه ألماس الليل، كان حزنه الحزن، كان ألمه الألم، الكل أدرى بوجيعته، ووجيعته هو كانت النَّقص الطبيعي في جوهر الأشياء.
- أرجو أن تكون كأسك الأخيرة، يا سيد هاملت، جمجم البارمان، وهو يصب الويسكي في غاية الأدب.
- ما قبل الأخيرة، قذف ابن المتوفى هانس كييركغارد بتبرم.
- كما تشاء، يا سيد هاملت، عاد البارمان إلى الجمجمة في غاية الأدب، وبعد ذلك، سأطلب من أحدهم أن يرافقك.
- هل تريد أن أقول لك شيئًا، يا أوسريك؟ عاد هاملت يقذف، وهو يختلج في نفسه.
- على الرحب والسعة، يا سيد هاملت.
- لا تكن جِدَّ لطيفٍ معي! هذا الخراء الذي أشربه لا يعطيني من المتعة أقلها، متعتي ألا أشعر بأية متعة، وأنا لن أشعر بأية متعة في الخراء الذي أغطس فيه حتى شوشتي.
- إنه يوم دفن صاحب المقام الرفيع أبيك، وشخصيًا ما أردت سوى...
- أنت تضجرني، يا أوسريك! هب هاملت صائحًا، وهو يستشيط غضبًا. كل محيط الخراء هذا الذي أغطس فيه، ولا تراه، يا ذا البصر الحسير! العدوّ أمامي والبحر ورائي، وأنا لا خيار لي غير الذهاب إلى الموت بمحض إرادتي.
- إلى الموت، يا سيد هاملت؟ ما هذه الأفكار السوداء؟ أنا أفهم حزنك على صاحب المقام الرفيع والدك، ولكن أن تريد الذهاب إلى الموت بمحض إرادتك!
- وماذا تراني أفعل بهذا الخراء؟ لن أنعم بحلاوته كما ينبغي إلا إذا نعمت بحلاوته إلى حد مشاركة هاديس في فرحه!
- سأرسل أحدهم إلى عمك في الحال، يا سيد هاملت، لا أريدك أن ترتكب أقل حماقة عندي في الصالون.
- الحماقة التي سأرتكبها ليس الآن، يا أوسريك، فاطمئن.
حمل كأسه، واقترب بقبعته المائلة وشعره المنكوش من عازف البيانو.
- لماذا لا تعزف؟ سأل هاملت عازف البيانو، في الكنيسة يعزفون على الأرغن ليشنفوا آذان الموتى، وأنت لا تعزف لتشنف آذان الخارجين على القانون!
- أرجو المعذرة، يا سيد هاملت، جمجم عازف البيانو في غاية الأدب.
- إذن اعزف، أيها المُرائي!
- مُراءٍ أنا!
- عَبِّر عن ألمك بالعزف إذا كنت صادقًا، فلا كلمات للألم، للألم نوتات على إيقاعها ترقص النفوس المعذبة.
- صدقت، يا سيد هاملت.
- الحياة رقيقة الحواشي، ابنة كلب!
ذهب عازف البيانو بعينيه إلى أوسريك البارمان، فحرك هذا رأسه علامة الموافقة. سمع كل من كان في الصالون موسيقى ناعمة لم تَرِقْ للحزين هاملت، ولم تدغدغ حزنه. أخذ مجلسًا إلى جانب العازف، وراح يضرب على الأصابع العاجية ضربات قوية جذبت إليها بعض عاهرات المكان، من كل مكان، ومن كل الألوان، بيضاء وسوداء وهندية، رحن يضحكن ويرتججن ويغنجن، فعمت الجلبة كل زوايا الصالون: اللاعب يلعب بحرارة، والشارب يشرب بمرح، والراقص يرقص دون رياء. عاد الكل إلى طبيعته، ما عدا البارمان أوسريك، وهو يعبس، ويتصنع الحزن، إلى أن راح هو الآخر يشارك في أوركسترا الحياة. جرع كأسًا، وابتسم لما رأى هاملت يقوم ليرقص، ويحتضن، ويقبّل، ويهمس: "خذيني زوجًا، يا أوفيليا! هذا الجرذ سيكون وفيًا، يا أوفيليا! لن أجعل من سان فرانسيسكو عاهرة، يا أوفيليا! ولا من لوس أنجلس مشخخة، يا أوفيليا! ولا من ساكرامنتو غير ساكرامنتو التي يضاجعها كلوديوس، يا أوفيليا! سألذك كماخور، يا أوفيليا، ولن أكون فيك كالآخر الذي فيّ خراء!" في تلك اللحظة، كان هاملت غير هاملت، كان يطل من خارج كل الشهوات الطبيعية، بسعادة ما شابتها شائبة.
في ثياب الحداد، حاولت أوفيليا ألا تدوس بقدمها الهنود المُغَرَّبين المترامين هنا وهناك، ودفعت باب الصالون، فظهر القمر في سماء الفوضى والدخان بوجه شديد الشحوب. تقدمت من هاملت بخطوات عازمة، وعلى مرآها، أخذ عالم الجريمة والرذيلة يسقط في الصمت شيئًا فشيئًا. جذبت هاملت من ذراعه، وخرجت به، وهاملت يبدو عليه أنه تحمل الإزعاج دون تذمر. ربط مطيته بعربتها ذات الحصان، وركب إلى جانبها. وهما على وشك الذهاب، سمعا طلقة، فَجّرت رأس أحدهم، أو قلبه، أو أحشاءه، تبعتها صرخة، والناس من حولهما، تطايروا شَعَاعا.

* * *

احتل كلوديوس مكتب أخيه، وهو في ثياب الحداد. كان يبتسم لكل شيء فيه، للكرسي، للطاولة، للستارة، لرأس الثور، للسرج، للبردعة، للريشة، للمِحْبَرة، للسجادة، للسقف، للسماء، كان كل هذا يفعل فيه فعل السحر، وكل هذا كان يبعث في نفسه الشعور بأنه الساحر، سيد الرُّقى، وأبو الثعابين. الحيازة تساوي الملكية في مملكة دون ملك! أخذ يلهث، وكأنه يمارس الفعل التناسلي مع امرأة، تدلى لسانه، وسقط برأسه على صدره. أوه! جيرترود، همهم. مد ذراعيه، ليجمع العالم. كانت متعته أكبر من المتعة، فبدا العالم أقل اتساعًا من امتداد ذراعيه. تباعدت رغباته أقل مما كانت رغباته، وتدانت مواضيع هذه الرغبات أكثر مما كانت المواضيع، فتعادلت مباهج العقل وملذات الجسد. كان حرًا كالنحل في حديقة لا زهرة واحدة فيها، فالحرية أن تمتلك ما ليس موجودًا، ما ليس لك، ما سيقول لك عقلك بوجوده، ما ستمتلكه، فَلَذَّةُ الجسد أن تمتلك. أخذ رأس الثور بين ذراعيه، وهمهم من جديد: أوه! جيرترود. قَبَّلَهُ بحرارة، وأدخل فيه رأسه. كان عليه أن يخوض غمار معارك عديدة، وينتصر فيها، في الشرق وفي الغرب، في الشمال وفي الجنوب، في كل أمريكا، في كل القارة، في كل القارتين، في كل القارات. ضرب بسنابكه الأرض، وراح يعدو من مكان إلى آخر، وهو يجأر من حين إلى آخر، وعلى سماع صوته، كان يرفع رأسه المدفون في رأس الثور عاليًا، ويحركه حركات الراضي الرضيّ، فكل ما يفعل سيكون له نصرًا كوكبيًا، كل ما يفعل سيكون له حقًا طبيعيًا، كل ما يفعل سيكون بإرادة صاحب العرائس الذي جعل من كل واحد فينا بيدقًا أبديًا. لنضاجع الظلال، أيها الثور، على بطن الحبيبة! لنأخذها بشفتيها! لنربطها بجديلتيها! نعم، لنربطها بجديلتيها! أوه! جيرترود.
وهو في ذروة الانتشاء، دخل عليه بولونيوس، وبيده ملف اليونيون باسيفيك ريلرود.
- مات العظيم هانس، بدأ بولونيوس كلامه، فهل تموت السكة الحديدية معه؟ لن تموت، يا سيدي، فالحديد لا يموت، وسؤالي للنفي والتوكيد.
- ألم تزل تحتفظ به؟ سأل كلوديوس، وهو يخلع رأس الثور، ويضعه جانبًا.
- هذا الملف؟ ستلتهمه النيران بعدة ثوان، فلا يكن بك هم.
- ما يشغل بالي شيء آخر.
- هاملت.
- ما يشغل بالي أمر زواجي من جيرترود.
- اليوم دفنا أخاك، يا سيدي.
- أقبلت بشغف زائد على إنهاء ذلك في أسرع وقت.
- جيرترود منذ اليوم زوجتك دون زواج.
- تنسى هاملت.
- هاملت سينسى.
- سأعمل على أن ينسى.
- سأرسله إليك.
- أريد أن يتم كل شيء رسميًا: تتويجي على مملكة الدانمرك، زواجي من جيرترود، امتلاكي لليونيون باسيفيك ريلرود.
- بالتأكيد! ساكرامنتو لك في أي وقت تشاء، وجيرترود لك مع تمام الأربعين يوم حداد، واليونيون باسيفيك ريلرود لك هذا المساء. يكفي أن توقع على نسخة جديدة من هذا العَقد ليذهب به رينالدو إلى الحكومة الفدرالية.
- تقول أربعين يومًا!
- يكون رينالدو قد عاد لك بالشرعية.
- لا تتلفظ بحماقات!
- أعوذ بالله!
- بئس الرجل، أيها الرجل الأبيض!
- الريح تُميل السفينة.
- أنا الريح!
- لِنُلِحّ على هذا القول.
- أي قول واسمي على كل الشفاه؟
- كل ما في الأمر أنني لا أنسى الصعوبات.
- انسها، هذه الصعوبات، آمرك بنسيانها!
- نسيتها، يا سيدي. سأنفذ أوامرك ويداي على رأسي، وقت زواجك، وكل وقتنا، فنحن دقات في ساعتك، حركة العقرب التي أبدًا لا تتوقف، وحركة الجسد في السديم. الحيازة هي زوال الحيازة! الاغتصاب ليسه! الاعتداء ليسه! الإكراه ليسه! كيف نسمي الاغتصاب اغتصابًا، وقد وهبناك البدن؟ والاعتداء اعتداءً، وقد جعلنا لك من نسائنا معارك نصرناك فيها؟ والإكراه إكراهًا، وقد غدا الإكراه على يديك الإقرار بالإكراه؟
حك بولونيوس عود ثقاب، وهو يرتعش كالورقة في مهب الريح، وأحرق العَقد القديم الخاص بالسكة الحديدية.

* * *

صاح هاملت بأوفيليا تحت ضغط فكي اكتئابه عليه:
- فاجأتِ كل الرواد بدخولك في الصالون، فمن تظنين نفسك؟ أختي، أمي، ابنتي، زوجتي، قحبتي؟ قولي إنك قحبة هذا الجرذ الذي لم يكفِكِ أن يكون قرنان له!
- جرذ أنت، يا هاملت! احتجت أوفيليا. أين ذهب قَدْرُكَ؟
- مع الأمواج! ألقى هاملت. آه! كم هي ثقيلة، الأمواج، كم رائحتها كريهة. إنه ذنب قَدْري، فأنا لم أحسن الحفاظ عليه. أقبل تعازيك، يا أوفيليا! هاملت يقبل تعازيك، أليس هذا ما جئت من أجله؟ لا بأس أن تطحنيه احتقارًا أمام أعين كل من هم في الصالون، فهو لا يخسر فقط قَدْره، هو يخسر كل شيء.
- معذرة! همهمت أوفيليا، لم أكن أريد سوى تخفيف حزنك وألمك.
- كيف تكون للطيور السوداء قوة التخفيف من مصائبنا؟
- طائر أسود أنا! احتجت ابنة بولونيوس، ثوبي هذا لحدادي على إنسان كنت أحبه كما أحب والدي.
- وأنا؟ وأنا؟
- وأنت، وأنت.
- ألم أكن أحبه أنا؟
- ألهذا كنتَ تريد أن تثمل؟
- كأسي ثوب حدادي.
- سأخلع ثوب الحداد من أجلك، وأترع معك الكأس تلو الكأس.
- كيف تجرؤين؟ صاح هاملت بأقصى قوة، وهو على وشك الانهيار.
- أفهم كل هذا الألم، كل هذا الحَنَق.
- أنت لا تفهمين!
- أدرك كل هذا الرعب، كل هذا الذعر.
- أنت لا تدركين!
- أعلم كل هذا الجهل، كل هذا الحمق.
- أنت لا تعلمين.
- فلتكن إذن كئيب الفؤاد!
- كقاتل لم يَقْتُل، هذا ما أسعى لتحقيقه هدفًا.
- سأذهب.
لكنه جذبها: تعالي هنا، يا شجرة!
- دعني أذهب.
- ليس قبل أن ألوثك، خراء! سنخلع الكأس، ونشرب الثوب! ليس قبل أن أخفف قليلاً عني، فأنا مثقل بالذنب.
- ماذا أنت بفاعل، يا هاملت؟
- ليس أكثر من اغتصابك! في المرة الماضية اغتصبت أوفيليا هاملت، وهذه المرة يغتصب هاملت أوفيليا!
- هاملت، لا تكن الذئب الذي فيك!
سعت إلى تخليص نفسها، فمزق ثوبها، ورماها تحته.
- لا، يا هاملت، أنت تسيء إليّ السوء الأقصى لامرأة يساء إليها.
- هذا ما أسعى إليه.
- هذا الفعل لن يخفف شيئًا مما أنت فيه، سيزيدك هذا الفعل ألمًا على ألم، وحزنًا على حزن، ولن تقول بعد اليوم أنا ابن العظيم هانس، أنا ابن المرحوم ملك الدانمرك، أنا وريث الإنسانية!
- العظيم هانس، من هو؟ المرحوم ملك الدانمرك، من هو؟ الإنسانية، ما هي؟ كل هذا ليس غير هذا: الحفر في الفضاء، النقش في النار، النحت في الريح! من أنت، يا هاملت؟ هل يتهاوى هاملت كما تتهاوى الجبال؟ منذ متى تهزم الرياح الأعاصير؟ كيف تبزغ الشموس على رؤوس السنابل؟
أحست بلذتها تتلاشى قبل أن تبدأ لذتها، وهو فوقها يتراخى قبل أن يتراخى، ويتداعى قبل أن يتداعى.
- ما بك، يا هاملت؟ سألت أوفيليا خوفًا عليه، وهي تجذبه إلى صدرها.
- وتسألين ما بي! أنا المتعدد الألوان، المتعدد الأشكال، المتعدد المعاني!
دفعها، وراح يحملق كالضائع، وينظر بين قدميه كمن يبحث عن شيء.
- أين أنت، يا أوفيليا؟ انظري إلى هاملت كيف أضاع هاملت! كل هذا النمل هو هاملت! النمل يزحف، ويذهب في كل الاتجاهات. إلى أين أنت ذاهب، يا هاملت؟ أُحِسُّ بالاختناق! النمل يخنقني دون أن يعلم أنني النمل! هاملت يخنقه النمل! هاملت يخنق هاملت! اللحن الحر! النمل يعزف! ما أجمل موسيقى النمل! هل تسمعين، يا أوفيليا؟ كل هذه الموسيقى من أجلك! الموسيقى! كل هذه الموسيقى! في دماغي! كل هذه الموسيقى في دماغي، في كِياني، في جُوّاي! كل هذه الموسيقى!
أغمض هاملت عينيه، وأغفى.
- كل هذه الموسيقى! عاد يهمهم، وعيناه مغمضتان. هل هذا هو صوتك، يا أبي؟ كل هذه الموسيقى! كل هذه الموسيقى! ردد، وهو يبتسم مغمض العينين.
فجأة: كل هذا الخراء!
ونهض ليأخذ أقرب شجرة بين ذراعيه، ويجامعها، ويضربها، ويلعنها:
- تبًا لك، يا أبي!
- ما بِكَ، يا هاملت، يا دين الرب؟ ما بِكِ، يا الأعصاب الملتهبة؟
وضع أذنه على جذع الشجرة.
- الأشجار تتكلم لأن فيها أرواح الهنود، وأنتَ، أين روحك، يا أبي؟ همس هاملت. أفي مسدس ترقد روحك أم في ماخور؟ تبًا لك، يا أبي، لأنك لم تستطع الدفاع عني! لأنك لم تعمل على حمايتي! لأنك تخليت عن هاملت الذي لك!
وصاح بأعلى صوته:
- استعِدِ العِنَّةَ التي تركتَهَا لي ميراثًا، يا ماخور الخراء!
امتطى حصانه، وراح يعدو كملك من ملوك الشياطين. ومن ورائه، ترك أوفيليا تبكي كأمة من أمم الملائكة.

* * *

- كلوديوس، أوه! كلوديوس، ابتهلت جيرترود، وهي في ثوب الحداد، أول ما رأت المتوج القادم يدخل شقتها الفاخرة، وترامت في ذراعيه.
- وأنا أراك على هذه الحال، يا جيرترود، كل حروف التعجب لا تكفي، همس كلوديوس في أذنها.
- الحمد لله الذي ترك لي كلوديوس بعد هانس.
- أحبك من كل قلبي، يا جيرترود.
- الحمد لله الذي عوضني عن حب هانس بحب كلوديوس.
- أموت من أجلك، يا جيرترود.
- الحمد لله الذي حماني بيد عدله اليسرى بعد يد عدله اليمنى.
ترامت جيرترود على قدمي كلوديوس، فهبط إلى مستواها، وقبلها بعنف جعلهما ينامان أرضًا.
- سأحبك حبين، يا جيرترود، همس المتوج القادم، وهو ينوش شفتيها بأطراف أصابعه، حب هانس وحب كلوديوس، وسأمتعك متعتين، وسأعطيك عمرين، وسأهديك سلطتين، وسأسقيك كأسين، وسأطعمك كل ما على هذه الأرض من مريء وهنيء.
- سيرضى عنك هانس كما ترضى الأفلاك عن النجوم.
- هذا كل ما أسعى إليه، أن يرضى عني هانس، كي أقول لقاتله أيها الخسيس! كلوديوس سينتقم منك على طريقته أشد انتقام.
- أيها الوفيّ، يا كلوديوس! أيها الغالي على قلب جيرترود! أيها الحبيب بعد الحبيب أو قبله!
انقضت على فمه، وقضمت لسانه، فعوى من اللذة.

* * *

- مات أبوك، يا هاملت، بدأ لائِرتس الكلام، ولم نكن السبب، فلماذا تسعى لإلحاق الأذى بنا؟
- لأني لا أعرف قاتل أبي، همهم الشاب المعذب.
- هنديٌّ قاتل أبيك، فأرح نفسك، وأرحنا.
- لو لم تكن الطلقة في ظهره.
- هل أكون؟
- كل واحد منكم متهم.
- هلا أكون؟
- كل واحد منكم متهم.
- كأبناء الراعي.
- الراعي كان أبي، ولم تكونوا كلكم أبناءه.
- أوفيليا كان أبوك يحبها كابنته.
- وأنت أيضًا كان أبي يحبك كابنه.
- لكني بريء، بماذا أحلف لك؟ بريء ونظيف.
- لا شيء نظيف بعد مصرع أبي، النظافة قذارة، والقذارة أنظف شيء في الوجود، الأحلام قذارة، والأماني قذارة، والحب، والشرف، والمشيئة، كالمجد، والعلياء، والفخار، قذارة، قذارة، والندم، والحسرة، والتوبة، قذارة، قذارة، قذارة! كنست الآلهة العالم، وألقت بالقذارة في الدانمرك، لهذا انتشرت رائحة العفن في كل أرجاء المملكة.
- الأصدقاء كالأعداء كانوا يقدِّرون أباك.
- هل تشم رائحة العفن؟
- كتفي المكلوم.
- كتفك، كلك، أنت العفن، يا لائِرتس، قاتل أبي المغدور.
- لن أدعه يثيرني، هذا الوغد، هسَّ لائِرتس لنفسه، لن أدغدغ شهوة العقاب لديه، لن أجعله يحقد عليّ، سأجعله يشعر بالصغارة.
- ماذا تقول؟ ماذا تهمهم؟ ماذا تتهته؟ هل هي الحمى؟
- الشجاعة. في الحرب الأهلية، الشجاعة أم الروع؟ الشجاعة. دافعي الشجاعة ودافعك الروع! بدافع الشجاعة هذا الجرح.
- قسمًا! أنا على استعداد لأفقد حياتي من أجل تفاحة قُتلت غدرًا.
- لن أدعه يثيرني، هذا الوغد، عاد لائِرتس يهسّ في عبه، يقول تفاحة، ولا يقول أبي.
- ماذا تقول؟
- دافعي الشجاعة ودافعك الروع، تلك طبيعتي وهذه طبيعتك، لهذا كان عليك سهلاً اتهامي بقتل رجل كنت أحبه كما أحب أبي. كل شيء تقوم بفعله، دافعه الروع. كل شيء، حبك لأختي، حبك لي، حبك لأمك، حبك للهنود الحمر، حبك للزنوج، حبك لحبك، كل شيء، كل شيء، دافعه الروع. روعك قوة روحك، أما أنا، فقوة روحي الشجاعة، الإقدام، المخاطرة، أنا المجد، يا هاملت، وأنت الروع.
- المجد، المجد، المجد! الجبن مجد!
- في ساكرامنتو المجد مجد، والشجاعة الشجاعة.
- أحتقر اثنيهما، الكرم والإقدام.
- احتقر ولا تُهِن، اشدُدْ ولا تكابر.
- قسمًا! أنا على استعداد لأفقد رجولتي من أجل نحلة اغتُصبت عنوة.
- لا، لن أدعه يثيرني، لن أدعه يثيرني.
- قسمًا! أنا على استعداد لأفقد ثروتي من أجل فرس أُجبرت على النوم مع بيْسون.
- ممن تهرب، يا هاملت؟ مم تتهرب؟
- أواجه! أتواجه!
- عند الشك تنتهي المسئولية.
- بل تبدأ، يا هوراتيو.
- يا لائِرتس.
- يا لائِرتس.
- ما أعظمها من مسئولية تجعلك تخبط خبط عشواء!
أخذ لائِرتس يلهث، ويرعش، ويتوسل، ودمعه يلعب على خده لعبه على الكلام:
- لا غضبي عليك يجتاح روحي بعد أن مارستَ على روحي أقسى أذى باتهامي، فهل تنسى حبي، يا هاملت؟ لا تنسه! لا تتركه ترك الكره للكره، فيغدو الكره حقلاً من التين الشوكيّ. اقطع ما بينك وبين أوفيليا، ولا تقطع ما بينك وبيني، فتكون نهايتي.

* * *

بعد فعل الحب، وهما عاريان في الفراش، قالت جيرترود لكلوديوس:
- النواهي، هل تفكر في النواهي؟
- آبى أن أفكر فيها، رد المتوج القادم.
- ها أنا أهبك نفسي دون زواج.
- يطاردني ثوب حدادك، فلا يهدأ لي بال.
- وهل سأخلعه في ظنك يوم العرس إذا ما لم يطلع القمر بعد الأربعين يوم حداد؟
- سيكون الابتهاج في غير موضعه، أعرف.
- ليس فقط الابتهاج، كل شيء، سيكون كل شيء في غير موضعه.
- كل شيء، هذا صحيح، سوى شيء، حبي لك وإخلاصي لأخي. أريد تعجيل كل شيء ليرضى عني، ويرتاح في مثواه.
- أيها الطيب القلب، يا كلوديوس!
- وليتم كل شيء كما شاء دومًا وتمنى بخصوص حملي العبء عنه.
- أيها النافذ البصر، يا كلوديوس!
- زواجنا يعني أني المتوج الجديد بالفعل.
عانقته، وهو يقول:
- تلاقي الأحداث هي هذا، ما تفرضه الأحداث.
- لو لم يمت هانس لما قبلت الزواج بك.
- لو لم تقبلي الزواج بي لما طلبت إتمام ذلك في أسرع وقت.
- ماذا سيقول هاملت؟
- هذا لا يخصه.
لم يتركها تماحك.
- على طول الخط.
لم يتركها تماحك.
- ولن نعترف بخطيئتنا.
أخرسها بقبلة طويلة.

* * *

- كيف سأدافع عن صاحب المقام الرفيع أبيك، يا سيدي وصديقي، وأبوك كان في عيني جيشًا قويًا من المقاتلين الوحدويين؟ قال هوراتيو لهاملت، حصنًا منيعًا لساكرامنتو؟ حدودًا لكاليفورنيا لا يمسسها حتى الجن؟ أنا العبد الحقير، كيف؟ هل يمكن لواحد مثلي حماية العواصف، الزلازل، البراكين؟ من المحيط إلى المحيط كان ظل صاحب المقام الرفيع أبيك يمتد، ومن كندا إلى المكسيك، كان مركز الكون، وأنا كنت حشرة تافهة لا شأن لها تعجز عن تسلق نعله.
- أعطاك الحرية، ومع الأسف عجزت عن التصرف بحرية، نبر هاملت.
- هاملت، يا سيدي وصديقي، وفر عليّ الشعور بالإثم. أنا الإثم! آثم أنا مذ قبل مجيئي إلى الوجود، وركّز حَنَقك على من يستحقه، لأني لا أستحق حَنَقك.
- بل كل حَنَقي أركزه عليك، وكل ألمي، وكل غضبي! هذا الخراء ما هو، هذا الماخور، أنا الإثم؟
- الغضب لله وحده، كما علمتنا سيدتي صاحبة المقام الرفيع جيرترود.
- وهل تعرف غضب الله هذه السيدة؟
- هاملت! هذه السيدة أمك التي من واجبك احترامها. أمي القميئة التي كانت لا تتجاوز بقامتها مستوى نعل أمك، كنت في حياتها أحترمها كما في مماتها، لأنها كانت أمي، فكيف لو كانت امرأة عظيمة كأمك؟
- الأمر لا يعنيني! قذف هاملت، وأمه تتبدى له في ثوب عاهرة من عاهرات الصالون، الصورة الذهنية المثالية التي يكوّنها عنها. احترامها أم غير احترامها، الأمر لا يعنيني! ما يعنيني تركك لأبي يموت قتلاً، من ظهره، يا هوراتيو، تركتهم يقتلونه غدرًا، تركتهم يشخون على حريتك، تركتهم يحاربون أبي بقضية حارب من أجلها طوال حياته، قضية حريتك. مات أبي، فغدوت من جديدٍ رقيقًا. ذهب إيمانك بالله عنك إلى الأبد، ولم يعد إيمانك مفتوحًا على كل الحقائق، كما علمتك صاحبة المقام الرفيع السيدة أمي، أيها الماخور! كن آثمًا، أيها الماخور! ولكن كن مخلصًا لسيدك، مت من أجله، وحُلْ دون موته. آه! ما أجملها من خراء، الحياة! أنا الإثم! أنا عدم الواجب، عدم الإخلاص، عدم الموت من أجل من أحب! عدم العدم! وإذا ما طرق الموت بابي، فماذا ستفعل للحيلولة دون دخوله، يا هوراتيو؟ الإخلاص قحبة! الصداقة قحبة! التضحية قحبة! أنت طبيعتك القحبة، في نهاية المطاف، السوداء، البلهاء، الليلية، الهمجية! طبيعتك الإفريقية القحبة! ستظل لك طبيعتك الإفريقية القحبة ابنة القحبة في الإذلال كما في الانعتاق!
- طبيعتي الإفريقية العابثة، يا سفالة الطبيعة! انعتاق قفاي! همهم هوراتيو، وانفجر باكيًا.
- لماذا تبكي، يا قحبة الرب؟
- ليس من طبيعتي الأذى.
- وأنا، هل من طبيعتي الخراء؟
- طبعًا لا، وأنا لهذا أبكي.
- يا للشيطان! كن رجلاً ولا تكن امرأة!
- أنا لا أحتمل أذاك، احتمل كل أذى، ولا أحتمل أذاك. كان عليّ أن أومن بالله، لولاه لما استطعت احتمال كل أذى، إلا أنه يتركني وحدي أمام أذاك. مع أذاك، لن تحكي الأنهار للبشر، لن تلهمهم السلام.
- يا للشيطان! كن جيشًا ولا تكن مستنقعًا!
- سأكون سلامًا لك ولي ولنا جميعًا.
- يا للشيطان! كن أمة من الذكور المنتصبة ولا تكن أمة من الإناث المنبسطة!
- عندئذ سيكون يوم القيامة، سنغدو كلنا عبيدًا.
- بل أحرارًا شهوانيين.
- أنا عبدك حرًا كنتُ أم غيرَ حر.
- أَنْتَنِي في مرآة الليل، أَنْتَنِي في جُوَّه الجسد.
- الله خلقنا على صورته، وهو يرى، وأنت لا ترى.
- هذه عيناي، يا لائِرتس.
- يا هوراتيو.
- يا هوراتيو.
- عيناك مفتوحتان لكنك أعمى، فالشك شك الأعمى لديك، أعمى لا يفرق بين أسود وأبيض، ويجعل من كليهما حقلاً للاتهام.
- الحرب ها هنا، بالشك أو بعدمه، وأنت في قلبها، بعد أن ترك أبي الحرب من ورائه، والأرواح خرجت من الأشجار، لتخوض من جديد غمار القتال، قتالك، وقتالي، قتالنا جميعًا من أجل الثأر.
- كف عن تعذيبي، يا هاملت! لم أدجل لك الأشياء يومًا، فحدثني كما تتحدث الأنهار إلى الناس موحية السلام، اجعلني أشعر بنفسي، هذه هي الحرية، بحريتي، وأن أتآخى مع الطبيعة، فالطبيعة كنيستي، اتركني آخذ قدمك، وأقبلها... (أخذ قدمه، وقبلها) وآخذ يدك، وأقبلها... (أخذ يده، وقبلها)، وآخذ ذراعك، وأقبلها... (أخذ ذراعه، وقبلها)، وآخذك من كتفك، ومن خدك، ومن ثغرك، فهذه هي خطيئتي التي لن يغفرها الله لي. أيها القويّ، أيها القادر على كل شيء، أيها القدير! هذا لأنه هاملت، ابنك، فهل أخطأتَ في ابنك؟ هذا لأنه هاملت، صليبك، فهل أخطأتَ في صليبك؟ هذا لأنه هاملت، إصبعك، فهل أخطأتَ في إصبعك؟
أبعده هاملت عنه، وهمهم:
- مَنْ كَثُرَ لَغَطُهُ كَثُرَ غَلَطُهُ.
غادره بعجلة، وما أن وجد نفسه وحيدًا، انفجر باكيًا كما لم ينفجر أحد في الكون، دموعه الينابيع، وأحزانه الشلالات.


* * *

طرق بولونيوس الباب على جيرترود وكلوديوس، فخرج هذا من المِغْطس تاركًا صاحبة المقام الرفيع وحدها في الرغوة، وصاح، وهو يرمي على جسده منشفة كبيرة:
- إذا كنتَ بولونيوس، فادخل!
دخل أبو لائِرتس وأوفيليا، واعتذر لما رأى سيده ملتفًا بالأبيض.
- لا بأس! أوقفه كلوديوس، عسى الله أن يكون الحدث الذي جئت من أجله على المستوى.
- إنه هاملت.
أشار كلوديوس إليه بخفض صوته، وبهدوء أغلق باب الحمام.
- عندما يتعلق الأمر بهاملت، قال العم، لا بد مما ليس بدٌّ منه.
- لقد رفض الاستجابة للقاء بك.
- ابن القحبة! رمى كلوديوس، وهو يلقي نظرة خاطفة على باب الحمام المغلق.
- مستبد برأيه، هذا الغِرّ.
- ليس عليّ.
- كامرأة تُشتهى شقت عصى الطاعة.
- لم أكن أعرف أنك محب للمماثل.
- محب للمماثل أنا؟ ليس أناي المثاليّ، ولا تنس أن هاملت خطيب ابنتي أوفيليا.
- دع أوفيليا تجيء به إليّ.
- سأحاول معها.
- لا بد أن أراه، ابن القحبة!
- كلوديوس، نادت جيرترود من الحمام، من يكون؟
- هذا بولونيوس، رفع الرجل القوي لساكرامنتو صوته، لا شيء هام.
- عندما ألححت، شرح بولونيوس، طرق الباب في وجهي، وغادر مربى الماشية.
- تركك وحدك في عالمه؟
- عالم يغرق في الرذيلة والفوضى.
- كلوديوس، عادت جيرترود تنادي.
- أنا قادم، صاح قاتل أخيه من مكانه.
ثم ليده اليمنى:
- كما قلنا، حاول مع أوفيليا.
- الحق أني لن أحاول.
- حاول على كره منك.
- ليس لأوفيليا سوى هاملت واحد، هاملتها، وكل واحد في البيت الكبير يمكن أن يكون هاملت.
- عُصفور في اليد خير من ألف كُرْكِيّ في الجو.
- ليس هناك أي عُصفور وأوفيليا لها شكل من هو في عصمة النكاح، فلن أفلح معها.
- قل على الرأس والعين، يا دين الرب!
- هل ستضحي بهاملت أوفيليا؟
- يجب أن تضحي به، يا دين الرب، وإلا ضحيت بك، يا بولونيوس! سأضحي بك كما تضحي الملوك بكلابها في لحظة غضب أو لحظة عبث.
- سأظل كلبك الوفي، يا سيدي، ضحيت بي أم لم تضح.
- مثلهم ينبغي أن تكون.
- لن يتعلق حل المسألة بأوفيليا.
- أطلب إذن من رينالدو أن يتصرف معه على طريقته.
- تحت أمرك، يا صاحب المقام الرفيع.
انحنى بولونيوس بين يدي سيده، وخرج.

* * *

قفز هاملت من قبة الوجود دون أن يبالي بالنتائج، فالأذى الذي ألحقه بأصدقائه لم يخفف من الأذى الذي كان سببه موت أبيه. فاقم الأذى أذاه، فالظن لا يُغْني عن الحق، ولم يفعل شيئًا آخر غير الغرق في الويسكي، وهو يضع على رأسه أرياش الهنود، ويصبغ وجهه بألوانهم.
- كفى، يا سيد هاملت، جمجم أوسريك البارمان، وهو يملأ القدح، ستغدو سكيرًا.
- أن أغدو سكيرًا، هذا بصلي، أجاب هاملت بخشونة، وهو يختطف القنينة من يد الرجل.
- ماذا سأقول لصاحب المقام الرفيع عمك؟ عاد البارمان أوسريك إلى الجمجمة.
- خراء، قل له خراء، يا قحبة العم! عاد هاملت إلى التلفظ بخشونة.
- يا ليت الكل هاملت، ألقى أوسريك مبتسمًا، لكان العالم أقل سأمًا.
- خاصَّةُ الإنسان أن يكون عاديًا، هل أنا غير عادي إلى هذه الدرجة؟
- غير عادي ولكن شيء آخر غير اللاعادي.
- أشكرك، يا أوسريك.
- أنا من يشكرك، يا سيد هاملت. هذا البلد دونك ليس بلدًا، هذا البلد دونك لا يساوي حفنة من الطلقات، دزينة من القناني، رِزْمة من الثياب، أو أخرى من الأمتعة، من الصحف، من الحشيش، من الورق، من الأسلاك، وأنا لهذا سأشرب معك، وسأضرب كأسي بكأس العملاق هاملت في كل شيء في حبه قبل حقده وفي تمرده قبل طاعته، وهو على أي حال من النوع الذي لا يطيع أحدًا، فالطاعة له، له وحده. أيها الغالي، أيها الغالي جدًا، يا سيد هاملت!
قرع كأسه بكأسه بينما طغت دقات البيانو على كل لغط آخر، فذهب هاملت بكأسه وقنينته ليشارك، هذه المرة، في إحدى الأغاني الداعرة.

