أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - كوابيس المجموعة القصصية















المزيد.....



كوابيس المجموعة القصصية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3966 - 2013 / 1 / 8 - 13:21
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال القصصية (7)


د. أفنان القاسم



كوابيس
CAUCHEMARS





عشرة كوابيس


















































إلى كل الذين يستطيعون القيام بأحلام جميلة بينما هم يفتحون أعينهم
إلى جاك آتالي


































الكابوس الأول
الرصيف

كنت أقضي نهاري، وأنا أقف من وراء النافذة، فليس لدي ما أفعل غير اغتيال أيامي الأخيرة من عمري الضائع، عمر كابوسيّ من كلمات مُجَهِّضة، وعبارات مُنَفِّرة، واستعارات مثيرة لقرف وغثيان كل ذواق للعسل الغائطي. عسل غائطي من الصنف الفاخر، لكنه يظل عسلاً ابن مومس. تخيله يسيل بين ثديي فاتنة من فاتنات "الجِت سِت"، وأنت تلعق كل ذلك الغائط اللذيذ، أو وهو يبقبق بين فخذين حائضتين، وأنت تدفن رأسك بينهما. عسل ودم وبول وغائط من أجل العقل، من إيديولوجيا أوسخ ما في روح الإنسان كانت كتاباتي، إيديولوجيا المتعة الماخورية، والتقوى الشيطانية، والمضاجعة الربانية. إيديولوجيا بيغالية وإيليزية ومجارية. بورنوغرافيا الحرية الفردية. إسهال صراحة اللسان. سهولة القلم السيال. دعارة الكلمات. الصرخات. الآهات. لهذا، وأنا أداوم على الوقوف من وراء النافذة، لم أكن أبحث عن زمني الضائع، البحث عن الزمن الضائع للبلهاء فقط والتعساء والمأفونين. فَلْيَضِعْ. زمني الضائع، فَلْيَضِعْ. أن يضيع زمني الضائع أهم رغبة من رغباتي الأخيرة، فليس لدي ما أفعل به. إلى الجحيم زمني الضائع. زمني الضائع إلى الجحيم، فهو زمن كابوسيّ لا غير. وربما من هذه الناحية هو أجمل زمن، زمن بودليري هو، بما أنه زمنٌ من كلمات مُجَهِّضة، وعبارات مُنَفِّرة، واستعارات مثيرة للقرف والغثيان، من لُجِّ كلِّ شيءٍ متعارض، متعارك، متعاهر، مثقل بقيمه المجانية. لن يكون أحسن من زمني القادم، زمني الضائع. زمن لن يعود. زمن لن ينعكس. لن يكون أحسن من زمني الضائع، زمني القادم. زمن يعود. زمن ينعكس. كالوهم. لهذا كانت أعمارنا أوهامًا. نحن لا نعيش أعمارنا بل أوهام أعمارنا. أوهام حقيقية هي أعمارنا. أوهام أخيرة، فلا بدايات لها ولا نهايات. كالكسوف. كالخسوف. كمرايا النفوس. المعتمة. كاللُّج الأسود. كاللُّج الأبيض. كاللُّج الأخرأ. كاللُّج. فقط كاللُّج. لهذا كان اللُّج أسود وأبيض. لونا البحر الأخرأ. أسود وأبيض. لونا الزمن في حركتيه اللواطيتين، إلى المطلق وإلى العدم. إلى الجحيم وإلى الجحيم. كالوهم. لهذا كان اللُّج أسود وأبيض بلوني الوهم الأخرأ. بلوني الجحيم.
وذاك الشاب الذي يجلس على حافة الرصيف قرب محطة الباصات لم يكن وهمًا، كان يجلس على حافة الرصيف، وينظر من حوله. كان كل الحقيقة. كان كل الحقيقة قبل أن تغدو وهمًا أخرأ. كان يجلس على الرصيف، وينظر إلى هذا وإلى ذاك، إلى هذه وإلى تلك، كان ينظر إلى العابرين، وإلى لا شيء كان ينظر، كان ينظر، فقط، كبطل من أبطالي الوهميين الخرائيين، ولم يكن وهمًا. كان كل الحقيقة. كان كل الحقيقة قبل أن تغدو وهمًا أخرأ. كان ينظر إلى هذا وإلى ذاك، وإلى هذه وإلى تلك، وكان يبدو عليه أنه لا ينظر إلى أحد. كان يجلس هناك على حافة الرصيف في الوجه المقابل دون أن يبدي حراكًا، لم يكن يحرك سوى رأسه، فكأنه معلق بفرج أمه، وكان ينظر إلى العابرين، وإلى لا شيء. في الفراغ كان ينظر، حتى وهو ينظر إلى العابرين، كان ينظر في الفراغ، وكأنه لا يرى أحدًا، لا يرى شيئًا، لا يرى، لا يحس، لا يشم، لا يفكر، لا يحلم، لا يأمل، لا ينتظر، لا يتوقع، لا يريد أن يتوقع، كالحجر، كالخشب، كالشيء، لا يرى شيئًا، لا يرى أحدًا. كان يبدو كمن يعود إلى سطور كتاباتي الخرقاء، ليكون فيها استعارة مثيرة للقرف والغثيان، ولم يكن يفلح في ذلك، لأنه كان كل حضوره على حافة الرصيف، كل الوهم الأخرأ الحقيقي كان، مما أثار حنقي، كل حنقي، بسبب العجز الذي فهمت عبره أنه كان صفة لكتاباتي الخرقاء. عجز أخرأ، واستسلام