قالت أمي لي خذي حذرك من القمر في الليل
عندما تكونين معه
أخشى أن يختطفه القمر منك
فتقضين العمر وحيدة

بين القمر وقمرك
أوثر قمرك
قمرك يبقى بدرًا في الفراش

قال أبي لي لا تثقي بالشمس في النهار
عندما تنتظرين عودته
فالشمس تملأُ الغيرةُ قلبَهَا منك
وأحلامك بأمرها تصبح بعيدة

بين الشمس وشمسك
أوثر شمسك
شمسك تبقى شرقًا في الحمّام

قالت أختي لي دعي البحر للأمواج والأمواج للبحر
عندما تستلقين على الرمل بانتظار أن ينهي عومه
وتذكري أن الهوى ينام بين ساقيك
فأيقظيه كي تكوني أبدًا سعيدة

بين البحر وبحرك
أوثر بحرك
بحرك يبقى اشتهاء الإنسان

قال أخي لي جاءت الصحراء تطرق عليكِ الباب
فافتحي لها دون أن تطلبي الإذن منه
الصحراء قبل أن تكون جسده جسدك
تخصب الأشواقَ والأشواقُ أكيدة

بين الصحراء وصحرائك
أوثر صحراءك
صحراؤك تبقى نُعوظَ الرمال

سقى هاملت الغواني من فم القنينة، وهن يملن، ويغنجن، ويكسرن أصواتهن الرقيقة، فيخالهن قبيلة من الثعابين، وتسعده رخاوتها، ونوعًا ما يعوضه ذلك عن نقيصته الجنسية. على طاولة القمار، تناثرت أوراق اللعب، لما فجأة أشهر الخاسر مسدسه، وأطلق عدة طلقات في صدر الكاسب. لم يكن التباين كبيرًا بين القاتل والقتيل، فَفِعْلُ القتلِ لم يكن لينتظرَ سوى بعضِ التبرير، والصدفة وحدها ما تجعل من هذا قتيلاً أو ذاك قاتلاً. حضر الشريف مارسيلوس مع اثنين من أعوانه، فأكد شاهدٌ الغِشَّ سببًا حالَ دون اعتقال القاتل. يكفي أن يكون هناك سبب يؤكده أحدهم ليأمر مسئول الأمن والنظام بحمل الجثة، وترك الصالون على عجل، ليعود اللغط إلى ما كان عليه، وكأن شيئًا ما كان.
في الخارج، وصل ثلاثة من قطاع الطرق، وهم يرتدون الغبار، ويمضغون التبغ. ربطوا أحصنتهم، والهنود المُغَرَّبون يترامون دومًا في أماكنهم. مزقوا ملصقات "مطلوب" بصورهم، ودخلوا الصالون دخول الأبطال. حط الصمت مع تواتر تقدمهم حتى المشرب، فوضع أوسريك الكؤوس أمامهم، ولارتعاش يده، سارع هاملت إلى صب السكوتش فيها من قنينته. بصقوا من أفواههم التبغ على البارمان، وجرعوا ما جرعوا مرة وثانية وثالثة، ثم انفجروا ضاحكين وكل الزبائن، وهم يضربون على ظهر هاملت ضربات ضخمة، ضربات التودد، وهاملت ينقله الاختيال على جناحه، الاختيال تعبيرًا عن الصلف والغرور.
بفظاظة وعنف، سمع الجميع تبادل رصاص، فخرج البعض ليرى، واكتفى البعض الآخر بالنظر من وراء الستائر. كان بنك الذهب. سطو مسلح. الساطون كانوا يطلقون النار على كل شيء يتحرك، والهنود المتحضرون ينظرون دون أن يتحركوا من أماكنهم التي يبدو عليهم الالتصاق بها بِغِراء.
- إنه خراء الشمس، كالعادة، أوضح هاملت "لضيوفه".
وما أن سمعوا ذلك حتى سارعوا إلى الخروج، وانتشروا ليحاصروا الطرفين، ويضربوهما بمسدساتهم، إلى أن قضوا عليهما. كانت متعة هاملت وعاهرات الصالون تتجاوز الحد، لكنها لم تُفْعَم، فالخارجون على القانون الثلاثة ما أن حصلوا على قطع الذهب المسروقة حتى ولوا الأدبار، وأناخ الجمود بالكلكلة من جديد على مدينة ساكرامنتو. حقًا أوقف العنف العنف، ولكن حفلة الدم والنار لم تدم طويلاً. جاء الدفّان، ولَمَّ الجثث، وهو في منتهى السعادة، فعن كل جثمان يعطيه الشريف عشرة دولارات. وكان هذا كثيرًا، عندما نعلم أن دخل القاضي مثلاً لا يزيد عن خمسين دولار شهريًا، إذا ما لم نأخذ الرشوات بعين الاعتبار.
حضر الفارّون من الحرب الأهلية بشعورهم الكثة، ولحاهم الخشنة، وأشكال العدم أشكالهم: كان لهم موقف وجودي تركوه للمدافع.
- سكوتش، طلب أحدهم، وهو يخرج مسدسًا من هذا الجيب، ويضعه في ذاك الجيب.
فهم أوسريك أنهم لن يدفعوا، وعلى الرغم من ذلك صب لهم. كان هاملت الوحيد الذي لا يحمل سلاحًا، فالسلاح ليس وحده ما يؤذي لمن نشأ في العنف، وضد العنف، من نعومة أَظافرِهِ. بالنسبة له، كان الصيف الهندي شيئًا عنيفًا، والهواءان البحري والجبلي، ولمسات هوراتيو. مد يده، وأخرج المسدس من صدر الرجل. في البداية، كان رد فعل الرجل عنيفًا، وأمام ابتسامة هاملت المفارقة، تركه يفعل. فِعْلٌ لم يكن مبعثه العقل، فالرجل كان من الممكن أن يحيله إلى جثة هامدة في ثوان. كان هاملت، وهو يقلّب المسدس بيده، يقلّب كل الحرب الأهلية. شيء كالمطلق كانت الحرب الأهلية، كالعقيدة، كالدين، فتذكر الأذى الذي لحقه بموت أبيه، وهيمن عليه الشك من جديد، فمن قتل أباه؟ من قتل أباه من ظهره؟ لم يكن القاتل واحدًا من أصدقائه، لكنه بدافع الأذى أراد أن يؤذيهم. استعاد صورة أمه وعمه في قبلتهما الطويلة، فوضع إصبعه على الزناد، وهمّ بالضغط، وإذا بكل واحد من الفارين من جيش الشمال ينصب مسدسًا في صدر هاملت. امحى قدر الصالون: اللغط كان قدر الصالون، كاللغط في الجحيم. لم يكن المصير، كان اللغط، عندما تحترق الأرواح، وتصرخ من ذروة العذاب. جذبت الغواني هاملت، وهو يترك مسدس الرجل يسقط على المشرب، وذهبن به بعيدًا عن جحيمه.
وهناك، ليس بعيدًا عن الصالون، في محكمة الجنايات (ليس هناك غير هذه المحكمة في الفار ويست)، بينما يلعب المحاميان الشطرنج والمحلفون البوكر، حكم القاضي بذهاب أراضي السيد فولتِماند إلى يد السيد غيلدِنستيرن، الأب الحقيقي لأولاد الأول وبناته، والأول يصيح بأعلى صوته قائلاً إن له عاهرتين، بالأحرى كانت له عاهرتان قبل أن يبعث الله بهما إلى الجحيم، امتطاهما العشرات، هذا صحيح، لكن هذا ظلم، وإنه لن يقبل بقرار المحكمة، فالأراضي تبقى أراضيه سواء أكانت هذه ذريته القحبة أم لم تكن. "هل تريد أن نعيد فتح ملف مصرع زوجتيك، يا فولِتماند؟ طن القاضي. إذا كنت تريد، أنا على استعداد، فكل أصابع الاتهام تشير إليك". مما دفع الرجل إلى إخراج مسدسه، في قلب قاعة العدالة، على صراخ الحاضرين، وأردى السيد غيلدنِستيرن قتيلاً، وأردى القاضي قتيلاً. زرع المسدس في فمه، ووضع حدًا لحياته.
وصلت عربة مليئة بالفتيات، ورمتهن تحت نظرات الهنود المُغَرَّبين الثابتة، ليكن عاهرات. كان فعلٌ كهذا على عتبة الصالون من عرصهن كفعلِ من يحرّف الحقيقة بعض التحريف، لكن عرضهن لمحاسنهن لم يدم طويلاً مع حضور التاجر الجوال روزنكرانت بعربته ذات "الدكاكين" الثلاث: دكان الحرائر ودكان الأغذية ودكان الأسلحة. التففن به، وهن يعاينّ الملابس الداخلية الناعمة، وهو ينتهرهن: لا تلمسي هذا، لا تجربي هذه، أنتِ، يا دين الرب! هيه! كِدْتِ تمزقين البنطال القصير، هذه الصدرية صغيرة على ثدييك الكبيرين، في الداخل لدي مشالح من كل الألوان، لا تصعدن كلكن! واحدة واحدة، يا دين الرب! أهلاً وسهلاً مسز براون، أهلاً وسهلاً مسز وولف، أهلاً وسهلاً مس بيفيرلي... وعلى حين غِرة، سقط على العربة سهم ناريّ قذفه أحد المُشَلِّحين من سطح، وثان من سطح آخر، وثالث، ورابع، وخامس، وسادس، وسابع، فهربت النساء فزعات، ودقت النار في العربة. حاول روزنكرانت إطفاءها، وهو يسب، ويلعن، ويخاطب نفسه غاضبًا من نفسه: هذا لأنك تذهب إلى زبائنك ولا يأتون إليك! هذا لأنك تتجول كالمأفون على سطح الأرض ولا تستقر على أرض! تصاعدت ألسنة اللهب دافعة الحصانين إلى الهرب منها، وألسنة اللهب تتبعهما. لم يتمكن روزنكرانت من الإمساك بهما، فضرب قبعته في الأرض، وعلى التو، اقتحم مكتب تأجير وبيع الدكاكين، وقال لوجه السيدة الجميل الذي يبتسم له: أريد أن أشتري أكبر محل في البلد! في الوقت ذاته، أوقفت مجموعة من المُشَلِّحين العربة، أطفأت النار، واستولت على الأسلحة.
في الشارع العام، بدأت الاستعدادات لقتال ثنائي بين زوج مخدوع وشاب يرتعد من الخوف، العرق يتصبب من جبينه، وهو يهمهم:
- ليس أنا، بماذا أقسم لك؟
جاء الدفّان مع الشريف مارسيلوس، والأول يقول للثاني مغتبطًا:
- مع هذين الاثنين، تكتمل الكوتا لهذا اليوم. على الاثنين أن يقتل أحدهما الآخر!
- هذا الخرع سيفسد كل شيء، تلعثم الشريف مارسيلوس، وهو يشير إلى الشاب.
- ابعث إليه بالشيطان، تلعثم قارض الموتى، لعنة الله عليه!
تلفت راعي الأمن والنظام، وغمز معاونًا من معاونيه.
- يجب أن نرفع الكوتا، همس الشريف مارسيلوس في أذن الدفّان، بعد موت السنيّ هانس كييركغارد، ازداد عدد الموتى.
- ليس رغبة منهم في اللحاق بصاحب المقام الرفيع، شريف، رمى الدفان متهكمًا.
- أعرف، يا بالع الأرواح، ولكنها المرحلة الانتقالية، في كل مرحلة انتقالية لا سلطة هناك ولا أخلاق، وككل مرحلة ماخورية تفضي إلى التغيير.
وصاح بالخصمين:
- نار!
فسقط الاثنان، الشاب الخرع برصاصة الزوج المخدوع، والزوج المخدوع برصاصة أحد رجال القانون.
- هيا! أمر الشريف مارسيلوس الدفان، التقطهما، أم أنك تفضل أن أرفس لك المؤخرة؟
- تمهل، يا صاحبي، واسمع لي جيدًا، رجا الدفّان بكثير من الجد.
- ماذا لديك، وقد رفعنا الكوتا، أيها الطماع؟ تهكم الشريف مارسيلوس.
- أريد أن أبحث معك الناحية العملية.
- هل هناك ناحية عملية أكثر من هذه ودمهما ذهب بُطْلاً؟
- الفأس والمجرفة أمران حسنان لو كان الموتى بعدد أصابع اليد.
- ماذا تخترع، يا بالع الأرواح؟
- أضف إلى ذلك حرب الانشقاق، نهايتها ليست غدًا، ما لم أكن مخطئًا.
- التَّبَطُّلُ في الحياة اليوم، هذا ما ينتج.
- الترميد هو الحل.
- هنا ليس الهند، يا ماخور الخراء!
- في الهند يحرقون أمواتهم ليلقوا رمادهم في خراء الغانج، إنه آخر طقوس طهرهم، أولئك الملوثون! اسألني أنا. لقد رأيتهم بأم عيني، وهم يغطسون في نهرهم المقدس بكل ما فيه من قذارات لغسلهم الثياب والصحون والأمعاء. إنهم يتغوطون فيه نهرهم المقدس، فليس في بيوتهم شِشَم! ولنفكر أنهم آباء المسيحية!
- كنتَ في الهند، يا ماخور الخراء؟
- يوم كنتُ شابًا. قطعت البلد من أقصاه إلى أقصاه على دراجة. خمسة آلاف كيلومترًا.
- كِلْ كي تي آ ! يا له من قفا قفاك!
- صدقت، كالكوتا، إنها المدينة الوحيدة من مدنهم التي أعجبتني، أقفية النساء فيها ميتات أم حيات لم يخلق الله غيرها! لهذا أصبحتُ دافنًا للموتى، بسبب مؤخرات نساء هناك. سندشن بالترميد العصر الجديد، ونلغي المقابر، وكل هذا التعب غير المجدي ما هو إلا للعفاريت، فما رأيك؟
- القوانين لا تسمح.
- تسمح أو لا تسمح، للشريف في مرحلة انتقالية تسمح، خاصة للشريف، شريف مارسيلوس، وإلا كيف يكون الشريف شريفًا؟ فلننصّب إذن قفا أحد هؤلاء المنايك الموتى علينا شريفًا!
- لم أكن أظنك من الدهاء بهذا القدر، يا بالع الأرواح!
- بين بين.
- أنت تعرف خفايا الأمور.
- الآن سألتقط هذين المحظوظين، وأبعث بهما إلى جهنم.
أخذ الشريف مارسيلوس يفكر في كلام الدفّان بصوت عال: "التطور سُنّة الحياة، والحرب سُنّة التطور. بالع الأرواح، خزق القفا هذا، ليس أفضل مني!" وَجَسَ مسدسه، وحمله. وبعد عدة ثوان، ابتسم، وهو يهزه، وينظر إليه بعينين لامعتين. "يجب على مسدس الغد أن يكون مسدسًا ذكيًا، لا يتبع الهدف، الهدف يتبعه. ستكون له عدة أنابيب لا أنبوبة، تذهب الأنابيب في عدة اتجاهات حين الضغط على الزناد، فتصيب أكثر من هدف، وفي الهدف تترك أكثر من رصاصة. يا سلام! هذا هو المستقبل، هذا هو غناء الرصاص، هذا هو العصر الجديد، يا ماخور الخراء!"

* * *

بعد أسابيع ثلاثة من مصرع العظيم هانس كييركغارد، تم زواج صاحبة المقام الرفيع جيرترود وكلوديوس كييركغارد، سِلْفها. كان الخروج من الكنيسة مصحوبًا بقرع الأجراس، ورمي العروسين بأوراق تويجات الورود الحمراء. قرب شجرة وحيدة تقبض على أغصانها بيدها، وتجلد العُمَيْرَة، رأى هاملت أمه في ثوب الدانتيل الأسود من خلف سياج، وتاج من ذهب وماس وأحجار كريمة لا تقدر بثمن على رأسها، أعظم من تاج ممتاز محل كان تاجها، رآها تتعلق بذراع عمه، وهما في منتهى السعادة، لا الواحد يقرعه سن الندم على ما فعل ولا الآخر، فغمغم، والكربة تطحنه طحنا: "أحسنتَ صنعًا بموتك، يا أبي!" في رأيه، لم يكن الحب هو السبب، ولم يكن الإيمان، كان الكره، كره والده، وكان العقل في أبشع صوره. بعد مغادرة الموكب، ولج هاملت، والحذر يدفعه، عالم الكنيسة، فوجد صحنها خاليًا، هنا وهناك أيقونات وتماثيل صامتة تنعكس عنها ذؤابات الشموع: لقد شاهَدَتْ مراسم الزواج، قال هاملت لنفسه، ولم تتأثر بالخيانة. كانت الخيانة بالنسبة لها مدعاة للفرح، وهي لهذا لم تتأثر ككل تمثال فاقد الروح. ولن تتأثر بالولاء، إنها فاقدة الروح، الولاء والخيانة كانا وجهين للمعبود من طرف عابديه دون أن ينهبه الهم، وكل الهم ينهب هاملت. كان هاملت ينهبه الهم نهبًا، يؤثر في عجزه الجنسي، ويشعره بحركة الثعابين، بتقزز النفس. شعر بالغثيان، فاتجه إلى تمثال المسيح، وراح يهزه بعنف، ويجدف: "يا الرب المنيك!" فتح المسيح عينيه، وهمهم: "أعدتني، يا هاملت، بعد طول انتظار! أنقذتني من أهل الرياء!" سقط هاملت على قدمي المسيح، وراح يقبلهما، ويستغفر الله، ويستغفره، فرفعه المسيح، وهو يقول: "لم أعد المسيح! كفاني كل عذابات البشر دون فعل شيء! والآن ربما حملتُ عنك بعض عبء الإثبات بعد أن أثّرَتْ فيّ حالك، فأقوم بدوري كما يجدر القيام. سنخرج من هذا المكان، رائحة الشموع تخنق!" وأخذ يسعل. ابتسمت مريم، ومدت يدها لتخلع نِير العبودية، إكليل الشوك، عن جبين عيسى. "مريم ترأف بك"، قال هاملت. "كي أرأف بك"، قال المسيح. وهاملت يذهب بعيسى إلى جواده خلف السياج أضاف المسيح: "لأول مرة أتمرد"، وهو ينظر إلى السماء. "تتمرد على ماذا؟"، سأل هاملت. "على الفكرة". "أية فكرة؟". "أَوَ ليس هناك غيرها؟". "كأنك تُبْطِنُ بِطانَ فرس". "لأول مرة أشك". "تشك لتوقن أم تشك لتشك؟" "لأشك، يا دين الرب! لأشك! الشك استيقاظ الذكاء، استيقاظ المخيلة!" "هل تزوجت أمك من غير أبيك كما تزوجت أمي من غير أبي!". "مريم ليست أمي". "ومن تكون؟". خرجت مريم لتودعهما، فأقسم عيسى جَهْدَ أَيْمانِهِ: "مريم زوجتي". "مريم زوجتك!". "تزوجتها، أو إذا شئت "مريمتها"، من هنا كان اسمها، ولم تحبل مني، فجعلني الخيال العقيم للناس ابنها من الرب". أغمض هاملت عينيه، وفتحهما. فكر في حتمية الموت دون أن يدري لماذا، فاقترح المسيح: "إذا أردت جئتك بالبرهان". عاد إلى مريم، وقبلها من ثغرها. "تعال، صاح هاملت، سنذهب إلى مكان أعرفك فيه أفضل معرفة". أركبه من ورائه، وسار عدة خطوات، وهو ما بين الشك واليقين، ثم راح يعدو، وقد تحرر المسيح من المسيحية.

* * *

كان القصف في مربى الماشية يبلغ أوجه، وكل تلك الموائد، وكل تلك المآكل، وكل تلك الملاعق، وكل تلك الشُّوَك والسكاكين، وكل تلك الصحون، وكل أولئك المدعوين، وعلى العكس، كان قلب صاحبة المقام الرفيع جيرترود ملآن غمًا، فأين هاملت؟ أين ولدها؟ أين وحيدها؟ ولماذا هو غائب؟ لماذا لا يشاركها فرحها؟ لماذا لا يشعرها بوجوده إلى جانبها؟ لماذا لا يوهمها بقوة الطبيعة في كل هذا، وإرادة الحياة عليها، وموافقة السماء؟ لماذا لا يرى الأمور كما تراها، ويجعل من عدم عدم الاهتمام بها حقيقتها؟ لماذا هو حقيقته؟ لماذا هو هذه الحقيقة؟ لماذا هو هذه الحقيقة المهلكة؟ همست في أذن زوجها بضع كلمات، فأشار هذا إلى يده اليمنى بولونيوس، وهو يحرك شفتيه لئلا يسمعه المدعوون: "أين هاملت؟". نهض بولونيوس، واتجه إلى حيث يجلس لائِرتس ولده. انحنى على أذنه، ولم يسمع أحد ما قاله له. هز لائِرتس رأسه عدة مرات علامة النفي، ورفع يده ناحية أخته أوفيليا. ذهب بولونيوس إلى حيث تجلس ابنته، فنهضت الجميلة أوفيليا، واصطحبت أباها إلى داخل البيت الكبير.
- أيها القلب البكر الذي لم تهزه العواطف، بدأ بولونيوس الكلام، الصفاء والطهارة، كما أرى لم تكبلي هاملت بصفاتك، محدود البصيرة هذا، فصار لقمة سائغة للدنس والفجور.
- ليس لهذا السبب، يا أبي، لم يحضر هاملت عرس أمه، قالت أوفيليا بصوت يغلب عليه الأزْل، أنا أدرى الناس بما هو عليه هاملت، أنا أدرى الناس بما هي عليه أوفيليا.
- أوفيليا، ماذا تقولين؟ سأل الأب بدافع عقله الظَّنِين، هل عكر هاملت النبع الذي تشربين؟ هل لوث الهواء الذي تتنفسين؟ هل بدل الدرب الذي تأخذين؟ هل أغوى النفس التي بها تثقين؟ هل أوقف المطر كيلا يغدق المطر عليك بوابل الحنين؟ هل أعاق الرمل عن الذهاب إلى البحر الذي به تحلمين؟ هل قطع أزرار الورد ورماك بين الأشواك في حديقة شبابك؟ كيف أنت أدرى الناس بما هي عليه أنت؟ هل أنت غير أنت؟ غير ابنتي التي ربيتها أحسن تربية لدرجة أن الحيات توقفت عن الخداع، والذئبات أرضعت صغار الأمهات اللواتي جف حليبهن، والعقارب جعلت من سمها بلسمًا للجراح.
- لا شيء من هذا، يا أبي، قالت أوفيليا، وهي تبلع ريقها بصعوبة، هاملت لا يحتمل حبي له، هذا كل ما هنالك.
- وهل هناك أحد على وجه الأرض لا يحتمل حب أوفيليا الصادق؟
- هناك، هاملت.
- يجب على هاملت أن يستحق كل هذا الحب، إلا أنك لم تعرفي كيف تجعلينه يشعر بذلك، همهم بولونيوس مفكرًا، وها أنا أفهم الآن لماذا غيابه في يوم عرس أمه، ليس لغيرته من عمه، ولكن لئلا ينظر في عيني أوفيليا، فيرى غمام ضعفها أمام جبروته، المجرم!
- أبي، هاملت ليس مجرمًا، احتجت أوفيليا.
- أنا حر في كيف أرى هاملت، أوضح بولونيوس، وأنت حرة في كيف ترين هاملت، لكن هاملت يبقى هاملت، فالجوادُ عينُهُ فُرار، وعلينا أن نفعل كل ما بوسعنا كي نجبره على المشاركة في عرس أمه ككل ابن يحب أمه أكثر من أبيه.
- أنا أيضًا هذا هو اعتقادي، قال لائِرتس، وهو يلتحق بأخته وأبيه، لكل منا علاقته الذاتية بهاملت، وكل ما يترتب عن هذه العلاقة من واجبات، وعن الواجبات من أحاسيس. نعم، الاضطراب يدفع إلى الاضطراب في عقل أوفيليا، والهيام يدفع إلى الهيام في قلب أوفيليا، والاستسلام يدفع إلى الاستسلام في كِيان أوفيليا.
- وكأنك تشاهد ما يجري في ذهني من شعوريات لوصفها، علقت أوفيليا مع موجة إشعاع.
- ليس الاستسلام، صاح الأب، ليس الاستسلام، ليس الخضوع والإذعان.
- مع الأسف، صحيح ما يقوله لائِرتس، يا أبي، الاستسلام، الاستسلام حتى النخاع، هكذا هو حبي لهاملت، حب يصنعه الاستسلام أمام خلو بال هاملت وبرودة طبعه.
- برودة طبعه؟ تساءل لائِرتس، هذا ما أريد تصديقه.
- برودته، همست أوفيليا بصوت يُسمع بالكاد.
- برودته لا تعني برودة طبعه، علق لائِرتس مع ضحك عصبيّ، برودته تعني أن جبل الجليد في الصيف يظل باردًا على الرغم من شدة الحرارة.
- الكربة لا تقدر على تدفئتها حرارة أي شمس، ألقت ابنة بولونيوس، وكلماتها تخرج ثقيلة كالحجارة من حلقها. الكربة والكرب إذا ما اجتمعا لدى هاملت، فلن يكون الأمر سهلاً لديه. تفكيره في الوجود والعدم من ناحية، وشعوري بألمٍ نفسيٍّ مبرِّح من ناحية. لن نحمي أنفسنا منا، يا والدي، هو إحساسه ما ورائي، وأنا ذوقي ذوقُ المُرّ. آه! ما أحلى طعم الحنظل. هل تسمعني، يا أبي؟ هل تفهمني، يا أخي؟ في الخارج، عرس أوفيليا وهاملت، وهم يرقصون احتفالاً باقترانهما ويغنون بعد أن شربوا طريء الشراب ونعموا بمريء الطعام. هاملت، لماذا لا تحضر عرسك مع أوفيليا التي تحب؟ لماذا لا تجيء؟ لماذا لا تحلم معها بليلة الدخلة؟ أم أنها برودتك هي التي تمنعك. جبل الجليد يظل في الصيف باردًا على الرغم من كل الحرارة التي تصبها الشمس عليه، تمامًا كما قال لائِرتس مع الأسف!
بعد عدة ثوان، اعترفت بنبرة تُسمع بالكاد، وعيناها مغرورقتان بالدموع:
- لقد سلبني هاملت عفتي!
- أيها القديس بولس، أمر بولونيوس لائِرتس، وهو يلتهب غضبًا، احمل مسدسك لما تعجز عن حمل شمسك، واذهب في الحال إلى الصالون حيث يُغْرِق هاملت أناه منذ مصرع أبيه في الكؤوس، ويدفنها بين سيقان الغواني، نهبًا لسلوك مخالف للعقل، وجئ به حيًا أم ميتًا، هذا النذل!
- حيًا أم ميتًا! صاحت أوفيليا محتجة.
- قبل اعترافك كانت العبارة استعارة بيضاء، رد الأب، وقد اسودت الدنيا في وجهه، وبعد اعترافك غدت العبارة حالَ بعضٍ من أفكاري السوداء.
مع الموسيقى الصادحة والصياح المنطلق للراقصين انطلاق العواء من الأوكار، أخذ لائِرتس يفك ضماد كتفه تحت عيني أوفيليا غير المصدقتين، وكأنها تريد أن تقول له: جرحك لم يلتئم! لكنها فكرت أنه أحد جراحها، وهي جراحها لا تبرأ.

* * *

أول ما رأى الهنود المُغَرَّبون المسيح ينزل عن حصان هاملت، ذهب عنهم كسلهم، وغادرهم صمتهم وسكونهم. داروا حوله دورانهم حول منقذ لم يكونوا بانتظاره، وعَجُّوا، كالبيْسونات عّجُّوا: أيتها الروح الكبرى! أيتها الروح الكبرى! صلوا بأقدامهم، وهمهموا أغنية من أغانيهم الدينية:

"يا أنتم جميعًا! أهل السماء والهواء والأرض
اسمعوني!
حياة جديدة ما بينكم
أتضرع إليكم أن تقبلوها!
اجعلوا لها الطريق أكثر ليونة
وستذهب إلى ما وراء الروابي الأربع"

لمسوه كما يلمسون الجذوع، وانحنوا له كما ينحنون للرياح، وابتسموا له كما يبتسمون للطرائد. لفوا خاصرتيه بمسدس، فضحك هاملت منهم، وقال لهم:
- ماذا تريدون أن يفعل به؟
أراد فكه، فمنعه المسيح، وقال:
- طوال حياتي وأنا أحلم باقتناء واحد.
- وهل تحسن استعماله؟
- لا أحسن.
- ما الفائدة إذن؟
- يكفي أن أقتني واحدًا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك سنرى.
دخلا الصالون، فجاءت العاهرات يجرين، ليتلقفا هاملت وصديقه: ما هذا اللباس؟ وما هذه الهيئة؟ ولماذا هو شديد الصفار؟ ومن أين هو؟ وكيف جئت به؟ تعالا!
- ليس قبل أن نشرب، قال عيسى.
صب لهما البارمان أوسريك قدحي سكوتش، فجرع المسيح كأسه، وهو غير مصدق عينيه.
- يا الرب المنيك! قذف، وهو يتلمظ بلذة لا تدانيها لذة، هذه الكفارة لا علاقة لها بدمي!
- سأترك لكما القنينة، قال أوسريك سعيدًا.
- البوكر، صاح المسيح، وهو يلتفت حواليه.
ودون أن ينتظر جوابًا، اتجه صوب أقربِ طاولةِ لعبٍ، وأخذ مكانًا. وضع هاملت في يده حزمة دولارات، وتركه يلعب، وهو يلعب ويكسب، يلعب ويكسب، يلعب ويكسب. وبينا هو يقهقه على مرأى الأوراق الخضراء، أوراق الخلق والفناء، أشهر أحد غرمائه مسدسه، لكن المسيح عاجله بطلقة حاذقة في القلب أودت بحياته.
- ماذا قلتَ لي؟ سأل هاملت، والدهشة تستولي عليه.
- كذبت عليك، أجاب المسيح، والابتسامة تشق فمه من أقصاه إلى أقصاه.
- أتركك إذن إلى أذرع شيطانية، ادعى هاملت فقط ليخلو إلى نفسه، وليفكر في زواج أمه وعمه، أذرع شيطانية أم غيره لن يغير الأمر شيئًا من عيبه الجنسي. بعد أن اطمأننتُ عليك، العب ما شاء لك اللعب حتى تُرضي هذه الرغبة لديك.
- الرغبة هذه أرضيتها، أما الرغبة الأخرى، رغبة الرغبات، فليس بعد، أنا أتحرق شوقًا مثلك إلى الأذرع الشيطانية.
- إلى المضاجعة.
- قسمًا! إلى المضاجعة.
جرع كأسا أخرى وأخرى، وهاملت يهمهم "وعظه لا يصدق" على صوت المسيح، وهو يخطب بزبائن الصالون:
- هذا السكوتش دمي - العبارة خاطئة صحيحة - وهذا البوكر جسدي، لا الأول ولا الثاني لكم، اتركوهما لي، وإلا كانت نهايتكم على يدي، وجعلت يومي اليوم يوم الحساب قبل غدي!
- أهو هِتْر السكير أم الهَذْر؟ سأل هاملت دون أن ينتظر جوابًا.
كانت فتيات الصالون يرقصن على لحن خليع لعازف البيانو، ويغنين الأغنية الداعرة: بين القمر وقمرك / أفضل قمرك / قمرك يبقى بدرًا في الفراش… أخذن الصديقين بين أذرعهن، وذهبن معهما فيما يعتقدنه جنونيًا: القبلات واللمسات والهمسات وتحطيم كل قاعدة وتجاوز كل قياس. لم يطل بهن الأمر كثيرًا حتى أصعدنهما إلى الطابق العلوي، وخلت ثلاث أو أربع منهن مع كل واحد، فقال المسيح إنه لم يأخذ حمامًا منذ 1862 عامًا. وفي الحال، أعددن له مِغْطسًا، وساهمن كلهن في فركه وتمسيده وتنظيفه من غبار الزمان وعِيار الخلاص، بين التدلع والتدله، وعيسى يقوم بفعل الهوى كإله، ويقضي أسعد لحظات الحياة الأبدية.
دفع لائِرتس الباب على هاملت، وطرد كل الفتيات، وهو يلوح بمسدسه.
- هذه مفاجأة من الشجاع في كل شيء، تهكم هاملت.
- في أية مخرأة أنت؟ ألقى لائِرتس.
- مخرأة هذا الفراش الوثير!
- انهض، أيها الماخور! هدد لائِرتس، لن تفعل هذا في يوم زواج أمك.
- بل لأنه يوم زواج أمي.
- الكل بانتظارك، أيها الماخور! عاد لائِرتس يهدد.
- لتكون واحدة على واحدة من أمجادك.
- من خراءاتي.
- لا تتلفظ بحماقات، يا ماخور الخراء! لا تكن وقحًا! الوقاحة والشجاعة شيئان متعارضان، وها أنت تجمع بين الاثنتين. من أي نوع من الشجعان أنت ، يا لائِرتس؟
- الخرائيون، من الشجعان الخرائيين! هذا الشجاع الذي بين يديك لهو أكبر جبان في الكون، ألقى لائِرتس، وهو يشير بمسدسه إلى نفسه، جبان رعديد أنا، جبن الأرانب بالنسبة لجبني أكبر شجاعة. تالله ارفق بالحشرات عندما تسحقها بقدمك لأنها مثلي تعض دون أن تؤّذي، وتدغدغ دون أن تدفع إلى الضحك.
قهقه هاملت، لكن لائِرتس لم يترك له الطريق مفتوحًا إلى التهكم.
- اغتصبني المدافعون عن حرية الزنوج، اعترف لائِرتس بصعوبة، وهو يعيد مسدسه إلى زِنّاره، ويشعر بالأرض تدور تحت قدميه، حرية قفاي، اغتصبوني، وليس مرة واحدة. لم يكونوا يعرَضون أنفسهم للخطر. أنت خير من يفهم نظرية التبعات التي لنا: الإنسان مسئول عما يقترف. وفي عرفنا، انتكاح الذكر لذنبه. بعد كل مرة، كانوا يشكرون الله على متعتهم. هكذا هم صُنعوا، الشماليون كالجنوبيين، هكذا هو خراؤهم. لما جاءني الله في ثوب امرأة خوفًا على نفسه منهم، ضاجعته، ولم أعد أومن لا بالله ولا بالإنسان. انتهى بي المطاف إلى ما يلي: دفعني المجانين واليائسين وقطاع الطرق الذين كانوا يقاتلون إلى جانبي، دفعوني إلى فعل ما يضع حدًا لمعاناتي، فضربتُ كتفي بطلقة. نعم، ضربتُ كتفي بطلقة في قلب إحدى المعارك الضارية، ولم يكن اغتصابي السبب – اغتصابي كان للتبرير - بل الخوف من الموت ككلب. مشروع غير حكيم، أليس كذلك؟ قهقه! لماذا لا تقهقه؟
لم يُحِر هاملت جوابًا.
- كما ترى، أنعمت الطبيعة عليّ بمزايا عظيمة، يا للطبيعة القحبة!
- لائِرتس، ولكن هذا رهيب، همهم هاملت، وهو يقوم من مكانه، ويمسكه من يديه، ولكن هذا أتعس اعتراف سمعته في حياتي.
- لا كلمات للتعاسة.
- خانتك شجاعتك.
- كيف تخونني شجاعتي، وأنا ليس لدي من الشجاعة أقلها، وأنا أجبن شجاع في الكون؟
- بالأحرى هم.
- كلنا.
- كانوا يبحثون عن شجاعتهم، فلم يجدوها، وبالمقابل، حصل كل واحد على نصيبه مما لم يكونوا يبحثون عنه.
- وأنا كذلك. بكل الألم، بكل التعاسة.
- حصلت على نصيبك!
- كالعقرب لما يلدغ العقرب في ثقب القفا.
وبعد قليل:
- شيء يلذ لك أن تُغْتَصَب!
- شيء يلذ لك أن...
- تُغْتَصَب!
- ليس في الأمر خديعة.
- هل أضجرك؟
- أيها القذر!
- ليس أقذر من أنظف شخص في ساكرامنتو.
ابتلعهما الصمت، كالحوت ابتلعهما الصمت، إلى أن همهم هاملت:
- لم أتمالك عن غيظي، فاعذرني!
- شيء يلذ لك أن تفر من القتال!
- القتال هو الماخور، المضاجعة بلا زيادة!
- لن أسعى إلى حتفي بظلفي لسبب واهن اسمه الشجاعة، المجد، الشرف، السمو، الكرم، البطيخ الأصفر، الأزرق، الأحمر...
- هذه ليست طبيعتك.
- إنها حقيقتي، ابنة قحبة حقيقتي!
- كما تقول، ابنة قحبة حقيقتك، وكل حقيقة! عندما تكون رواقيًا زائفًا، عندما تكون أبيقوريًا زائفًا، عندما تكون لوطيًا زائفًا. لهذا لن تفلح معي، أنا باق في هذا الماخور. إنه المكان الأقل فسادًا في كل مملكة الدانمرك. هنا الشجاعة شجاعة والبطولة بطولة والأمة ابنتهما اللاشرعية، لهذا السبب قضبان الرجال هنا لا تصاب بالاكتئاب. تضاجع أو لا تضاجع، إنه السؤال! لن أتحرك من مكاني، سأقضي الليلة هنا، وستقضيها معي، لذّ لك ذلك أم لم يلذّ.
- هكذا لن تكون وحيدًا.
- وحيد أنا حتى وأنت معي، وحيد في رأسي، وحيد في جسدي، وحيد في كِياني، وحيد في كوني، وأنا غريب، غريب في الرأس، غريب في الجسد، غريب في الكِيان، غريب في الكون.
- كلنا غرباء، كلنا كهوراتيو عبيد للأشياء، أشياء.
- كلكم غرباء وأنا غريب بينكم.
نادى هاملت البنات، فجئن، وهن يكركرن. خلعن عن لائِرتس ثيابه، ودخلن معه الفراش. اختلطن كلهن، كالطين بالورد، كالدم بالعسل، كالدمع بالعطر، كالمني بالقشدة، كالمطر بالنار، وكانت اللوحة غير ما رسمه غوغان فيما بعد.
- تعال، يا هاملت، هتف لائِرتس، ماذا تفعل وحدك في الظل؟
- أبحث في الأرض عن النمل، همس هاملت.
- تبحث في الأرض عن... ما هي القضية؟
- أوفيليا تبحث معي في الأرض عن النمل.
- أوفيليا ماذا؟ انقضاء الدهور؟
- أوفيليا يسعدها أن يجد هاملت هاملت! هاملت يبحث في الأرض عن النمل! يزحف هاملت، ويذهب في كل الاتجاهات. إلى أين أنت ذاهب، يا نمل؟ يحس النمل بالاختناق! هاملت يخنق النمل دون أن يعلم أنه هاملت! النمل يخنقه هاملت! النمل يخنق النمل! اللحن الرِّق! هاملت يعزف! ما أبشع موسيقى هاملت! هل تسمعين، يا أوفيليا؟ كل هذه الموسيقى ليست من أجلك! الموسيقى! كل هذه الموسيقى! في دماغ النمل! كل هذه الموسيقى في دماغ النمل، في كِيان النمل، في جُوّه النمل! كل هذه الموسيقى!
لم يسمع لائِرتس للبنات اللواتي ينادين عليه، وهو يتقدم بمسدسه من صديقه المعطي ظهره إياه، لم يكن باستطاعته أن يجيء به حيًا، كما أوصى أبوه، وكان من اللازم أن يجيء به ميتًا. أوفيليا اغتصبها هاملت بينما لائِرتس اغتصبه جيش الشمال! لم يكن الأمر واحدًا، بل واحدًا، كل واحد حصل على نصيبه، مثله تمامًا، وكما قال منذ قليل، شيء يلذ لك أن تُغْتَصَب. لم يكن يكذب، لكنه لن يعصي أباه، فهو أبوه، ولن يتركه نهبًا لأفكاره السوداء. مع أو دون هاملت، الأمر سيان، وهو كهاملت المحب للرجال وللنساء. وفي اللحظة التي قرر فيها الضغط على الزناد، سمع الجميع ضربات سياط: كانت عصابة من رعاة البقر تضرب الهنود المُغَرَّبين، تربطهم من أعناقهم، وتسحبهم على الشارع العام. خرج المسيح إلى الشرفة، وبدأ يقوسهم. نزل إلى الشارع العام، وأخذ يطاردهم، من زاوية إلى زاوية أخذ يطاردهم. كذلك فعل هاملت ولائِرتس، نزلا ليريا، ولائِرتس يرتعد، ليس من الخوف، كان يرتعد من ألم كتفه، كان الألم يسبب له الارتياع من الاستتباع.
- ماذا بك، يا لائِرتس؟ سأل هاملت، وحال صديقه يشغل باله.
- ماذا بك، أنت، يا هاملت؟ أجاب ابن بولونيوس على السؤال بسؤال.
- أنا، لا شيء، كنت أبحث عن النمل، فوجدت النمل يبحث عني.
- هاملت، أنا صديقك، فلا تسخر مني.
- أنت صديقي، وأنا صديق النمل. انظر إلى النمل كيف يمتطي حصان الخطر من أجل الدفاع عن الهنود. ماذا بك، يا لائِرتس؟
- إنها كتفي التي عادت تنزف، يؤلم هذا، واعجباه!
- ليس صحيحًا ما حكيته لي وهذه الكتف المثقوبة بطلقة من يدك، أكد هاملت، كل ما في الأمر أنك سئمت القتال، هذه الطلقة هي نيشان شجاعتك.
- شجاعتي قصة قديمة قدم هذه الأرض بلا جدوى.
- يا ليت لي شجاعتك، لأقضي أيامًا هانئة.
- خذها لو شئت هذه الشجاعة، أرادت أن تقتلك منذ قليل، وحال الظرف دون ذلك.
- الشجاعة وحدها لا تنفع، تنفع الشجاعة عندما يرافقها الجبن، والجبن عندما يرافقه الخطر، وأنا لا خطر أمثله لأحد، أوفيليا تعرف هذا، وهي لهذا.
- أوفيليا وليس أبي.
- حَسْبُ أبيك أن يقتلني، أنا من لا يستحق القتل، كما يقتل هذا القاتل من يستحقه.
- ومن يكون؟ سأل لائِرتس، وهو يرى عيسى يجندل أعداء الهنود واحدًا واحدًا دون أن يَرِفَّ له جفن. إنه لا يخطئ هدفه أبدًا، وكأنه قدر قتلاه!
لم يقل هاملت إنه المسيح.
- لا أحد يعرف من هو.
- لم أر في حياتي أشجع منه!
- ليس من هذه الزاوية يرى الأمور.
- كيف إذن يراها.
- إنه واحد من هؤلاء المجانين الذين جعلوا لأنفسهم شعار "كي تعرف الله يجب أن تعرف الناس" ومبدأ "كيف تَصْنَعْ أَصْنَعْ".
والمسيح يطارد الأوغاد، كان يكلمهم كمن يُجري حساب الكميات الذي لديه: هذا ما تستحقونه، أيها السفلة! كل طلقة أحشوها في ثقوبكم تفانيكم، شكرانكم، حبكم لبعضكم! كل بصقة! كل قدم! هذا ندمي، فارتدوه! هذا أملي، فذرّوه! هذا ألمي، فاستسيغوه! طعمه على اللسان خراء! خراء خلاصكم، إنقاذكم، أملكم! هذه محبتي، قتلكم! هذه غبطتي، تفجيركم! هذه قيامتي، سحقكم! نصري هزيمتكم، حبي كرهكم، بأسي ضعفكم! أكلتُ السمكة، وتركت لكم الحسكة! كسرت الخبز، فلا تكن لكم أرزاق! محوت الاسم، وبدل الكمال حل الخواء! أنا الدنس! أنا الإثم! أنا الجَوْر! أنتم ضحاياي لتحرير الإنسان! الموج غضب الإلحاد، البرق والرعد رحمة التناظر، الهنود الحمر بحارة الوقت... إلى آخر ميناء!

* * *

صدحت الموسيقى النحاسية إيذانًا بافتتاح أول سوبر ماركت في ساكرامنتو، ودخل الغنادرة من الرجال والنساء بصحبة أطفالهم، والأرض تكاد لا تسعهم من عِظَمِ الشعور بالسعادة. كان التاجر الجوال روزنكرانت، صاحب المحل اليوم، يستقبلهم بأبهة، ويرحب بهم واحدًا واحدًا، وهو يسمي كل واحد باسمه: أهلاً وسهلاً مستر ومسز براون، أهلاً وسهلاً مستر ومسز إيستود، أهلاً وسهلاً مس دونالد، أهلاً وسهلاً مستر وولف، أينها مسز وولف، سلم لي على مسز وولف، أهلا وسهلاً يا أطفال، اذهبوا مباشرة مع ماما وبابا إلى فَرْع الألعاب، أهلاً وسهلاً مس غرينبيس، مس دَك، مس بيفيرلي، هناك ما سيدهشكن في فَرع الزينة، من باريس مباشرة. ثم يصيح فجأة: ماذا تفعلن هنا، أيتها الزنجيات؟ فتصححه إحداهن بذات النبرة: أيتها النساء السوداوات، يا سيد روزنكرانت! نحن في كاليفورنيا، هل أذكّرك أن السود في كاليفورنيا أحرار؟ فيتركهن وشأنهن على الرغم منه، وهو يهمهم: طالما أنهن نقدًا سيدفعن! أهلاً وسهلاً مستر كاوارد، المحل محلك! أهلاً وسه... هيه! يصيح باثنين من الهنود المُغَرَّبين، ماذا تفعلان هنا أيها المتوحشان؟ ليجيئه صوت من ورائه: اتركهما يفعلان كالكل. التفت السيد روزنكرانت بحَنَق، ليقع على الشريف مارسيلوس، فتصنّع في هيئته، وبلهجة معسولة: أهلاً وسهلاً شريف، أنا وكل مِلاكي في خدمتك. أهلاً وسهلاً كاوبوي، أهلاً وسهلاً أنتَ، أهلاً وسهلاً أنتِ، أهلاً وسهلاً سيدي القاضي المعاون، أتمنى ألا تكون الأحكام جِد ثقيلة على كاهلك، بعد الحادث الأليم الذي حدث، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً... كانوا يتنقلون بين السلع المعروضة تحت السقف المزجج ذي رسومات الزيت التي تفوق في إبداعها رسومات الكنائس، ويلمسون هذه السلعة أو تلك بأصابع تترعّش قبل أن يضعوا هذه السلعة أو تلك في سلالهم أو عرباتهم.
اتجه الشريف مارسيلوس مباشرة إلى رف المسدسات المربوطة من عرواتها بالسلاسل كيلا تُسرق، وراح يفحصها واحدًا بعد آخر بيد العارف وعين الغيور، فهي من التطور الشيء الكثير، لكنه ارتاح أيما ارتياح عندما لم يقع على مسدس أحلامه ذي المواسير المتعددة. على مقربة ليست بعيدة، كانت رفوف المعلبات، الصيحة الأخيرة في ميدان التغذية. حمل راعي البقر، مرؤوس رينالدو، من تلك التي تحتوي على الفاصوليا البيضاء ما غطى صدره وتجاوز ذقنه، وكذلك فعل صاحبه بعلب الفاصوليا الحمراء. أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً... وجد السيد روزنكرانت نفسه، وهو يتكلم وحده، فقطب حاجبيه، وذهب ليلقي نظرة على أمينتي الصندوق. أسعده منظر النقود، فطبطب على ظهر هذه، وعلى ظهر تلك. بعد ذلك، راح يتجول بين الفروع، ليتأكد من أن كل شيء على ما يرام، وأن لا سارق يكمن في ثياب الزبائن. لاحظ تردد الهنديين المتحضرين تحت فِرْع السروج، إلا أنه تركهما لحالهما، وهو يقهقه في دخيلة نفسه، فكيف الواحد أو الآخر سيسرق سرجًا! لم ينتبه إلى الأسود، شريكهما، الذي يراقب السيد روزنكرانت مراقبة السيد روزنكرانت له، كان يخفي نفسه خلف حَزَمات العلف. عندما اطمأن إلى نفسه، قرر تنفيذ ما جاء من أجله، ألا وهو إحراق بعض العلف لإرسال بعض الدخان، فقط، دخان يسبب الهلع والفوضى، وتكون الفرصة سانحة للرجلين الأحمرين، لينهيا ما عزما عليه.
وهذا ما وقع.
لكن النار امتدت إلى كل حَزَمات العلف، وعلى صراخ أحد الأطفال، ألقى أحد الهنديين السرج الذي يحمله، وسارع إلى نجدة الصغير معرضًا نفسه لخطر الموت حرقًا. كانت بالأحرى صغيرة، طفلة شقراء أجمل من كل الشموس. تمكن رجال الإطفاء من الحد من انتشار الحريق، فلم تكن خسائر السيد روزنكرانت كثيرة. بالمقابل، السلع التي خرج بها الزبائن دون أن يدفعوا كانت كثيرة، جِد كثيرة.
في الخارج، كان الاحتفال بالبطل المنقذ للشمس: موسيقى وقلائد ورد وصور، هو، وهو يحمل البنت، وصاحبه، وهو يحمل السرج. الأول قَبّلته الأم من ثغره، والثاني قضى المسيح بالحكم عليه، وذلك بقطع يده.

* * *

في الليلة التالية، لم تكتحل عين هاملت غُمْضًا، كان لائِرتس يغفو كرضيع، وهو يتقلب على رمضاء البؤس. لم يغادره الشك في نفسه، في صديقه، في عمه، في أمه، في حبيبته، وفي لحظة من اللحظات، ظن أن الشك غادره، لكن الشك كان يخبئ نفسه في دماغه. كم كان يخدعه الشك ليكون، ليكبر، ليعظم، ليغدو الشك شكين، لا ليكون ضحيته، وإنما سيده، سيد الشك أن يكون، وأن يكون الشك في قبضته سياطًا يجلد به روحه: ليرى ما لا يرى، ليسمع ما لا يسمع، وليفعل ما لا يفعل. بفضل شكه في الواقعي، الحقيقي، الكائن، راح يؤمن باللاواقعي، اللاحقيقي، اللاكائن، ويسبح في عالم من الظن. ليس كظن بل كحقيقة. الظن وقد غدا حقيقة لهو حقيقة كل يوم في زمن لا يعرف الحقيقة: لهذا السبب، وجد هاملت نفسه في أحد مضارب الهنود الحمر بين الزنابق والنيران، ولم يقدر على فعل شيء آخر غير البكاء، وَشَتْم العالم، ولعنة الإنسان. ووجد نفسه في أحد مستنقعات القاطورات بين الأسنان القاطعة والمخالب الذَّرِبَة، ولم يقدر على فعل شيء آخر غير الاستسلام، وتمني أن تُرْفِقَ به هذه الحيوانات الضارية الذارفة الدمع على ضحاياها. ووجد نفسه في أحد بساتين الأشجار بين مهابلها وبطونها، ولم يقدر على فعل شيء آخر غير الدخول فيها بكل جسده كي يلذها دون أن يظفر من اللذة بأي شيء.
وبينما هو بين حلم وواقع، سمع صهيلاً يأتي من الخارج تبعه عدو في الشارع العام، ثم ما لبث أن قذف أحدهم النافذة بحجر حطم زجاجها، فقام هاملت ليرى. ومن الشرفة لم ير شيئًا، لم يجد أحدًا، كان كل شيء يسقط في الظلام، والظلام يغذي الأحلام، أحلام العين المغمضة والعين المفتوحة على حد سواء. كان هاملت، وهو ينظر من الشرفة، يرى الشارع العام، وقد غدا نهرًا، وهو يصنع مع النهر جسدًا واحدًا، كان هذا ما يدعى تحقيق حلمك، لما تغدو والنهر جسدًا واحدًا، لما يتكلم النهر معك، وَتُرَدِّد مع النهر ما ليس موجودًا في الكتب، لما تقارب العالم الوحشيّ، وتعيش بحدة، لما تصنع منه جنتك –أو جحيمك- من أجل حماية الطبيعة، لما تؤاخي النهر، وتشعر بنفسك، فتقول هذه حريتي.
أدار هاملت ظهره للشارع العام ليعود إلى فراشه، فإذا بالصهيل يعلو من جديد، وعندما أطل برأسه، رأى الحصان الأسود، الزين، هدية قدم الجبل للعظيم هانس كييركغارد، وعلى سرجه شبح أبيه. أشار إليه الشبح بالنزول، فلم يفعل سوى الطاعة والإذعان. حمله الشبح من ورائه، وذهب به بعيدًا عن ساكرامنتو، هناك حيث لا يوجد غير الغار بيتًا، والنار غذاءً.
- لماذا أنا، يا شبح أبي؟ بادر هاملتُ الشبحَ بالكلام.
- ومن لأبيك غيرك بعد أبيك؟ أجاب شبح السنيّ هانس كييركغارد، مات أبوك وأنت بوفاء!
- هذا ما لا يضمنه أحد في مملكة الدانمرك.
- ومن لأبيك غيرك من أجل الانتقام؟
- أعرف أنه عمي ولا أعرف أنه عمي، فأرحني، لا أريد أن يكون الموتُ لُغزًا.
- أنا هنا كي أزيل شكوكك، وأريحك، إلى الأبد أريحك.
- ستريحني إلى الأبد، وإلى الأبد لن تريحني، فهل تنسى روح هاملت؟
- لا أنسى.
- من العادة أن يطارد الشبح غريم صاحبه ليعذب الغريمَ ضميرُه، ويدفعه إلى الاعتراف.
- عمك لن يعذبه أي ضمير: ها هو يتزوج من أمك قبل أن تنتهي مدة الحداد على أبيك!
- وماذا تريدني أن أفعل؟ أن أبعث به إليك في عالم الأشباح؟
- في عالم الأشباح الكل أشباح.
- إذن ماذا تريد مني؟
- ليس أنا، أبوك. يريد أبوك أن تضع السُّم في نهر ساكرامنتو، وتسمم أهل المملكة.
- أن أضع السُّم... وأسمم...
- موت أخي أبيك وقاتله وموت زوج أبيك وغادِرته لن يغيرا من طبيعة الأمور شيئًا، وطبيعة الأمور هي الجريمة في كل ساعة، والاغتصاب في كل دقيقة، والخيانة في كل ثانية: الجريمة المرتكبة في الإنسان وفي الحيوان، والاغتصاب المقترف على الأرض وفي السماء، والخيانة المعمول بها ضد الطبيعة وضد اللاطبيعة، ضدك أنت وضدي أنا، فأنت فيزيقيا، وأنا ميتافيزيقيا، أنت لغة، وأنا لغة أتخذ منها موضوعًا للعقابِ وتقريرِ أعرافِهِ. وأنت وأنا بريق المعادن، الذهب والفضة والبلاتين، هذا ما يجمعنا من نور منعكس على عكس كل سكان ساكرامنتو الجشعين، مغتصبي تبر كاليفورنيا كما تُغتصب من الإنسان إنسانيته. باسم هذه الإنسانية اقْتُلِ الإنسان، وليس فقط قَتْل من قَتَل أباك أو سكت عن قتله.
- هذا عمل جبار لا يقدر عليه شخص مثلي، كما تعلم، شخص مثلي فقد رجولته.
- طبعًا.
- إذن ماذا؟
- إنها الطريقة الوحيدة.
- لاستعادتها؟
- للثأر لأبيك من كل أهالي مملكته، هذه المملكة الماخور مملكته!
- يا ليتها كانت الماخور لكانت أعظم شيء في الوجود، ولكنت أقوى رجل في العالم!
- مات أبوك في وضع فاجعي، فلا تتركني أموت في وضع فاجعي.
- الأشباح يموتون؟
- احتراقًا إذا ما لم تُلَبَّ رغباتهم، أريد القول رغبات رغباتهم. روحي الآن تحلق كالجناح دون جسد. في الليل، تضرب بكل شيء، تتوجع هي، ولا شيء يتوجع. في النهار، تنام في حلوق البيْسونات الذبيحة لتدفأ بدمها، وتأخذ لون الدم عبثًا. لهذا كانت الأشباح أشباحًا، تحمل على ظهورها الشفيفة كل بلوى الأحياء. لتخلص من هذا المصاب الزمني في عالمها اللازمني، تسعى إلى الانتقام من كل الإنسانية بشتى السبل. إن لم يكن بمقدورك، يا هاملت، أن تحرر شبح أبيك من الشقاء الذي يثقل هامته كما يثقل الحديد هامة دابة حُكم عليها بنقل الأطنان منه، فلن يكون أمامي غير قبول أن أغدو ظِلفًا لبقرة أو حافرًا لحصان أو ذيلاً لكلب، وليس هذا من مقام أشباح السادة، الآلهة على الأرض الذين كان أبوك واحدًا منهم. إن لم يكن بمقدورك، يا هاملت، أن تفعل ما أطلبه منك، فافعل ما يناسب طبيعتك، اقتل عمك وأمك، اقتلهما الاثنين، ولا توفر دمهما، وانتقم لأبيك المغدور، أقل انتقام، هذا صحيح، لأعظم جريمة.
- دعني أفكر في الأمر، يا رسول هادِس.
- لن تفكر في الأمر طويلاً كيلا أموت قبل تحقيق هذا المطلب المصيري، فالمرء لا يعمر كثيرًا في عالم الأشباح، والتفكير في الموت هو التفكير في الحياة عندما يكون الموت موتين، الموت الذي تصنعه، والموت الذي يصنعك. هذا الفرض الجريء لم تقتضه الصدفة.
- الموت الذي يصنعني بعيد.
- ليس بعيدًا جدًا، إنه على مرمى حجر، مسافة خمسين عامًا أخرى إن لم يقتلك أحد كأبيك، دعه يصنعك، فتعيش حياتك. ارْتَدْ عالم الموت لتفهم الجنس أفضل، والمال أفضل، والسلطة أفضل، هكذا لن ترتكب الخطأ الذي ارتكبه أبوك. فعلتُ كل هذا من أجلك، يا بنيّ! بنيتُ مملكة الدانمرك من أجلك، يا بنيّ! قُتِلْتُ من أجلك، يا بنيّ! خطأه كان أنه لم يفعل شيئًا من أجله هو، وفعل كل شيء من أجلك أنت، حتى أن مصرعه كان من أجلك. لم يكن في حياته يريد سكب الدماء، كان كره الدم من طبيعته، فأراق دمه بيدِ أخٍ لَهُ في الدم.
- مع الأسف أنا أيضًا كره الدم من طبيعتي.
- التفكير في الموت سيجعلك تحبه، ستعتبره ندى الورد، وريقَ التوت، ورَشْحَ الفراولة، ستقاوم العزلة بسيفه، فللموت سيف بطراوة العجين، سيدفعك إلى احتمال الفشل، والركض وراء النجاح من أجلك بدافع ابتسامة شاحبة لطفلك تسكن بين عينيك ولا تغادر دماغك، نعم، من أجلك لا من أجل طفلك كما فعل أبوك، فخسر حياته، وخسر موته. لم يفهم أبوك أن لابنه سيعود كل شيء فيما بعد، والبحث عن السعادة كالحقيقة لا ينتهي بالموت، يستمر على أيدي الأحياء، يكون الموتى لهم نبراس وقتهم، لهذا هم لا يموتون، يبقون معنا، نتحدث وإياهم كل يوم، نأكل معهم، نضحك معهم أو نبكي، ننام قربهم. كان أبوك مستعجلاً، لهذا مات. كل الأحلام التي حققها لم تكن كل الأحلام، فمات بسببها. لو لم يقتله أخوه لقتل نفسه، وهو على أي حال في حياته كان يقتل نفسه، ولم يترك للموت الفرصة على الذهاب بحياته إلى أقصى مدى. غار الموت من حياته، فتآمر عليه. لا يكن يأسك من آمالك سريعًا كيأس أبيك، فها هو يدير للعالم ظهره بعد أن أدار للمجرم ظهره. كان شعاره اللازائف: "هم الخاسرون ليس أنا!"، وكان أمله الزائف: " سيأتي يوم يَقْدِرُوني فيه حقَّ قَدْري!". كم من فرصة أضاعها كانت الحياة أهمها؟ مسكينة يا دانمرك وكل هؤلاء القِمَاء!
عبّر الشبح عن كل ما عبّر، ونهض ليمتطي وهاملتُ الزينَ.
- سأعيدك إلى حيث جئت بك، قال.
لم يتحرك هاملت من مكانه، فطلب الوهم إليه:
- ماذا تنتظر؟ أن أفعل مكانك ما تريد أن تفعل كما فعل أبوك؟
- سيكون إعجاز الوجود.
- بالفعل، فالأشباح لا يقدرون على فعل أي شيء.
- يقدرون.
- على ماذا؟
- على ألا يكون هناك إعجاز.
- مهمتك تقترب من الإعجاز.
- مهمتي صعبة، وهي من الصعوبة الشيء الكثير، بحيث أتساءل إذا ما أنا أهل لها.
عدا الزينُ، وهاملت يطوق الشبح بذراعية كيلا يسقط. بدأت خيوط الفجر تفلتُ، وشيئًا فشيئًا تَشِفُّ، إلى أن وجد ابنُ السيدِ المغدورِ نفسَهُ، وهو يضم الضياء. شد اللجام، ولم يبق غيره من يقود الحصان. رَغِبَ في العودة إلى مربى الماشية، ليفكر فيما سيفعل، وهو على مقربة من غريميه، في قلب المكان الذي ارتكبت فيه أفظع الجرائم، إلا أنه مضى بالكنيسة المفتوحة للعباد ليلَ نهار. دخلها ليجد الشموع دومًا الشموع، والأيقونات دومًا الأيقونات، والتماثيل دومًا التماثيل، المسيح على الصليب، أديمه العبادة والبرد، ومريم في هالة من الضياء الأزلي، تمارس مع الله ما يمارسه عباده من اتحاد النفس به، فقرر مغادرة المكان بعجلة. وهو قرب البوابة، التفت، بعد قليلٍ من التردد، فوجد ماري تبتسم له ابتسامة العذراء التي كانتها دومًا وأبدًا، في كوميديا الإيمان.


















القسم الثالث

كالحبال الرابطة أرض البشر بجحيم الآلهة الغبار، والساكسفون الثاقب لآذان الكون الضوضاء، لِعِلَّةِ العربات الفاعلة التي لا تتوقف عن الذهاب والإياب في الشارع العام، شارع نشور الموتى من الجن والإنس، والأحصنة التي لا تنقطع عن الحركة، والبغال، والكلاب، والقطط، والثيران، والظبيان، والعتاريس، والمجاذيب، والسعادين من الآدميين، والغرباء الغريبين، والملاعين اللاعنين، والمتروكين التاركين، والحالمين بالرمل تبرًا وبالتبر قصورًا وبنوكًا وفساتين، والخارجين على القانون من قاتلين وياسمين، ورعاة البقر في ثوب المُشَلِّحين، والمُشَلِّحين في ثوب عباقرة نظام ذات اليد وذوات الجناحَيْن. وهم يتساقطون في الغبار، ويحوّمون مع الضوضاء، كان المشاهدون يسمعون بصعوبة ما يقوله ممثلو المسرح المتنقل، فيذهب الفاقد لصبره على الرغم منه نادمًا، ويبقى الباحث عن نفسه في ثوب احتمالية الفاجع، وكل شيء محتمل في عالمٍ الحقيقةُ فيه أقوى الحقائق وأقساها.
- سأفعل أول ما أفعل من أجل أخي المرحوم، قال الممثل في ثوب الملك، تشييدَ قبرٍ عظيمٍ بقدر العظمة التي كانت له، سأرفعه مترين، على قاعدة مساحتها عشرة أمتار مربعة، وأنحت له تمثالاً، أعظم تمثال، بل تمثالين، أضعهما على يمين ضريحه وعلى يساره، فينظر الزائر إليهما قبل أن ينظر إليه، ويخال الناظر أن الأول يضحك عليه، والثاني يضحك منه، ولا يجد من بد سوى الابتسام.
- بين يدي الأموات نبكي ولا نبتسم، ردت الممثلة في ثوب العاهرة.
- أيتها الجاهلة! الابتسام في حالة المرحوم أخي أكثر حرارة من كل الدموع، الابتسام من ماض كان عظيمًا، وعلى ماض كان يمكن أن يكون أعظم.
- وهل سيقبل المرحوم أخوك استغراق زائريه في الابتسام بدل التأمل؟ سألت الممثلة.
- ليس هو من يقول أقبل أو لا أقبل وهو لم يعد ملكًا.
- على أي حال، أخوك مات، والموتى يقبلون بكل شيء.
- هذا ما لم أفكر فيه.
- لكنهم لا ينسون كل شيء.
- وهذا ما لم أفكر فيه.
- الأحياء نعم، أما هم...
- الأحياء، الأحياء، أين الأحياء؟
- كل هؤلاء.
- كل هؤلاء بالنسبة لي موتى.
- حذار من أن يذكروا ما حدث للقتيل ملكهم.
- إذن فليكونوا إلى الأبد أحياء.
- ستطاردهم ذاكرة الموتى.
- فلتطاردهم، إلى الأبد فلتطاردهم، هذا الصولجان لا يخشى أحدًا بعد اليوم.
- والمجنون الكاره للصولجان الباحث عن الحقيقة؟
- هذا الصولجان سيقتله.
- بسبب كره المجنون للصولجان؟
- بسبب كره الصولجان للمجنون.
- هل يخافُ الملكُ؟
- يرتاب. يحاذر.
- لهذا يقتل.
- للملك ما يهم ليس من سيقتل وإنما من قتل قبل أن يغدو ملكًا.
- سيدي، سيدي، صرخت ممثلة ثانية في ثوب العاهرة، وهي تخرج من وراء غطاء، المجنون قتل يدك اليمنى، وهو عازم على قتلك، لأنه يعرف من قتل.
وانفجرت ضاحكة.
- ها هو الأمر يتعقد أكثر، قال الممثل.
- لصالحك، قالت الممثلة الأولى.
- لصالح الصولجان.
- سيدي، سيدي، عادت الممثلة الثانية تصرخ، عندما عرفت حبيبة المجنون أنه قتل أباها، فقدت عقلها، وألقت بنفسها في مياه ساكرامنتو.
وانفجرت ضاحكة.
- انتحرت؟ استفسر الممثل.
- انتحرت، أكدت الممثلة الثانية، وانفجرت ضاحكة.
- ها هو الأمر يتعقد أكثر فأكثر، قال الممثل.
- لصالحك، قالت الممثلة الأولى.
- لصالح الصولجان.
- سيدي، سيدي، صرخت الممثلة الثانية للمرة الثالثة، تبارز المجنون وأخو حبيبة المجنون، وقتل كل منهما الآخر.
وانفجرت ضاحكة.
- ها هو الأمر...
- يتعقد أكثر فأكثر فأكثر.
- تم كل شيء كما كنت تريد دون أن تريد.
- ليس كل شيء.
- الحذر لا يمنع القدر.
- لوجه الدم قسمات لا تبدو للعين، وعلى العكس تبدو واحدة واحدة مع كل ضحية بريشة رسام ساخر، لأن الضحية ما هي سوى تمثيل لإحدى القسمات الهزلية للدم، وما كان من ضحايا لا يعبر عن كل قسماته.
وانفجر ضاحكًا.
- على أي كاريكاتور لضحية تضحك؟
- كاريكاتور الضحية القادمة.
أُسدلت الستارة، والمشاهدون يبكون بكاء الثواكل واليتامى دون أن يبالوا بالصحن الذي يدور بينهم من أجل بعض السنتات. تفجرت دموعهم كالينابيع، فلم يستطيعوا جمعها بمناديلهم. نظروا إلى بعضهم من خلال أعمدة الغبار، ولم ير الواحد منهم الآخر. سمع الواحد والآخر نشيج الماء، فنهرا ساكرامنتو والأميركان رِيفَر لم يكونا بعيدين. تذكروا قتلاهم، وأحسوا بالجوع، لكنهم داوموا على البكاء. لم يتحركوا من أماكنهم، فاستغرب الممثلون موقفهم. خرجوا، وانتهروهم ليتوقفوا عن البكاء، ويذهبوا، ليعودوا إلى بيوتهم وأشغالهم. نزلوا عن الخشبة، وأخذوا يدفعونهم، ويشتمونهم، فصاح واحد على حين غِرة: "برافو!"، وهو يصفق من شدة الحماس، بينما الآخرون يداومون على دوام البكاء. أخرج مسدسه من القِراب، وأطلق الرصاص على المتفرجين، على الممثلين، على العابرين، على الأحصنة، على البغال، على الكلاب، على القطط، على الثيران، على الظبيان، على العتاريس، على المجاذيب، على السعادين من الآدميين، على الغرباء الغريبين، على الملاعين اللاعنين، على المتروكين التاركين، على الحالمين بالرمل تبرًا وبالتبر قصورًا وبنوكًا وفساتين، على الخارجين على القانون من قاتلين وياسمين، وعلى رعاة البقر في ثوب المُشَلِّحين، والمُشَلِّحين في ثوب عباقرة نظام ذات اليد وذوات الجناحَيْن، والغبار يأتي بالغبار، والضوضاء تأتي بالضوضاء، والتوت يأتي بالضوء.

* * *

تقدم بولونيوس، اليد اليمنى لكلوديوس، مع رينالدو، اليد اليمنى لبولونيوس، في الممر الطويل للبيت الكبير، وهو يحمل عَقد اليونيون باسيفيك ريلرود ممضى من طرف الحكومة الفدرالية، والدنيا لا تكاد تسعه من الفرح.
- أحسنت صُنعًا، يا رينالدو، أثنى بولونيوس، فعل كهذا مأثرة ما بعدها مأثرة، وسأعمل على أن تكون مكافأة السنيّ كلوديوس كييركغارد أعظم مكافأة.
- أنا في خدمة سيدي بولونيوس وولي نعمتي كلوديوس دون مكافأة، همهم رينالدو.
- ملح البحر يحلو على سماع هذه الكلمات من فم الأخلص لنا بين المخلصين، عاد بولونيوس يثني قبل أن يطرق باب مكتب المتوج الجديد، ويدخل. ها أنا آتيك بكل قطارات المعمورة، يا صاحب المقام الرفيع، توجه بولونيوس بالكلام إلى كلوديوس كييركغارد، وهو يرفع بيده الملف الذي طال انتظاره، فهل تسمع صفاراتها؟
نهض كلوديوس كييركغارد من تحت اللوحة الكبيرة لرسمه هاشًا باشًا، وتناول عَقد السكة الحديدية بأصابع مرتعشة، بينا اليد اليمنى يضيف:
- بهذا الإنجاز يكون رينالدو قد قام بمأثرة ما بعدها مأثرة!
- شكرًا لرينالدو، ألقى كلوديوس، وهي يقلّب أوراق العَقد، وشكرًا لك، أيها العزيز بولونيوس. اطلباني كل ما تشاءان، وعلى أي حال أنتما تعرفان المكان الذي لكما في قلبي.
- هذا كل ما أطلب، يا صاحب المقام الرفيع، همهم رينالدو، المكان الذي لي في قلبك، وليس المكان الذي لي على الأرض.
- نعم، المكان الذي لنا في قلبك، هذا كل ما نطلب، أعظم طلب من أعظم صدر، أضاف بولونيوس قبل أن يأمر مرؤوسه: قطيع البقر الذي ننتظره من الهند قادم بين عشية وضحاها بعد أن غادر ميناء لوس أنجلس منذ بضعة أيام، فاعمل على استقباله، يا رينالدو، أحسن استقبال، فهو بقر مقدس! أغبياء نيودلهي لا يعرفون ما المقدس بين الأسنان العاشقة لكل ما يجيء به الباربكيو من لحوم مشوية!
- تحت أمرك، يا سيدي، كل ما له علاقة بالمقدس وغير المقدس.
- لن أحرمك من الراحة طبعًا بعد رحلتك الطويلة الشاقة.
- لا يكن بك هَمّ من أجلي، يا سيدي.
- بلى، بلى، أَوَ ليس لي غيرك ممن أثق به؟
- الحقيقة...
- نحن لا نريد أي تحد للحقيقة.
- اذهب وارتح، يا رينالدو، أمر السنيّ كلوديوس كييركغارد، تعاشروا كالأحباب وتعاملوا كالأجانب، قال قبل أن يأخذ به صفعًا ولكمًا.
- كيلا أرتكب غلطة سهو، يا صاحب المقام الرفيع، سارع رينالدو إلى القول، وهو يحاول تدارك كل هذه الصفعات وكل هذه اللكمات.
- السهو متدارك، لهث سيد مرعى الماشية الجبار.
- اتكل عليّ، لهث رئيس رعاة البقر، وهو يلتقط دم أنفه.
أعطاهما ظهره، وخرج، وهو يقفل الباب بهدوء من ورائه.
- الآن وكل جُسْتِنْيانوس بين يديك، يا صاحب المقام الرفيع، قال بولونيوس، وكأن شيئًا ما كان، علينا إكمال ما بدأناه من تحضيرات للبدء بالوُرَشِ الكبيرة.
- لو كانت سكة الحديد من ذهب لهان الأمر، ألقى المتوج الجديد.
- الحديد سنأتي به من المكسيك، والخشب من أي مكان في كاليفورنيا، لكن ما يقلقني أمر اليد العاملة.
- كل هؤلاء الرعاع الذين يملأون مملكة الدانمرك، وتقول ما يقلقني؟
- لا يد لنا من يد عاملة تفهم ما تعمل، وتتقن ما تعمل، وإلا فسد هذا المشروع الجبار، وجرجر قدميه كما تجرر السلحفاة قدميها.
- الصينيون من تريد؟
- هم الأوائل في هذه التقنية الحديثة، أنصاف آلهة بحق في هذا الميدان، دونهم لن يكون قطار في أمريكا يشقها اليوم من غربها إلى شرقها، والغد من شمالها إلى جنوبها.
- وما العمل إذن؟
- سأكلف لائِرتس ولدنا باستقطاب أكبر عدد منهم، من الصين نفسها لو احتاج الأمر، فيركب البحر، ويضع قدمًا في بكين وأخرى في سان فرانسيسكو.
- في سان فرانسيسكو؟
- سان فرانسيسكو الرمز، يا سيدي، تحت كل معاني قوتك وعظمتك وجبروتك.
- أشكرك، أيها الغالي بولونيوس، على كل ما تفعله لنا.
بدا حائرًا، ولثوان لزم صمتًا مُطْبِقًا، فتلعثم يده اليمنى:
- هل أقرأ في الحيرة المكتوبة على وجهك سطور الريبة في هاملت، هذا النذل؟
- هاملت! يا ليت ما كان هاملت؟
- أنت شغله الشاغل.
- لماذا لا ترسله هو إلى الصين، فينشغل بأحد آخر غيري؟ اقترح صاحب المقام الرفيع.
- على الرغم من كل الأذى الذي ألحقه بأوفيليا، يظل هاملت صغيرًا في عقله وفي فعله، إنه لا ينفع لشيء، فلا تقلق من ناحيته.
- لا ينفع لشيء، ابن القحبة!
- كل يوم يتهم أحدًا بقتل أبيه، وفي إحدى المرات سمعته يقول لجميلتي أوفيليا، هذا الوغد، إنه هو من قتله، ولولا تدخل ابنتي، لأرسل طلقة إلى رأسه.
- يا ليت أوفيليا تركته يفعل، هكذا نرتاح منه ومن شره.
- أنا أراقبه منذ زواجكما أنت وصاحبة المقام الرفيع السيدة جيرترود، وسأبقى على مراقبته، فلا يحمل العظيم كلوديوس همًا. لدي عيون في كل مكان على الأرض، وستكون لي عيون في السماء لو يلزم، للحيلولة دون أي ضرر يمكن لهاملت أن يسببه لك أو لأُمِّه.
- لأُمِّه؟ لأُمِّ من؟ لأُمّ هاملت؟ ألقت صاحبة المقام الرفيع، وهي تقتحم المكتب بِفِتنتها وهيبتها في ثوب الدانتيل الأصفر، تتكلمان عني؟
- جيرترود، سارع كلوديوس إلى القول، وهو يذهب لاستقبالها والإمساك بذراعها، إنه ولدنا هاملت، يغلق عليه باب حجرته، وأحيانًا لا يغادرها النهار يتبعه الليل والليل يتبعه النهار، سلوك كهذا لا بد أن يسبب كبير القلق لي ولك.
- من واجبنا كلنا، يا صاحبة المقام الرفيع، تدخل بولونيوس، أن يعود هاملت إلى طبيعته ما بيننا.
- ولكنها طبيعته، أكدت أم هاملت بعصبية، أبدًا لم يكن هاملت اجتماعيًا. ذَرُوهُ على حاله!
- بالتأكيد! ثنّى صاحب المقام الرفيع على قول صاحبة المقام الرفيع، ومن هنا تجيء كل تخوفاتي عليه، فمن واجبنا كلنا، كما قال الوفيّ بولونيوس، أن نحمي هاملت من هاملت، فالعزلة لا تلد من بنات غير الأفكار السوداء. لقد هَمّ بقتل نفسه لو تعلمين...
- هاملت يقتل نفسه؟ أعادت جيرترود مرتعشة.
- لولا لم تكن الجميلة أوفيليا.
- جميلتي أوفيليا لم تعد الجميلة كما الكل يعلم، ألقى بولونيوس، خيرها كخير هاملت في الزواج، يا سيدتي، ويا سيدي، إنه الحل الوحيد لكل مشاكل هاملت.
- في الزواج! نفرت جيرترود من الفكرة، هاملت صغير على الزواج، وأوفيليا أصغر، الزواج لمن هو في عمرهما كمن يستكين إلى الهوان.
- زواج هاملت أفضل من قتله لنفسه، أيد كلوديوس الفكرة.
- لن يكون هناك زواج، نبرت أم هاملت، سأوبخه، وسيسمع كل من في هذا البيت الكبير ما سأقوله له. يقتل نفسه؟ هاملت يقتل نفسه في حياتي؟
- سآتي معك، سارع كلوديوس إلى القول.
- لا، ولكني سأرسله إليك، أنت أيضًا لا تلجأ إلى الحروف المهموسة نطقيًا، فننقذ الولد من حماقتين يرتكبهما.
أعطتهما ظهرها، وخرجت، وهي تطرق الباب من ورائها.
- داوم على مراقبتك لابن القحبة هذا، أَمَرَ صاحب المقام الرفيع يده اليمنى، وسأرى ما يجب فعله، هذا صعب رغم كل شيء.
- مكتب البحث والتقصي تحت كندرتي، كما تعلم، يا سيدي، أنا أدرس معهم أفضل الوسائل لإرساله عند خالته.
- لهاملت خالة؟
- في لغتهم الخاصة هذا يعني السجن.
- السجن لا يكفي.
- في أسوأ الاحتمالات السجن أحسنها.
- إلى الشيطان، أعهد إليك في إرساله إلى الشيطان، إلى جهنم، لتكسير رؤوس الأبالسة لا رأسي.