أخرأ، وعواء أخرأ. رحت أشتم بأعلى صوتي، وبعض العابرين يرفعون رؤوسهم إليّ، ويبتسمون. اعتقدوا أنني مجنون، وأنني أشتم لأنني كنت مجنونًا، وهم لهذا، رفعوا رؤوسهم إليّ، وابتسموا. جاءوا من ورائي، وهم يبتسمون، فتحجرت الشتائم في حلقي. تقدموا مني، وهم يبتسمون، فتراجعت بنصفي العلوي، وكدت أسقط من النافذة. مدوا أيديهم، وهم يبتسمون، وأرادوا دفعي، فأخذت أصرخ من الرعب. لم يكن أحد في حجرتي، فاعتدلت، وأنا لا أتوقف عن اللُّهاث رعبًا. والشاب هناك، في الطرف المقابل، على حافة الرصيف كان يجلس، وكان يلتفت يمنة، ويلتفت يسرة، ويتابع بعينيه هذا أو ذاك، هذه أو تلك. لم يكن ينظر إلى السيارات، كانت السيارات تمضي به دون أن ينظر إليها. كان ينظر إلى العابرين، إلى هذا أو ذاك، وإلى هذه أو تلك، وكان لا يبالي بالسيارات التي تمضي به، ولا بمنبهاتها، ولا ببعضها التي تتوقف، لينزل منها هذا أو لتنزل منها هذه إلا بعد أن يصعد هذا أو تصعد هذه على الرصيف، وتكاد تمشي على أصابعه التي نسيها إلى جانبه. تحرك المنتظرون في المحطة، وما لبث الباص أن وصل، وغطاهم والشاب عني، فلم أعد أراه. تخيلته كما أتخيل شخصياتي الوهمية الخرائية، وهو يرفع قدميه لئلا يدوسهما الباص بعجلاته، وما لبث الباص أن غادر، والنازلون منه ما لبثوا أن غادروا. عاد الشاب إلى جلسته كما كان على حافة الرصيف، وعدت أتابع نظراته إلى العابرين، وهو لا يبدو عليه الملل. كان ينظر إلى العابرين بلا ملل، والعابرون لا ينظرون إليه، وعلى وجوههم كل الملل. الشعور بالملل لمن له وقت، وهو لا وقت له. كان الشاب ينظر إليهم، وإلى الفراغ، وهم لا ينظرون إليه، ولا إلى الفراغ. كان الفراغ ممتلئًا بهم. بمللهم. لم يكن هناك فراغ بالنسبة لهم، فالفراغ كان ممتلئًا بهم. بمللهم. الشاب وحده من كان يراهم، ويرى الفراغ الممتلئ بهم، بمللهم، وكأنه كان يبحث عن ملء الصفحات البيضاء مثلي بالشخصيات، بملل الشخصيات، لكن عينيه ما امتلأتا بهم، وبقي هناك فراغ دومًا يبحث عن ملئه.
جاءت شابة، واستندت بظهرها على عمود كهرباء خلف الشاب، فلم يولها الشاب اهتمامًا، وبقي ينظر إلى هذا أو ذاك، إلى هذه أو تلك. كان لا يبدو على الشابة أنها تنتظر أحدًا، وقفت هكذا، واستندت بظهرها على عمود الكهرباء. كانت لها قامة مشيقة، ورموش طويلة، وطلعة مليحة. نظرت إلى نهديها تحت بلوزتها المشدودة عليهما، وتأملت ساقيها تحت فستانها القصير. كانت لا تنظر إلى العابرين، أما الشاب، فلم يكن يتوقف عن النظر إلى العابرين. كانت تنظر إلى السيارات، وهي تمضي أو تتوقف أو تمضي من جديد، وكانت لا تنظر في الاتجاه الذي سيصل منه الباص. كانت تحمل حقيبة حمراء، ولم تكن تضع على شفتيها أحمر الشفاه أو أزرقها، كانت عابسة، وكانت جميلة لأنها عابسة. كالعذراء. كمريم العذراء. عابسة وجميلة. عابسة لأنها جميلة. جميلة لأنها جهمة مقطبة. والشاب لا يتوقف عن ملاحقة العابرين بنظراته، كان يعبر معهم بعينيه، والشابة لا تعيرهم أدنى اهتمام. كانت تنظر إلى خط السيارات التي لا تتوقف عن العبور، وكانت تنحني أحيانًا، وتبحث عن أحدهم داخل السيارات. والسيارات لم تكن لتتوقف، كانت بعضها تتوقف للحظات، الوقت الذي ينزل منها أحدهم، وفي اللحظة ذاتها تنطلق بعض المنبهات، والشابة عابسة، دومًا عابسة، جميلة، دومًا جميلة تهتك الأنظار. يبدو أن لا أحد يبحث عنها، وهي تبحث عن أحد لا تجده. رفع الشاب قدميه، في اللحظة التي تحرك فيها المنتظرون للباص، وما لبث الباص أن وصل، وحجب عن الشابة إحدى السيارات التي توقفت، والتي نزلت منها شابة محجبة كانت تسوقها. تركت الشابة المحجبة باب سيارتها مفتوحًا، وسارعت على منبهات السيارات الأخرى الغاضبة إلى سحب الشابة ذات الفستان القصير من يدها. طبعت على ثغرها قبلة قبل أن تُركبها إلى جانبها، وانطلقت بها، وهي تكاد تضرب مقدمة الباص في اللحظة التي أقلع فيها. حدثت ضجة لم تؤثر في الشاب، فما أن ذهب الباص حتى عاد إلى وضعه الأول، وعاد إلى ملاحقة العابرين بنظراته، إلى ملاحقتهم بنظراته، إلى ملاحقتهم بنظراته، إلى ملاحقتهم بنظراته، إلى ملاحقتهم إلى الأبد بنظراته. إلى ملاحقتهم، إلى ملاحقتهم، إلى ملاحقتهم...