* * *

خاطب هاملت مسدس أبيه بحضور هوراتيو تحت وقع السأم والقرف:
- أعرف أنك موجود، فأنا لا أشك في وجودك. أراك، وأنت هادئ في صمتك، كجسد تجندل بإحدى رصاصاتك. هل تكون جسدًا دون روح؟ كيف أبعث فيك الروح؟ ألم تعد تعرف طريقك إلى الصدور التعسة؟ لماذا تقنع باليقين؟ هل تتجاوز عالم المعرفة إلى ما فوق الطبيعة؟ كل هذه الطبيعة ما فوق طبيعة! هذه هي عقيدتي! عبث في عبث! من داخل العبث تُبنى أفكاري، هواجسي، علاقاتي، ارتباطاتي، حمرناتي، خريناتي! وها أنت على باب العبث تقف ولا تدق بكل جبروتك، بكل عصيانك، بكل أحلامك الدموية، بكل أمانيك الجهنمية، ها أنت تنتظر أن أعيد تشكيلك، فتستعيد صورتك الهمجية، أن تعود إلى سلوكك الأول، فتتصرف بحقد. كل الأجساد التي تنتظر في الخارج حتفها ستصفق لك تحت وابل من النار، كل العِظاء التي ترعى الأعشاب في قيعان الأنهار، كل الخنازير البرية التي تنشر آثار أظلافها في كل مكان بترك أماكن وجودها، كل الأيائل التي ترفع على قرونها القمم الشماء، وكل قرون الأكباش، وكل قرون الثيران، وكل قرون الأزواج الذين جعلوا من زوجاتهم عاهرات في أحضان الذهب والهَلِّلويا، تسبيحة شكرٍ لله، هناك غير بعيد عن مملكة الخطايا، وكل الجماجم التي ترقص تحت أقدام الموت، وكل الكواسر التي تحلم بتمزيق لحم الوقت.
- نحن كلنا خاطئون، يا سيدي وصديقي، همهم هوراتيو، هذا ما علمتنا إياه صاحبة المقام الرفيع والدتك السيدة جيرترود، ومن واجبنا أن نكفّر عن خطايانا وخطايا الآخرين.
- بالتضحية، صاح هاملت، سنكفر عن خطايانا وخطايا الآخرين بالتضحية بالنفس، هذا ما علمتك إياه صاحبة المقام الرفيع والدتي زوجة صاحب المقام الرفيع عمي، يا للشيطان! التضحية بأبي قد تمت، كل خطايا هذين العربيدين قد تم التكفير عنها...
- هاملت، لا تسئ الظن في أمك!
- كل ذنوبهما السابقة واللاحقة، فاللاحقة أكثر من السابقة، أستطيع أن أؤكد لك، هذا المسدس الأخرس ينطق بالحقيقة، وهذه هي الحقيقة، خطاياهما القادمة لن يقدر الكهنة على إدراجها في حساباتهم، خطاياهما القادمة لهي كوابيسنا القادمة، إلا إذا كنت على استعداد للتكفير عنها، فهي خطايا الآخرين كما علمتك إياه قحبة الخراء أمي!
- هاملت!
- هكذا سيخرج مسدس أبي من صمته، أَجْعَلُهُ ينام على ثديك، وعلى بطنك، وعلى فخذك، فيستعيد حرارته...
- هاملت، توقف!
- أجعله يتنزه على جسدك ما طاب له التنزه، فيستنشق رائحة المساء الأسود، ويغدو إنسانيًا إلى حد الفتك بالناس...
- توقف، أرجوك!
- أجعله يصرخ إني بريء في الوقت الذي يجندلك فيه برصاصة خائنة.
- أَسْمَعُ خطوات قادمة، فتوقف، باسم الرب، لنؤجل هذا إلى المرة القادمة!
- لقد مات أبي غدرًا بهذا المسدس الوفي، وضعه أبي في ظهره، وأطلق، فكان كفارة نفسه، هكذا يضع العقلاء حدًا لحياتهم عن طريق الشك، وأبي الطيب لم يعرف أبدًا الشك، لم يشك أبدًا في أحد، لم يشك أبدًا في شيء، كان أبي كالآلهة المخصيين، لهذا كان عظيمًا.
- هاملت! ما هذا الهُراء؟ نبرت صاحبة المقام الرفيع أول ما اخترقت حجرة ولدها، صحيح إذن ما قاله عمك ووالدك "العزلة بناتها الأفكار السوداء"!
- تريد أمي وسيدتي القول "الطبيعة العابثة بناتها كل الأفكار السوداء والبيضاء والحمراء والخضراء والخرقاء والخرياء و...".
- اخرس، يا بنيّ، فلتخرس!
- سأترك سيدتي صاحبة المقام الرفيع وحدها مع سيدي وصديقي، لو سمحت سيدتي، همهم هوراتيو.
- التكفير عن خطايا الآخرين سيكون للمرة القادمة، هتف هاملت بصديقه الأسود قبل أن يغادر الحجرة، ويغلق الباب من ورائه.
- خطايا الآخرين! أعادت جيرترود حائرة، ماذا تعني؟
- كيف تَصْنَعْ أَصْنَعْ، هذا ما يقوله المسدس.
- ماذا تفعل بمسدس أبيك؟
- بارد برودة الجليد مسدس أبي.
- شيء طبيعي أن يكون باردًا برودة الجليد ولا أحد يستعمله.
- لا، ليس هذا. لأنني لا أحسن استعماله.
- ابني وحبيبي، من نعومة أظافرك، وأنت تنأى عن العنف، تخشى ظلال البنادق.
- سأحسن استعماله، لا لشيء إلا ليدفأ.
- ألم تعد تخاف السلاح؟
- السلاح هو الذي لم يعد لا يخافني.
- هذا لأنك الأشجع.
- سأعرف كيف أستحق هذا الثناء.
- إذا كنت على مستوى ما تسعى إليه، فاذهب في الحال، وتكلم مع عمك وأبيك، إنه شديد القلق عليك، ولا يريدك أن ترتكب أقل حماقة. هل تسمعني، يا هاملت؟ اترك العزلة لسلاحك، واحم نفسك منه.
- لم يأمرني بعد سلاحي بالذهاب عند زوجك لأجد حل أمري معه.
- ماذا تقول؟ صاحت الأم غاضبة، دعه يتحكم بقرارك، سلاحك!
- إنه أبي، وأنا أنتظر الأمر منه.
- هل تتهته، يا هاملت؟
- ألا ترين أبي كيف أنقله بأصابعي؟ ألا تجازفين مرة واحدة في حياتك لمعرفة إذا ما كان هو دون إثبات؟ ها هو أبي! صاح هاملت ملوحًا بالمسدس، أحمل جثته الباردة برودة الجليد! ثقيلة جثتك، يا أبي! جثتك تتكلم، ليست موجودة جثتك، لكنها تتكلم، تأمر، تنهي، تدين، تدندن لحنًا جنائزيًا، فكل الوقت للموتى، ومن الملل تدندن لحنًا جنائزيًا للقادمين إلى المقابر منا. أمي هنا، جيرترود الوفية هنا، هل تريد أن تكلمها؟ قل لها ما يثقل قلبك، قل لها إنها تزوجت من أخيك قبل تمام مدة الحداد عليك، قل لها إنك فرحت لذلك، فأنت تكره كل شيء اسمه أسى، وإنك لو تموت ثانية لطلبت منها الزواج بأخيك في اليوم الذي تموت فيه، قل لها إن هاملت سيتعلم ضرب النار ليفرح على طريقته، قل لها إنك لا تنطق كيلا تخيف، كيلا تخاف مما تنطق، كي تعتقد بوجودك، أنت الميت غير الموجود، دون أن تسمع صوتك، كي تعتقد بأنك قابل للبرهان، ككل فكرة عقلانية قابلة للبرهان.
قال هاملت ما قال، وأمه تكاد تسقط مغشيًا عليها.
- أم أنني أعيش الحقيقة وهمًا؟ همهم الشاب المعذب.
- ما تقول لا ظل فيه للحقيقة، همهمت القانطة جيرترود، إذا ظلت الأمور هكذا، تعذبت باطلاً، يا بنيّ، فجيرترود ستظل جيرترود.
- عِقد الياقوت الأحمر هذا كان هديتي لها، قال هاملت كليلَ الظُّفْر، وهو يخرج العِقد من جيبه. أحضرته من الهند، فلم أجدها، كانت قد ماتت.
- هاملت، كيف تجرؤ؟
- كانت الطريقة الوحيدة ليتوقف عن حبك، نعم، هذا الأب، أشار إلى المسدس، على الأقل، ليحبك أقل، ليحبك أقل لا ليحبني أكثر، بالله عليك ماذا بحبه أنا فاعل؟ طوال حياتي، وأنا أتمنى أن يبدل مهنته، فالآلهة تبدل مهنها، عادلة تكون وجلادة تغدو، وهو أبدًا لم يبدل مهنته إلا بعد أن أُجهز عليه، غدا حدادًا. كانت الطريقة الوحيدة ليكون غير ما هو عليه، أن يُقتل. اليوم تجدينه أكثر سعادة، معك أو غير معك أكثر سعادة. لم تعد طاعة الآخرين شيئًا مزعجًا، ولا احترامهم، ولا تقديرهم، لم يعد الأمر الذي يعطيه مسألة حضارية، لم تعد هيبته مناورة سياسية. اليوم لا يفعل هانس شيئًا آخر غير طرق الحُدْوَات على قياس حوافر الخيل، بأمر حوافر الخيل يقضي باقي عمره. اليوم وَفّى دينه كاملاً، بينما لا يفعل كلوديوس شيئًا آخر غير طرق جيرترود ألذ طرق!
وبيد لم تدرك من قبل لذة الضرب صفعته، فاعتذر:
- ليست الوقاحة من طبعي، فاسمحي لي، يا أمي!
أرادت أن تصفعه ثانية، فأمسك يدها. انهارت جيرترود، وانهار هاملت. لفظ كلمات غير مفهومة كالهزْل واللعب والتفاهة والخُيَلاء والهُزْء والفُكاهة والطيش والإحالة... تلوى كالطفل في حضن أمه، وتلوت كالطفلة في حضن ابنها، كانت طريقتهما في التعبير عن عواطفهما، كالتعبير عن إرادتهما، كالتعبير عن قناعتهما، كالتعبير عن رفضهما، كالتعبير عن غضبهما، كالتعبير عن سرورهما، كالتعبير عما في جواهما.
- أحبك، يا بنيّ! همست جيرترود.
- لم تحبيني طوال حياتك، يا أمي، همس هاملت.
- هاملت، كيف تجرؤ؟
- لماذا تكذبين؟
- أنا لا أكذب.
- أنت تكذبين.
- أنا لا أكذب، أنا لا أكذب.
- مذ كنتُ صغيرًا، وأنت تكذبين.
- أنا لا أكذب، أنا لا أكذب، أنا لا أكذب.
- أنت تكذبين على هاملت في كل مرة يريد فيها هاملت أن يعرف.
- أن يعرف ماذا؟
- أنك لا تكذبين.
- أنا لا أكذب.
- أنّ أمه تحبه.
- أحببتك أكثر من أية أم، لم أزل أحبك، وسأحبك ما بقي في قلبي خفق.
- أنت تكذبين.
- أنا لا أكذب، أنا لا أكذب، بماذا أحلف لك؟
طبعت قبلة على يده، وعلى خده، وعادت تهمس:
- أنا لا أكذب.
- بلى، همس هاملت، وهو يطبع قبلة على ثغر أمه.
- أنا لا أكذب، همست جيرترود، وهي تطبع قبلة على ثغر ابنها.
- وهو؟ همس، وهو يطبع قبلة طويلة على ثغر أمه.
- من؟ أبوك؟ همست، وهي تطبع قبلة طويلة على ثغر ابنها.
- عمي.
- أحبه.
- هذا الوغد ؟ همس، وهو يطبع قبلة طويلة على ثغر أمه.
- لا تَكْشِرْ أظافرك فيه.
- ...
يُقَبِّلُ أمه من كل مكان في وجهها.
- إذا قتلت عمك، ألقوا القبض عليك، وشنقوك، وإذا استطعت الهرب، طاردوك، فتغدو قاطع طريق.
- ...
يُقَبِّلُ أمه من عنقها، ومن كتفها، ومن ثديها.
- وفي الأخير، سيمكنهم قتلك، وأنت تخفي نفسك في أحد المواخير.
- ...
يأخذ حلمة أمه بفمه، ويعضها برقة عضًا لذيذًا يدفعها إلى التأوه المتشنج والصراخ المختنق.
- فما الفائدة؟
- ...
يفتح فخذي أمه، ويدفن رأسه بينهما، وهي ترتفع بكل جسدها لتصل إلى مملكة السماء.
- قل لي، ما الفائدة، يا هاملت، ما الفائدة؟ ستنطبق السماء على الأرض إذا ما جاءني خبر موتك، سيخترقني الزمن بمخالبه، سيرميني الإله في المكان الأكثر لهبًا من الجحيم. آه! يا ولدي، كم أحبك، كم أعبدك، كم أحن إلى حنانك، فاملأني بحنانك، دمرني بصلاتك، فجرني بهواك، يا ولدي، يا ولدي، آه! يا ولدي...
لكنها جمدت فجأة، وهي تسمعه يبكي بين فخذيها، ودمعه يسيل فيها محرقًا.
- هاملت، ماذا دهاك، يا بنيّ؟ قالت جيرترود متلهفةً، وهي تجذبه إلى صدرها، وتضغطه بحنان كل الأمهات. تبكي أنت، أنت من لا يُصطلى بناره!
إلا أنه دفعها عنه بعيدًا، عنيفًا، وقد أُصيب في صميم قلبه:
- أيتها البغيّ!
غرز أظافره في عنقها، وأراد خنقها، وبعد صراع قصير، تخلصت من تِنِّين ارتكاب المحارم، وهربت من جسده إلى جسدها. هذا ما كنتَ تريدُ أن تفعله منذ مولدك، أيها الوغد! قال هاملت لنفسه بصوت عال. بمثابة الإعجاز هو، وكم هو سهل! كقيامك وقعودك، كذهابك ومجيئك، كسعالك وأنينك، كضرب رأسك في الجدار! هكذا! هكذا! هكذا! كاختراقك المرآة بقبضتك! هكذا! حدق هاملت في أصابعه المدماة، وصرخ، من الرعب صرخ لا من الوجع. كان ذلك في البداية، ثم حط الوجع في جسده، في كل جسده، في رأسه، في صدره، في بطنه، في فخذيه، في ساقيه، في قدميه. أراد أن يمسكه، وهو يزلق كالسمكة من بين أصابعه المدماة، إلى أن تجمع كله في رجولته الفقيدة، وتفجر كما تتفجر الأفاعي والعقارب والديدان.

* * *

والأحصنة تعدو، كان الاحتفال مع الحياة، إيقاع الحوافر كان سيمفونية الطبيعة، وأذيالها في حركتها أشبه بحركة وعي العالم، كانت الأجساد الرشيقة الحقيقة ذاتًا، فكل راعي بقر يراها على هواه، وكل راعي بقر يعانقها كما تملي عليه رغبته، كامرأة أو شجرة أو مِرساة. كانوا في وضع لا يسمح لهم إلا باحتوائها، لئلا تفلت الأحصنة من أياديهم، ويكون عليهم الذهاب من جديد للمجيء بها، وأكثر من هذا تبرير ذلك لدى السنيّ كلوديوس كييركغارد، من هنا كان كل ذاك الحرص، وكل ذاك الانتباه، وكل ذاك التفاني: نحن رعاة البقر نشهد على شرفنا أن هذه المخلوقات الأسطورية لهي ديننا، فُتِنَّا في ديننا من أجل هذا الدين. كانت الأحصنة، وهي تقفز عادِيَةً، تلخص كل العناصر الأولى لجالية، لأمة، لشعب يولد من العدم، شيء لا شك فيه، ويقين لا يحتاج إلى أدلة، علاقة ذاتية مع الالتزام المطلق.
عندما رأى رعاة البقر الآخرون وصول الأحصنة وهي تتحرك تحرك النساء العرايا في الضوء، سارعوا إلى فتح السياج عن الأرض المسورة الخاصة بها. وفي الأخير، أقفلوا السياج على إحدى القوى الطبيعية، ليسيطروا عليها. لم تعد الأحصنة، هذه الطبيعة الشرسة، تعيش حرة على أرض مملكتها. إنها اليوم في ساكرامنتو، مملكة الدانمرك. بفضلها فهم رعاة البقر أنفسهم، ولم يفهموها، فها هي تصهل صهيلاً عنيفًا أقرب إلى العواء. إنه غياب كل أمل، فالأحصنة الغاضبة من كل شيء والهنود الهادمون لكل شيء كلاهما واحد: عند غياب كل أمل يغدو العِداء الوسيلة الوحيدة في العلاقة مع الطبيعة أو مع الإنسان.
خرج كلوديوس كييركغارد ويده اليمنى بولونيوس على أصوات تلك الحيوانات الأسيرة، ولكن ما لفت انتباههما قدوم قدم الجبل، بصحبته دنيا من الرجال والنساء والأطفال: أرياشهم التي تتجدد ألوانها كل ربيع محترقة، ثيابهم التي تقاوم الوقت مقاومة الظباء ممزقة، أقدامهم التي طين الأرض لها ضماد مدماة، يجرون أنفسهم، ويجرجرون أقدارهم كما يجرجرون قدورهم، وهم يحملون جثث القيّوطات المغتالة، وينتحبون.
- هذه القيّوطات المقتولة وتلك الخيول المسروقة آخر ما نملك، قال رئيس القبيلة الهندية للمتوج الجديد، والأرض-الأم طُرِدنا منها، فلم يعد لنا مكان نبيت فيه.
- كل أرض كاليفورنيا ولا مكان تبيتون فيه! تعجب كلوديوس كييركغارد.
- آلمتنا المصائب، نحن الهنود المغلوبين، ولشد ما كانت شدتها آلمت المصائب المصائب، فعجزت الروح الكبرى عن إيجاد بلسم لها، ولم تعد تأتي لعوننا كلما تضرعنا إليها، لهذا جئنا نتضرع إليك بعد أن مَنَعْنَا الشجر من اللحاق بنا، والببغاوات من تكرار أسمائنا، والدببة من حمل ظلالنا الثقيلة عليها، فارأف بنا، يا صاحب المقام الرفيع.
- سنرأف بكم على الرغم من قتلكم لأخي، استجاب كلوديوس كييركغارد بعجرفة، أعظم من كل مصائبكم هذا المصاب!
- كيف نكون قد قتلنا صاحب المقام الرفيع هانس وروحه تحلق مع أرواح قتلانا؟ عكس قدم الجبل الحجة على صاحبها.
- قتلتموه، قتلتموه، ردد كلوديوس، وهو يستشيط غضبًا، ويميد رعبًا، أرواحكم، أرواحكم، اسأل عن أرواحكم تجدها تحت نعلي، أرواحكم، فلأرواحكم تحت نعلي خير مكان، وخير مكان هذا المكان الذي خلّصناه، وخير حال هذا المنفى الذي نفيناه.
علا نحيب الهنود، فأمر كلوديوس يده اليمنى بولونيوس:
- فلتكن لهم مُفْرَدَة كباقي السكان المحليين.
- ولكن أيها السنيّ كلوديوس، تلعثم بولونيوس، كل المُفْرَدات أزلناها بأمركم ردًا على مصرع العظيم أخيكم، وحفاظًا منكم على قدر كاليفورنيا.
- نحن القيّمون على قدر كاليفورنيا، نصنع حاضرها، ونسهر على مستقبلها، همس كلوديوس لنفسه، وهو يبتسم، دون أن يستطيع الحفاظ على رصانته، قبل أن يأمر: ابعثوا بهؤلاء الهنود الطيبين إذن إلى النيفادا، في مُفْرَدَة خاصة بهم وحدهم كبيرة ومريحة، واطلبوا منهم أن يغفروا لنا.
- إلى النيفادا! نبر قدم الجبل بحدة، حيث لا ماء ولا شجر لأبناء الماء والشجر!
- اطلب من الشجر اللحاق بك، أيها الزعيم الجليل.
- لن تلحق الشجر بي دون ماء، يا أبا المياه، عاد رئيس الميوُك ينبر بحدة.
- هذا كل ما أستطيع عليه، فلا تضطروني إلى فعل ما لا يسمح به ضميري، فيكون ذنبكم ما أقترفه، ويكون كرهي لدفعكم إياي إلى اقتراف ما أقترفه، ويكون ما أقترفه الحل الوحيد لما أقترفه، أنهى عاهل ساكرامنتو القول، وأعطى للهنود الطيبين ظهره.
- لما كنت أعيش قبل ألفي عام، خاطب قدم الجبل الجبال، كان الليل يولد من بطون الزنابق البيضاء، والنهار من بطون الزنابق السوداء، فلم تكن هناك أشجار، لم يكن هناك من نبات شيءٌ آخرُ غيرُ الزنابق. كانت الزنابق بيوتنا، ونساءنا، وبناتنا، وأبناءنا، كنا الزنابق، والزنابق كانتنا. لم نكن نحتاج إلى النوم في ظلال أشجار اليوم، كنا ننام بين أذرع الزنابق، وكنا لما نجامع نساءنا، نجامع الزنابق، فتلهث من لذة العناق، وينتشر عطرها في السهول وعلى الروابي، ويصعد حتى قمم الجبال. كانت الجبال ترتفع على أقدامنا، لهذا اسمي كان أمس قدم الجبل كما هو اليوم اسمي. لم يكن هناك قدم جبل واحد، كان هناك العشرات، المئات، الآلاف. كان الواحد منا سعيدًا أن يحمل جبلاً، أن نحمل الجبال، أن نرفعها كما نرفع اليوم على رؤوسنا الأرياش، إلى أن كان يوم، سئمت فيه الجبال منا، وشاءت تبديلنا بعد أن غدونا عبئًا عليها. نفخت في بطون الزنابق الأشجار بدلنا، وكان ذلك بمثابة قتلنا كلنا. لينجو أخو ملكنا من المصير الذي كان يهددنا كلنا، اتفق مع الجبال على حل يرضيها ويرضينا: كل هذه الأقدام لن تعود للجبال أقدامًا لمّا يقتل سيد الأقدام. وكان ما كان. قتل أخو الملك أخاه، ولم يكن يدري أنه بقتله الملك سيقتلنا معه. متنا جميعًا، حتى هو مات معنا، ومن بعدنا بقيت الأشجار.
راح كل الهنود ينوحون نواح الحمام في أرضٍ خَرابٍ يَباب، وراح كل الهنود يبتهلون ابتهال الأنبياء للصَّلِفِ من الأقوياء، ولا بشر يسمع لهم أو أرباب تصغو إليهم، فجاء رعاة البقر، وطردوهم، وهم يضحكون منهم، وهم يضحكون عليهم، رينالدو أولهم، لكنه تدخل ليُبقي صبية هندية أعجبته، اسمها بيرل. جذبها، وهي تبتسم له. أهانها، وهي تبتسم له. ترك يده ترعى على قممها وفي وديانها، وهي تبتسم له. كانت تبتسم له لئلا تذهب إلى الجحيم، فجحيمه بكثيرٍ أهون. انتحر بعض الهنود بغرس أسنة رماحهم في بطونهم، وكأنهم يقولون للإنسانية: نحن لسنا ضحاياك، نحن أقدار أنفسنا!

* * *

قال لائِرتس لأخته أوفيليا ليفهم ما يقلقه:
- إذن من المحتمل أن يكون هاملت قد أضاع رشده، فبدأ يخرف قبل الأوان.
- نهر! أنتَ نهر! اعتبركَ نهرًا! رددت أوفيليا غير مصدقة.
- وثالثة الأفافي أراد سكب السم في فمي، وهو يصرخ إنه يريد تسميم كل أهالي ساكرامنتو، أضاف لائِرتس.
- كل هذا، وتقول من المحتمل؟ عارضت أوفيليا، جنون هاملت لا شك فيه.
- هاملت وُلد مجنونًا هذا صحيح، ولكن هناك جنون وجنون.
- كما أن هناك طبيعة وطبيعة.
- عقيدة وعقيدة.
- هذا هو، جنون هاملت عقيدة لا مكان للمحتمل فيها. أنا أيضًا أمسكني من ذراعي، وأراد كسرها معتبرًا إياها غصنًا. عندما صحت من الوجع، ترك ذراعي تسقط من بين أصابعه، وهمهم: لم أكن أعلم أن كسر غصن يسبب كل هذا الألم، لم أكن أعلم أن الأشجار تتألم مثلنا. بدا عليه القلق، لم أره مرة واحدة على مثل ذاك القلق. جس ذراعه كمن يريد أن يتأكد من وجودها، وأن امرأ لم يكسرها له. بعد عدة ثوان، سمعته يتساءل لماذا ذراعه ثقيلة كل هذا الثقل، رأسه، كل جسده. بدا كمن يحمل على كتفيه كل ثقل الوجود، فأحسست بإحساسه، إحساسًا ما ورائيًا كان إحساسه، ورحت ألهث وإياه، كنا أحرارًا، وكنا نلهث تحت ثقل حريتنا، وتمنينا لو كانت ذراعنا بالفعل غصنًا لنكسره، ونرتاح.
- لقد أضل العقل، فَجُن.
- وعند ذلك، وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام اختياراتي، اختيارات لا حصر لها، تركه، أو قتله، أو قتلي، أو قتلنا نحن الاثنين، أو مسخي، أو انسلاخي كما تنسلخ الحشرات، فألعقه بلساني من جذره...
- أوفيليا! أنت، أيها القلب البكر!
- كان ذلك اختيارًا بين اختيارات تركتها لعبث الريح، فأصابني الكُرب والغم والفزع، وضاقت نفسي من ألم مُبَرِّح.
- كل هذا لأنه قلق هاملت.
- امحت الفروق، قلقي، قلق هاملت، قلق البشر، لم تعد للقلق حدود، للقلق حدود الوجود، فلمحت ما لم ألمح من قبل، لمحتني كلبة تفتح فخذيها، وهاملت يبصق فيها قذارته، كانت تلك صورة العدم كما أراه.
- أوفيليا، كيف تجرؤين؟
- لأخلص من كل هذا كان عليّ أن أختار دون أن أضمن شيئًا، لم يكن أبونا لي ضامنًا، ولا صاحب المقام الرفيع الذي نعيش في كنفه، ولا رعاة البقر الذين يسهرون على حمايتنا، ولا الأقمار التي تنير ليالينا، ولا النجوم الراسية في موانئنا، ولا حتى أرواح الهنود المخلصة لنا، ولا نهر ساكرامنتو الذي نغسل فيه أقدامنا، ولا الجبال التي تحيط بكاليفورنيا إحاطة أم بذراعيها، ولا أي شيء قوي أو ضعيف، سام أو وضيع، جواد أو خنزير، لم يكن لي من ضامن واحد، انتزعت مسدس والد هاملت من يد هاملت، وأطلقت الرصاص على ظلي وظله حتى أرديتهما قتيلين.
- هل أضعت الرشد أنت أيضًا، يا أخيّتي؟
- كان عليّ أن أفعل شيئًا.
وانفجرت أوفيليا تبكي، فأخذها أخوها بين ذراعيه، وهمس في أذنها:
- لا تبكي، يا أخيّتي.
- لكن هاملت طردني، وقال إنه لا يريد أن يراني مرة ثانية.
- هو لا يقصد ما يقول.
- هاملت لا يحبني.
- قال ذلك بدافع الغضب.
- هاملت لم يحبني يومًا.
دفع بولونيوس، أبوهما، الباب، ودخل.
- قسمًا بالقلب البكر الذي لم تهزه العواطف! طنَّ بولونيوس، وهو يرى كيف تحاول أوفيليا إخفاء دموعها، وترميه بنظرة العاتب القائل "ما أنتَ أولُ سارٍ غَرَّهُ قمر!".
- لا مزاح، يا أبي! همهمت أوفيليا.
- إنه دمع امرأة ترغب في البكاء، يا أبي، برر لائِرتس.
- البكاء من أجل البكاء شيء لا يوجد، رد الأب. أما الآن، وقد جففت أوفيليا دمعها، سأقول لكما ما جئت من أجله.
- سفري إلى موانئ مدننا الساحلية هذا المساء ليس السبب كما يبدو على وجهك، يا أبي، قال لائِرتس دون أن يعرف الكيفية التي تسير بها الأشياء.
- أنا أعرف السبب، ألقت أوفيليا، إنه هاملت، أليس كذلك، يا أبي؟
- لا شيء يخفى على أحد بعد أن غدا هاملت في الأعين عاريًا تمامًا كاليوم الذي ولدته فيه أمه في ليلة قمرية، أوضح بولونيوس، ليس عراء الجسد فقط بل وعراء الشخص الضائع الفاقد لكل أمل.
- هاملت أضاع رشده، يا أبي، نعرف هذا، قال لائِرتس بضيق.
- كل هذه الفوضى في الدماغ لم أر، طنَّ الرجل الثاني في مملكة الدانمرك من جديد.
- يأس هاملت ضيّع لي حياتي، يا أبي، تلعثمت أوفيليا.
- أمنعك، يا بنيّتي، من قول ما تقولين، صاح أبو أوفيليا، فأنت ما أنت إلا لبعث الأمل في قلبه لئلا يضيّع حياتنا بعد أن ضيّع حياته. اسمعا ما سأقول، واحكما بنفسيكما: قدم لي هاملت مسدس أبيه على أساس أنه أبوه، وقال لي إنه في اجتماع سري معه لبحث أنجع السبل في حماية البقر المقدس الذي استوردناه من الهند، فكلاهما يخشى الغدر به بطلقة في الظهر.
- يا للشيطان! همهم لائِرتس، لن ننجح في تغيير الوضع.
- هذا معزو لاختلال أناه، همهمت أوفيليا.
- قرأت في الكتب التي تلذ قراءتها عن هذا الغَرب الوحشيّ، هذا الغرب البعيد، الفار ويست، تابع بولونيوس، الفيض من التفاصيل، الكثير من الهذيانات، الركام من التخيلات، لكني أبدًا لم أقرأ ما سمعته من فم هاملت، ما سمعته من فم هاملت كلام من لا عقيدة له، هذيان من لا ذاكرة له، ادعاءات من لا رادع له. باسم البقر المقدس سيقتلنا كلنا، إنها طريقة ماكرة لمجنون يصل بها إلى تحقيق مآربه، فحذار، يا لائِرتس! حذار، يا أوفيليا! لن تحميك الصداقة، يا بنيّ. وأنت، يا أوفيليا، لن يُصَفِّحَكِ الحب، يا بنيّتي. سيقضي عليكما بلا أمله، سيهدم الدنيا بلا وُدِّه، سيجعل من مسدسه ليس فقط أباه بل كل سلالة كييركغارد مذ كانت سلالة كييركغارد وكل الدانمرك وكل أوروبا وكل أمريكا وكل العالم ليبرر فعله فينا. سيقول لنا أنا حر، وهذه هي حريتي التي هي قتلنا والقضاء علينا وإنهاؤنا، هذه نفسي سيقول لنا، وهذه حقيقتي.
- حقًا! كيف ننقذ هاملت من هاملت؟ همهم لائِرتس.
- لا أحد يمكنه إنقاذ هاملت من هاملت، أجاب والد لائِرتس، إنها قوة الأمر المقضيّ به. القلب البكر، أوفيليا، ستظل قلبًا بكرًا، وأنتَ، القلب الوفي، ستظل قلبًا وفيًا. ستظل أوفيليا القلب البكر على الرغم من كل شيء، وسيظل لائِرتس القلب الوفيّ على الرغم من كل شيء، هاملت لم يعد يراكما تنظران إليه كما كنتما تنظران إليه بعد أن أعمته رغبة الثأر لديه، تركه الله وحيدًا، ودون الله كل شيء جائز معه. كيلا يعيش في العزلة أبدًا، سنعيش نحن في العزلة على أوسع نطاق، وعند ذلك، سيخضعنا جميعًا. لهذا أمام رفضه الحوار مع عمه السنيّ كلوديوس، أمرت بإحضاره شاء أم أبى، ومنذ اليوم هاملت سيكون شأني الشخصي.
- أنت لن تسيء إليه، يا أبي، رجت أوفيليا.
- أنا لن أسيء إليه، أوفيليا، يا ابنتي، طمأن بولونيوس، لن أسيء لرجلك القادم، كل ما قلته محتوى يتمظهر بالكلام، ولكني سأعمل على ألا يسيء إلى أحد.

* * *

صاح كلوديوس كييركغارد برينالدو والآخرين من رعاة البقر أن يتركوا هاملت بسلام، وأن يعيدوا له مسدس أبيه، ففعلوا، وغادروا مكتب ولي نعمتهم، وهم يغلقون الباب من ورائهم.
- اجلس، يا ولدنا هاملت، ولا يفعَم قلبَك غم، بدأ العم الكلام، وهو يضغط على كتف ابن أخيه مجلسًا إياه على كنبة مريحة، الانتهاك الذي كنتَ عرضة له لن يمضي بسهولة، إخراجك بالقوة، وكأني بهم يطردونك من عالمك، لن أسمح به ثانية، لم أسيمح به منذ البدء. لم تشأ المجيء لرؤيتي، هذا شأنك، شأن كل شخص حر في ساكرامنتو. كنتَ عنيدًا في موقفك، متصلبًا في رأيك، ولا شيء يبرر عدم المجيء لرؤيتي، لكني أحب هذا، دليل على رجولتك المبكرة هذا، وقوة شخصيتك. لم تلب كل الطلبات التي أرسلتها إليك من أجل التحدث معك، بما فيها الطلب الذي حمّلته لصاحبة المقام الرفيع زوجتنا جيرترود، لا لسبب معقول ومنطقي، لكني عزوت ذلك إلى ضيق وقتك وانشغالك لا إلى ضيق فكرك ولامبالاتك. جئتك بنفسي عدة مرات، لكنك طرقت الباب في وجهي بحماقة لم أعهدها فيك، ومع ذلك، بررت ذلك بمسعاك لتكون كالزاهد وحيدًا، بينما كل هذا الوقت الطويل الذي تقضيه في العزلة شيء محير ومقلق لشخص مثلي يحبك كما يحب نفسه، ويغير عليك كما يغير على الفراشات من أصابع الأطفال. لماذا كل هذه الغِلظة؟ لم تتعلم هذا عن أمك ولا عن أبيك، فقلب كليهما النعومة بعينها، والنعومة تدعى نعومة، لأن لهما هذا القلب. لماذا كل هذه الغلاظة؟
- آه! ما أغلظ عقلك، يا أبي، قال هاملت مخاطبًا مسدس أبيه.
- اسمح لي أن أقول لك إن هذا المسدس مسدس أبيك، يا هاملت، وليس أباك، علق العم. حتى هذا المسدس الغليظ الخشن الملمس ينعم لو كان قلب أبيك.
- إنه بارد برودة الجليد، همهم الحفيد، وهو ينعم، لو يسخن، ولن يسخن إلا إذا بصق النار، ولن يبصق النار إلا إذا عبأته بالرصاص بعد أن أفرغته المهووسة أوفيليا في قلب ظلي وظلها، ولن أعبئه بالرصاص إلا إذا حددت هدفي، ولن أحدد هدفي إلا إذا أتقنت الرماية.
- ولِمَ كل هذا التعب؟ ألقى كلوديوس في وجه ابن أخيه، أُسرتنا كييركغارد كابرًا عن كابر لا تحب القتل. قلت لك الانتهاك الذي كنتَ موضوعه مرفوض، مائة بالمائة مرفوض، ولا يسعني إلا أن أشجبه، هناك أصول يجب احترامها، وأنت لم تبذل أقل جهد في سبيل ذلك، فاستحققت اللوم، واستحققت المجيء بك بالقوة، واستحققت حنقي عليك. أنت، يا هاملت، غليظ العقل! يجدر بي تعنيفك، تكبيسك، تحويلك إلى دمية، أنت الدمية لنفسك، فأنت تترك نفسك في قلب الريح تسيرها على هواها، فلأكن تحديك في سجن أناك!
- تحدي أي هاملت تريد أن تكون، هاملت أم هاملت أم هاملت؟ ثغا هاملت.
- ابن القحبة! قال كلوديوس على حدة، ها هو يتشاطر عليّ هذا المصاب بالفُصام!
- لم أسمعك، هاملت أم هاملت أم هاملت؟ عاد هاملت إلى القول.
- أنت كل علاقاتي بك، يا ولدي، قال العم، وهو ينعم صوته بينا قلبه ينغل عليه.
- لماذا تريد اقتحام حياتي؟ صاح هاملت. أتسمع، يا أبي؟ أضاف مخاطبًا المسدس، لسماعك إياه، أخوك لا يراني كما كنتَ تراني، أخوك يراني كالمهماز في أقدام رعاة البقر رعاته، كالقَشَط على خصورهم، كالقبعة على رؤوسهم، كأمر يُنَفَّذ، كجريمة تُرتكب، جريمة تُرتكب غدرًا، تُرتكب غدرًا، يا أبي، كمهمة لا أحد يضمن نجاحها.
- ابن القحبة! همس كلوديوس على حدة قبل أن يرفع صوته، ستظل ولدنا الغالي على قلبنا، والذي لا نريد له سوى الخير، فلتنطلق، لا تحكم على نفسك بالسجن مدى الحياة في مملكة الحياة... ثم لنفسه: فلتنزل بك كارثة تحيلك إلى غبار!
- لن تقدم لي شيئًا آخر أفضل من العزلة، يا صاحب المقام الرفيع، همهم هاملت، فالعزلة نَفْثة من نَفَثات الصراع.
- ها هو هذا اللعين، ابن القحبة، يفهم التورية وما تعني من شرمطة، همس كلوديوس لنفسه، الصراع، يقول "الصراع"، سلوكي أسوأ سلوك نحو الهنود، نحو السود، نحو رعاة البقر، نحو البشر، نحو العالم.
- أُنَغِّصُ عيشك، كما أرى.
- روابطنا لا تنفصم عُراها.
- الفضل في ذلك يعود إلى مسدس أبي.
- أفضل ما يكون.
- مملكة الدانمرك ليست مُلكك، جهر هاملت بصوته، إنها مُلك هذا المسدس، وبما أن هذا المسدس ترك الدار تنعى من بناها، فقد اختار العزلة لي وله مملكةً.
نهض، وهو يقول:
- سأعود إلى مملكتي، هناك الكثير من الأشغال بانتظاري، وأهم الأشغال كيف أَحُول دون تسلل ضياء القمر إلى البيت الكبير، فالخطر، كل الخطر، أن نرى ما يجري فيه.
- انتظر، هاملت! أوقفه العم، وأمارات وجهه تنعم نعومة أمارات الوجه التي كانت لهاملت. مات أبوك، فانطفأت الشمس، وغدت النجوم دموع الكون. ضياء القمر أسود لحزنه على الشمس، وهذا النهار ما هو إلا لنرى حزننا. لم يكن لنا اثنان هانس، كان لنا هانس واحد، كان الشمس، كان شمسنا، فهل نرجو العيش دون شمسنا؟ هذه هي مملكة الدانمرك اليوم، دون شمس، وهي ستظل غائبة غياب هانس عنها. هذه هي مملكتي بعد موت أخي، مملكة دون ضياء، إلى الأبد دون ضياء. وأنا إذا ما استطعت أن أفعل شيئًا في مملكة الظلام، فلأنير بعضًا من ذكراه، لأن ذكراه مستقبلنا. إنها طريقتي التي أعبر فيها عن طاعتي له، طاعة كانت له في حياته، وستكون له في مماته، طاعتي وصدقي وإخلاصي. حرصي على حياتك هو طاعتي له، وعلى سعادة أمك هو طاعتي له، وعلى خير كل واحد منا هو طاعتي له، على حرية ساكرامنتو التي نحبها كلنا، على حقوق أهلها، على العدل ما بينهم، وإشباع حاجة كل واحد منهم، كل هذا طاعة له، فكن مثلي في طاعتي لأبيك. هذه هي مملكتك، طاعة أبيك، وهذه هي واجباتي، طاعة أبيك.
استمع هاملت إلى عمه، وهو يعطيه ظهره. عندما أنهى العم ما يود قوله، خرج هاملت بينا كلوديوس يحرّق أسنانه مرددًا:
- ابن القحبة! ابن القحبة! لن ينجح معي، لن يدفعني إلى قتله في سورة الغضب!

* * *

نظر رينالدو إلى بيرل، وهي تغسل شعرها الطويل، تأملها طويلاً، وهو يفكر في الليل الداجي، أسود من الثلج الليل الداجي، وأجمل من كل حقول القمح. قام إليها، فخافت من ضربه إياها، لكنها تفاجأت به يصب الماء لها. ابتسمت لكبير رعاة البقر، ولم تنتظر أن يبتسم لها. لم يكن رينالدو اللئيم، كان رينالدو السقيم، فللغراب سيف اسمه الهوى، وسيف الغراب من أجمل زهور كاليفورنيا. عاقبها كثيرًا رينالدو، لكنه أحبها كثيرًا، تمامًا كما يقول المثل: من أحب جيدًا عاقب جيدًا.
- لك شعر جميل، يا بيرل، همس رينالدو.
- لم أقطعه منذ مولدي سوى مرتين، همهمت بيرل، مرة حدادًا على أمي، ومرة حدادًا على أبي.
- كنتِ صغيرة.
- عندما ماتت أمي كان لي من العمر عشر سنين، وعندما مات أبي كان لي من العمر خمس عشرة سنة.
- والمرة الثالثة؟
- عندما تموت، يا رينالدو.
انفجرت بيرل ضاحكة، وبعد بعض قلق مبعثه التفكير في مصرعه، انفجر رينالدو ضاحكًا.
- عند موت الأم والأب والزوج، تقطع الواحدة منا شعرها حدادًا، أوضحت بيرل قبل أن تعود إلى الضحك.
- ولكني لست زوجك، نفى رينالدو.
- أنت زوجي وإن لم تكنه.
- تقبلين بزوج مثلي؟
- كلما زدتني ضربًا طمأنتني روحي إلى عدم تركك لي، إنها طريقتي في الاحتفاظ بك. إذا ما توقفت عن ضربي، أرغمتك على ذلك.
- ابتداء من اليوم، لن أرفع يدي عليك، يا بيرل.
- بلى!
- ابتداء من اليوم، سأحترمك كأي امرأة من عندنا.
- هل ستتركني إذن؟
- سأتزوج بك.
- ولكننا متزوجان.
- سأتزوج بك كما يتزوج المرء عندنا.
- رينالدو، توقف عن قول أي شيء كان.
- بيرل!
ضمها من ظهرها، وشمها من شعرها.
- سنتزوج، ونذهب بعيدًا من هنا.
- ولكني أنا سعيدة هنا.
- هنا سأضربك لأني في أعين صحبي عليّ أن أضربك، إنها الطريقة نفسها عندما يُطلب مني أن أقتل، لكن القتلى لا يحبون، وإلا وقعوا كلهم في غرامي. لا أنا أحبهم، ولا هم يحبونني، فقط أحب مسدسي، ومسدسي يحبني، لولا حبي لمسدسي وحب مسدسي لي لكان موتي منذ وقت طويل. أقتل ليس تنفيذًا لأمر، أقتل لأني أقتل. هذا أنا. أن أكون رئيسًا لرعاة البقر هذا شيء كثير أفهم معك أنه لا شيء، ذهب شعوري بالتباهي معك، يا بيرل، أرهقني شعوري بالتباهي، وأرهقني ضربك، أريد أن أريحك وأرتاح.
- لن تحبني إذن.
- سأحبك كما يحب المرء عندنا.
- وهل تنسى من أنا؟
- لهذا السبب.
- دومًا ما صمدت أمام المتاعب والعراقيل.
- لهذا السبب سأحبك كما يحب المرء عندنا.
- وأنا سأحبك كما يحب المرء عندنا.
- هكذا سيحب الواحد الآخر مرتين.
كانت يداه تعرفان الطريق جيدًا إلى نهديها، وإلى بطنها، وإلى فخذيها، بينما بيرل تضحك في البداية، وتكركر في النهاية، وليوقفها، يأخذ بضربها. بكت بيرل من الوجع، وبكى رينالدو لبكائها.
- هكذا سيكره الواحد الآخر مرتين، همهم راعي البقر.
- في حديقة العمر، همهمت بيرل، هناك الزهور التي نكره وهناك الزهور التي نحب، وهي من التشابه لدرجة نعجز فيها عن التفريق ما بينها.
- كالأحصنة التي خبرتها جميعًا.
- لهذا أصبحتَ راعي بقر.
- مجرمًا دون أن أكونه.
- وعاشقًا دون أن تكونه.
- ووجودًا دون أن أكونه.
وبعد بعض قلق مبعثه التفكير في وجوده:
- اختارت الحياة عني، فقبلت اختيارها. كنت مضطرًا. في حديقة العمر نكره هذه الزهرة أو نحب هذه الزهرة، لأنها قبلت أن تكون موضوعًا للحب أو للكره. لم يكن جوهرها، وصارته. بين النضارة والذبول حياتها الموجزة، كل شيء محدد منذ البداية، ليست القدرية، إنها الكُنهية، هكذا تُصنع نفسُها، هكذا تَصنع نفسَها.
- وبعد ذلك نموت.
- وبعد ذلك نعيش.
- نموت قليلاً قليلاً إلى أن نموت، هذا هو عيشنا، فكيف نموت؟ كل واحد يموت على هواه.
- كل واحد يعيش على هواه.
- يعيش موته.
- أنا مثلاً بإتقاني إطلاق الرصاص، لئلا أُقْتَلَ، أَقْتُلُ من يريد قتلي.
- ومن لا يريد قتلك.
- بعد ذلك يغدو القتل مهنتي، لهذا. القتل مهنة، كالزراعة مهنة، وتنظيف المخرآت. كل واحد منا جلاد على طريقته.
- ضحية تريد القول.
- نحن في عصر الضحية فيه جلادة، لا ضحية هناك في عصرنا، نحن جلادون ما بيننا، يا حبيبتي. لكل واحد منا دورٌ دمويٌّ يلعبه، هذا كل ما هنالك. شرطنا لم يعد ابنًا للصدفة، فعن أية صدفة تريدينني أن أتكلم؟ الظلم أمرنا، فلا عدل هناك. السيطرة أمرنا، فلا حرية هناك. الدونية أمرنا، فلا رِفعة هناك. الهزلي أمرنا، فلا فاجعي هناك. الغائطي أمرنا، فلا ملائكي هناك. الماخوري أمرنا، فلا حَيَيٌّ هناك. لا أحد أحسن من أحد. الكل سواسية. لا منفى هناك، لا تيه، لا بحث عن شيء مفقود. أنجزنا كل شيء، وما نفعله أن نعيد إنجاز حياتنا بطريقة أخرى. على كل شيء أن يكون على أكمل وجه، القتل كالبناء، على كل شيء أن يكون. بأمر. كل شيء يكون بأمر جلاد على جلاد. لا أحد يقدس أحدًا، عادي كل هذا.
- كل هذه الدموع، وتقول "عادي".
- كل هذه الدموع دموع الجلادين، فالجلادون كذلك يحسنون البكاء، كالأطفال يحسنون البكاء، ودموعهم لسخونتها تحرق.
بكى، وهو يشدها بقوة، ويهمس:
- ما يفرق بينهم الكلام، خاصة عندما يجدون أنفسهم مضطرين إلى القول، كالاعتذار مثلاً، وهم في هذا أيضًا يحسنون التصرف.
- اعتذارات مختلقة.
- ليس باستطاعتي الاعتذار لك، يا بيرل.
- لا تعتذر، يا رينالدو، لم أطلب منك ذلك.
- أقبل أن أكون حذاء لك، لكني لن أعتذر.
- قلت لك ألا تعتذر، لست بحاجة إلى اعتذارك.
- طيب، قال، وهو ينهض. يجب أن أذهب.
- إلى أين؟
- طلب بولونيوس مني أن أصفي كل الهنود الذين رفضوا الذهاب إلى نيفادا.
- أنت لن تقتلهم، يا رينالدو، أنت لن تقتل أهلي.
- بلى.
وبعد بعض قلق مبعثه التفكير في قتلاه:
- لن أعتذر إلى أن أعتذر لك ذات يوم. متى؟ لست أدري.
تركها تغرق في بحر من المنغصات، فانفجرت بيرل باكية. لم يكفها ما سكبته من أنهار، فضربت نفسها ضربًا مُبَرِّحًا، وفحت فحيحًا مُجَرِّحًا. كقبيلة من الأفاعي فحت، كأمة من الزواحف ضربت. كان الفحيح طريقتها في النواح على أهلها، والضرب في التعبير عن حبها لهم. كانت ترسل لسانها بسرعة وتبلعه، وتزلق بجسدها من بين يديها.

* * *

ردت صاحبة المقام الرفيع جيرترود على زوجها، وهي تتزوق أمام المرآة شبه عارية، وبسمة مُلَوِّحة على شفتيها:
- هذا يشغل البال كثيرًا!
- عليّ؟
- هاملت لا يعرف الكره، وإذا عرف، فهو لا يعرف كيف، إنه كأبيه، وقليلاً كأمه.
- ابنك يكرهني إلى درجة أنه يفكر في قتلي، ألقى صاحب المقام الرفيع كلوديوس كييركغارد دونما حاجة إلى حرف توكيد.
- لا بد أنك تتهكم، وبشكل مباشر يجعلني تهكمك في حيرة من أمري. التهكم ليس من طبيعتك، من طبيعتك كل شيء، التلاعب، التآمر، التخاتل، إلا التهكم.
- لا شيء يدعو إلى التهكم، فليس هذا ما أفكر فيه، هذا ما أعتقده، وأنا لهذا...
فتح حُجَيْرة مسدسه، وراح يفحص الطلقات.
- إنها المرة الألف التي تعد فيها طلقات مسدسك.
- خلال حياته، كان هانس يريد أن يعطيني كل ما لديه، ألعابه، أحصنته، نساءه، وكنت أرفض. لن أعطي شيئًا لهاملت، لا الألعاب، ولا الأحصنة، ولا النساء، وسيأخذ بالقوة كل شيء.
- هانس أعطاني كل شيء، كل شيء، ولم يترك شيئًا ناقصًا لدي، لم يترك في عالمي فراغًا يطل منه عليّ، وكذلك فعل مع هاملت. أنا قبلت شرطي، وهاملت لم يقبل شرطه.
- هانس جعل من هاملت شخصًا آخر على غير صورته، على غير صورتنا، جعل منه ما نرفضه، ما نخشاه.
- ما نخشاه لا، ما نرفضه نعم، ولدي المسكين، فَرَفَضَنا جميعًا.
- اذهب مع عمك، كان هانس يرجو هاملت، اذهب معه، أنا لا وقت لديّ. سيأخذك إلى المدينة، وسيشتري لك كل ما تريد. ستشتري كلَّ ما يريدُ هاملت، يا كلوديوس، القبعة، الجزمة، الجينز، الجلد، الصُّدْرَة، المسدس، كل ما لراعي البقر. إنه لا يريد أن يسمع بكل هذا، أَتَدَخَّلُ. ليس من طبعه أن يكون راعي بقر، واستعمال المسدس عنده سواء. أليس كذلك، يا هاملت؟
- إذن مم أنت خائف؟
- لا أريد أن أذهب معك، هذا كل ما هنالك، يجيب ابنك. لماذا، أيها الشيطان؟ يصيح هانس، كلوديوس عمك، وهو أكثر من يُعنى بك، ويلبي طلباتك. هل تسمعني، يا بنيّ؟ أسمعك، يا أبي. إذن لماذا؟ لأني ما أحببت كلوديوس يومًا. وأنا لهذا في قلق دائم، اعترف كلوديوس.
- كل هذا لا يدفع إلى الاهتمام باهتمامك، وإنما بما تنوي القيام به، تمامًا كالضِبْعان، الضِبْعان الجائع كالشبعان، فهو لا يكتفي بما لديه، وهو على استعداد ليلحق الضرر حتى ببنيه، فلا أريدك أن تلحق بابني أي ضرر، هاملت ابنك، وكل هذا تصرفات صبيانية لا غير، فلا ينزل الكبير الذي هو أنت إلى مستوى الصغير، والحالة هذه هاملت. هاملت ينقصه النضج، طائش، متهور، لم يكن أبدًا في بيئته، وهو ما يقول أو يوحي لا يتجاوز حد الاستفزاز.
- الاستفزاز! تقولين الاستفزاز، وقد جعل من مسدس أبيه لسان حاله؟ يا للخزي!
- ليس إلى درجة تنفيذ ما يدعي.
- في حالته، الشر حقيقي على نحو موضوعي.
- أنا أعتقد بعجزه.
- أنا أعتقد بجنونه، وعمر المجنون ما كان عاجزًا. هل مجانين الذهب عندنا يعجزون عن الوقوع عليه؟
- ولكنه لا يبحث عن أقل ذهب! لديه عمه الثريّ!
- هل مجانين المجد يعجزون عن الصعود إلى قمم الجبال؟
- ولكنه لا يبحث عن أقل مجد! لديه عمه الوحدويّ!
- هل مجانين الحب يعجزون عن تنفيذ ما يرغبون في سبيل من يحبون؟
- ولكنه لا يحب أي واحد! لديه عمه المغرم بي!
- يحب أباه!
- ولكنه لا يحب أمه!
- يحب أباه! يحب أباه! يحب قبعة أبيه، يحب مسدسه، يحب جزمته! يحب الغبار الذي تثيره حوافر حصانه، يحب ظلاله التي تنحني عند عبوره، يحب أشباحه التي تسهر على حياته! أنت لم تحبي هانس، وأحببتني، فهل تكونين غير مستعدة لفعل كل شيء من أجل الاحتفاظ بي؟
- أحببت هانس وأحببتك، يا كلوديوس، اعتبرت هذا حظًا من حظوظ امرأة توفرت كل فرص الحب لها على عكس معظم النساء في الفار ويست، ولكن ما شأن هذا بهاملت؟ الحب، المجد، الذهب؟
- الانتقام! الانتقام لأبيه أقوى لديه من كل الحب، من كل الكره، من كل ذهب العالم.
- ولكنك لست قاتل أبيه!
- لديه هذا الاعتقاد، فكيف أمنعه؟
- ولكنك لن تمنعه بمسدس!
- إذا اضطرني الأمر، فلن أتردد لحظة واحدة، وما أسهل بلوغ ذلك.
لم تُحِرْ جيرترود جوابًا، لم تَحَرْ في أمرها، لم تمنع نفسها عن أخذ يد زوجها، لم تمتنع عن دفع مسدسه في ثديها.
- إذا ما عزمت على قتل ابني، يا كلوديوس، اقتلني أولاً، طلبت جيرترود بنبرة عازمة. هل تسمعني؟ سمعتني جيدًا. أنا لن أسمح لك. إذا كان قرارك قد اتُّخذ، اقتلني في الحال. ضع إصبعك على الزناد، واضغط. أُعطي لسلاحك الثدي الذي تحب عضه لتغير منه، فاضغط، اضغط في الحال.
سالت دمعة على خدها، فسارع كلوديوس إلى لعقها.
- جيرترود! كشف الزوج عن اضطرابه، وهو يشدها بقوة بين ذراعيه.
- ستكون نهايتي، همست الزوجة، وهي تبعده عنها.
- أنا...
- أنت لن تقتل هاملت.
- أنا لن أقتل هاملت.
وبعد برهة من الصمت:
- البحرُ يَجْزُرُ! أفعالي أفعال من بَلا الحياة وجربها، لكني أبدًا لن أترك بنات الصدر لبنات النار!

* * *

نظر هاملت من النافذة، فرأى الشبح راكبًا الزين، ظهره إلى رأسه ووجهه إلى كَفَلَيْه، وهو يرخى العِنان على رقبته. كان الليل يخفي بالويل الوجود، ولا قدم تجول في مربى الماشية، ولا ذراع تطول. "تعال!" قال الشبح لهاملت بإشارة من يده، فذهب هاملت، وهو يقول موبخًا:
- هل جُننت؟ ماذا لو رآك أحد؟
- كلفني أبوك برسالة هامة أقولها لك، أوضح الشبح، فاصعد.
- لن أذهب معك أبعد من المَضْرَب.
- فليكن، اصعد.
صعد هاملت كالشبح ظهره إلى رأس الحصان ووجهه إلى كَفَلَيْه، وساق ابن العفاريت الزين دون أن يستدير.
- هذا ما لا يفعله غير شبح، إني آمنت بك.
- الحمد للشيطان أني جعلتك تطمئن إليّ.
- كنتَ إذن تشك في ذلك.
- في لقائنا السابق لم أكن واثقًا من إقناعك.
- كن واثقًا، وأفرغ ما في جعبتك.
- بما أنك على عجلة من أمرك، دعني أصل بهذه الدابة إلى المَضْرَب بثوان.
مَرَّ كأنَّهُ ظِلُّ ذِئْبٍ، فوجد هاملت نفسه مُلقى على كوم من التبن. ما أن رفع رأسه، حتى رأى الشبح يقف بطوله من أمامه، والزين في إحدى الزوايا، وهو يرعى.
- هيا، لِد! أمر هاملت شبح أبيه.
- لن أقول كلامًا ملتبسًا.
- تكلم بوضوح قاس، هيا!
- باختصار، يريد منك أبوك ألا تنتقم له من أخيه، ألا تنتقم له من أمك، ألا تنتقم له من أهل ساكرامنتو اللعينين، الأمور دومًا الأمور مذ كانت الأمور، وكل ما جرى لن يغير منها أي شيء.
- إنه لمن المحال!
- ماذا؟
- ألا أنتقم لأبي، فالقاتل يُقتل، إنه قانون الإنسان مذ كان الإنسان.
- ولكنه ضد قانون كهذا، بعد أن فكر في مصرعه، ووجد أن أخاه حسنًا فعل، لأنه لم يفعل ما فعل إلا من أجل أن يقدم موته، وهو في موته هنيء البال، لم يشعر في حياته بهناء البال كما يشعر.
- هذا شأنه أن يشعر بما يشعر، وهذا شأني أن أشعر بما أشعر. قل للعظيم هانس، في حياته كان مسألته، وفي مماته غدا مسألتنا. الآن، الوداع! إلى جهنم، رؤيا!
- المسيح غفر لمعذبيه.
- هانس ليس المسيح.
- وجعل لهم مكانًا إلى جانبه...
- في الجحيم.
- على الأرض.
- لأن المسيح عاد!
- لم أقل بعد كل ما عندي.
- قل، عجل!
- تعرّف أبوك على شيطانة أجمل من أمك، وأسخن، وأخلص، وأن يجد واحدة كهذه في عالم أقحب هو عالم الأبالسة، اعتبر نفسه محظوظًا، وهان فعل جيرترود عليه عندما أحبت أخاه وعندما تزوجته.
- لأجل ضياع الذاكرة.
- لأجل ألا تكون أمك مسألته في مماته.
- أمي ستكون مسألتي في حياتي.
- لأنها أمك.
- لأنها امرأة.
- إلى متى؟
- إلى أن أنتقم لأبي.
- ولكن... ماذا قلت لك؟
- لن أفعل إلا ما سأفعل.
- والعفن في الدانمرك، هل سيتغير؟
- العفن ليس مسألتي.
- أنا لا أحب الكلمات الضخمة.
- الجسيمة.
- الضخمة.
- إذن ماذا؟
- شبح أبيك ضد أبيك.
- حلوة هذه.
- ولكن بمقابل.
- الليلة ظلماء.
- تعال! اغمض عينيك!
أغمضَ عينيه.
- افتح عينيك.
فتحَ عينيه.
إذا به في جناح أمه، جناح من جهنم، تُعانق الشيطان، وتُحاول أن تُدْخِلَ قرنيه فيها، وهي تصرخ صراخ الشريرين.
- هذه هي أمك التي ستكون في حياتك مسألتك، أقولُ فيها غيرَ حكمي على الناسِ بظاهِرِهِم، فماذا تقول؟
- أقول ما تقول.
- ماذا تقول؟
- ابن أبي يقول ما يقول شبح أبي ضد أمي.
- أكملتُ رسالتي، خَتَمَ التجلي.
وأراد الذهاب.
- هيه!
- ماذا؟
- عندما تُكْمِلُ رسالتها كما أكملتَ، قال بمظهر حزين مشيرًا إلى أمه، وهي تواصل النكاح مع الشيطان، سأطلب منها أن أكون، أنا، مسألتها في مماتها.
لم يقل الشبح لا، لم يقل نعم.
- السكوت علامة الرضى.
- وَسِرُّ ما حدث؟
لم ينتظر الشبح الجواب، اخترق الجدار، واختفى.
- أمي كأبي كان كل منهما يبحث عن شيطانه، استغرق هاملت في أفكاره بصوت عال دون أن يسمعه أحد، كانت تلك رغبتهما، رغبة الرغبات، ولم يكونا يعلمان أن للرغبة رسائل تُكْمَل.

* * *

كان قطيع البقر المقدس ينبثق انبثاق الأصابع من بطن الأرض دون أن يُعرف له أول من آخر، على مد النظر كان: ألفا بقرة، ثلاثة آلاف، أربعة، خمسة. وكان العشرات من رعاة البقر الذين على رأسهم رينالدو، اليد اليمنى لبولونيوس، يقودون القطيع كشعب من الشعوب، وهم لا يترددون لحظة واحدة عن ضربه بسياطهم إذا ما عنّ له أن يأخذ طريقًا أخرى غير تلك التي رسموها. كانوا يقمعون كل نزوة، وينهون كل دافع. لم يكونوا يخضعون للعواطف، كانوا عواطفهم القاسية قسوة الحديد الصُّلب على الحديد الصُّلب، وذواتهم المغتربة اغتراب العلة عن المعلول، يتعاونون فيما بينهم تعاون الضرير مع الضرير. هكذا تجري الأمور من داخل الصيرورة، هكذا تُفهم الأمور من خارج الطبيعة. كل الذاتية المحاصرة للعقلانية كانوا، وكل الفردية المخضعة للكل، وكل الصدق الأخلاقي أمام الكذب العَقَدي، كل البحث عن الحقيقة و (أمام) كل هذه الحقيقة، كل هذه الكتل المتحركة، كل هذه الأكفال الضخمة، كل هذه الأظلاف الدقيقة، كل هذه العزيمة المفرطة، المحبطة، المكرسة لاستهلاك العزيمة، كل هذا الجُؤار، كل هذا الخُوار، كل هذا العجيج، كل هذا الهدير، وكأن القطيع يأتي بالرعد على ظهره الأملس من الحرير، كل هذا الوحش النائم في حضن الفلسفة، كل هذا التناول للقربان المقدس في خراء النظرية، كل هذه التعاسة القادمة كالسابقة في ماخور الحياة.
كانت كاليفورنيا الدولة الوحيدة التي لم تعرف الحرب الأهلية على الرغم من أنها عَتْقِيّة، مع تحرير السود، ولهذا كان لكاليفورنيا سحر التمييز من غير التمييز، مما أثار غيرة الانفصاليين وحقدهم، فاتخذوا القرار بجذبها إلى اللظى. من فوق المرتفعات، أرسلوا قذائف مدافعهم إلى نواحي عديدة من فضاءات القطيع، ليوجعوه، ويذهلوه، وينقلوه رغم إرادته من إرادة غيرهم إلى إرادة الاقتتال. كان ذلك أشبه بإرادة وعي الضمير، فاندفعت جحافل البقر المقدس في كل الأنحاء، بجنون وعيها، لتدمر القائم والقاعد. ورينالدو يرى كل هذا الحيوان الهائل المتحرك تحرك الأرض نفسها بآلاف الرؤوس والأجساد والأقدام تساءل عن كونه إنسانًا، فانتهى تسلطه، جبروته، عُنْجُهيّته، وعرف جَرُوحِيَّته، بدلاً من أن يكون القطيع تحت رحمته، كان تحت رحمة القطيع. كانت تلك ميتافيزيقيا خلع نير العبودية في أجمل صورها: دَعْسُ البقر المقدس لنفسه تحت ظِلْفِهِ، ونَطْحُهُ للصخور، وسُقُوطُهُ من الروابي، وسَحْقُهُ لصغاره، ليس لأن الموت نصيب الإنسان والحيوان المشترك، وليس لأن هذه هي سُنّة الحياة، لأن الحياة نصيب الإنسان والحيوان المشترك، ولأن هذه هي سُنّة الموت، فمن الواجب أن تدفع للطبيعة ما يعود إليها... واجتياحُهُ لمدنِ صفيحِ المنقضينَ على الذهب، واختراقُهُ للشارع العام محطمًا هادمًا محتضنًا بحنان كل هؤلاء الهنود المُغَرَّبين السلبيين حتى أمام موتهم، وذهابُهُ كالزلزال من مكان إلى مكان دون أن يدري الذهاب إلى أي مكان.
بعد طول عناء وكبير جهد، تمكن رينالدو وبعض رعاة بقر لم يموتوا من جمع بضع مئات من البقر المقدس، والذهاب بها إلى السنيّ كلوديوس كييركغارد، وهي في أتعس حالاتها، فخرج كل من في مرعى الماشية لاستقبالها، سود وبيض، طيور وأحصنة، قطط وكلاب، نحل ونمل، ماء ورمل، حُلم وهَوم، والدموع تسيل من أعين لم تعرف إلا اليوم أن للملح اسمًا آخر غير البحر. انهار تاج محل، وتطايرت البقرات في الهواء، الأفيال، القرود، النمور، تطايرت الدراجات مع سائقيها، الراقصات، تساقطت أجسادهن قطعًا راحت ترقص منفصلة، تطايرت الأشجار، الأطفال، تسولت أياديهم، حششت أفواههم، غنت أوساطهم، تطايرت الجثث، وغطست في الغانج، اغتسلت أعضاؤها، كل عضو اغتسل على حدة، ورمت بنفسها عضوًا عضوًا في نار الخلود الهنديّ.
مسح رينالدو الدمع السائب على خد بيرل، وأمرها:
- لا تبكي، وإلا أشبعتك ضربًا.
ابتسمت بيرل، وهمست:
- لم تزل تحبني، يا رينالدو.
- أريد أن أحبك كما يحب المرء عندنا.
- ومتى سنذهب من هنا؟
- عند أول مناسبة.
- هذا الجواب لا يكف عن إدهاشي.
- دعيني وشأني.
- أنت لن تهرب كالقُواع البريّ.
- سأتكلم في الأمر مع معلمي بولونيوس.
- لكنه لن يقبل.
- سأرى كيف أقنعه.
- سنذهب إلى عاصمة الفردوس المفقود.
- إلى الجحيم، يا بيرل؟ وهل من جحيم أكثر من هذا الذي نحن فيه؟
- لنا نحن الهنود، في مقر الأرواح الشريرة أكثر ما يعيش المرء بهناء.
- فكرة غير مألوفة.
- سنكون نحن الخير هناك.
- سواء هذا لديّ.
- الجحيم أمري.
- ستخسرين في هذا الأمر.
- سأخسر.
- إذن؟
- دومًا ما أخسر.
- ومقر أرواحك الشريرة؟
- لهذا.
- دعينا نفكر في الأمر فيما بعد.
- أعرف أنك تعب جدًا.
- سأظفر بالراحة.
- برُضابي.
- إذا كان رضابك الجحيم.
- لكل واحد طريقته في اجتياح قلب الآخر.
خلعت أسماله وأسمالها، ومن القمر، نظر إليهما الشياطين والملائكة، والغيرة في أعينهم غير الغيرة. أرادت بيرل أن تسقي رينالدو بول الملائكة، وأن تطعمه غائط الشياطين، كانت طريقتها في التعبير عن عواطفها. جلدته بلسانها، بهمسها، بنداوتها. رفعت أرواح قتلاه في قبضتها إلى أعلى ما يكون، وساطته بأقصى قوة، فصرخ من التلذذ. استبدلت الأرواح بالأساطير، وساطته بأقصى قوة، فصرخ من التمتع. جاءت بكل تاريخ الهنود الحمر، وألقته بين فخذيه، فانتصب كله واقفًا كالمدافع في المعارك التي انهزموا فيها. سكبت كوابيسهم على صدره، فأمسك بأصابعها، وكأنه يمسك بحبله السُّرّيّ. أعطته من فمها لفمه يأسهم، قرفهم، قُنوطهم، غمهم، همهم، همومهم، أوهامهم، رذائلهم، نقائصهم، فضائحهم، وقائعهم، عُقَدَهُم، إساءاتهم، شرورهم، شذوذهم الخَلْقيّ والجنسيّ، فخال نفسه في ماخورِ عبادة. انقضت في فمه، وقضمت لسانه، فعاد يصرخ، ويتلوى، ويتوسل، ويستغيث من بيرل ببيرل. كان لا بد من الإجهاز عليه عشقًا وحبًا وغرامًا، ثواني قبل أن يمتطي فرس الشبق، فجاءت بكل رموزهم الدميمة، جلادة العواطف، تلك التي يفزع الحيوان منها قبل الإنسان، فتكون لنهايات الأشياء إشارات أبدية.

* * *

أورق الليل بالنجوم، لم يكن يريد الحزن على ما جرى في النهار. في الظلال الوارفة للبقر المقدس، جثم هاملت، وهو يغمض عينيه، ويصلي.
- ماما، توجه هاملت بالكلام إلى بقرة مقدسة، من فضلك، لا تتركيني!
- تعال، هاملت، طلبت أوفيليا، وهي تجيء من ورائه، سأعود بك إلى البيت الكبير.
- ماما، ماما! ردد هاملت خائفًا.
- لا تخف، همست أوفيليا، وهي تضمه.
- أوفيليا، أمي لا تريدني، بكى هاملت، ماذا سأفعل، وأمي تريد تركي وحيدًا؟
- السماء مرصعة بالنجوم.
- أمي، أوفيليا، لن تتردد عن قتلي.
- المساء جميل في مملكة الدانمرك.
- ماذا فعلت لها كي تتركني وحيدًا؟ كي لا تتردد عن قتلي؟
- الليل لا تلوثه النجوم.
- أوفيليا، ماذا أفعل؟
- لماذا لا تحبني بالقدر الذي تحب فيه أمك؟
- ماذا أفعل، يا أوفيليا؟ ماذا أفعل؟
- لماذا؟
- ماذا أفعل؟
- لن أكون شِكالَكَ.
نهض، وراح يضم البقرة المقدسة من مَجَسَّة العجزين، ويردد:
- ماما، من فضلك، من فضلك، لا تتركيني، لا تقتليني!
- لم أعرف أمي، همهمت أوفيليا، وعرفت النجوم، نجوم ساكرامنتو لا تعرف الكذب كالأمهات.
- هل تكذب أمي؟
- تكذب.
- لن تتركني أمي؟ لن تقتلني؟
- لن تتركك، لن تقتلك.
أخذ هاملت يقهقه، قبّل البقرة المقدسة، وقال لها:
- سأكون نجلاً صالحًا.
راح يرقص رقص الهنود، ويغنى غناءهم:

"يا أنتم جميعًا! أهل السماء والهواء والأرض
اسمعوني!
حياة جديدة ما بينكم
أتضرع إليكم أن تقبلوها!
اجعلوا لها الطريق أكثر ليونة
وستذهب إلى ما وراء الروابي الأربع"