جاء شاب آخر، واستند بظهره على عمود الكهرباء، وراح ينظر مع الشاب أينما ينظر، لكن لم يدم الأمر طويلاً. حضر رجل ملتح في الخمسين، وذهب به إلى المطعم الواقع على الرصيف نفسه، وراء الشاب. لن يتأخر الباص كثيرًا، قالت الأم لابنها، ابن الثالثة عشرة، وهي تنظر إلى ساعتها، فجلس هذا إلى جانب الشاب، وأخرج من جيبه لوحة، وبدأ يلعب بها، والأم تعيد القول: لن يتأخر الباص كثيرًا. طيب، يا ماما، قال الولد، وهو يلعب بلوحته. قلت لك لن يتأخر الباص كثيرًا، أعادت الأم القول للمرة الثالثة. اللعنة، جدف الولد، وهو يواصل اللعب بلوحته، قلت لك طيب، يا ماما. لوحتك، ليس هذا وقته الآن، همهمت الأم بعتاب، والولد مندمج في اللعب. ليس هذا وقته الآن، عادت الأم إلى الهمهمة بعتاب. هل تسمعني؟ أسمعك، همهم الابن. ليس هذا وقته الآن، قالت الأم من جديد. لم يحن موعد وصول الباص بعد، قال الولد. لن يتأخر الباص عن الوصول، قالت الأم على صيحات الابن: اللعنة! اللعنة! لن يتأخر الباص عن الوصول كثيرًا، قالت الأم، والابن لم يزل يجدف: اللعنة! اللعنة! اللعنة! خسرت اللعبة بسببك، يا ماما! هذا لأنك لم تسمع لي، رمت الأم. أنت تخريني، يا ماما، رمى الولد. انهض، أمرت الأم، وهي تجذب ابنها من ذراعه. سيصل الباص بين لحظة وأخرى. لكنه دفعها، وأسقطها أرضًا. كُفّي عن تخريتي، يا ماما، نبر الولد. إنها لا تكف عن تخريتي، رمى الولد باتجاه الشاب الذي لم يكن يعير الأم والابن أدنى انتباه. في المرة القادمة، سألقي بك تحت عجلات الباص، يا ماما، همهم الابن بينما أحد المنتظرين راح يعين الأم على الوقوف. يا ماما، يا ماما، في المرة القادمة... هكذا أرتاح منك ومن لوحتك، همهمت الأم دون أن يبالي الابن بما تقول، بعد أن عاد إلى لعب دور آخر، وهو يواصل الهمهمة: في المرة القادمة... هل تسمعني؟ نبرت الأم. أسمعك، أجاب الولد، وهو غائب مع لوحته. سألتك هل تسمعني؟ عادت الأم تنبر. اللعنة، يا ماما، جدف الابن، قلت لك أسمعك، أسمعك، هل أنت طرشاء أم ماذا، يا ماما؟ قلت لك أسمعك، يا دين الكلب! العالم كله سمعني، وأنا أقول لك أسمعك، ردد الولد بعنف، وهو ينظر إلى الشاب الذي يبدو أنه لا يسمع شيئًا، ولا يفعل سوى متابعة العابرين بنظراته. يا ماما، يا ماما... في تلك اللحظة، رن جرس هاتف محمول، فعجلت المرأة إلى البحث في حقيبتها دون فائدة من الوقوع على هاتفها. يا دين الكلب! همهمت الأم. أخذ الابن يطلق النار على أمه في اللوحة، وقد غدت وحشًا آليًا مرعبًا، دون أن يتمكن من إصابتها، وهذه تواصل البحث عن هاتفها المحمول في حقيبتها، والهاتف المحمول لا يتوقف عن الرنين. يا دين الكلب! يا دين الكلب! والابن يداوم على إطلاق النار على أمه الوحشة الآلية في اللوحة دون أن يتمكن من قتلها. يا دين الكلب! يا دين الكلب! يا دين الكلب! ثم تمكن من إصابتها، في بطنها، وفي صدرها، وفي رأسها، فجر مخها، فابتسم الابن من شدة الجزل والحبور عليها، وهو يفجرها من مخها، ونظر إلى الأخرى، الحقيقية، ممتعضًا، بينما الهاتف المحمول لا يتوقف عن الرنين. يا دين الكلب! يا دين الكلب! يا دين الكلب! عادت الأم إلى الهمهمة. إنها المكالمة التي تنتظرينها منذ أمس، يا ماما، قال الولد، وهو يصرف أسنانه، والأم لا تتوقف عن الهمهمة: يا دين الكلب! يا دين الكلب! يا دين الكلب! وفي الأخير، تمكنت من إخراج هاتفها المحمول، وعجلت إلى القول: آلو! لكن الهاتف المحمول لم يتوقف عن الرنين. كان هاتف محمول الشاب، فدارت الأم برأسها إليه، وكذلك فعل الابن، والشاب يبدو غائبًا عن كل شيء، لا يفعل سوى متابعة العابرين بعينيه المفرغتين. فجأة، تحرك المنتظرون ليأخذوا الباص الذي ما لبث أن وصل، فرفع الشاب قدميه، بينما وقف الولد، ودفع أمه من أمامه لأجل الصعود في الباص، والأم لا تتوقف عن الشخوص ببصرها إلى الشاب.
خرجت ثلاث شابات من علبة ليل محاذية للمطعم، وهن يغالبن الضحك، ورحن يدرن من حول العمود، وكل منهن تهرب من الأخرى. كانت كل منهن تريد الإمساك بالأخرى، دون أن تفلح، فتكركر، وتحاول من جديد، وتكركر، وتحاول من جديد، وتكركر، وتحاول من جديد، وتكركر، وتحاول من جديد، وتكرر، ومن جديد، ومن جديد، ومن جديد... تعثرت إحداهن، وسقطت على ظهر الشاب، وهي تعتذر، والشاب لا يعيرها أدنى اهتمام. حير سلوكه الفتيات الثلاث، وهن يشرن إلى بعضهن متسائلات، ثم ما لبثن أن انفجرن ضاحكات، وعدن إلى الركض من وراء بعضهن، وكل منهن تهرب من الأخرى، كل منهن تريد الإمساك بالأخرى، وكلهن يكركرن، يكركرن، يكركرن... كالحور كن يهربن من بعضهن، وهن يكركرن، وكأنهن يسكن أرض النعيم. كن من الجمال ما يقهر أي مؤمن، وكانت كركراتهن تدغدغ المتقين في أجسادهم، فينتصبون، وهم عاجزون عن إشباع رغباتهم. كن يكركرن، ويصرخن، وكانت أصواتهن تثقب الآذان، وتفجر الوجود، ولا تُبقي أصواتهن غير اللعنة. اللعنة على الباص، يا ماما! اللعنة على العالم! اللعنة أجمل شيء في الوجود، وهن يصرخن، ويكركرن، وينقلن أجساد الحور التي لهن إلى كل مكان، من أجل القمع والاستبداد وإرساء دعائم حضارة قانون العنف الأروع وعالم الشيزوفرينيا الأبدع الذي هو عالم أرض الجحيم. قرع جرس الهاتف المحمول لإحداهن قرعة واحدة، فتوقفت هذه عن الركض، والشابتان الأخريان تسقطان عليها، وهما تبذلان أقصى كركراتهما. قرأت الشابة صاحبة الهاتف المحمول الرسالة، وجمجمت: يا دين الكلب! ماذا؟ صاحت الأخريان. إنها الخرية الصغيرة! أوضحت الشابة. أمك؟ إنها الخرية الصغيرة، قلت لكما. وماذا تريد؟ ماذا تريد؟ ماذا تريد في رأيكما؟ لن نتركك تعودين إلى البيت. وهل تظنانني مجنونة؟ خرية صغيرة! خرية صغيرة! لا تجيبيها. خرية صغيرة! خرية صغيرة! خرية صغيرة! ماذا؟ تقول إنها انتظرتني طوال الليل، وإنها ستأتي للبحث عني إذا لم أعد في الحال. إنها خرية صغيرة بالفعل، أمك! خرية كبيرة! إنها خرية كبيرة بالفعل، أمك! خرية كبيرة! خرية كبيرة! وعادت ثلاثتهن إلى الركض من حول العمود، وهن يتكركرن، ويتصايحن، والشاب الجالس على الرصيف لا يشعر بوجودهن. دوت صيحة حادة جمدت الشابات الثلاث على سماعها، وما لبث الشاب الذي رافق الملتحي إلى المطعم أن خرج، وهو يقبض على موسى بيد، وعلى ذقن الملتحي بيد، والدم يسيل منهما. صرخت الشابات الثلاث من الرعب، وحاولن الهرب، إلا أنهن اصطدمن بالشاب المجرم، وعرقلن خطته. تجمع الناس، وضيقوا الخناق عليه. أخذت الشابات الثلاث يبكين، فهطل المطر في أرض النعيم، وملأ الأنهار بالملح. تلك التفاحة، ما أمر طعمها، همهمت إحدى الشابات، وهي تذرف مر الدمع. التفاحة؟ سألت الثانية باستغراب، ولما فهمت، أخذت تذرف هي الأخرى مر الدمع. التفاحة! التفاحة! رددت الفتاة التي طلبت أمها منها العودة إلى البيت، ولم يترك الشاب المجرم لها أقل وقت لتذرف مر الدمع. هددها بموساه، ودخل بها إلى المطعم ثانية. سمع الكل نفير سيارات الشرطة، لكن الناس فضلوا أخذ الباص الذي ما لبث أن وصل، أو الذهاب إلى حيث كانوا يريدون الذهاب، والشاب الجالس على حافة الرصيف ينظر من حوله، وكأنه لا ينظر إلى أحد، لا ينظر إلى شيء. بدا وحيدًا، بعيدًا، منعزلاً، أخرأَ، يجلس على طرف العالم، جزءًا من الفراغ، من السديم، من الجحيم.