- سأكون نجلاً صالحًا، عاد يقول.
- أنا لا، قالت أوفيليا. لن أكون نجلة صالحة، أو زوجة صالحة، أو عاهرة صالحة، أو غيره، سأكون ما أنا عليه، ملوثة.
- هل جئتِني من أجل هذا؟
- جئتك من أجل هذا، فأنا لست النهار، وأنت لست الشموس.
- هل سمعتِ، يا أمي؟ خاطب هاملت البقرة المقدسة التي ند عنها خوار يعني أنها سمعت. أوفيليا جاءتني من أجل أن ألوثها، أجمل شيء في الوجود! من أجل أن تفتح بين فخذيها، وأدغدغها، لأنها لم تعد تعرف الضحك. هذا هو بحثها الوجودي، الضحك. هناك من يبحث عن سد الرمق، وهناك من يبحث عن الثروة، وهناك من يبحث عن التملك، وهناك من يبحث عن التسلط، وهناك من يبحث عن التأله، وهناك من يبحث عن فراش ناعم ينام فيه، عن النعومة في وضع خشن، الراحة والظفر بحلم، وهي تبحث عن الضحك، عن الدغدغة من بين فخذيها. أنا طبيعتها المحتقَرة! الآمرة إياها بدغدغتها من بين فخذيها! كالزنوج أنا، كالهيمنة، كإعلاء الذات! أنا الضحك المحتقَن، المنضغط، الملعونة أمه، المغدور أبوه، المجنون، المنيوك، المتفجر بخراء الإنسانية.
انفجر هاملت يضحك، بهستيرية يضحك، فخافت البقرة المقدسة، وتراجعت لتخبئ قامتها الضخمة بين باقي القامات الضخمة.
- هاملت، اخرس! نبرت أوفيليا، لقد أخفت البقر المقدس!
- ماما! صاح هاملت بالبقرة المقدسة، لا تتركيني، اقتليني، ولا تتركيني!
- هاملت، هذا شيء فظيع!
- منتهى الشر!
عاد هاملت يبكي، فضمته أوفيليا من جديد، وهدهدته، إلى أن سكت تمامًا.
- إني دون أمل، همهمت أوفيليا، كلي لك، فاعبث بي عبثك بكلبة، ألق كل شجنك عليّ، كل ألمك، كل أملك الكاذب. اجعل مني ماخورًا، يا ماخور الخراء! تعال أجذبك بمخالبي، مخالب الشياطين، لأني ابنتهم في ثوبي البريء، ثوبي العربيد الذي لا تراه العين، فالعين عمياء، سملتها دماثة أخلاقي، ابنة القحبة أخلاقي! أنا أوفيليا فخذك وقضيبك وشرفك الذي بلا شرف، جهنم ها هنا على بعد عناق، فخذني عارًا على عار، واجعل مني علمًا ترفعه إلى جانب علم جيرترود، ماماك! ماما! لا تتركيني، اقتليني، ولا تتركيني! هاملت، أنا لن أتركك! لم أُنْهِ بعد ما بدأناه، يا حبيبي! لا تخش شيئًا، سأترفق بك، يا حبيبي! سأكون دومًا هنا ما أجلك، يا حبيبي! ماما، إنه ذنبي! لا تقل هذا، يا هاملت! ليس ذنبك، وليس ذنب أحد! ماما، إنه ذنبي، إنه ذنبي، وأنا لا أقدر على فعل شيء! ليس ذنبك، قلت لك، وأنا لا أريد شيئًا، لا أريد أن تلقي بنفسك في الهاوية بأمر ذنب لم ترتكبه ولم يرتكبه أحد! بل ذنبي، ذنبي، إنه ذنبي! سأحبكِ أكثر، يا ماما، سأعطف عليكِ أكثر، لن أترك أحدًا يعبث بكِ ككلبة، لن أجعل منكِ عاري، لن أرفعكِ علمًا في مملكة الدانمرك، أوه! ماما!
استلقت أوفيليا في الروث، وفتحت بين فخذيها في استسلام وثقة، وهي ترجوه: "من فضلك!"، فنظر هاملت إلى الآلهة كيف تقيم العدل والظلم في محرابها، وبقي هكذا لحظاتٍ قليلةً كانت بعمر الإنسانية.
- هاملت! نادته أوفيليا، والصَّرْعُ يكاد يصيبها، كل هذا الدون الأمل الذي هو أنا، وتتركني للاإبداع! الإنسان سر عجيب قلبه!
تلوت كي تستثير رغبته، فاستثارت رغبتها. كان عليه أن يتخبأ في قرارة ضميره، فسار كالعازم المصمم على اقترافه لجريمته قبل اقتراف أمه لجريمتها. اخترق الأكواخ القذرة التي ينام فيها سود مرعى الماشية، فوجدهم يتسلون بلعبة الأقنعة.
- هذا الدواء، يا مولاي، أنجع دواء، قال قناع الثعلب لقناع الأسد، قطرة واحدة في كل أذن، تعيد لك السمع كما كان لك السمع وأنت في زهرة الشباب.
- ها أنا أعطيك أذني اليمنى، فدللها يتدلل لك العمر، قال قناع الأسد لقناع الثعلب.
- أروع آيات الحكمة.
- وها أنا أعطيك أذني اليسرى، فافعل فيها كما فعلت في أختها، كيلا تغير أختها.
- رجل شجاع هو هذا.
بعد عدة ثوان، سقط قناع الأسد ميتًا، فدخل قناع الطاووس، وَقَبَّلَ قناع الثعلب.
- ماذا سنفعل بمن بقي من أصحابنا؟ سأل قناع الطاووس قناع الثعلب.
- سهل ما سنفعل، أجاب قناع الثعلب، قطرة واحدة من هذا السم في كأس ماء، يشربه أصحابنا ليصبحوا أعداءنا.
دخل قناعان لقيّوط يهدد بالمسدس كل منهما الآخر، ولم يلبث أن قتل الواحد الآخر.
- هذا السم هو الخاسر، قال قناع الثعلب، وهو يضع قطرة في كأس ماء، ويضع كأس الماء جانبًا.
- مزاح هو هذا، فانظر من القادم.
جاء قناع طاووس أصغر حجمًا من الأول، وأطلق الرصاص على قناع الثعلب، فسقط قناع الثعلب ميتًا. من المفاجأة والخوف، أفرغ قناع الطاووس كبير الحجم كأس الماء السام في جوفه، وفي الحال سقط ميتًا. أمام كل هذه الموتى من الأقنعة، حط قناع الطاووس صغير الحجم رأس المسدس في رأسه، وقتل نفسه.
دخل هاملت على هوراتيو، ففتح هوراتيو عينيه أول ما أحس بأنفاسه تلفح له الوجه، وكشف الغطاء عن جسده الأبنوسيّ الساطع كنصل الموت الحارق كلهب الحياة.
- نعم، يا سيدي وصديقي، همهم هوراتيو، المسيح أسود، المسيح عارٍ، المسيح ذراعان حارّتان، فمن غير الطبيعي أن يتركه معذبوه يغطي عورته، إنه خيال الرجل الأبيض الكلبيّ.
- بئس الخيال، همهم هاملت، عقيم أو أحمق.
- ليس ثمة ما يبرر هذا التدبير.
- ادعاء الحشمة.
- لم تُظهر بعد كل ما في قدرتك.
- ارتداء الفضيلة.
- كلام فارغ.
- اكتراء المديح.
- تورية.
- ظاهر كاذب.
- ظاهرُ حقيقةٍ كاذبة.
- لأجل مكان فوق لا يرى الرجل الأبيض فيه عورته.
- العورة قضية.
- قضية القضايا.
- الوجود.
- أمس كانوا يغطون عوراتهم بالقضايا الكبرى واليوم بكتبهم المقدسة.
- أرى الخزعبلات ما هي.
- خزعبلات، لا شيء غير خزعبلات.
انحنى الله بين يدي ابن العظيم هانس، فأخذ يخلع ثيابه، وهوراتيو يقوم، ويدور حواليه راقصًا رقص الغاب. كان يزمجر زمجرة الفهد، ويفتح فمه إلى أقصاه محاولاً وضع رأس هاملت بين فكيه. عاريًا مثله تمامًا، أخذ هاملت يرقص مع صديقه الأسود، ويفعل ما يفعل، يفتح فمه إلى أقصاه، ويحاول وضع رأس هوراتيو بين فكيه. دخلا بعد ذلك الفراش تحت نظر أوفيليا، وهي تخفي نفسها بين أسداف السعير، وتذرف الدموع الحرّى. كانت تحس بنصل الموت في قلبها باردًا برودة فصل الحياة في ألاسكا، وبلهب الحياة في ظلها ساخنًا سخونة فصل الموت في النيفادا. هل الحب هو كل هذا العناق بين الفصول أم أنه انتهاء الفصول في العدم، عدمنا؟ دخلت أوفيليا في نفق ما بعد الموت، ما بعد الحياة، فالموت والحياة عندما تسيطر الرغبة علينا شيء واحد، وقالت لنفسها: كم هو الظلام دامس! كانت لا ترى شيئًا، لا تدرك شيئًا، لا تقرأ على الصفحة السوداء لا المذاهب ولا الفلسفات، وكانت ترى في الظلام تعاستها، وتدرك سلطة هذه التعاسة عليها، وتقرأ على الصفحة البيضاء كلام ثديها وبطنها وفرجها. لهذا كان هوراتيو عدوها، للونه كان عدوها، وغدا الجنوبيون قضيتها، التمييز، العنصرية، بساتين البرتقال المر. وماذا لو كان لائِرتس؟ سيكون لها نفس الموقف، فاغتصاب الحب يبدل لون الجلد. ستنظر في المرآة إلى صورتها، وتجد أنها بيضاء كأخيها، لكنها سترى لونها أسود، هي وهوراتيو سِيُّ واحد. لن ترفق بنفسها كما لن ترفق بأخيها، فهذا جزء من عذابها، عذابها الأسود كالأبيض لما يكون هاملت من وراء ذلك. في لحظة من اللحظات، ستتراجع، لأن الألوان لا علاقة لها بالعواطف، ولا الأجناس، ولا الأديان، ولا الأصول، ولا الفصول، لا علاقة لكل هذا بالقلوب، والقلوب غالبًا ما تكون لئيمة لؤم الأَلْآء، وعلى الخصوص عندما تريد كل شيء لها تحت ذريعة التوله والتأله. ميتافيزيقيا الحب هي هذا، شيء أقوى من البشر، أقوى من القدر، أقوى من الحب نفسه. وعلى الرغم من ذلك، تمنت أوفيليا أن ينتصر الجنوبيون، وهي ترى اليد الحانية لهوراتيو تزلق على جسد هاملت، كالزورق على جسد ساكرامنتو. أن ينتصر الجنوبيون، أن يقضوا على الشماليين، وأن يؤسسوا لنظام أبيض يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، ومن المكسيك إلى جبال الجليد. أن يقترفوا إبادة جماعية. على حين غِرّة، ضغطت فمها كف شديدة البأس، وطوقتها ذراعان حديديتان. وفي مثل لمح البرق، أردى ثانٍ هوراتيو قتيلا، وفعل ثالثٌ بهاملت ما فعل الأول بأوفيليا. كانوا الجنود الجنوبيين. ربطوا هاملت، وكمّوا فمه، واقتادوا أوفيليا معهم، بعد أن ذبحوا السود كلهم عن بكرة أبيهم، تطبيقًا لنظرية الكمّات التي كانت لهم. امتطوا أحصنتهم، وغادروا مربى الماشية كما دخلوه، ورعاة البقر ينامون، وهم سكارى من التعب، دون أن يفطن إليهم أحد منهم. بصقوا في القلب البكر الذي لم تهزه العواطف كلهم واحدًا واحدًا، هكذا هم كانوا يبصقون من القرف، فيقترفون جريمة المتعة، كما يقترفون جريمة تفسخ الذات، وتفتت الأنا، وطمعها بالمزيد من عدمها، تفريغ عدمها كما هم يفرغون منيهم، فيفرغون أنفسهم، بينما يمتلئ العالم ببؤس الفوضى وبؤس الشعور، وخاصة ببؤس الصرخة، صرخة تنبثق من الأعماق كالجُؤار الأخرس. كانت أم أوفيليا تجأر أكثر فأكثر كلما دخل فيها واحد من قطاع الطرق، ثم أقل فأقل، ولائِرتس الرضيع في سريره يزقزق للبراءة، للطفولة، للحياة، بينما بولونيوس الشاب ينظر إلى زوجته كما لو كان ينظر إلى مريم، وهي ترتدي ثوب الخطيئة. لهذا لم يفعل بولونيوس الشاب شيئًا، فالخطيئة لمريم قُدسية. أضف إلى هذا، ذلك الجبن الذي لم يعهده في نفسه من قبل، جبن لذيذ، يملأك بالاطمئنان إلى نهايتك، ويترك في فمك مذاق البحر. اغتصبوه هو الآخر دون أن يفوه بكلمة، كان يقبل ذلك قبول الضباع لرائحتهم. كان يئن فقط ليسمع أنينه، ولأن زوجه لم تعد تئن، لم تعد تبكي، لم تعد تتحرك، لم تعد ترفض، لم تعد تخدش، لم تعد تعض، لم تعد، لأن زوجه لم تعد. أما عنه، فقد كان يئن، وكان دمعه ينبثق من عينيه دون أن يشعر به، كدمع بحارة كوبنهاغن في الشتاء. للقوة القاهرة سببيتها، كان ذلك سببًا للقوة القاهرة التي أجبرت العائلة شميدت على ترك الشرق للإقامة في كاليفورنيا، عند العائلة كييركغارد. رموا أوفيليا قرب باب الصالون، هكذا هم قذفوا ابنة بولونيوس، وابتلعهم الشارع الطويل اللولبيّ، كالأفعى.






القسم الرابع

لم تكن ورشةُ محطة ساكرامنتو في مَضْرِب الهنود الحمر ورشةً عادية، كانت مكانًا للقطار الذي سيغير وجه العالم: أخطبوط من آلاف العمال الصينيين، يحرك أطرافه الممتدة إلى ما لا نهاية واصلاً الأرض بالغيم، الشمس باليم، النجوم بالعيون، الأنهار بالحقول، الوديان بالجبال، السهول بالرمال، الثلوج بالنيران، الرياح بالزوابع، الأمطار بالزلازل، الأثداء بالعقارب، الشفاه بالنيازك، الأعناق بالسلاسل، الأهداف الدنية لهذا العمل الجبار بالأحلام القصية، بالخيالات العصية، بالكائنات الماورائية، بالجنيات، بالمُغويات، بالمستحيلات، بالأمازونات، بالكاشفات عن أسرار الأنبياء، بالعاصيات من بنات الشياطين والملائكة، بالصانعات لأقدار الآلهة. كان حجر الرص أكوامًا على أكوام، واللِجافات أهرامات لا تعد ولا تحصى، وقضبان الحديد أهرامات أخرى وأخرى. لم تكن الناقلات الحديدية تتوقف عن الحركة، ولا القبعات البيضاوية، ولا الفساتين أو السراويل الفضفاضة، وكانت عشرات السواعد تلزم لرفع قضيب حديدي، تثبته عشرات الأيادي ببراغٍ طويلة، وتجعل منه إلى جانب غيره سكة الحديد المرتجاة. أضف إلى ذلك، الخيمات البيضاء، والعربات المتنقلة، ومقطورات بيوت الماء والمطاعم والدكاكين التي تحمل كلها اسم "روزنكرانت"، والطناجر الضخمة التي يتصاعد منها بخار المدينيّة. فجأة، كان يحصل انفجار لتحطيم صخرة أو لفتح جبل، فتهرع القفف لرفع الحجارة. وفجأة، كانت تبرز الأحصنة الجارة لقنطرةٍ أو جزءٍ من قنطرة، فتغطس الظلال في الوادي غطس السمك في الطمي. كان كل شيء يجري في الورشة بدقة الكم، التناظر إيقاع القدمين، إبداع الثديين، اتفاق الذراعين، انسجام الفخذين، توافق الساقين، تجانس الأصابع، تآلف الأظافر، توازن الخطوط، فالمهندسون يتابعون كل شيء بعقلٍ هو عقل كل شيء، ورؤساء الورشة يسهرون على كل شيء بعينٍ هي عين كل شيء. وكانت الشمس ذهبًا يلظى، وغضبًا يطغى، وكأنها اليد الخفية للتقنية. وبعد الغروب، كانت تنشأ تشاينا تاون صغيرة لا تلبث أن تزول مع الشروق، فيُهرق كحول الأرز، وتُسمع قهقهات العاهرات، وتدور لعبة الديوك، لعبة ديوك ليست كغيرها، فقطع الذهب رهاناتها، والكاسبون جُناتها. وتهيمن الذهنية القبلية، فتمتد المافيا الصفراء قليلاً قليلاً، وتتسع الروحية القتالية، فتتطور مصانع الأسلحة أكثر فأكثر. كانت للشر متعته، وللمتعة اسم: منغوليا. وبالمقابل، كانت ترتفع أصوات ضد الحرب، ضد التمييز العنصري، ضد التمييز الاجتماعي، ضد التمييز الاقتصادي، ضد الرِّق، إلى آخر الضدات في فن أشجار البلوط: المساواة تعاسة في الجذور، تعاسة لقوتها تطغى على السعادة، تغدو سعادة. كان هَمّ الجميع كيف يكون الواحد غنيًا، كيف يجمع أكبر قدر من النقود في أقل وقت، كيف يرجع إلى بلده بثروة ترفع من قدر ذويه، أو كيف يأتي بذويه إلى قدر اختار عنهم. كانت الشروط لحركة اجتماعية تقوم مقام الأحزاب من شروطِ غربٍ ماديّ شمسُهُ في انزياح دائم عن مركزها، يعني من شروط متعة الشر، وكالتعاسة تغدو سعادة، الشر يغدو خيرًا.
- يا الله! يا الله! ابتهل أحدهم دونما حاجة إلى برهان وجود الله، وهو يرجو خيرًا، مكسيكي بين قليل القلة من غير الصينيين، قفة من الحجارة على ظهره.
- شاب مثلك، ويبتهل، احتج صيني بنبرة شريرة فيها كل الضمير الخلقي، أقوى من الصخر كن!
- ليس كما تعتقد، أجاب المكسيكي، وهو يرسم ابتسامة دميمة على فمه.
- لماذا الله إذن؟ استوضح الصيني، وهو يرسم كالمكسيكي ابتسامة دميمة على فمه.
- لأجل الكثير من النقود، أوضح المكسيكي .
- إذن هو أنت، ألقى الصيني بشكل تأكيدي.
- إذن هو أنا ماذا؟ أبدى المكسيكي دون أن يفهم.
- أمس كان الله عندي، قال الصيني جادًا جِدّية الشيطان، وترك لك مائة ألف دولار.
- مائة ألف فقط؟ احتج المكسيكي، طلبته مائتي ألف!
- قال إن خزينته فرغت، وهذا المبلغ بانتظار أن يملأها.
- فرغت كيف وهو الله؟
- لا تسأل الله عما يفعل وكيف يفعل.
- مثلي إذن كثيرون، أكثر من عواهر البيْسونات في العالم الجديد.
- عميان كلهم يجدون في الله دليلهم، وهم أمام أبوابه بالصفوف.
- عميان نحن نرى ولا نرى. كيف ترى أنت، يا عاهر الخراء؟
- بحس الشر لديّ.
- أنت غريب بينا.
- ما ألذ الشر لغريب بينكم وأزكاه! العالم لي هذا الصخر الذي نحطمه، وهذا الحديد الذي نطرقه، وهذا الرمل الذي ننقله من مكان إلى مكان، فيغدو كل منها غيره كما غدا الشر لديكم غيره. نافستُ الله في صنعه، فغضب عليّ، وحرمنى مما لديه، وَقَسَمًا لديه الكثير. أعطاكم ولم يعطني، جعلكم أحرارًا واسترقني، نصّبكم على عروش من ذهب وعروش من تنك ورماني في مراحيض الكلاب، كجرو رماني، كجرذ رماني، كخراء، كبصاق، كقذارة. قال لي ليس هذا زمانك، وكان زماني، ليس هذا مكانك، وكان مكاني، ليس هذا عِلْمك وفقهك ومعرفتك ودرايتك وباقي أسباب وجودك، وكان علمي وفقهي ومعرفتي ودرايتي وباقي أسباب وجودي.
- ولماذا لا تفقأ عينيك مثلنا بالخير فتهنأ حياتك؟
- ليس الله غبيًا، سيعرف أنني لست من صحب الذين غَشِيَت عيونهم، وأنني أحتال عليه.
- أنا أحتال عليه وهو لا يعرف.
- كيف تحتال عليه؟
- هل أكون غبيًا كي أقول لك؟
- بالله عليك أن تقول لي.
- ادفع أولاً المائة ألف دولار التي تركها الله لي عندك، فأقول لك.

* * *

جاء هاملت راكبًا الزين، ذلك الحصان الأسود، ومسدس أبيه يتدلى على خاصرته، وقَطَعَ ورشة الخط الحديدي الضخمة ليوغل في أرض كانت للشمس مملكةً وللنَّسر موطنًا، الظل فيها قاسٍ قسوة الحديد، والصخر المعلق الرجاء الوحيد. كان الموتُ الحيَّ الأوحدَ، أشقرَ كان الموت، ومخالبُ النسورِ كانت شفواته. يقبّل بها العدم، فيسيل قوس السحاب شفًا، يترقرق كنهر في مرآة. كان هاملت كمن يدخل في مرآة، في الذاكرة، فذاكرة البشرية مرآة تمتد شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، والبشرية ذاكرة، مستقبلها ذاكرة كغائطها. السكة الحديدية، وهي في صدد البناء، لهي في المرآة ذاكرة من ذاكرات البشرية. الذاكرة قدرنا، قدر العدم. إلى العدم نذهب، وإلى العدم نذهب. نذهب في المرآة، وفي المرآة نتوهم، نظننا خارجها، فنشم رائحة العفن، ونتذكر واجباتنا. لهذا كان هاملت هنا، لواجبه نحو أبيه المغتال، المغدور، ليقول له أنا لم أنس الشر الذي أُلْحِقَ بك، ذاكرة الشر لهي الأقوى. لن أعامل الشر بالشر، سأكون الشر. سأرتكب من أجلك أكبر المعاصي، وكل المعاصي من أجلك ستكون تمتعي. سأتمتع بفظاظة، فأستحق فظاظة هذه الطبيعة المومس، المومس ابنة المومس!
طبطب هاملت على عنق حصانه، كانت طريقته في الكشف عن نواياه.
- سنرقص فيما بعد، قال هاملت للزين، كما ترقص الشمس على إيقاع طبول الجحيم، عندما أتقن الرماية تمام الإتقان.
لكن الحصان سطا، ورقص.
- لن ترقص وحدك، انتهره الفارس، سنرقص أنا وأنت، عندما أنتهي من التمرن، ستكون رقصتنا قبل رقصة الموت، رقصة الموت سأرقصها وحدي، فالقضية ليست قضية حياة أو موت، القضية قضية رقص أو رقص.
إلا أن الحصان عاد يرقص، فنزل هاملت عنه، وسدد ضربة قوية في بطنه، جعلته يصهل، ويشب.
- سنرقص معًا فيما بعد، أيها الماخور! ألا تفهم لغتي الحيوانية؟
تراجع الزين، وراح ينقر بحوافره الأرض، ويرقص، وراح يدور بهاملت، ويحمحم، وكأنه يريد مناكدته، إلا أن الفارس سحب مسدسه، وبدأ يطلق النار بين حوافر الحصان، فهاج الحصان وماج، وفي الأخير هدأ وأذعن.
- نعم، هكذا، أيها الماخور!
- أنا أرقص لموتك القريب، تخيل هاملتُ الزينَ يقول.
- تقول هذا لأني وضعت حدًا لرقصك.
- أقول هذا لأنك لا تفهم معنى الرقص.
- الرقص على جثتي تريد القول.
- الرقص، فقط الرقص.
- إذن اتركني أرقص على ظهرك.
- بأيمن الطالع.
انحنى الزين، وأوقفه على السرج. تركه يقفز، وبجزمته يضرب، وإذا بالرصاص يصب عليه، فسارع هاملت إلى النزول، وذهب بالحصان من وراء صخرة.
- أيها الشرير! هل هذا هو أيمن الطالع؟ نبر هاملت، قتلي؟
- أردت فقط أن أنذرك.
- أن تبلغ من السخافة إلى حد أقصى؟
- إنهم أصحاب بولونيوس.
- رجال البحث والتقصي؟
- بعد أن عجزوا عن إرسالك إلى خالتك...
- إلى خالتي؟
- إلى السجن، أيها الماخور!
- نَكْدُ السوء.
- بعد أن عجزوا... هذر وثرثرة، هذر وثرثرة، هذر وثرثرة! ها هم يريدون قتلك.
- السماء أقرب إليهم من قتلي.
- في السماء يرقصون جيدًا لو تعلم.
- لن تقول لي إنك ترقص فوق في الليل بينما أنا نائم.
- في السماء يغنون جيدًا لو تعلم.
- وفي طول الأرض وعرضها.
أخذ هاملت يغني، فأوقفه الزين.
- أفضل رقصك على غنائك.
- أنا كذلك، قال هاملت ضاحكًا.
- أفضل صمتك على كلامك.
- أنا كذلك.
- أفضل ضحكك على بكائك.
- أنا كذلك.
- لكنك لا تضحك.
- الضحك فيما بعد.
- عندما تقتل عمك.
- البكاء فيما بعد.
- عندما تقتل أمك.
- عندما أقتل أمي سأضحك، وعندما أقتل عمي سأبكي.
أخذ الحصان يضحك، فأخرسه هاملت.
- لا تضحك!
- أنت ذو مزاج بارد.
- عندما أقتل أمي سأبكي، وعندما أقتل عمي سأضحك.
- ومتقلب الطبع.
- ابتعدنا كثيرًا عن الرقص.
- لماذا لا تجد لك قاتلاً مهنته إرسال الأرواح إلى السماء؟
- السماء من جديد؟
- أنت لا تتقن القتل.
- سأتدرب على تقصيب الصخر.
- طرأت على بالي فكرة!
- أَصْلٌ مِنَ الحقيقة؟
- جِدْ لك قاطع طريق.
- يجب أن يتم الثأر لأبي على يدي.
- حتى. هكذا لن تنتظر طويلاً.
- يجب أن يرضى الشر عني.
- حتى. هكذا لن تخاطر بحياتك.
- يجب أن أداهن الشيطان.
- حتى. هكذا لن تصيب طريدتين بطلقة.
- ارفع يديك!
- يُطْلِق.
- على أي حال.
- كما تقول.
- ارفع يديك!
- لن يقول ارفع يديك مرتين.
- لن يقول ارفع يديك على الإطلاق.
- أنت متقلب الطبع بالفعل.
- سيقتل قاطع الطريق عمي غيلة.
- كما فعل عمك مع أبيك.
- ولكن...
- ولكن؟ شيء طبيعي من شخص متقلب الطبع.
- أبي بَدَّلَ رأيه، أبي عدل عن قراره.
- لم أكن أعرف، عين العقل، إلا أنني أخشى أن تعيش عيشة متشابهة.
- ولكن...
- ولكن؟
- لن أسمع له.
- لماذا؟ العدل الإلهي موجود.
- العدل بلا زيادة غير موجود.
- لا تَسْدُدْ عليَّ بابَ الكلام!
- عدل السماء استغواء، وعدل الإنسان أكثر. لهذا السبب أريد عدلي.
- لهذا السبب أريد عدله.
- من هو هذا السيد البائع للعدل في سوق البراغيث؟
- هو هو.
- وأنا أنا.
- لماذا عمك لا يقتل نفسه فيريحك ويريح العالم؟
- كيلا يرتاح مني.
- يا ظالم! اترك الغدر يرتاح، فينام في فراش جيرترود.
- لا أريد أن أقتل نفسي.
- لماذا لم تولد قاطع طريق بدلاً من هاملت؟
- كان من الواجب أن أطرح السؤال على أبي قبل مصرعه.
- لو وُلِدْتَ قاطعَ طريق، يا هاملت، لما مات أبوك قتلاً بيد أخيه، ولمات أخوه قتلاً بيدك.
- ولكنتُ أولَ قاطعِ طريقٍ عادلاً في العالم.
- هل يحب العدلُ الظلمَ إلى هذه الدرجة؟
- الظلمُ عدلٌ في مملكة الدانمرك.
- الظلم ثدي.
- وبطن وفرج.
- لهذا السبب ترك أبوك نفسه يُقْتَلُ بيد أخيه.
- ما أعدل الظلم!
- ما أظلم اليوم!
- قَتْلُ عمي معركةُ واترلو بالنسبة لي.
- ستقتله غيلة.
- ارفع يديك!
- إذا ما فهمت جيدًا ستقتله غيلة.
- مبارزة.
- عند المبارزة ليس ارفع يديك هناك.
- لن أحسن التدرب على استعمال المسدس.
- اقتله غيلة.
- في مملكة الدانمرك، طلقة من مسدسي ستقضي على جيشٍ مِنَ الثعابين.
- وفي مملكة الكون؟
- على ثعبان.
- لهذا السبب، في مملكة الدانمرك، لا تهرب الثعابين منك إلى أوكارها، تتآخى مع طلقاتك، فلا تغدر بها، ولا تغدر بك.
- سأبعث بقاطع طريق.
- أحسن الحلول.
- من اللازم أن أتدرب.
- على الرقص؟
- أتقن الرقص ولا أتقن القتل.
- القتل أسهل من الرقص، القتل رقص.
- سأقتله غيلة.
- الخطر أقل.
- سيقتلني غيلة.
- الخطر أكثر.
- تعال نرقص.
- تعال نقتل.
- تعال نركض.
- تعال نرقد.
اتجه الزين بهاملت متهاديَا إلى اللامكان، فأغمض ابن العظيم هانس عينيه، وأغفى. راح يدخل في حلم، ويدخل في حلم: رأى نفسه في ثوب نابليون المخضع للكون، وفي ثوب راعي بقر على ظهر ثور في حلبة رودِيُو، وفي ثوب الشيطان المضاجع لأمه. لم ينجح في عناق أمه، وهو العاجز، فانهار، وراح يرعى أبقار لذة العجز رعي الفنون، ولم ينجح في عرض براعته، وهو العاطل، فرماه الثور أرضًا، وراح يلهث من متعة السقوط، ولم ينجح في معركته الحاسمة، وهو العاظل، فمات قتلاً، وراح يحلق في الفضاء كالكلمات. مات هاملت، قال هاملت لهاملت، حرٌّ أخيرًا.

* * *

كانت أوفيليا تعرف أن من غير الحِذْقِ الدفاع عن شرف فتيات الملذات، لكنها لم تكن في وضع يسمح لها بغير ما تفعل، كان ذلك لديها كغير المؤمن في بحثه عن برهان وجود الله. لقد فقدت كل شيء أوفيليا، حبها، شرفها، طهارتها، براءتها، جمالها، شبابها، شبابها وهي لما تزل في ريعان الشباب، شبقها، نزقها، عبقها، عواطفها، انفعالاتها، غرائزها، وكل اندفاعاتها، لهذا اختلف عليها الأمر، وتاهت في اعتبارات ميتافيزيقية. كان الماخور أنظف مكان في مملكة الدانمرك، ولهذا. لم تعد تذكر أن شخصًا هامًا في حياتها كان اسمه هاملت، أو أن أخًا غاليًا على قلبها كان اسمه لائِرتس، أو أن أبًا قويًا أحسن تربيتها كان اسمه بولونيوس، لم تعد تتذكر، كل ما كانت تريده هو الدفاع عن شرف مومسات الصالون اللواتي استقبلنها في البداية أحسن استقبال، احتضنّها، وأخذن بيدها في محنتها كأخوات، لكنهن بعد ذلك، سرعان ما عملن، بشتى الطرق، على إقصائها، مقابل أن يحتفظن بالزبائن، وغدون كلهن للشر أخوات. لم تجد أوفيليا صدرًا تلجأ إليه غير صدر القمر في الليل، تجعله بذراعيه يلفها، وتترك نفسها كذلك دون أن تغفو عينٌ لها، فكل المومسات يعملن من حولها، حتى الصباح يعملن، وهي تفكر فيهن، وفي الطريقة التي تمكّنها من حمايتهن، حمايتهن من الوحوش الضارية، ومن أنفسهن، ولم تكن تصل إلى أية طريقة. أعياها ثقل ضميرها الخلقي، بثقل الشمس في النيفادا كان ضميرها الخلقي، وعذبها، وراح يكلمها، راح يتحدث بلسانها قائلاً إنه ابن مومس، وإن كل هذه المومسات أشرف منه، وهو لا مكان له في حضن القمر، وفي حضن الشمس هو كلب ابن كلب أجرب مطرود مشرد يستحق طلقة في جبينه تضع حدًا لحياته، حياة أقذر حياة. أمام عجزها عن الحفاظ على شرف المومسات، أخذت أوفيليا تعوي في الليل، فتخرج فتيات الليل إليها، ليخرسنها، يضربنها، ويرغمنها على النوم بينا هي لا تستطيع النوم طالما أخواتها يواصلن العمل، وطالما القمر في سماء ساكرامنتو أسود اللون أو أزرق اللون أو أحمر اللون أو أصفر اللون أو بنفسجيّ اللون أو بنيّ اللون أو فستقيّ اللون أو بطيخيّ اللون أو شماميّ اللون... يضغطها على صدره ضغط الزوج تارة والأخ أو الأب تارة، ولا تجد غير مضغ أوراق كوكا تجعل منها مِكْناز زمنها: ذاك القزم الذي يرد ذكره في الأساطير، والذي يحافظ على كنوز الأرض.
- لن أتركك تغطس فيّ، خاطبت أوفيليا القمر شبه غائبة عن الوعي كمن لا تبالي بالنجوم إذا كان القمر معها، أنا لست عاهرتك، أنا عاهرة الشيطان، قلب قلبي، أنا عاهرة وفية، أنا عاهرة ذات قلب بكر لم تهزه العواطف، أمي من قبلي كانت عاهرة ذات قلب بكر لم تهزه العواطف، فلنقل لم تهزه العواطف إلى أن هزته أعتى هز في اليوم الذي ولدتني فيه بين ذراعي الحياة، وَوَلَدّتْ نفسها بين ذراعي الموت، لأننا لما نموت نلد أنفسنا في العدم، لنعيش الموت كل واحد على طريقته. أنا أختك، يا قمر، أنا ابنتك، أنا أمك، أنا فضة تسيل بين فخذيك، فخذاك العالم، كل أخواتي العاهرات فخذاك، أنا كل ما توحي إلى السكارى بصور دون حياء، إلى رعاة البقر، إلى ظمأى الذهب، كل ما توحي إلى عاشقي العار، إلى مجرمي النهود، إلى عابدي البطون، أنا قصيدة تنثر كلماتها على بطنك، فتكون قصائد، ويكون شعراء، شعراء الدنس يكونون، فالعفة دنس للكلمة الشاعرة، والكلمة الشاعرة كفر، الكلمة الشاعرة جلادة لأنها كافرة كأولئك الجلادين، فالجلادون وحدهم هم الكفرة، ولا علاقة للكافرين بتؤمن أو لا تؤمن، الكلمة الجلادة شاعرة، أنا الكلمة الجلادة، وأنت الإلهام الجلاد، يا قمر! الديوان الذي لن يشربه ظامئ، وكل العالم ظامئ! الخنجر الذي لن يطعمه جائع، وكل العالم جائع! الفرج الذي لن يخترقه ضالع، وكل العالم ضالع! سأشربك أنا، وسأطعمك أنا، وسأخترقك أنا، فأنت أنا، وأنا هذه الكلبة التي تريد كل الزبائن لنفسها دون غيرها تحت ذرائع عن الشرف بالية، فالشرف ماخور، يا قمر! العفة، البكارة، الاستقامة! مُرْنِي أُعْطِيني للذئاب، أمرك مطلق، فأنا ذئبة ابنة ذئبة، أنا طين العفة، وصديد البكارة، وبصاق الاستقامة، فهل هناك من بين البشر واحدة أكثر مني نظافة؟ أنا النظافة القذرة، يا قمر! كن أنا، وامخر العُباب! ليس من أجل النقاء، من أجل أن أزداد قذارة، فالعُباب قذارة، الفضاء قذارة، الزمان قذارة، وقذارةٌ الحبُّ، الكلفُ، الغرامُ، قذارةٌ الصداقةُ، الوفاءُ، الإخلاصُ، قذارةٌ العزةُ، المالُ، الجاهُ، قذارةٌ الأملُ، الأمنيةُ، الرجاءُ، كل شيء قذارة، قذارة على قذارة، قذارة على قذارة على قذارة!

* * *

في محكمة الجنايات، بينما يلعب المحاميان الشطرنج، والمحلفون البوكر، أصدر القاضي الجديد حكمه:
- بالنظر إلى وقوع أراضي السيد فولتِماند داخل حدود أراضي صاحب المقام الرفيع كلوديوس كييركغارد، وبالنظر إلى غياب وريث بالغ لهذه الأراضي من أبنائه وبناته، فالوريث البالغ في عرفنا لديه من العمر إحدى وعِشرون سنة، تَقَرَّرَ أن يضع السنيّ كلوديوس كييركغارد يده عليها، وذلك بما يعود على هذه المحكمة من صلاحيات. رُفعت الجلسة.
نهض كلوديوس كييركغارد ليعبر عن طيبِ سوءِ اهتمامه بالورثة الصغار: خمسة فتيان أعمارهم تتراوح بين أحد عشر عامًا وخمسة عشر، وخمس فتيات أعمارهن تتراوح بين ستة عشر عامًا وعشرين. رفضوا، وعبسوا، وغادروا مع محاميهم، والمحامي الآخر يشير إلى رقعة الشطرنج، ويقول بمرارة: "لم ننه اللعبة بعد!". وعلى العكس، هنأ بولونيوس سيده بحرارة، وكذلك فعل الشريف مارسيلوس وأعوانه.
- قبل أن أرسل رجالي، أمر صاحبُ المقام الرفيع الشريفَ مارسيلوس، نظف لي كل هذا!
- كما لو كان كل شيء قد تم، يا صاحب المقام الرفيع، أطاع رجل الأمن والنظام.
- هيا! تدخل بولونيوس، ماذا تنتظر؟ افعل ما تؤمر به!
- إرادة الملك، إرادة القانون، دوى الشريف مارسيلوس.
غادر رجل الأمن والنظام وأعوانه القاعة بقدم عاجلة، وكلوديوس يقول ليده اليمنى:
- مناجم الحديد في هذه الأراضي لن تجعلنا نتوقف على المكسيك إلى ما لا نهاية.
- التنقيب يؤكد ذلك، أجاب بولونيوس.
- أولاد وبنات القحبة كأبيهم لا يريدون أن يفهموا!
- لائِرتس سيهتم بهم.
- لائِرتس يُلهبه حب الوطن!
- لائِرتس خط الوصل، سنرسلهم إلى لوس أنجلس عنده، وسيجعل منهم أولاد وبنات قحبة عن حق وحقيق، سَتُنعم عليهم الطبيعة بمزايا عظيمة، يا الطبيعة القحبة! أشهد السماء على كل ما أقول!
- أيها الرجل الأبيض، لست بحاجة إلى شهادة السماء، نبر كلوديوس في وجه بولونيوس، والدنيا قد احمرت في وجهه، ليس هذا لأني أثق بما تقول، بل لأني سيدك، وصدقك كطاعتك أمر مفروغ منه، وإلا فلا أكون من أكون !
- المعذرة، يا سيدي ومولاي، إذا خدشتُ بكلامي البحر، همهم والد لائِرتس مضطربًا، وهو يحاول أن يركز أسلوبه، بللتُ بأنفاسي أجنحة الصقور، رميتُ بسهامي الشموس والأقمار والنجوم، فشهادتي عبارةٌ للتأكيد على شهادة، وهل هناك غيرها من شهادة: أشهد كلوديوس على كل ما أقول!
- كفى! انتهره سيده، وهو يبدي عن نواجذه، خذ حذرك المرة القادمة! إياك أن تنسى شرطي الواجب!
- تحت أمرك، يا صاحب المقام الرفيع. أنا خنزيرك البريّ!
- الخنازير البرية كبرياء كاليفورنيا، وأنت لن تكون كبريائي.
- أن أكون فقط خنزيرك البريّ كل كبريائي!
- ثرثرت كثيرًا، يا يدنا اليمنى! دوى كلوديوس، وقد نفد معين صبره، إلى العمل، أنت وشريفك! بادلا الشر بالشر، وكونا على مستوى المهمة التي أكلفكما بها!
- ليس لدينا من خيار آخر سوى أن نكون، وسنكون كما كان دأبنا دومًا.
- كثير الكارات قليل البارات.
- مُسَبِّع الكارات أنا، لكني ربها!

* * *

من عقر دارهم، أراد الشريف مارسيلوس أن يُصْعِدَهم، أولاد بنات، في عربة، فقاوموا مقاومة عنيفة اضطرت مسئول الأمن والنظام ومعاونيه إلى إشهار مسدساتهم آخر صيحة، ذات الأنابيب المتعددة. لم يتحكموا بها، وعملت على هواها، وهي تختار أهدافها كما يحلو لها: روبو حديدي ارتداه أصغر الأبناء، مخترعه، أطلقوا الرصاص عليه، وأطلق الرصاص عليهم، فأسقط بعضهم، ولم يسقطوه، إلا أنهم استطاعوا رميه أرضًا، وسيطروا عليه. مِصعد امتطاه رابع الأبناء حتى أعالي شجرة سامقة، مما اضطرهم إلى تسلق أغصانها إليه، لكنه هبط بآلته في اللحظة التي وصلوا فيها إلى مستواه ليتوقف عند منتصف الشجرة، ومن جديد اضطرهم إلى الهبوط والأغصان تتكسر تحت ثقل أجسادهم، فالصعود من جديد، وهكذا دواليك، البعض سقط على الأرض، وهو يصرخ، والبعض امتلأ جسده بالجروح. وفي الأخير، ربطوا المصعد بحبالهم، وبقوة خيولهم، تمكنوا من جذبه. دبابة صندوقية اخترعها ثالث الأبناء لم تعمل كما يجب، تعثرت بحجر، وانقلبت عدة مرات، قبل أن تستقر على ظهرها. طائرة من اختراع ثاني الأبناء أشبه بكوندور ممزق الأرياش، رموا عليها عُقَدَ حبالهم، مما اضطر ربانها إلى النزول. سيارة بدائية حاول كبير الأبناء، مخترعها، الهرب بها، إلا أنهم بأحصنتهم الأكثر سرعة، تجاوزوها، وأوقفوها. أما البنات، فشيء آخر. أصغر البنات ارتدت ثوب الشريف، وامتطت جواد الراحل أبيها، فحلمها أن تكون أول امرأة للأمن والنظام، وقاتلت ببسالة. رابعة البنات ارتدت ثوب البابا، فحلمها أن تكون أول ماما في العالم، لأن المسيح في رأيها امرأة، حوله المجتمع البطريركي إلى رجل، للسيطرة على الرجل وعلى المرأة. ثالثة البنات ظهرت لأعوان الشريف، وهي ترتدي مايو بيكيني، أول مايو بقطعتين ترتديه امرأة، فتدلت كالكلاب ألسنتهم، وحاروا في أمرهم. ثانية البنات خطبت فيهم بوصفها الرئيسة الأولى للولايات المتحدة، ولايات متحدة لم تكن موجودة، فأرادت أن تجعل من الحلم حقيقة واقعة. أولى البنات وأكبرهن جاءت بسماعة الطبيبة لتفحص الجرحى، وتداويهم، كأول طبيبة امرأة في كل أمريكا.
في الأخير، قادوا الجميع إلى الدِليجنس الذاهبة إلى لوس أنجلس.
في اليوم التالي، حضرت الماكينات، وبدأت في الحفر.

* * *

أطلق هاملت طلقة لم تصب القلب من جسد المرأة المرسوم على صخرة، أزت الطلقة أزيزًا حادًا، وارتدّت بعد أن خدشت جلد الزمن. كان ذلك بمثابة كَلْمٍ أحدثه مِخلب النَّسر، والكَلْم بمثابة حكاية. ومن جديد، أرسل هاملت طلقة ثانية، ضاعت في الفراغ، فلم يلتقط المنتقم ما يلتقطه النحات، ولم يقطع اللحم الحي قطع مناقير الكواسر. هربت من بين أصابعه المأساة، وعقد العزم، أكثر من أي شخص كان، على صنعها، فالمأساة ليست قدر الورد بشوكه، ليست مصير راعي البقر بغدره، ليست مآل شخص بغيره، المأساة إرادة الطبيعة، تلك التي تلهو بدمنا، وهاملت يريد شيئًا من هذا، أن يكون إرادة الطبيعة، أن يلهو بدمه. وأطلق هاملت، وأطلق، وأطلق، فنعقت العُقبان نعيق الغربان، ليعرف أن طلقاته أصابت قدم المرأة. ابتسم، وزاده ذلك عزمًا على عزم. قدم المرأة الآن، وبعد ذلك فخذها، فبطنها، فصدرها. كان ذلك نحته للموت على جسد أبيض، ينادي بثأر الشهوات مذ كانت هناك شهوات، بانتقام الانحصارات مذ كانت هناك انحصارات، بعقوبة الجاذبيات الجنسية مذ كانت هناك جاذبيات جنسية. ليكون التصور القسريّ، والتسلط الفكريّ، فبفضل التسلط والقسر تقيم العُقبان وليمتها. لهذا أطلق هاملت من جديد، فأصاب المرأةَ في رأسِهَا، وأصاب الطيورَ الجارحةَ الرعبُ، غادرت مواقعها بين العملاق من أشجار الصَّبار، وراحت تحلق كالكائنات المسخوطة فوق رأسه، وهي تضرب بأجنحتها ضرب الممسوس في عقله، مما اضطره إلى إطلاق النار عليها، وَقَتْلِ بعضِهَا، دون أن ينجح في إبعادها عنه كلها. سقط عليه عُقاب، ونقره من كتفه، فصرخ هاملت، وبدافع وجعه، راح يطلق النار على الشمس. عادت الطيور الكاسرة إلى أماكنها، وعادت تنظر، وتنتظر، كانت تلك وليمتها، ولن يمنعها أحد عن نحت الجسد الهالك على طريقتها: أن تصنع من البطن بطنًا أمضى من مخالبها، ومن الردف ردفًا أعتى من مناقيرها، ومن النهد نهدًا أقسى من طباعها.

* * *

كانت العربة الناقلة لصندوق بيت مال الحكومة الفدرالية محروسة من طرف بعض فوارس جيش الشمال، فهي تنقل من الدولارات آلافها لعمال الخط الحديدي، لما فجأة أحاط بها بعض قطاع الطرق الملثمين الذين راحوا يطلقون النار، فنشبت معركة حامية الوطيس، انتهت بانتصار هؤلاء الأخيرين.
- في كل مرة يحدث الشيء نفسه، صاح كلوديوس بيده اليمنى، وهو يستشيط غضبًا، وفي كل مرة لا تفعل شيئًا، فإلى متى سنبقى ضعافًا في مملكتنا؟ كأن ساكرامنتو ليست عاصمة الشيطان التي هي لنا، وكأن كاليفورنيا ليست فردوس ملائكة الشر الذي هو لنا!
أخذ بولونيوس يرسل إلى الأجواء الأقراص الخزفية من ماكينة دافعة كجواب بسرعة أكثر فأكثر، وسيده يصوب إليها مسدسه، ويفجرها، واحدًا تلو آخر، حتى أتى عليها كلها.
- لم أخطئ واحدًا منها، هتف كلوديوس في وجه يده اليمنى، أما أنت، فتخطئ بعدم الجواب على سؤال أنت من يعرف أكثر من كل الناس أبعاده.
- أبعاده التوليدية أم الدلالية؟ تلعثم بولونيوس.
- الخرائية، خراء! نرفز كلوديوس.
- سنتقاسم مع الباحثين عن الذهب ما يجدون بانتظار...
- هذا شيء ومال الحكومة الفدرالية شيء آخر! سنتقاسم، وسيكون لنا من المال ما يعود علينا. خذ كل القوى التي يريدها رينالدو، كل الإمكانيات، كل ما يلزم.
- تحت أمرك، يا صاحب المقام الرفيع، ولكن...
- قل! كيف أُعاوِدُكَ وهذا أثرُ فأسِكَ!
- لن يجدي ذلك نفعًا كبيرًا.
- أوضح، ما الذي تريد أن نفعله؟
فك بولونيوس حصانًا يركبه فارس خشبي، وضربه على كفله ضربة جعلته يعدو عدوًا دائريًا من حول كلوديوس، وكلوديوس يصوب إلى الفارس مسدسه، ويصيبه كل مرة في صدره حتى لم تعد لديه أية طلقة، والحصان يداوم على الدوران بتحد مغيظ.
- كان علي أن أدقق مسدسي تدقيق حساباتي، نبر كلوديوس حانقًا، لم تكن فيه من الطلقات ما يكفي!
- على النظام كله أن يُدَقَّقَ تدقيق حساباتك، يا صاحب المقام الرفيع، أوضح بولونيوس، وهو يوقف الحصان، ويعيد لجمه، الحرب الأهلية بدلت نظام الدفع في كل مكان إلا عندنا.
- تقصد الصكوك؟ استفهم كلوديوس، وهو يعيد تعبئة مسدسه بأصابع عصبية قبل أن يعلقه على خصره.
- والأسهم. من الواجب تعميم الأسهم، يا صاحب المقام الرفيع. حقًا الأسهم لم يجر بعد العمل بها على نطاق واسع، ولكنها الطريقة الوحيدة التي ستحمي أموالك، أيها السنيّ كلوديوس، وتضمن لك بناء اليونيون باسيفيك ريلرود من غربه إلى شماله دون أي إشكال. الأسهم تعادل النقود، تعادل الديون، تعادل المضاربة، تعادل النقود على النقود التي ستملأ جيوبك بها. قطارك سيصبح قطارات، شركات، أسواق، اقتصاد أمريكا، اقتصاد العالم، العالم مملكة الدانمرك. كل هذا سيكون واقعًا بلا رَيْب، ولا علاقة لهذا بتوالد الألفاظ، بتوالد الأفكار ربما، الأفكار الخلاقة.
أحضر اليد اليمنى إنسانًا آليًا، فراح كلوديوس يشهر مسدسه بسرعة البرق، كلما حرك الإنسان الآلي يده ليباغت صاحب المقام الرفيع، ويطلق مصيبًا إياه في أماكن عديدة من صدره.
- سنفكر في الأمر، قال كلوديوس، وهو يلمس بأصابعه الثقوب التي أحدثها في صدر الإنسان الآلي، من هنا إلى هناك، اجمع من حولك عددًا كبيرًا من رجالنا، واذهب بنفسك لاقتسام الذهب مع من يجده، وفوق ذلك، إلزام الجميع على دفع ضريبة البحث عنه في أراضينا. كلب اعْتَسَّ خيرٌ من أسدٍ رَبَضَ!
وهذا ما كان: من استجاب تركه بولونيوس في حاله، من لم يستجب التقطه رعاة البقر بالحبال، واغتصبوه، رجلاً كان أم امرأة، تحت سمع الرجل القوي الثاني وبصره، وهو في هذا، جمع الكفاءة من أطرافها. كان بولونيوس ينتقم من مغتصبيه، من مغتصبي زوجته، من مغتصبي كِيانه، ممن لم يغتصبوه، لم يغتصبوا زوجه، لم يغتصبوا كِيانه، ككل مظلوم قُدّ قلبُهُ من حجر، وها هو على هذا الكِيان المحطم يقيم كِيانات محطمة، فيبتسم، ويظن أن عالمًا كِياناتُهُ محطمةٌ لهو أقوى عالم.
- ابعد عني، يا بولونيوس، نفرت منه زوجه سعيًا وراء قَضْبِ الأسباب بينها وبينه، فأنا بعد كل ما فعلوا فيّ أكره رائحة الرجال، أكره أنفاسهم، أكره أصواتهم، أكره أفكارهم، أكره ظلالهم، أكره صورهم في المرآة. إنهم ها هنا، أيها الرجل الخائن، يخرجون كل مساء من انعكاسات الضوء ليعبثوا في جسدي، فلا تفعل شيئًا، مثل أول مرة، تتركهم يقطعونني بأسنانهم، وأنت تنظر إليهم، وكأنك تحسدهم على ذلك، فتأخذهم كلهم في حضنك، أيها الرجل الجبان، أيها الزوج الذليل، أيها القلبُ المنتهَكُ الذي هزته العواطف أعظم هز!
- ولكنك حبلى منهم، احتج بولونيوس مستعمِلاً لكلمة "حبلى" استعمالاً تعسفيًا، حبلى منهم، حبلى منهم، حبلى، حبلى، حبلى منهم، ولكنك حبلى منهم، حبلى منهم، حبلى منهم، حبلى، حبلى، حبلى منهم، حبلى، حبلى، حبلى، فاتركيني أفعل كما فعلوا، ليقول الجنين إني أبوه.
- لن يعرف الجنين من هو أبوه، ولن يعرف أحد، لن يشي الجنين بك.
- ستسقطينه، حرام أن تسقطيه.
- الحرام كلمة محرمة بعد كل ما جرى لي.
- أنا لن أحرضكِ على الفجور.
- أما أنا فأحرضكَ، على الفجور أحرضك، على العنف، على التمرد، على الاضطرابات، على الموبقات، على الشر، على الحرب...
جرجر رعاة بقر بولونيوس أبناء الذهب الفقراء، وهم يسقون بتوتهم الحجارة والرمال. فجّروا المكان الذي يحتلونه بالديناميت، وأعطوهم مهلة يومين ليرحلوا. ولكن ما حصل، بعد مغادرة بولونيوس ورجاله، شيء لا يصدقه العقل، إذ بينا كان بعض المنقضين على الذهب في أقصى ضيق وأشد يأس، لا يعرفون ما يفعلون، ولا يميزون ما يرون، كمطايا البؤس كانوا، وبصاق الحياة، كالمنتظرين دَفعةً من يدٍ رحيمة على حواف قبورهم، اكتشفوا ما فعله الديناميت من معجزة ما كانوا أبدًا يحلمون بوقوعها: قِطَعٌ من الذهب كثيرة كانت بين الأنقاض.

* * *

تصارع الطوف مع أمواج ساكرامنتو، وهو ينقل المساجين المسلسلين إلى ورشة السكة الحديدية. اختاروا السماء سقفًا على سقف زنازينهم، والحرية ما تحت المراقبة. ألقاهم الطوف، وذهب ليأتي بغيرهم، القَرِفين من الحرب الأهلية، فالعاهرات، فالأطفال، فالجذوع، فالزنبقات، فالخنازير، فاليائسين من البحث عن الذهب، ومن بين هؤلاء كان علي وعامي، ابنا عم شقيقان وفرنسيان من مدينة ليون. لم يقولا لِتِبْرِ كاليفورنيا "كان ذلك حسبنا!"، فهما هنا للوقوع على آني. كل واحد يقول منه، ابنتها أوفيلي.
حملا رسمها، ودارا بين العمال، آلاف العمال، بين مخالب شمس لا ترحم:
- هل تعرفها؟
- لا أعرفها، اسأل ذلك، هو قبلي بكثير في هذا الماخور، أجاب الرجل بالإسبانية.
- هل تعرفها؟
- دعني أنظر، مع كوني أعرف الكل، اسأل تلك، أجاب الرجل بالإيطالية.
- هل تعرفينها؟
- لا أريد أن أعرفها، أجابت المرأة بالبورتوريكية.
- انظروا إلى هذا الرسم، طلب علي إلى مجموعة من الصينيين.
- هل تعرفونها؟ سأل عامي.
- نعرفها؟ لا نعرفها؟ لا نعرفها، قال أصغرهم سنًا بأمريكية مكسرة، اذهبا إلى الناحية الأخرى من السكة، ربما وجدتم أحدًا يعرفها.
- حظكم هناك أكبر في الوقوع عليها، قال أكبرهم سنًا بأمريكية مكسرة.
- هل تعرفنها؟ سأل عامي مجموعة من العاملات دون أن يتفضلن بالنظر.
- اسمع! نادى علي، هل تعرف هذه القحبة؟
- أعرف كل القحبات إلاها، أجاب الشاب بأمريكية كاملة.
- هو لا يقصد، أوضح عامي.
- ليست قحبة؟ إذن لا أعرفها.
- سنسأل تلك، اقترح علي. مس قفاي!
- لستُ قحبة، قالت الفتاة بالفرنسية مع ابتسامة واسعة.
- هو لا يقصد، قال عامي.
- من أين أنتما؟ سألت الفرنسية باهتمام.
- من قفاي، أجاب علي.
- لا، بجد.
- من قفاه، قال عامي.
- وأنا من قفا من؟ رمت الفتاة، وهي تقهقه، فتركاها إلى أسودين.
- هل تعرفانها؟ سأل علي وعامي بصوت واحد.
- نحن لا نفهم ما تقولان، قالا بالسنغالية.
- لستم من هنا، يا دين الرب؟ نرفز عامي.
- أقدم لكما أطيب تمنياتي، قال بالسنغالية أحد الأسودين.
- لنسأل ذاك القصير، قال علي، وهو يشير إلى قزم يقترب منهما.
- قصير قفاك، علق عامي.
- هل من خدمة أقدمها لكما؟ سأل القزم، ويده تمتد إلى الرسم.
- اسمها آني، هل تعرفها؟ سأل عامي.
- هل تحب خراءها؟ رد القزم على السؤال بسؤال.
- لا تسأل، يا ثقب قفاي! انتهره علي.
- هل تعرفها؟ عاد عامي يسأل.
- لا أعرفها، أجاب الرجل القصير مع ابتسامة واسعة، اسألوا في الناحية الأخرى من السكة، حظكم هناك...
- أنت تخريني، نرفز عامي.
- ...أكبر في الوقوع عليها.
سار علي وعامي باتجاه صبي، والقزم لا يحيد عن النظر إليهما.
- هل تعرف هذه المرأة، يا شاطر؟ سأل علي.
- يمّا، تعي شوفي ايش بدهم هادو؟ صاح الصغير بالعربية الدارجة.
أطلت امرأة جميلة العبوس من خيمتها، وهي تقول بعربيتها الدارجة:
- أنا إم برهوم، وهادا الحلاق التعبان الهبيان أبو برهوم، والولد اللي ناداني ابني برهوم. شو بدكم؟ إحنا بنقول ألله ألله، ويا ألله السِّتِر، لا حدا بإذينا، ولا إحنا بنإذي حدا.
- أنت تتكلمين الصيني؟ سأل عامي.
- إيش بتقول؟
- صيني؟
- آه! صيني. لأ، عربي. ما بتحكي عربي؟
- هل تعرفينها؟ عاد عامي يسأل، وهو يُغْضي على القذى.
اختطفت المرأة من يده الرسم، وسارعت إلى القول بالعربية الدارجة:
- بعرفها، روحوا من هون.
- خراء! قال عامي صاحنًا أسنانه، وذهب مع ابن عمه في الاتجاه المضاد.
- شفت، يا أبو برهوم؟ قالت المرأة لزوجها، وهو يقص لصيني شعر سكسوكته الرفيعة الطويلة، تحت القبة الزرقاء، ما سمعوا لي.
- خليهم ياكلوا خرا! جمجم الرجل دون أن يبدي أدنى اهتمام، والصيني ينظر إلى سكسوكته في مرآة يد، ويشير بإصبعه إلى هذه الشعرة أو تلك قائلاً: "هذه، هذه، هذه...". لوى أبو برهوم رأسه بعصبية، وراح بملقطه يلتقط شعر أذنه، فصاح الصيني: "آي! انتبه، يا قحبة بوذا".
حث القزم خطاه حتى خيمة تقيم فيها آني مع ابنتها. دخل، وهو يعيد غلقها، بعد أن أخرج رأسه، وتلفت حوله عدة مرات.
- كلاهما هنا، ألقى القزم.
- علي وعامي؟ ارتعشت المرأة.
- وهما يبحثان عنك، ارتعش الرجل القصير.
- جاكي، احمل البنت، واذهب، كما اتفقنا، في الحال، نبرت آني، وهي ترمي أوفيلي بين ذراعي القزم.
- لست سافلاً، يا آني، كي أتركك، عاند الرجل القصير، دائمًا ما كنت عند حسن الظن بي.
- كن سافلاً، يا جاكي، أرجوك!
- وإذا وقع لك مكروه؟
- تقول وإذا؟
- آني، تعالي من أجل البنت.
دفعته، والبنت تصرخ باكية.
- آني، لا تنسي أني وعدت بالزواج منك.
- فَكْ يو!
- آني، يا دين الرب!
- كما لا يبرئ عليلاً ولا يشفي غليلاً!
طردته، وأوفيلي تبكي بقوة أكثر فأكثر. جلست المرأة حيرى، لا تدري ما تفعل. بضع ثوان، وإذا بعلي وعامي يفتحان الخيمة، ويدخلان.
- أين ابنتي؟ سأل علي، وهو يبحث عنها في كل الزوايا.
- أين ابنتي؟ سأل عامي، وهو يبحث عنها كعلي في كل الزوايا.
- أوفيلي ليست منكما، همهمت آني، ودموعها تنط على خديها.
- ممن إذن، أيتها القحبة؟ سأل الاثنان، وهما يشهران موسيهما.
- لا تلحقا بي الأذى.
- ممن؟
- الرحمة!
- قولي ممن؟ نبر عامي طاعنًا إياها.
- من قفاي؟ نبر علي طاعنًا كعامي إياها.
سقطت صريعة، وهما يداومان على طعنها في كل مكان من جسدها، ويلهثان لهاث من لم يضاجع منذ أحوال، منذ قرون، منذ آلاف السنين، منذ فجر التاريخ، منذ البغ بانغ. غسلا يديهما في طشت ماء، فهما لا يحبان التوت، وأحدهما يقول للآخر:
- سأبحث عن ابنتي إلى أن أجدها.
- أنا أيضًا سأبحث عن ابنتي إلى أن أجدها.
- الأول الذي يجدها له.
- بلا زمر ولا طبل.
- بلا ضجيج ولا إلحاح.
- بلا رقص...
- ولا غناء.
غادرا الخيمة، كل واحد من ناحيته.

* * *

تميل المنايا حيث مالت الأكف!
استثمر لائِرتس مواهب أطفال فولتِماند أحسن استثمار، وهم بدورهم قدموا أحسن ما في أنفسهم، في بيئة ليس للمستحيل مكان. افتُتِح في لوس أنجلس أول مصنع للسيارات، وأول مصنع للطائرات، وأول مصنع للدبابات. كانت البداية التي لن تعرف النهاية أبدًا، ربما ستعرفها عند نهاية الأزمان، والأزمان لا نهاية لها. لم تكن السيارات كما نعرف اليوم، كانت أشبه بالحناطير، والطائرات بطائرات الورق، والدبابات بالصناديق. استعملت هذه الأخيرة في الحرب الأهلية، وهي على علاتها كانت من وراء صمود الشماليين. لكن ما قرر مصير الحرب، وبالتالي مصير الإنسان، الروبوات الحديدية، الدروع المتحركة، كما كانت تُدعى. وبعد ذلك، دخلت الروبوات إلى كل بيت: أدوات منزلية، أدوات كهربائية، أدوات إلكترونية، أدوات أدواتية. أما النهضة المعمارية الكبرى، فكان سببها المصعد، البنايات أخذت تذهب بالطول أكثر فأكثر، وما من أي ضير في أن تكون مساحة الأرض أقلها، كانت تذهب بالارتفاع أكثر فأكثر، فتناطح السحاب: في لوس أنجلس، في سان فرانسيسكو، في ميامي، في إنديانابوليس، في واشنطن، في شيكاغو، في دالاس، في... في... في... وخاصة في نيويورك. أما عن بنات فولتِماند فحدّث: الموضة والأنوثة غدتا أختين للمرأة لا ثالثة لهما، فضاهت لوس أنجلس بمجونها باريس، وربما من هذه الناحية طغت عليها، وفي لوس أنجلس تم بناء أول مستشفى للعيون – بعد انتحار "كوني" كما سنرى - واستحداث أول كنيسة ماموية، كما غدت أول امرأة شريفة، وفي الانتخابات التي قامت غداة مصرع أبراهام لنكولن ترشحت إحدى البنات فولتِماند لتكون الرئيسة الأولى للولايات الشمالية، فالولايات المتحدة لم تكن توجد بعد، والحدث في حد ذاته كان مؤشرًا هامًا في هذا الاتجاه.
كانت تلك بانوراما الأحداث العامة التي ارتبطت بالشخصيات في علاقتها بالبلد، ونهضة البلد، وحضارة أمريكا التي طبعت العالم بطابعها، لكن بانوراما الأحداث الشخصية للشخصيات شيء آخر. كوني مثلاً، كبيرة البنات فولتِماند، وقعت في غرام لائِرتس أول ما وقعت عليه عيناها. صعقة الحب هذه كانت متبادلة، إلا أن مشكل لائرتس المعروف كان اشتهاء المماثل، كهاملت، إلى جانب اشتهاء المغاير، ومن هذه الناحية، يظل غير راضٍ، فأحب في الوقت ذاته جوفري، كبير الأبناء فولتِماند، تطبيقًا لما دأبت عليه نفسه: مثلهم ينبغي ألا تكون.
- خمس بنات الواحدة تلو الأخرى هكذا وخمسة أولاد الواحد تلو الآخر أمر محير، قال لائِرتس خلال لقائه الأول بكوني، الابنة فولتِماند الكبرى.
- هذا لأن البنات من أم والأولاد من أم، أوضحت كوني، وهي تكركر ضاحكة.
- عذبة ضحكتك، يا كوني!
- وكأن أبانا كان يوصي على بضاعة لا يريد غيرها، فكانت الكل "بنات" من زوجته الأولى، وكان الكل "أولاد" من زوجته الثانية.
- بضاعة كهذه يوصي عليها كل عام شيء خارق للعادة!
- والآن لماذا لا تُقَبّلني؟ ألقت كوني، وهي تكركر ضاحكة من جديد.
- يا له من طلب أقْبَلُهُ بكل سرور.
وما أن طبع شفتيه على شفتيها حتى سمع صوتًا يأتي من ورائه.
- طاب يومك، مستر شْمِدْت!
كانت المسز ريتشارد، جارته. من عادتها أن تقطع الحديقة مع كلبها في تلك الساعة.
- طاب يومك، مسز ريتشارد!
وهذه تلقي عليهما نظرات الاستنكار، وهي تبتعد، بينما كوني ترسل في الأجواء أندى ضحكاتها. ونكاية بالمسز ريتشارد، تقفز في ثغر لائِرتس، وتذهب معه في قبلة لاهبة لاعبة.

قبليني أو أَقْتُلُكِ
شفتاي مخضلتان
زهوري نزق

في اليوم التالي، ولائِرتس يصطحب جوفري إلى نفس الحديقة، ويجلس وإياه على نفس المقعد، عَبَّرَ ابن بولونيوس عن حبه للفتى، وهو يخشى أن يكون رد فعله عنيفًا لا كما يتمنى، وأن تَخُطَّ الرياحُ على الرمل، فكانت المفاجأة أن تناول كبير أولاد فولتِماند يد لائِرتس لتضيع بين يديه.

قبليني أو أُغْضِبُكِ
حبي انتهاك
حقدي شبق

- لم أكن أعلم أنك... تلعثم لائِرتس.
- قبل موت ماما، حكى جوفري، كنت أفرك لها ظهرها، في الحمام.
- تفرك ظهر أمك في الحمام؟ عَبَّرَ لائِرتس عن استغرابه، وباقي أخواتك؟
- لم تكن تطيق أية واحدة منهن لغيرتها من أمهن.
- من الطبيعي أن تغير من سلفتها.
- ليس من الطبيعي أن تغير من سلفتها الميتة.
- أوه!
- كنت في الثامنة أو التاسعة من العمر. ماما، أكره أن أفعل ما تريدين، كنت أقول لها، ابحثي عن واحد غيري. أنا لا أريد أي واحد غيرك، أريدك أنت. ماما... ثم إخوتك صغار، هم لا يعرفون فرك ظهري، أنت تعرف. ماما... تعال، يا جوفري، في الحال! ماما... قلت لك تعال! أضطر إلى الذهاب، فأراها كلها عارية. كم كانت جميلة، ماما. تدير لي ظهرها، وهي جالسة في المَِغْطَس، فأفرك كتفيها المدورتين، وأمسد ظهرها الممتلئ، وأمسد هذا الشلال، وهذا الشلال، وهي صامتة لا تنبس ببنت شفة، فأضاعف من ضغط أصابعي، فقط لتقول شيئًا، لتأمرني بالتوقف، فلا تقول شيئًا، ولا تأمرني بالتوقف، لكنها تئن قليلاً. كانت تئن. قليلاً.
- جوفري، لماذا تقول لي كل هذا؟
- لا لشيء.
- إذن لا شيء يجبرك على قوله.
- في الليل، كنت أحلم.
- بأمك؟ يا للهول!
- كنت أحلم، فقط كنت أحلم، كنت لا أدري بم أحلم، بمن أحلم، كنت أحلم. كان كل شيء يختلط في رأسي، كانت أحلامي.
- ما قَدَّمَتْ يداك.
- ماما، متى تأخذين حمامك؟ ليست لي رغبة في ذلك. ماما، سآخذ أنا حمامًا. هل تريدني أن أفرك لك ظهرك؟ في الليل، كنت أحلم. لم أكن أحلم بأمي، كنت أحلم، فقط، كنت أحلم، أحلام مختلطة، كثيرة، كنت أحلم. بقيت أحلم كل ليلة، وأنا أكبر، وكأن ذلك كان شرط تقدم السنين عليّ. شيئًا فشيئًا، أخذت أحلامي تتضح، وأنا ألهث كالعدّاء بين أصابع غُلْمَتي مغتصبًا رجولتي.

قبليني أو أُلْغِمُكِ
حزني ميموزا
شيطاني حَبَق

لم يجد لائِرتس ما يفعل سوى طبع شفتيه على شفتي الشاب الغِرّ، وهذا الصوت الذي يأتي من ورائه:
- طاب يومك، مستر شْمِدْت!
- طاب يومك، مسز ريتشارد!
رد ابن بولونيوس، وهو ينظر إلى ساعته، ونهض دفعة واحدة مغادرًا مع جوفري الحديقة بأقصى سرعة.

قبليني أو أَخُطُّكِ
فوضاي تَرابُط
توافقي شَطَط

مدفوعًا بشطط السلوك، تزوج لائِرتس من كوني. كان يرى في نفسه هاملت، وفهم الوضع الذي يعاني منه مجنون ساكرامنتو معاناة من يرتكب جريمة على الرغم منه في أناس يحبهم لا يكرههم. كان الغرام مقلوبًا، الحب يمشي على يديه، القبل للظلال الواطئة، وكل لوس أنجلس ثدي امرأة على صدر رجل. كان يسعى في قلب تجربة جديدة لم تعرفها طبيعته من قبل، لها نكهة لاذعة كطعم الفلفل الأسود. لم يكن سعيدًا كما كان يتوقع، ولم يكن تعيسًا كما لم يكن يتوقع. قال لنفسه: سأترك نفسي للحب يفعل فيّ ما تفعل السهام في المعارك الخاسرة. كان جبنه اللذيذ. ومع ذلك، فاجأته كوني ذات يوم:
- اعترفَ لي جوفري بكل شيء.
- كوني، أرجوك، اغفري لي، فما هي سوى غلطة، لن أعود إلى ارتكابها ثانية.
- لهذا طلبتُ من جوفري أن يجيء بمتاعه، وأن يسكن معنا.
- أوه!
- هل يسعدك الأمر؟
- إذا كان يسعدك.

قبليني أو أُعْديكِ
أمراضي هزليات
أدويتي وَشَق

كان كل شيء لا طبيعي يمضي بشكل طبيعي بين لائِرتس وكوني وجوفري، وشكل الأخت الكبرى يتبدل من ضاحك إلى عابس، ومن جميل إلى دميم. من شيطاني لذيذ إلى ملائكي سقيم. غدا لها شكل الأرملة. شكل الميموزا الصفراء. تتقلص حين لمسها. تستسلم حين تداعبها الأشعة. كانت فريسة الوساوس. الوساوس فريسة الجنس. الجنس فريسة الجنس. الجنس كما يشاء، كما يجيء، كما يكون. الجنس مكانًا للعبادة، ماخورًا للتقوى. الجنس وقد حل محل الحياة، وقد حل محل الموت، وقد غدا الحياة، وقد غدا الموت. الجنس الهذيان. الهذيان العالم. العواء. أسنان الكلاب الكَلِبَة، ولا يهم من يكون موضوع التمزيق.
في أحد الأيام، عاد لائِرتس من عمله مبكرًا، وسمع حوارًا يدور بين الأخ والأخت في الحمام.
- هلا فركتني كلي، يا جوفري؟ طلبت كوني.
- طيب، يا ماما، أجاب الفتى.
- لا تنادني ماما.
- طيب، يا ماما.
- ماذا قلت لك؟
- قلت طيب، يا ماما.
- يا كوني.
- يا كوني.
- نعم، هنا... هنا. لك أصابع سحرية، يا جوفري. كمان، كمان. هنا أيضًا، هنا. أوه، جوفري! لماذا لا تأخذ حمامًا معي؟
- سيحضر زوجك.
- يضجرني هذا الرجل.
- تزوجتِهِ من أجل أن أسكن معك؟
- أوه، جوفري!
- ليست غلطتي.
- غلطته.
- أحتاج إلى عدة ثوان لأخلع ثيابي... هاءَنَذا!
- حبيبي!
دفع لائِرتس باب الحمام، ودخل، وهو ينتظر تفسيرًا.
- جوفري ليس أخي، يا لائِرتس، أكدت كوني، فاحمل ذلك على مَحْمَل حسن.
- ليس أخاك من أمك، رد ابن بولونيوس.
- أمه، الكل يعرف من كانت، أوضحت الابنة الكبرى فولتِماند.
- لا تتكلمي بسوء عن أمي، كوني، أرجوك، طلب جوفري.
- إنها الحقيقة. قل له، يا جوفري.
- صحيح ما تقوله كوني، ولهذا قتلها أبي. وضع المخدة على وجهها، وهي نائمة، وقتلها خنقًا.
- وباقي إخوتك؟
- إخوتي من أبي.
- من عشيقات أبي، قالت كوني، وهم لهذا يتقاربون في أعمارهم.
- كما تتقارب أخواتك في أعمارهن.
- من يدري؟ ربما كنا من عدة أمهات.

قبليني أو أُوَارِيكِ
روحي رمل
جسدي أَرَق

في عرض الأزياء الذي أقامته كيم، لم تترك هذه الأخيرة لائِرتس لحظة واحدة. كان لائِرتس سلطتها، وكان النجاح كبيرًا، كل لوس أنجلس الثروة والمجد كانت حاضرة، والعقود المقترحة كانت أكثر من مغرية، فهل ثمة ما هو أحسن؟ فضلت كوني القعود مع جوفري في البيت بعد أن سمح لائِرتس لهما بعلاقة طبيعية بينهما. ثملت كيم بعد العرض في إحدى العُلَب، وثمل لائِرتس، ومن العلبة ذهبا إلى الفراش في الشقة التي تسكنها أخت كوني. في صباح اليوم التالي، فاجأتهما الأخت الكبيرة، والبندقية بيدها. اعتقدا أن نهايتهما قد دنت، فراحا يتوسلان، ويعتذران، ويبكيان، وإذا بالمفاجأة المذهلة عندما قتلت كوني نفسها. بسبب الغيرة. ليس فقط الغيرة. لأن في جسد كل واحد يسكن شيطان، هذا الشيطان يمكن أن يكون ماخورًا، ويمكن أن يكون وطنًا، ويمكن أن يكون تاريخًا، أو عقيدةً، أو فلسفةً، أو أي شيء آخر، ولأن المرأة التي نام معها زوجها لم تكن أية امرأة.
قبل أن تنتهي فترة الحداد على كوني، تزوج لائِرتس من كيم. بالنسبة له كان من الطبيعي أن يتزوج من كيم، كان من الطبيعي أن تشاركه كيم أحلامه، كان من الطبيعي أن تغدو كيم حلمًا من هذه الأحلام. كانت كيم كشيء يستحقه، لقيمة فيه، لقدرته على ذلك، كشيء يمتلكه، ككل شيء امتلكه. كان شرطه أن تجيء إلى جنته، وكان شرطها أن يذهب جوفري إلى الجحيم. لم يحتمل الشاب الغِرّ قرار أخته، فرمى المرمى القصيّ. هدد بقتلها في ليلة عرسها، وَقَتَلَها في ليلة عرسها، ليدخل السجن، ويبقى فيه بانتظار تنفيذ الحكم عليه بالكرسي الكهربائي، بعد أن غدا الشنق موضة قديمة. حقًا من استطاع القليل أمكنه الكثير!
الأخوات الثلاث الباقيات على قيد الحياة أتين لائِرتس لينبهنه: الأخوة الأربعة يرسمون خطة جهنمية لقتل حاميهم انتقامًا لجوفري، فقط انتقامًا لأخيهم، فكل البنات لم يكن لهم أخوات، هذا ما يعرفه القاصي والداني. وعلى أي حال، قصتهم بنين وبنات تُروى كل مساء في أضخم كابريه في لوس أنجلس. لم تعد المشكلة مقصورة على روي الرواة، فما سيترتب عنها سيدفع لائِرتس ثمنه أغلى ثمن. لاتقاء شر أخوة جوفري، وقبل فوات الأوان، كان عليه أن يتنافس والشر في آلهته أو يتحالف معها، وكم كان الشر جميلا! هل هناك أجمل من طفل يَقْتُلُ؟ يَقْتُلُ الطفل لا ليكبر، يَقْتُلُ الطفل ليظل طفلاً. لم يقتل لائِرتس هاملت عندما كانا طفلين، فكبر على الرغم منه. كان عليه أن يفعل من أجل أوفيليا. أوفيليا. آه! أوفيليا. أُخَيَّتي. عض لائِرتس أصابعه ندمًا كمن عاد بيد فارغة والأخرى لا شيء فيها. خسرت حياتها أوفيليا بسببه لا بسبب هاملت. سيظل هاملت بريئًا، سيظل سخيفًا، سيظل لئيمًا. لأنه لم يقتله، فيريحه. أرسل لائِرتس مجرمين قاموا بتصفية الإخوة الأربعة. وما أن تم ذلك، اعترفت الأخوات الثلاث لابن بولونيوس بتلفيق التهمة، وذلك لحقدهن على أبيهن، فانهار الرجل الحائر في أمره.
- يا للمصيبة! صاح لائِرتس من شدة الغضب، ليس هذا لأني عملت على قتلتهم، لأني لم أعمل على قتلهم بشكل إنساني! فعل كهذا فعل ضد الطبيعة، يتنافى مع طبيعتي، طبيعة قحبة طبيعتي.
- هل تريان الحقد إلى أين يودي؟ قالت كيت لأختيها موبخة، أنا لم أكن على اتفاق معهما تمامًا.
- كانوا يستحقون الموت على أي حال، قالت كاثرين، وبهذه الطريقة أم تلك، القتل لم يكن يومًا إنسانيًا.
- بلى! صاح لائِرتس من جديد، أن أرسل المحترفين من القتلة ليفرغوا أسلحتهم في صدور إخوتكن غير أن أُقَطِّرَ السُّم في آذانهم.
- لم يكونوا إخوتنا، قالت كامرون.
- توقفن عن قول لم يكونوا إخوتنا، يا دين الرب! نرفز لائِرتس، ثم لنفسه: حكاية كباريه صدقنها هؤلاء الغبيات! يا دين الرب! يا دين الرب! عملت على قتلتهم أبشع قتل! أشعر بألم حاد في صدري، قلبي ينتفخ، يكاد ينفجر!
- إنها الحقيقة، عادت كامرون إلى القول، نفايات التقطها بابا من الطريق.
- إنها الحقيقة، أيدتها كاثرين.
- الحقيقة التي أعرفها أنهم كانوا إخوتنا، نبرت كيت.
- بابا، لماذا تُشبع "لو" ضربًا؟ همهمت كامرون، لماذا تحبسه في صندوق؟ ارفق بصغيرك. النفايات ترفق ببعضها، وأنا لست نفاية، كان يقول بابا.
- هذا لا يعني أنهم كانوا لقطاء، ردت كيت.
- بابا، ماذا فعل لك "جو" لترغمه على النوم في أعلى الشجرة؟ همهمت كاثرين، أعطه غطاءً على الأقل. أريده أن ينفق من البرد، أن تمص دمه الوطاويط، كان يقول بابا.
- هذا لأنه كان شديد القسوة، ردت كيت.
- بابا، "جيمي" يود لو يطير في السماء كالعصافير لئلا تمسكه، عادت كامرون تهمهم. فليطر، أينما ذهب ستصله يداي، كان يقول بابا.
- هذا لأنه كان يدفع جيمي إلى تحقيق المستحيل، ردت كيت.
- بابا، "دان" يصنع درعًا من الحديد يحميه من سوطك، عادت كاثرين تهمهم. فليصنع، مهما صنع سألقمه نصيبه، كان يقول بابا.
- هذا لا يعني أنهم كانوا خيرًا من بابا، ردت كيت.
- بفضل إرادة الشر نحن ما نحن عليه، همهمت كامرون وكاثرين، بفضل إرادة الشر اليسير يجني الكثير.
- يا لها من إرادة، إرادة الشر لدى بابا! ردت كيت، فما أن كان غضبه يزول حتى يأخذ الجميع بين ذراعيه، هم ونحن، يأخذنا كلنا بين ذراعيه، وتسمع كل ساكرامنتو ضَحِكَنا.
- كعادتك تدافعين عن أبيك، قالت الأختان.
- أدافع عن أبي ربما، ردت كيت، وأدافع عن إخوتنا عندما لا يكون ذنبهم.
- لم يكونوا إخوتنا، قالت الأختان.
- كانوا إخوتنا، أكدت كيت.
- لم يكونوا إخوتنا.
- كانوا إخوتنا.
- لم يكونوا إخوتنا.
- كانوا إخوتنا.
- اخرسن، أنتن الثلاث، يا دين الرب! انفجر لائِرتس صائحًا، وهو يلوح بكلتا يديه، ولا تتكلمن بأيديكن، عيب عليكن! أبوكن لم يحسن تربيتكن، التومئة للمسرح، ونحن لسنا في مسرح.
ثم لنفسه:
- قسمًا! عملت على قتلتهم أبشع قتل، أولئك الصبيان المساكين، أنا من له قلب نبيل، وهذا يتنافى مع طبيعتي القحبة وما في الشعر من خيال، عندما يكون الشعر موج البحر الهائج والخيال سفن الموت!
لم يفعل لائِرتس ضد الأخوات فولتِماند أي شيء، أعطاهن مالاً كثيرًا، وتركهن يخترن المدينة والولاية اللتين يرغبن في العيش فيها. غادرت كاثرين وكامرون لوس أنجلس، وكيت وعدت بمغادرتها. كانت صغيرة فولتِماند، وكان حلمها كشريفة على قاب قوسين. بالمقابل، لم يهدأ بال لائِرتس إلا بعد أن عمل على تصفية منفذي أمره بمعونة رينالدو. بالنسبة له: كي تعرف الناس، يجب أن تعرف الناس. ظل يتألم، أكبر ألم، أكثر من ألم كتفه، أكثر من ألم قلبه، أكثر من ألم عضوه، أكثر من أي ألم. تألم كثيرًا لما عمل على قتل الإخوان فولتِماند، وتألم قليلاً، هذا صحيح، لكنه تألم، لما عمل على قتل الجناة الذين قتلوا الإخوان فولتِماند. كانت آلامه تتنوع تنوع مواقفه، وفي كل مرة كان ينجح في إيجاد العلاج المناسب اللامناسب: اِمْأَنْ مَأْنَكَ واَشْأَنْ شَأْنَكَ. طلب رينالدو البقاء وبيرل إلى جانبه. سيترك مهنة راعي البقر نهائيًا، هكذا قرر رينالدو. سيرتدي بذلة كلائِرتس، ويعمل في مكتبه. اقترح لائِرتس أن يتكلف رينالدو وبيرل بمخيطة الأزياء محل كيم، فوافق راعي البقر القديم في الحال. في أحد الأيام، حضرت بيرل بين يدي الرجلين، وهي تتزيا تزيي الغربيات، وهي تتزين تزينهن، وهي تميل بجسدها ميلان الغض من الأعراف، فسمرتهما بجرمها.
همهم لائِرتس:
- كيم سعيدة الآن في جدثها، كيم الآن عروس الماء!
انقض رينالدو على بيرل، واختطف من ثغرها قبلة أرادها طويلة، طويلة، جِدّ طويلة، أطول من نهر المسيسبي.