تلقفت الفتاتان ضابط الشرطة، وهما تذرفان مر الدمع، وتقولان إن القاتل أخذ صديقتهما رهينة. هل أنتما أوريلي لامور؟ سألهما الضابط بخشونة. أوريلي لامور؟ تساءلت الشابتان حائرتين. لستما أوريلي لامور؟ عاد الضابط يسأل بخشونة. أمام علامات النفي التي بدت على محيا الشابتين، أمر الضابط بإركابهما في عربة المعتقلين، وإخلاء المكان، لكن الشاب الجالس دومًا هناك ظل يجلس هناك. أوريلي لامور، صاح الضابط. أوريلي مؤخرتي، عاد الضابط يصيح. أريد أن تجد لي أوريلي مؤخرتي في الحال، قال الضابط لمعاونه. ذاك الزبدة يرفض القيام، قال المعاون للضابط. كن مؤدبًا، وقل العربي، انتهره الضابط. العربي، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي عربي هناك. أريد القول الزنجي، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الإفريقي، قل الأسود، انتهره الضابط. الأسود، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي أسود هناك. أريد القول الماوتسي تونغي، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الصيني، انتهره الضابط. الصيني، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي صيني هناك. أريد القول الروجيه، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الأحمر، انتهره الضابط. الأحمر، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي أحمر هناك. أريد القول البلانش نيجي، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الأبيض، انتهره الضابط. الأبيض، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي أبيض هناك، أنا لا أرى أحدًا. طوقوا المكان جيدًا، صاح الضابط بأعوانه، أريدكم أن تجدوا لي أوريلي لامور في الحال، والمعاون يكاد ينسحق من شدة الاستغراب والارتياب. يا للرعب! سمعه الضابط يهمهم. ماذا؟ طلب الضابط. أن لا ترى كل هؤلاء شيء أما أن يكونوا، كل هؤلاء، شخصًا واحدًا، همهم المعاون. لا يوجد هذا إلا في الأحلام، رمى الضابط بهزء. هل الأحلام مرعبة إلى هذه الدرجة؟ تساءل المعاون غير مصدق، وفي اللحظة ذاتها، سمع الكل صرير عجلات إحدى السيارات. كانت السيارة التي تسوقها الشابة المحجبة، وفي قلب الشارع كان الشاب الذي يجلس على حافة الرصيف طريحًا، وهو يغرق في دمه، وجَمْعٌ من الهارعين من حوله، وهم يكادون يسقطون بوجوههم المبتسمة عليه. كانت تند عنه اختلاجات الموت، فأخرجت الشابة المحجبة ثديها، وألقمته إياه، إلى أن مات بالفعل. قرع الهاتف المحمول للشاب القتيل، فبحثت الشابة المحجبة عنه في جيوبه إلى أن وجدته. آلو، قالت الشابة المحجبة. نعم، لقد مات، أضافت قبل أن تغلق الهاتف المحمول، وتعيده إلى جيب الشاب القتيل. خفت الشابة التي صعدت مع المرأة المحجبة إلى ترك السيارة، والتسلل عائدة إلى مكانها قرب العمود.
في عربة المعتقلين، أخذ المقبوض عليهم يتحرشون بالشابتين، ولا أحد من رجال الشرطة يبالي بنداءاتهما. لماذا قضمتِها، التفاحة؟ سألت إحدى الشابتين الأخرى معاتبة. لم أكن أعلم أن تفاح الجنة مر، أجابت الفتاة الثانية. أية جنة، أيتها البلهاء؟ الجنة. علبة الليل؟ الجنة، خراء، الجنة! وكل هؤلاء الأوباش، هل هم الملائكة؟ إنهم خراء الله! والآن ماذا سنفعل بكل خراء الله هذا؟ نحن لن نقدر عليهم. ماذا سنفعل؟ اغمضي عينيك، واتركيهم، لكل امرئ صلاته. تسمين هذا صلاة؟ اغتصبهما الخارجون على الدين بينما أخذ الشاب المجرم يهدد بقتل الشابة الثالثة إذا حاول الضابط اقتحام المطعم. الشابة التي ترتكز على العمود، هل هي أوريلي لامور؟ سأل الضابط المعاون. الشابة التي ترتكز على العمود؟ تلعثم المعاون. اسألها إذا كانت أوريلي لامور، طلب الضابط. أنا لا أرى أية فتاة، تلعثم المعاون من جديد. أنت تخريني، نبر الضابط، أنت أحمق، أنت مجاز ليومين، فافرنقع في الحال، وإلا... أردت فقط... قلت افرنقع في الحال، يا دين الكلب! أردت فقط... ولا كلمة، افرنقع في الحال، يا دين الكلب! وأعطاه الضابط ظهره. أردت فقط... اختفى الضابط، والمعاون يقترب من العمود غير مصدق ما يجري: كان خنزير آلي يشد العمود المربوط به، وهو يسعى إلى الفكاك دون أن يفلح. كان يطلق صرخات هستيرية، ويكشف أسنانه المنشارية، ويشد، ويسعى إلى الفكاك حتى تمكن من زحزحة العمود، وإسقاطه على وقاء المحطة، فقتل من المنتظرين من قتل، ثم أفلت. التقم بأسنانه المنشارية المعاون، والمعاون ينظر إلى نفسه بين الأسنان الوحشية للخنزير الآلي، ويتابع برعب ما يجري له. أنت لم تزل هنا؟ صاح الضابط بالمعاون. قلت افرنقع في الحال، يا دين الكلب! حمل المعاون رأسه بين يديه، ثم أدار ظهره، وأخذ يركض، وهو يلتفت بين فترة وأخرى إلى نفسه الممزقة بين الأسنان المنشارية للخنزير الآلي. وصل فريق من حفاري خطوط الهاتف الليفية، وبدأوا بأدواتهم الكهربائية واليدوية، معقوفة مشقوقة، مدببة مسطحة، ملولبة مشعبة، يحفرون دون أن يأخذوا إذنًا من أحد. من أنتم، يا دين الكلب؟ صاح الضابط بالعمال دون أن يجيبه أحد منهم، فراح يشد شعره. قل لهم أن يحفروا تحت المطعم، اقترح شرطي. أنت لم أطلب رأيك! قل لهم أن يفتحوا نفقًا نتسلل منه إلى المطعم. نتسلل منه إلى قفاي! قذف الضابط، وصاح بأعلى صوته: أوريلي لامور! قل لهم... أنت لم أطلب رأيك، قلت لك... قل لهم... أتظنني أهوج إلى هذه الدرجة، أن يفتحوا نفقًا نتسلل منه... إنها الطريقة الوحيدة... أنت لم أطلب رأيك، يا دين الكلب، قلت لك، نبر الضابط، وهو يدفعه. التسلل منه إلى قفاي، همهم الضابط لنفسه قبل أن يصرخ في الميكروفون: أوريلي لامور! صاح الشاب المجرم من داخل المطعم: أوريلي قفاي! عاد الضابط يصرخ في الميكروفون: إذا لم تسلم نفسك اقتحمنا المكان. وفي اللحظة ذاتها، كان العمال على وشك أن يهدموا العمود على الشابة، فسارع الضابط إلى إنقاذها. أوريلي لامور، ليس جميلاً أن تُقتل فتاة مثلك، يا دين الكلب، همهم الضابط في أذن الفتاة. ابتسمت الفتاة، وأشارت إلى الناحية التي كان يجلس فيها الشاب: وذاك الذي يجلس هناك، ألا تفعل من أجله شيئًا؟ سقط العمود على الشاب، وسحقه، بينما الضابط يردد: يا دين الكلب! يا دين الكلب! عاد يصرخ في الميكروفون: إذا لم تسلم نفسك، يا دين الكلب، اقتحمنا المكان. سأقتل الرهينة. اقتلها، يا دين الكلب! والله سأقتلها، سأذبحها كما ذبحت القذر "حيّ على الصلاة". سأعد من واحد إلى عشرة. سأذبحها، والله. واحد، اثنان، ثلاثة... سأذبحها، سأذبحها، والله. أربعة، خمسة، ستة، سبعة... سأذبحها، سأذبحها، سأذبحها، والله. والرهينة تصرخ: النجدة. ماما. ثمانية، تسعة... ماما... عشرة... ما... انفتحت سرة الضابط كمهبل، ومن البصاق والصمغ وخراء الملائكة راح ينبثق رأس ذئب آلي ثم رأسان ثم ثلاثة، وفوقها مثل تحتها رأسٌ، فرأسان، وفوق الرأسين مثل تحت الرأسين الآخرين رأسٌ واحد. وشيئًا فشيئًا، أخذ جسد الذئب ذي الرؤوس التسعة يزلق من السرة، وما أن قفز كأبشع مخلوق فردوسي على وجه الأرض، فاتحًا أفواهه التسعة، ومن نواجذه يسيل مائع الظمأ والنهم والغِش والإفك والهيمنة والمذللة والمدعسة والمخرأة حتى تفجرت قنوات المجاري تحت ضربات العمال، وتفجر غائط البشر، فملأ الرصيف، وجرفت موجاته الشارع في اللحظة التي توقف فيها موكب من السيارات المزينة بباقات الورد، المدوية بأغاني الفرح. نزلت العروس بفستانها الأسود، فالعريس ببذلته البيضاء، فكل المدعوين، وهم يغطسون في الغائط حتى ركبهم. وفي منتهى الغبطة، اقتحموا المطعم، واحتلوا الطاولات، ثم قاموا وقعدوا، رقصوا وغنوا، طعموا وشربوا، وقضوا باقي النهار، وكل الليل، وهم يقومون ويقعدون، يرقصون ويغنون، يطعمون ويشربون، يقومون ويقعدون، يرقصون ويغنون، يطعمون ويشربون، يقومون ويقعدون، يرقصون ويغنون، يطعمون ويشربون، يطعمون ويشربون، يطعمون ويشربون، يطعمون ويشربون...
















الكابوس الثاني
الطوابق

لم أكن أطيق الذهاب إلى السوبرماركت، رغم وجوده على بعد خطوتين من العمارة التي أسكن فيها. كان ذلك بسبب المصعد المعطل، فنزول الطوابق الأربعة ليس كصعودها. صعودها مرة واحدة في اليوم كان أمرًا محتملاً، أما مرتين، أما ثلاث مرات، أما أربع مرات أو خمس مرات، وأحيانًا ست مرات، وسبع مرات، وثماني مرات، وتسع مرات، وعشر مرات، ومائة مرة، وألف مرة، وعشرة آلاف مرة، مائة ألف مرة، مليون مرة، مليار مرة، عشرات المليارات، مئاتها، آلافها، فالصعود إلى جهنم بكثير أهون. موزع البريد لا يمر أبدًا في ساعة محددة، وأنا أفضل ألا أطلب من كليوباترا، البوابة الخنثى، إصعاد بريدي مقابل بعض الملاليم، لأن عينها فارغة هذه الكليوباترا. لديها زوجاها، سيزار، الزنجي، وأنطونيو، الإيطالي، ومع ذلك، كل الرجال لا يكفونها. اطلبني كل ما تشاء، موسيو شابان، كانت تلهث، وهي تخرج من شقتها الأرضية لتلتصق بي. موسيو شعبان، أصححها. موسيو شع... وتتنحنح، موسيو شع... وتسعل، موسيو شع... موسيو شابان. موسيو شعبان، أصيح، فيجيء صوت سيزار من الداخل: موسيو شعبان. لقد قالها زوجي، تقول باسمةً. أيهما؟ أنطونيو؟ سيزار، يقول الرجل الأسود، وهو يطل من الباب بمشلحه النسائي. موسيو شعبان، يعيد القول. ومن الداخل، أسمع صوت أنطونيو: جميل أن تسأل عني، موسيو شعبان. أمد نصفي الأعلى من الباب باحثًا عنه، فيرفع لي يده عبر المرآة، وهو يتزوق، ويدخن، عاريًا: كوكو! ادخل، موسيو شابان، تقول كليوباترا، وهي تشدني، بينما يلتصق سيزار بي، ويدفعني، وهو يغنج: نعم، ادخل، بالله عليك أن تدخل، موسيو شعبان، يا حبيبي! وبعد الظهر، هناك الكأس التي أشربها في البار. كانت لدي كل أنواع الكحول، ولكن كأس النبيذ التي أشربها في البار المعتم الفائح برائحة العطن وروائح أخرى عفنة يعجز المرء على التمييز بينها، كانت أروع كأس في الوجود. ليس بسبب النادلة الشابة، جاسمين، أنزل الطوابق الأربعة بعد الظهر. كنت أحب ردفيها، هذا صحيح، لكني لم آخذها منهما كما يفعل باقي الرواد بين كأس وأخرى في المرحاض تحت. رائحة عطنة رائحة العناق، إلا أنها رائحة شهية. ثم ذاك العطر الذي تسكبه على ردفيها، جاسمين، عطر من النوع الرخيص، لكنه ذو رائحة مهولة. كنت أنتصب أحيانًا على شمه، لكني لم أترك نفسي مرة واحدة تسقط في حبائل إغوائها، جاسمين، فتسخر بي العجوز أوديت، صاحبة البار. لا تقل لي إنك... كانت تقول على مسمع الجميع، فيضحك كل من هم في البار. لا أقل لك إني ماذا؟ أسأل، وأنا أبتسم، فأنا أعرف قصدها. خذها على حساب البيت، موسيو شابان. اتركيه لحاله، تهمهم جاسمين. تعالي، جاسمين، أطلب منها. لماذا أتركه لحاله؟ تسأل العجوز أوديت. اقتربي، جاسمين، أطلب منها من جديد. قولي لي لماذا أتركه لحاله؟ تعود العجوز أوديت إلى السؤال. اقتربي، بالله عليك، جاسمين، أقول هذه المرة، وأنا أشدها من ذراعها. لماذا أتركه لحاله؟ لماذا أتركه لحاله؟ تردد الشمطاء أوديت. هكذا، تهمهم جاسمين، فقط، اتركيه لحاله. أكون قد أخذتها بين ذراعيّ، وقبلتها من خدها على ضحكات الحاضرين الذين ينفخون سجائرهم أو يسحقونها في مَنفضات هي في الواقع ساعات حائط محطمة، لكنها تفلت مني، وتهرب خلف المشرب لتخفي دمعها. كنتُ قذرًا بالفعل مع جاسمين، لم أكن أعطف عليها كغيري من الرواد، ولأعوضها عن ذلك، كنت أترك لها الكثير من البخشيش، أكثر من ثمن الكأس التي أشربها كنت أترك لها. وآخر مرة أنزل الدرج وأصعده في الليل، عندما لا يأتيني النوم، أنزل الطوابق الأربعة لأتمشى، ثم لأجلس في الحديقة. رائحة باريس في الليل عطنة لذيذة، في الشتاء خاصة، رطوبة الليل شيء آخر في باريس، كرطوبة الطين المشبع بالبول رطوبة الليل في باريس. أعمل على ألا أبول طوال الليل، لأفرغ كل مثانتي في طين الحديقة، فأشم رائحة باريس، وأتنهد. أعب الرائحة العطنة، كألذ رائحة، الرائحة العطنة، كرائحة فخذين لا تغتسلان. كانت طريقتي للاحتيال على الأرق، لأنني كنت أذهب نائمًا بعد ذلك كالطفل المذنب. لم أكن وحدي من يحتال على الأرق بهذه الطريقة، فكلما كنت أصل إلى الحديقة، كان شخص يغادرها، وكأنه يتحاشى رؤيتي له، لم أكن أعرف، أو أنه يضيق من مشاركتي بعض الليل وإياه.
فتحت ثلاجتي لأرى ما ينقصني من طعام وشراب، كان ينقصني كل شيء. يا دين الرب، همهمت. سحبت عربتي، واتجهت إلى باب الخروج الذي كان مفتوحًا على مصراعيه. كانت شقتي تمتد كباقي الشقق على كل الطابق الرابع، كانت لكل طابق شقة واسعة، فالعمارة قديمة، كانت العمارة فندقًا خاصًا من الفنادق الخاصة التي بناها الأخَوَان بيرير في أواسط القرن التاسع عشر غير بعيد من المنتزه الشهير منتزه مونسو. أدخلت مقعدي المنجد، وهممت بإغلاق الباب، لكني قررت أن أتركه مفتوحًا. أمسكت حبال المصعد، وهززتها بحنق، وأنا أنظر إلى علبته الراسية في الطابق الأرضي. سمعت ضربات الحاسوب في الطابق الخامس والأخير، وصوت جورج ساند، وهي تقرأ أول بأول ما تكتب. رفعت رأسي، وأنا أفكر في الصعود لأراها. لكني نزلت الدرج بقدم مترددة، وفي الأخير، قررت الصعود. لم تكن تقفل عليها الباب، مثلي تمامًا. اختلست النظر إليها، فبدت لي أول ما بدت ساقاها من تحت المكتب. كانت في قميص النوم. راحت ترفع قميص نومها عن فخذيها، وتحكهما بأصابعها بنعومة، ثم تعود إلى الضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال: حبيبي المتلصص الجبان تركته يلتهم فخذيّ بعينيه من مخبئه... وتحكهما بأصابعها بنعومة، ثم تعود إلى الضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال: لماذا لا يأتيني بيديه، بذراعيه، بثدييه، بشفتيه، بكل جسده، لماذا لا يسقط عليّ كما تسقط الصواعق على الشجر وتدمرها... وتحك فخذيها بأصابعها بنعومة، وتسير بيديها إلى ما بين فخذيها، وتتأوه، ثم تعود إلى الضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال: الحقيقة أنني أرعبه بجمالي، فجمالي ليس دنسًا، جمالي جمالٌ ورعٌ، وشعوري شعور الحب والإجلال... وهذه المرة راحت تحك فخذيها بأصابعها بخشونة، وتحكهما هما ما بينهما، وهي تصرخ لاهثة، مما جعلني أنسحب بأقصى سرعة.
وأنا أمضي بالباب المفتوح لشقة الطابق الثالث، لمحت سالومي، وهي تقص شعر أبيها، وتتابع، في الوقت ذاته، مسلسل نيران الحب. نظرت إلى ساعتي، فلم يكن موعد المسلسل. إنه بابا، قالت سالومي دون أن تلتفت إليّ. بابا، همهمتُ. انفجرت سالومي ضاحكة. ليس كما تفكر، سارعت سالومي إلى القول. ادخل، موسيو شابان، قال الأب. سَجَّلَ لي بابا الحلقة الأخيرة، أوضحت سالومي. لماذا لا تقص شعرك، موسيو شابان؟ سأل الأب. ليس الآن، همهمتُ. تعال في الوقت الذي تشاء، قالت سالومي، وهي تواصل النظر إلى التلفزيون عندما صاحت فجأة: بابا، هل رأيت ما فعل بها، بابا، لماذا لم تقل لي؟ وراحت سالومي تبكي. لماذا كل هذه الخيانة؟ خونة كلهم الرجال. بابا، أليس كذلك؟ الرجال كلهم خونة... سالومي، لا تبكي، يا حبيبتي، همهم الأب، وهو يأخذ ابنته بين ذراعيه مجلسًا إياها على ركبتيه. ليس كل الرجال خونة، يا حبيبتي. بلى. لا، ليس كلهم. بلى، بلى. لا، ليس كلهم. بلى، بلى، بلى، كلهم خونة، بابا. ليس كلهم. بل كلهم. ليس كلهم. بابا، لا تهزأ بي. وتعود إلى البكاء، وهي تضم أباها بقوة. في الطابق الثاني، كان موسيو ومدام برنار يقفان قرب حبال المصعد، وهما يشدانها، ويمدان أذنيهما ليقفا على سبب بكاء سالومي. لا شيءَ، قلت لهما. لا شيءَ كيف؟ رمت مدام برنار بخشونة. لا شيءَ خَطِرًا، عدت إلى القول. لا شيءَ خَطِرًا، وكل هذا البكاء؟ رمى مسيو برنار بخشونة. بسبب المسلسل، أوضحت. نيران الحب؟ سألت مدام برنار بخشونة. نيران الحب، همهمتُ. هل رأيت أيها المغفل؟ عنفت مدام برنار زوجها، نيران الحب. نيران الأب! رد موسيو برنار ساخرًا، غير ممكن، كل هذا البكاء مع واحد خنزير مثله... وفجأة لزوجته: هذه هي الأنوثة، هذه هي الأحاسيس الرقيقة، وليس مثلك. مثلي كيف؟ سألت مدام برنار بعنف. مثلك كما يعرف العالم بأكمله. مثلي كيف؟ كما يعرف العالم بأكمله، كما تعرف البشرية بأكملها. وأنت؟ وأنا ماذا؟ وأنت، أيها المغفل؟ وأنا ماذا، وأنا ماذا؟ قلت وأنت؟ وأنا ماذا، وأنا ماذا، وأنا ماذا؟ تعال إلى الداخل أحسن لك. إلى الداخل؟ أحسن لك... ودفعته من أمامها، ثم ضربت الباب في وجهي، وما لبثت أن وصلتني أصوات معركة عنيفة بين الاثنين، خرجَتْ على أثرها ماري آنج وزوجها ديابولومنت وأطفالهما الخمسة سكان الطابق الأول. هل كل شيء على ما يرام معهما؟ سألت ماري آنج، وهي تشير إلى فوق. لا أظن، قلت مبتسمًا، والمعركة لم تزل متواصلة. وضع ديابولومنت يده على بطن زوجته الحامل، وهمهم: لا أريدك أن تقلقي، يا حبيبتي، ليس هذا بصلنا. والشياطين الخمسة كانت فرصتهم الذهبية، زلقوا على حافة الدرج حتى الطابق الأرضي، فتحوا الباب المحطم للمصعد المعطل، وراحوا يلعبون بأزراره، ويتسلقون علبته، حتى أن أحدهم رفع سقفها، وحاول تسلق حبالها. ليس هذا بصلنا، أعاد ديابولومنت. متى سيكون؟ سألتُ ماري آنج، وأنا أشير إلى بطنها الضخم. ليس بعيدًا، أجاب ديابولومنت، وهو يبتسم ابتسامة واسعة قطعتها ضجة ضخمة لدى مسيو ومدام برنار، خلنا العمارة تنهار على أثرها. ما هذا؟ صاحت سالومي من طابقها. لا شيء، يا حبيبتي، رفعت ماري آنج صوتها، إنهما موسيو ومدام برنار. ليس الزلزال الذي لحق ببمبويي إذن؟ علقت سالومي. اهدأوا، يا أولاد، قالت ماري آنج لأطفالها دون أن يهدأوا. إنهما توأمان، همهم ديابولومنت، وهو ينحني، ويطبع على بطن زوجته قبلة مديدة. لم أكن أعرف، همهمتُ. صبي وبنت، همهمت ماري آنج. هذا ما ينقصكما، همهمتُ من جديد. انفجر الأبوان ضاحكين، فكانت فرصتي للهرب، لكني ما أن اجتزت باب شقة الطابق الأرضي للبوابة حتى انفتح، وظهرت كليوباترا. إنه موسيو شابان، صاحت بزوجيها. لكن... تلعثمتُ. لم أطرق الباب، ومع ذلك نادت: تعال، يا سيزار، تعال، يا أنطونيو. وصاحت بالأولاد: كفوا عن الضجيج! ثم لنفسها: أبناء الجن هؤلاء لا يكفون عن الضجيج! لا حاجة إلى أن يأتيا، فلم أكن سوى عابر، رميتُ، وأنا أهم بالذهاب، فالتقطني سيزار وأنطونيو كل من ناحية، وهما مزوقان كعادتهما، وشبه عاريين. سنشرب شايًا بالنعنع، قالا بصوت واحد، وبعد ذلك نتركك وشأنك. لكن... عدتُ أتلعثم. تعال، موسيو شعبان، قال سيزار. تعال، يا حبيبي، قال أنطونيو، وهو يخرج سيجارة من عبه، ويشعلها بعود ثقاب يخرجه أيضًا من عبه بعد أن يحكه بإليته. نظرتُ إلى كليوباترا، ورأيت أنها لا تشبه زوجيها، كانت خنثى مثلهما، ولم تكن تشبههما، كانت تشبه إلى حد كبير المطربة أمل بنت.

* * *

جلست في مقعدي المنجد أمام بابي، وأنا أحتسي كأس شاي بالنعنع، منتظرًا نزول جورج ساند. كان وقت ذهابها إلى العمل، الساعة الثانية بعد الظهر، كما كانت تدعي، دون أن أصدق شيئًا من هذا. الذهاب إلى العمل أين على الساعة الثانية بعد الظهر؟ وأي عمل هو هذا العمل الذي تذهب إليه الروائية الكبيرة! أحيانًا كانت تذهب إلى العمل على الساعة الثانية بعد الظهر، وتعود على الساعة الثالثة بعد الظهر، بسبب الوحي الذي ينزل عليها، فأسمعها تضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال، وتمارس العادة السرية. لهذا كنت أشتهيها، لممارستها العادة السرية، وليس لجمالها. كان لديها شيء شرير يشدني إليها. العادة السرية، وشيء آخر، شيء شرير. كان لها وجه يطفح براءة يغطي ما هو شرير لديها. شيء شرير. شيء شيطاني لا يراه أحد. أراه وحدي. شيء شرير يربطني بها. شيء جهنمي. لم يكن يظهر لأحد آخر سواي. لهذا كنت عندما أصاب بالاكتئاب أفكر فيها، وأنا فيها، في أشد الأوضاع جهنمية. حتى أنني أحيانًا كنت أتفجر خلال النوم، بعد أن أكون قد قضيت وقتي طوال الليل، وأنا في أقصى حالاتي توترًا. لم يكن جسدها مثيرًا إلى هذه الدرجة، وربما كان عاديًا لا استثناء فيه، لهذا كنت أُسقطها نفسيًا في الجسد الذي أشتهيه.
سمعت طرقات كعبها على الدرج، وفجأة إذا بها أمامي، وهي بحياء تهمهم: مرحى، موسيو شابان. مرحى مدموزيل جورج ساند، أهمهم بدوري. المصعد لا يعمل، تقول جورج ساند، وهي تضغط على الزر، وترسل رأسها بين الحبال ناظرة إلى المصعد الراسي في الطابق الأرضي. عملت شايًا بالنعنع، أقول لها. شاي بالنعنع، تقول، وأنا أكاد أسمعها بالكاد لخجلها. اجلسي قليلاً معي، أهمس. يا ليتني كنت أستطيع، تقول، وهي تخنق نصف ضحكة. العمل، أقول، وأنا أخنق نصف رغبة في ضمها والعبث بثدييها الصغيرين، ثم، وأنا أخنق كل رغبة: سأرافقك إلى تحت، وأنهض من مكاني. لا تُتعب نفسك، تسارع إلى القول، فأنتقم من لطفها: ليس من أجلك، أرمي بخشونة، من أجل البريد. آه، ترمي مصدومة. ونحن ننزل الدرج معًا، تلتفت إليّ، وتبتسم، وتشيح بوجهها عني. تخنق نصف ضحكة، ورأسها يستدير إلى الناحية الأخرى، فيختلج شيء تحت بطني. ونحن على مقربة من الباب المفتوح لسالومي وأبيها، نسمع نشيجها، فننظر إلى الداخل، ونراها تبكي على كتف أبيها، وهي تجلس على ركبتيه بينما صوت يجيء من التلفزيون يقول: أحبك لما تكونين بعيدة، يا حبي، هكذا أنا أحبك، لما تكونين بعيدة، وأنت قربي أكرهك، ولكني أحبك لما تكونين بعيدة... نظرت في عيني جورج ساند، وكأني أقول لها العكس تمامًا، ففهمت، وابتسمت، وأشاحت بوجهها عني. تركنا الطابق الثالث إلى الطابق الثاني، ونحن نسمع الأب يقول لابنته: اسكتي، يا سالومي، اسكتي، يا حبيبتي، بابا يحبك، وأنت بعيدة، وأنت قريبة... فتزداد سالومي نحيبًا. ماذا بها سالومي؟ سألت مدام برنار بعنف، لماذا تنتحب طوال الوقت؟ من يخريها هكذا دون انقطاع؟ نعم، من يخريها هكذا دون انقطاع؟ سأل موسيو برنار بتهكم، من يخريها غير... مرحى، موسيو برنار، همهمت جورج ساند بحياء، فارتعش موسيو برنار، وغدا وديعًا كحمل: مرحى مدموزيل جورج ساند. سألتُ من يخريها، من يخريها، هكذا دون انقطاع؟ عادت مدام برنار إلى القول دون أن يبالي أحد بها. هل من خدمة أقدمها لك، مدموزيل جورج ساند؟ سأل موسيو برنار بكل اللطف اللازم. من يخريها، من يخريها؟ شكرًا، موسيو برنار. كان ينظر إلى جسدها النحيل، ويُسقطها نفسيًا في الجسد الذي يشتهيه مثلي تمامًا. ضَرَبَته زوجه على ظهره، ودفعته إلى داخل شقتهما، وهي تجمجم: أنت من يخريها، أنت من يخريني، أنت من يخري الجميع. وأنتِ؟ أبدى عن نواجذه. وأنا ماذا؟ أنتِ من يخري العالم بأكمله، أنتِ من يخري البشرية بأكملها، وراح بها ضربًا، وراحت به ضربًا، وبقيا يضربان بعضهما في داخل شقتهما. نظرتُ إلى جورج ساند، كانت تعض شفتيها أكثر فأكثر بعد كل ضربة، وهي تنقط رغبة. انقضضت عليها، فزلقنا على الدرج حتى باب ماري آنج وديابولومنت، وراح الواحد بالآخر عناقًا مستحيلاً، إلى أن شعرنا بعيون الأطفال، وهم يحدقون فينا من كل جانب، فقمنا، وماري آنج من الداخل تصيح: تعالوا، يا أولاد، إنه وقت الحمام، والأولاد لا يتحركون. اتركيهم، ماري آنج، وتعالي، سمعنا ديابولومنت يهتف. تعالي، يا حبيبتي! أجيء أين؟ تعالي، تعالي. أجيء أين؟ أجيء أين؟ تعالي، تعالي، تعالي. أجيء أين؟ أجيء أين؟ أجيء أين؟ فقط تعالي، فقط تعالي، فقط