* * *

أرسل هاملت عدة طلقات تحت أعين عُقبانه، فأصاب رسم المرأة في أماكن قريبة من قلبها. آهَ، وجعل ذراعه تتدلى. لم يكن تعبًا، كان قرفًا. العدم من حوله، وهو يسعى إلى العدم في صميم العدم. كما لو كان ينتزع منه الرغبة في الإعادة! كان طعم العبث، فللعبث طعم العدم. حتى في صميم الحياة، للعبث طعم العدم. رفع مسدسه ليطلق، ولكنه لم يطلق. اتجه بمسدسه نحو طيوره، فنعقت، وطارت. ونحو حصانه، فصهل، وتوارى. ونحو نفسه، فتراخى، واستهان. ترك السلاح يسقط من يده، وأخذ يخلع ثيابه. وقف تحت الشمس عاريًا، والشمس تلعق ظله القصير. قبض على لسانها، وانتقل به إلى كل مكان من جسده. قبض على عضوه، وصرخ. كأنه يقبض على قطعة لحم ميت! حدق في الشمس، وبقي كذلك عدة ثوان. أعمته الأشعة، فرأى المرأة تتحرك في مرايا الأشعة، وتبتسم. احتضن الصخرة، والمرأة تئن، فصاح بها لتسكت. ضربها بقدمه، فتوجع، وصرخ: يا قحبة الخراء! نظر إلى عضوه الميت، وبصقت عينه دمعة. عجل الذهاب إلى مسدسه، ونقله بين أصابعه. سدد رجولته، ولم يجرؤ على تفجيرها. انهار. سقط في الرمل، وراح يتلوى. حفر بيدين مجنونتين حفرة وصل فيها إلى خاصرته، وطمر نصفه السفلي. بقي هكذا زهاء ساعة أو ساعتين، وهو لا يفكر في شيء، وكأن نصفه العلوي مدفون في الفضاء. الفضاء عدم، ونصفه العلوي مدفون في العدم. لهذا كان لا يفكر برأسه، كان يفكر بعضوه، وكان عضوه لا يحسن التفكير، دون رجولة لا يحسن التفكير. أغمض عينيه زهاء ساعة أو ساعتين. عندما فتحهما، وجد مرؤوسَيْ رينالدو يجلسان كالشيطانين أحدهما على يمينه والآخر على يساره.
- صاحبة المقام الرفيع والدتك مريضة، قال الأول.
- صاحبة المقام الرفيع والدتك تريد أن تراك قبل موتها، قال الثاني.
لم يَعْدُ هاملت في حياته أسرع مما عدا، وكأن العالم يعدو معه، ويعينه على قطع المسافة الفاصلة بينه وبين أمه في أقصر مدة. كانت الحوافر تضرب بالأرض، والأرض تضرب بالحوافر، السماء تحلق بجناحين، وتساعد الأرض على الانتقال مع الحوافر. وفي لحظة من اللحظات، سبقت الأرض الحصان. عندما رأته خلفها، أبطأت إلى أن لحق الزين بها. عاجله هاملت بعقوبة العدو أكثر من طاقته، وعاجل نفسه بِدَيْنِهِ نحو أمه. كانت أمه تموت، فلم يقصّر عن الضرب. مات أبوه، والآن تموت أمه. لم يحتمل موت أبيه، ولن يحتمل موت أمه. موت الأم شيء آخر، موت الأم شيء آخر غير موت الوجود، موت الأم موت التوت.
- ماما! همس هاملت، وهو يبكي على صدر أمه.
- هاملت! همست جيرترود، وهي تبكي مخللة أصابعها في شعر ابنها.
- ماما، لماذا؟
- لا لشيء.
- لا لشيء، ماما؟
- عشت لا لشيء، وسأموت لا لشيء.
- أموت بدلاً منك، ماما.
- لا تقل هذا، يا هاملت.
- ماما، لن أترك البيت الكبير ابتداء من اليوم.
- لقضاءِ أيامٍ هانئة.
- سنموت معًا، ماما. سنلحق ببابا.
- سألحق وحدي ببابا.
- سنلحق ببابا، سنكون معًا.
- سأدفعك على الأرجوحة.
- ستدفعينني على الأرجوحة، فيأتي بابا، ويدفعني معكِ، مرة هو، ومرة أنتِ.
- سنسمعك تضحك، لم تضحك منذ مدة طويلة، يا هاملت. سنسمعك تضحك، فنضحك.
- لم أعد أضحك.
- لم تعد تضحك.
- لم أعد أضحك. كنت أضحك، ولم أعد أضحك.
- سيحملك بابا، ويقول لك أحبك. ثم سيكون دوري، فأحملك، وأقول لك أحبك. تقول لبابا أحبك ولا تقول لي أحبك.
- أحبك، يا ماما.
- أدغدغك لتضحك، فتضحك كثيرُا.
- أحبك، يا ماما.
- وأنا أيضًا أحبك.
- كم؟
- أكثر من اللازم.
- بهذيان.
- خلافًا للصواب.
- بخبل.
- بوجه غير معقول.
- باستئثار.
- تجريديًا.
- لزومًا.
- مطلقًا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنصعد الرابية، هانس يمسكك بيد، وأنا أمسكك بيد.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، ستركض على الرابية، وتكاد تقع، فأصيح بهانس "انتبه على الولد، يا هانس!"
- لا تخافي عليّ، ماما.
- انتبه على هاملت!
- لماذا تخافي عليّ، ماما؟
- انتبه على هاملت، قلت لك!
- لماذا تحبينني إلى هذه الدرجة، ماما؟
- انتبه على الولد، انتبه على الولد!
- ماما!
- انتبه على الولد!
- وبعد ذلك؟
- هانس لا يحتمل صياحي.
- وبعد ذلك؟
- هانس دومًا ما كان هكذا، كان يخاف عليّ من القلق، فيذعن. كان يلبي كل طلباتي لأنه كان يخاف عليّ.
- وبعد ذلك؟
- كان يخاف عليّ، هانس.
- وبعد ذلك؟
- كان يخاف عليّ لئلا أمرض.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سننظر إلى الأفق الأزرق.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سننزل الرابية، هانس يمسكك بيد، وأنا أمسكك بيد.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنعود إلى البيت الكبير.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنتعشى.
- وبعد ذلك؟
- حمام بالبطاطا، إنه طبقك المفضل.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنقضي قسمًا من المساء، كل واحد منا على طريقته، أنا في حبك كنزة لك، بابا في إنجاز رسم لك، أنت في اللعب مع لائِرتس وأوفيليا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سننام معًا نحن الثلاثة، أنا في حضن هانس، وأنت في حضن ماما.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنحلم حلمًا واحدًا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنبقى في الحلم.

* * *

- أبو برهوم، مش هادا اللي سأل مرة عن المسكينة آني؟ استفسرت أم برهوم بعربيتها الدارجة.
- والله ما أنا عارف، أجاب الزوج بكسل.
- بقولك هوه.
- هوه، هوه، أكد برهوم.
تظاهرت المرأة بالانشغال في فتح علبة فاصوليا بيضاء وثانية حمراء، وأخذت تخلطهما في وعاء.
- ابنة آني، أوفيلي، تأوه عامي من الضنى، والقرف، وشدة الحرارة، بلحيته الكثة، وثيابه المغبرة، وتجاعيد جبين سنيه الأربعين.
- شو بتبرم إنت، يا عمي، والله ما أنا فاهمة، سألت المرأة بعربيتها الدارجة.
أمسك عامي بخناق أبي برهوم، المتظاهر بقراءة الجريدة على كرسي حلاقته، فصاحت أم برهوم، وصاح برهوم، ولَسَنَت المرأةُ الإنجليزيةَ بطلاقة.
- سأقول لك كل شيء عن ابنة آني، سارعت أم برهوم إلى القول، وهي ترتعد، فلا تلحق بزوجي الأذى.
- كنت أعرف أنك تقرأين شكسبير، يا ابنة الشياطين!
- افلت زوجي! تضرعت المرأة.
- افلت بابا! تضرع الصبي بإنكليزية دون لكنة.
- أَفْلَتُّهُ، استجاب عامي.
- الصغيرة أوفيلي مع القزم، كشفت أم برهوم.
- مع القزم؟
- خطيب المسكينة آني، وهو ممثل في المسرح المتنقل.
- في المسرح المتنقل؟
- يأتون على الساعة السادسة.
- يا قحبة الخراء!
- ماذا؟ ارتعدت المرأة، وهي تحيط زوجها وابنها بذراعيها. أنت لا تصدقني!
- بحثت عن... هذا القزم المُفْلِس حتى أبعد مكان في خراء كاليفورنيا هذه، وهو أقرب ما يكون إليّ.
- لهذا السبب طال غيابك؟
- لهذا السبب.
- ولهذا السبب لم تجد الدابة ظِلْفَها؟
- ولهذا السبب.
- يا ليت ما كانت السكة الحديدية على الرغم من أنها كَسْبُ رزقنا، فنحن نَلْحَقُها أينما ذهبت، حتى إلى الجحيم.
- طيب، كما تقول لك أم برهوم، هذا هو الخراء الذي لنا، قال الحلاق بإنجليزية كالإنجليز ليصرفه، وذاك هو الخراء الذي لك.
- إيجازًا للكلام، عد على الساعة السادسة، طنت المرأة بنبرة آمرة.
حك عامي ذقنه، وجلس على كرسي الحلاقة، فاستجاب الرجل على مضض منه. خلال ذلك، سخنت أم برهوم الفاصوليا، وسكبتها في أربعة صحون. أمام مقاومة اللحية الكثة، وصراع أبي برهوم معها، اختطف عامي من يده الموسى.
- ما حكَّ جلدك مثلُ ظُفْرك، همهم الفرنسيّ.
بدأت العائلة الصغيرة في الأكل، وهي تلقي نظرات الارتياب على عامي. لما انتهى، ابتسم لوجهه الناعم في المرآة المعلقة في الهواء. دفعت المرأة صحن الفاصوليا في صدره، وَعَنَّفَتْهُ مع بريقٍ في العينين:
- كي تستعيد قواك لأجل قتل جاكي كما قتلت المسكينة آني.
- لا معنى لما تقولين، كذب عامي بَرِمًا، والبرهان على ذلك أني خارج السجن كما ترين.
- في وَجْهِ مالِك تُرَى إمْرَتُهُ.
أنهى صحنه بسرعة، كمن لم يتناول شيئًا منذ أمس، وزربع من فوهة إبريق فخار.
- سأعود على الساعة السادسة، همهم عامي.
- خذ قطعة الخبز هذه، عجلت أم برهوم القول، وهي تدفعها في صدره، فلم يزل هناك وقت طويل حتى الساعة السادسة. إنها الساعة التي تدق في الجحيم مرة واحدة كل يوم، فيتوقف معذبو الأرض عن أشغالهم. هذا هو اندماج الفرد في الجماعة الذي لنا، على نحو غير معقول.
- لكل يوم ما يكفيه من العناء، همهم عامي، وهو يضع قطعة الخبز في كيسه، ويرى كيف أشعل برهوم سيجارًا. خطا خطوتين، ثم عاد ليختطف السيجار من فم الصغير، ويضعه في فمه: حذار! قال، وهو يضع إصبعًا إلى جانب القضيب الكوبي.
جمعت أم برهوم برهوم بين ذراعيها، وعبس أبو برهوم بشكل لم يعبس فيه أبدًا مذ وضع القدم في...
- هذه المخرأة التي اسمها أمريكا! صاح من وراء عامي الذي استدار، وأرسل إلى الجميع ابتسامة مطمئنة.
حضر الفرنسي على تمام الساعة السادسة، والمشاهدون يحيطون بالمسرح المتنقل غير بعيد من "دكان" الحلاق. أرسلت أم برهوم إلى عامي نظرة تعني "بعد لحظات ستقع على صيدك!". وبالفعل، دوت الضربات المؤذنة ببدء العرض، وشاهد الجميع على الخشبة قزمًا في ثوب الملك.
- سأفعل أول ما أفعل من أجل أخي المرحوم، قال الممثل في ثوب الملك، تشييدَ قبرٍ عظيمٍ بقدر العظمة التي كانت له، سأرفعه مترين، على قاعدة مساحتها عشرة أمتار مربعة، وأنحت له تمثالاً، أعظم تمثال، بل تمثالين، أضعهما على يمين ضريحه وعلى يساره، فينظر الزائر إليهما قبل أن ينظر إليه، ويخال الناظر أن الأول يضحك عليه، والثاني يضحك منه، ولا يجد من بد سوى الابتسام.
- بين يدي الأموات نبكي ولا نبتسم، ردت الممثلة في ثوب العاهرة.
- أيتها الجاهلة! الابتسام في حالة المرحوم أخي أكثر حرارة من كل الدموع، الابتسام من ماض كان عظيمًا، وعلى ماض كان يمكن أن يكون أعظم.
- وهل سيقبل المرحوم أخوك استغراق زائريه في الابتسام بدل التأمل؟ سألت الممثلة.
- ليس هو من يقول أقبل أو لا أقبل وهو لم يعد ملكًا.
- على أي حال، أخوك مات، والموتى يقبلون بكل شيء.
- هذا ما لم أفكر فيه.
- لكنهم لا ينسون كل شيء.
- وهذا ما لم أفكر...
لما وقع على عامي، توقف عن الكلام بشكل مفاجئ أثار استغراب كل من كان هناك، وكل من كانت هناك، الممثلة أولاهن.
- وهذا ما لم تفكر... أعادت حائرة.
- وهذا ما لم أفكر... تلعثم القزم.
- وهذا ما لم تفكر... رددت الممثلة، وهي تفتح عينيها على سعتهما، هذا ما لم تفكر...
- وهذا ما لم أفكر...
وما وجد أية غضاضة في القفز على صيحات الاحتجاج.
تبعه عامي حتى خيمته، فوجد علي قد سبقه إليها، المسدس بيد، وأوفيلي بيد. هدد ابن قفاه بوابل من الطلقات، والطفلة يبدو عليها الاطمئنان، في ظل "أبيها". أملس علي ذقنه الحليقة، وابتسم لعامي، ثم بأمر منه، ربطه القزم بحبل، وبالسرير. قبل أن يغادر وأوفيلي المكان، رمى القزم أرضًا بضربة قوية من مسدسه، وعامي يصيح قبل أن يحشو فمه بجريدة:
- هذا كله ما معناه؟
- قفاي! معناه قفاي!
- سأستعيد ابنتي.
- ستستعيد قفاي!
- ولن أدع الأمور تجري في أعنتها.

* * *

كان كازينو بيفيرلي هِلز الأول من نوعه في كل لوس أنجلس، لأنه الأول في بيفيرلي هِلز التي لم تكن تطأها قدم، ولأنه الأول بمستخدميه الفرنسيين وألعابه الفرنسية، الروليت في مقدمتها. حضر لائِرتس، وبصحبته رينالدو وبيرل. بدافع الفُضول، ليس إلا. فاستقبلتهم جميلات الكازينو الفرنسيات أحسن استقبال، وهن يتكلمن بالفرنسية. كان لائِرتس يضحك كلما قال كلمة أو كلمتين بلغة موليير، لا للكنته، ولكن لأن الفرنسية لغة الحب، تدغدغ حتى الغائط في الأمعاء. عامل الكل بيرل كأميرة: "مدام! وي مدام! جو فو زمبري، مدام! كما تريدين، مدام! تحت أمرك، مدام!"، وجرب ثلاثتهم كل الألعاب، لا ليربحوا، ليتسلوا. كانت للائِرتس متعة الخسارة أكثر بكثير من متعة الكسب. وكذلك الأمر مع رينالدو وبيرل. حتى وهم في أكثر لحظاتهم إحباطًا، كانوا سعيدين. سعادة الكآبة. فرح الحزن. انتشاء الهزيمة. "شانيل" البراز. سكوتش البول. كُسْكُسُ القيء. في عالم منسوخ عن العالم: الكازينو. الكازينو: الشر. الشر بكل متعته. الأحاسيس بكل صدقها. عارية. خالصة. بكل انتمائها للإنسان. بكل تعبيرها عن كونه إنسانًا. إنسانًا حيوانًا. لاحظ لائِرتس شابًا يشبه هاملت، فلم يرفع عنه عينيه. ابتسم للشاب، وابتسم الشاب له. ابتسامة الواله، ابتسامة الخاسر، ابتسامة الفاسد، لم يكن يعلم. لا الواحد ولا الآخر كان يعلم. لم يكن الأمر مطروحًا. لم يكن الحال مرهونًا. لم يكن رد الفعل منوطًا. كان على كل ما يقع أن يقع، دون تمهيد، دون قَبل، دون بَعد. كل العمر تختزله ابتسامة. كل التاريخ، دون تدوين، دون عقارب. قبل أن يغادر الشاب، تطلع إلى ابن بولونيوس طويلاً، فلحق هذا به. لم تكن عادته. كان يشعر بطعم الخراء على لسانه، فلحق به. في الخارج، لم يقع عليه. نظر في كل الأنحاء دون أن يقع عليه. اشتاق لهاملت، حن إليه. ركض في ظلام بيفيرلي هِلز، فجاءه أنين الشاب. كان يغرق في محيط ما بعد المتعة، ما بعد تمزيق الجسد، ما بعد تمزيق الروح. رفعه، وهو يسأل عمن فعل هذا، فأشار الشاب إلى ناحية من النواحي، وهو يلفظ التوت.
- النجدة! صاح لائِرتس، وهو لا يدري ما يفعل.
حمل الشاب، وخطا عدة خطوات، فإذا برينالدو يجيء جاريًا.
- إنه هاملت، فاطلب من ينجده، نبر لائِرتس.
- هاملت!
- هاملت يفقد دمه!
- ليس هاملت!
- اطلب من ينجده!
عاد رينالدو من حيث جاء، بينما الشاب يلفظ نفسه الأخير. بكى لائِرتس، وشده إلى صدره. "هاملت!"، صاح غير مصدق. اشتعل ماء ساكرامنتو، وسمع أوفيليا تصيح: لائِرتس، تعال بسرعة، هاملت يحترق، هاملت يحرقه الماء! أحضر رينالدو رجال الشرطة، فأرادوا توقيف لائِرتس، فهددهم رينالدو، لما فجأة سمعوا صوتًا نسائيًا يأمر:
- دعوهما وشأنهما!
كانت كيت في ثوب الشريف.
- هذه عائلتي، أوضحت كيت.
- تحت أمرك، مس كيت.
- كيت! صاح لائِرتس للمفاجأة.
- أحسنتُ صنعًا بعدم مغادرتي لوس أنجلس، قالت كيت بنبرة جادة.
- لم أكن أعلم أنك...
- وهذا، قالت مشيرة إلى الشاب الميت، ليس أنت.
- ليس أنا، كيت.
- هذا لا يَدَعُ مجالاً لأي شك، هذا يتنافى مع طبيعتك القحبة.
ثم أمرته:
- اذهب أنت وصديقك، وسأفعل ما تقتضيه الظروف.
- كيت...
- اذهبا، يا دين الرب!
تقدم لائِرتس من كيت، وضمها، كباقة من الزنبقات والحُرُمات المدنسة ضمها، كجملة من الحكايات والدرامات المنتَظَرَة، كموجة من الإحساسات والنزوات المتناقضة. همس في أذنها ما لم يسمعه أحد، وذهب مع رينالدو، فصاحت كيت من ورائه:
- تعرف أين تجدني، أيها العرّاب.

* * *

ومضت الأيام، وهي تجاري إيقاع بناء السكة الحديدية، فهل تمضي الأيام تلو الأيام لأن هذا متعة الزمن في التلاشي والاندثار؟ هل الأيام أقوى من الأقدار؟ هل تقوى الأيام على كل شيء حتى على الأيام؟ هل تعرف الأيام شيئًا آخر غير عقارب الوقت؟ وعقارب الوقت غير أثداء الفضاء؟ النافرة، المتنافرة، الصارخة على صدور الآلهة، والتي لا تشيخ أبدًا؟ كانت الأيام تمضي نشوى على بطن الحياة، ففخذيها، فساقيها، لهذا كانت تحبل بنا، ويجعل كل واحد من حياته قطرة مطر تسقي الأزمان. هكذا كانت الأزمان، من مطر حياتاتنا، في شتاء لا تنقشع غيومه. هكذا كانت الفضاءات، من أتوم هُتاماتنا، في بر لا تتحطم صخوره. أخذ هاملت يصيب المرأة المرسومة في قلبها، فتنهار صخور عمرها عشرات ملايين الأعوام، وكلما انهارت صخرة كلما نعقت العُقبان نعيق الغربان، وهي في منتهى الغبطة. كيف لا تكون في منتهى الغبطة براثن الموت الأحمر؟ كيف لا ترى في انهيار الزمن تحرقه شوقًا إليها؟ كيف لا تعبر الأجنحة الدموية عن إخلاصها للتوت؟ وهل التوت شيء آخر غير شفاه أجمل النساء في العالم؟ العالم عندما ينهار، والتوت عندما يصنع الكون من عض وقُبَل؟ كان سِحْرُ الثأر على هاملت يزداد شيئًا فشيئًا، وكانت عجرفته تتضخم أكثر فأكثر، لم يكن الكبرياء النبيل، كان الغرور الأحمق. بالنسبة له، حُسْنُ استعمالِ القوةِ يكفي القوة قدرتها على تحقيق المعجزات، عند ذلك تغدو القوة إلهية، والقوي إلهًا، لا شيء يقف في طريقه، وكل شيء من السهل تحقيقه: مصرع عمه ما هو سوى مسألة وقت، وهو واقع لا محالة. إنه العُجْبُ في ثوب الإعجاب، والإعجابُ في ثوب الابتذال، والابتذالُ في ثوب أباطيل العالم. كان سَحَرُ ثأر هاملت لأبيه يقترب يومًا عن يوم دون أن يميز ألوانَ السَّحَرِ على حواف هاوية العُجْبِ، وكانت سكة الحديد تمتد أكثر فأكثر، فما طال عليها الأمد، محققة الأحلام التي لم يكن حلم هاملت بالثأر لأبيه واحدًا منها، الأحلام الصعبة الإرضاء، اللاعلاقة لها بالإنسان الإله، المقاومة لسلطة النوم، المضاجعة للأرق، لفخذٍ تُقمع بالخطأ، لثديٍ يلهث، يتوسل، يَتَعَرَّص، يريد أن تمزقه البراثن، أن يكونَ بعد أن كان حلمًا، ككل الأحلام أن يكون، وأن يركض في سباق الخيل، لا كعدّاء، كحصان، أن يركض، أن يؤكد فكرة الفيلسوف، فيخلد. ما عدا هاملت، كان كل شيء يسعى على طريقته في طلب الخلود: وسعت الزراعة، وعظمت الصناعة، وبسطت التجارة. وثب العلم، ووثب الفن، ووثبت الموسيقى. لم يكن الجاز، ولا الروك، ولا البوب، كانت البادرة، إشارة إلى شيء آت، ودلالة على شيء غادر. كانت الموسيقى هوية الرجل الأسود وروح عصر يرقص على الأنغام، ومن قال الموسيقى السوداء لا ينسى الأغنية السوداء:

هل تعرف أن الغد بعيد،
يا أخي؟
وأن البحر عميق،
يا أخي؟
وأن السمك وحيد،
يا أخي؟

هل تعرف أن الأمس قريب،
يا أخي؟
وأن اليأس شديد،
يا أخي؟
وأن القمر غريب،
يا أخي؟

هل تعرف أن الآخرينْ
نَ
يعملون أيضًا من أجلك
دون أن يعلموا،
يا أخي؟
وأن الزمان لأخيكْ
كَ،
يا أخي؟
وأن المكان لم يعد جلدك الأسود،
كل أمريكا جلدك الأسود،
يا أخي؟

كانت الإيقاعات إيقاعات كل التضحيات التي جسمتها عجلات قطار تدور إلى الأبد دون أن تعرف الكلل، ولا الملل، ولا القناعة، فاللا قناعة كانت أُمَّ كل ابتكار. وكانت المسارح أبناء خيال كل يوم، حلمًا من الأحلام الكبرى، الأخرى، ولم تكن أكبرها، فَوُلِدَ مسرح العرائس. كان الصينيون آباء هذا المسرح، جلبوه جلبهم لشجر البرتقال، وجلبوا معه أساطيرهم التي جذبت الجمهور إليها، وأكبر هذه الأساطير حكاية الإمبراطور الذي قتله أخوه، فعاد من مملكة الموت شبحًا قتل بدوره أخاه، وكل من شاركه في الجريمة، فأهرق الدماء، ولشد ما أهرق الدماء، سور الصين العظيم غرق في أقلام الحُمرة. وبعد ذلك، وُلِدَ صندوق العجائب، وبعد بعد ذلك، في هوليود، السينما الخرساء. لعل في يوم قادم يولد هاملت من ضوء الهَزْل، يسلب القلوب بعد أن سلب العقول، يداعب النفوس بعد أن داعب الصخور، ينادي على الغائب في الإنسان بعد أن نادى على الغياب حتى نسيان الذات، حتى نسيان الوقت، حتى نسيان الكون. أما عن مشروع انتقامه، مشروع حياته، فحدّث. في يوم التنفيذ، كان هاملت سعيدًا كملك، يخب على جواده، والصور تخب في رأسه: كيف يبارز عمه، وكيف يَسُلُّ بسرعة البرق سلاحه، وكيف يجندله بطلقة في قلبه. تلاقى والسكة الحديدية، وافترق، ثم تلاقى، وافترق. صفر القطار ثلاث مرات، فأنشد الفار ويست نشيد الموت والحياة. أوغل في طريق الانتقام، وأمه تتبدى عارية بدل الرسم تحت طلقاته، عارية، كلها عارية، عارية كلها، كما كان عليها أن تكون حواء. تبدت أمه عارية كالموت، فذة الثدي، فذة الفخذ، فذة الفرج، عارية ككل أم ليست زائفة، عارية لأنها أم، ولأنها بغيّ، رائحتها رائحة القذارة والدعارة، رقتها رقة التوحش والتخلف، صلاتها صلاة مواخير العفاف والكستناء. رجته أمه عظيم الرجاء، لأجل تحضير القمر، كعاهرة من الضوء. حبًا في أوفيليا. لم يفكر طوال الوقت في أوفيليا، وها هو يفكر فيها، تحت إملاء القوى العظمى الثلاث: الأمومية، الشهوانية، والإباحية، فما أحبَّ الخيرَ لهُ ألا يفكرَ في أوفيليا. حبلى كانت أوفيليا. لم يكن يعرف ممن، ولكنه قال لنفسه "هذا لا يهم ممن تكون حبلى أوفيليا"، فالحب ليس مثلثًا متساوي الأضلاع، إنه دائرة الصراع، والانتقام زاوية قائمة في كل الأشكال الرياضية، ثلاثي الأبعاد: شيزوفرينيّة فيثاغورية، شيطانية أفلاطونية، جهنمية بروموثية، إنه التحول الميتافيزيقي للكائن والفكرة. وعزم على الزواج منها، المغفل الذي كانه سيتزوج من المغفلة التي كانتها، فهما جُبِلا على طين واحد، والمرأة واحدة أيًا كانت، هي وجيرترود على سبيل المثال واحدة، الملاكة والشيطانة واحدة، في طريقة التعبير ليست واحدة، وفي التفاصيل ليست واحدة، في التفاصيل المرأة هي شأنها، وفي طريقة التعبير، من هنا يأتي التعارض بين جيرترود وأوفيليا. إلا أن ما جرى لأوفيليا لم يكن بالحسبان، عندما نزلت العاهرات إلى الشارع العام في أول مظاهرة نسائية في تاريخ الغرب، وليس فقط في تاريخ أمريكا، في التاريخ، مظاهرة للنساء، وللقذرات منهن، يطالبن فيها بتساوي الحقوق بينهن وبين كل نساء العالم. كان ذلك ما لم تتوقع أوفيليا حدوثه أبدًا، فلعبت الدور الجدير بها. لكنها لن تعرف أبدًا أن أباها ومكتب البحث والتقصي كانا من وراء ذلك، لهدف بسيط: أن يغسل بولونيوس عاره. أصاب رجال الأمن والنظام أوفيليا برصاصهم من بين من أصابوا، وفي المستوصف لفظت نفسها الأخير دون أن يتمكنوا من إنقاذ وليدها، ملاكها اليهوديّ. أما عن الصغيرة أوفيلي، فقد طالت ضراوة ابني العم عليها، مرة كانت تذهب مع هذا، ومرة مع هذا. مرة الأول يصيب الثاني بطلقة في كتفه، ومرة الثاني يصيب الأول بطلقة في ساقه، وهكذا دواليك. كانا يتلاكمان إلى حد العجز عن بذل أقل حركة، وكانا يتنافسان إلى حد تلبية أكثر الرغبات بعدًا عن المنال. "بابا!"، فيهب كلاهما لجلب القمر والشمس وباقي النجوم. نهبا البنوك في طول البلاد وعرضها، وكانت فرصتهما للتعرف على كل الولايات الأمريكية. لم يقتل أحدهما الآخر، وقتلا من أجل البنت. قتلا رجال الأمن، ورجال الجيش، فَغَدَوَا إرهابيين إضافة إلى كونهما قاطعي طريق. تناقلت قصصهما الألسن، وتندر بمآثرهما الناس. علي وعامي الشريران، أسطورة اتخذت من الصدور مسكنا.
لاحظ هاملت أن العُقبان المولعة باللحم الميت تتبعه عن مقربة، فابتسم للطبيعة في أحسن صورها، الطبيعة أخيرًا في أصدق صورها، والحياة في أقبح معانيها. فكر في هوراتيو وفي لائِرتس، فحزن من أجل الاثنين، الأول مات كالمسيح، والثاني سيموت كحاكم لكاليفورنيا، كنهر ساكرامنتو الملوث بسموم المنتجات الكيماوية، كذهب ساكرامنتو المنسيّ في ذاكرة الحجارة، كأهل ساكرامنتو المغرمين بأحدث الأسلحة، بأحدث الألبسة، بأحدث الأبنية، بأحدث الأجهزة، بأحدث الأغذية، بأحدث، بأحدث، بأحدث، بأحدث الأحدث، بأحدث أحدث الأحدث، بأحدث أحدث أحدث الأحدث، فالكل سواسية في تعميم ثروة الأسهم عن طريق القروض، وسواسية في تعميم حمل أعبائها، وسيكون خَلَفُهُ كَسَلفِهِ بيدقًا بالمناوبة في لعبة شطرنج الحزبين. في لحظة يقرر المرء فيها مصيره، كان الخيال موطن كل الحقائق: صعد هاملت على صخرة، وأراد حملها، فحملته الصخرة، نام هوراتيو، والنوم صخرة تسحقه، فلم يصعد النهار، هطلت على لائِرتس الدولارات بغزارة، ففرغت خزائن البنوك. تكهنات ثلاثة وثلاث صور مستقبلية للبطالة والبؤس والأزمة، وثلاث حالات متطورة في نص سَيُكتب. كان تقدم الإنسان بالنسبة له يبعد الإنسان عن إنسانيته، هذا لا يعني أنه مع تخلفه، وكان جديد الإنسان بالنسبة له يدني الإنسان من وهميته، هذا لا يعني أنه مع قديمه. ضد الإنسان الجديد كان، الرجل الأبيض، مع قَدَرٍ للأرضِ كان، أقدار الأرض. أَغَذَّ الزين السير، والأرض تسفوها الرياح، فأحس هاملت بنفسه كمن يحلق على براق ذي جناحين. كان العالم كله من تحت أبيض كالموت، أحمق كالحياة، وكان الوقت على المكان منطبقًا. لم تكن هناك بداية ولا نهاية، كان هاملت نفس هاملت، كان هاملت نفسه، وحده، الوحيد بين أرض وسماء، وكان الاحتفال على شرف "برياب" إله القوة التناسلية عند الذكور. في تلك اللحظة الاستثنائية، في استثناء اللحظة المبدعة، ككل لحظة من لحظات الجحيم، نطحه القطار بقرنه، فسحق حصانه، وألقاه في أعماق الزمن اللانهائي، فوق صخرةٍ جعلَ الرسمُ عليها من جسده، ومن جسده وليمةً للكواسر.


الجمعة 2014.01.03
باريس.




هاملت الرواية غير هاملت المسرحية وإلا لِمَ كل هذا الجهد والعناء؟ بينهما تتقاطع التراجيديا وتتفارق عندما نعلم أن البطل الشكسبيري لدى أفنان القاسم شخصية من شخصيات الويسترن، وأن كل همه تقديمه للقارئ على طريقته الخاصة به، دون أن يُفقده سحره أو خصوصيته، فكان الرهان كبيرًا: الارتقاء إلى المستوى الجمالي لشكسبير، تجاوز المؤلف لنفسه، تجاوز ما كُتب حول الموضوع، وما استُوحي منه.

فهل نجح الكاتب؟

يتوقف الجواب على حنكة القارئ وطموحه إلى قراءة عمل فلسفي دلالاته عميقة لا عويصة، أبعاده كونية لا إقليمية، أساليبه مبتكرة لا مستنفدة، قوته في رؤيته، في شعريته، في لغته، في تصوره الداخلي، في عرضه المريء، في كتابته الطريئة، عمل يشاد بين جنبي ثقافة وحضارة وحداثة تتجاوز هوية المؤلف، وتجعل منه سؤال الإنسان عن الإنسان.

لكتابة نص كهذا، على إنسانية الكاتب أن تُسحق، ومثل بروميثيوس، على ريشته أن تُقَدّ من نار.




* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدَرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هاملت القسم الرابع والأخير الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- هاملت القسم الثاني الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- علي الخليلي ابن صفي ابن بلدياتي
- هاملت القسم الأول الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- قرصنوا إيميلي واغتصبوا اسمي
- كوابيس المجموعة القصصية
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس العاشر: الأحمر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس التاسع: الأصفر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثامن: الأسود
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السابع: الدولة
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السادس: النفق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الخامس: القَرض
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الرابع: المسجد
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثالث: القطب
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني: الطوابق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الأول: الرصيف
- أفنان القاسم - اديب ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات والقرا ...
- موسم الهجرة إلى الشمال أو وهم العلاقة شرق-غرب
- موسم الهجرة إلى الشمال دور مصطفى سعيد


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هاملت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة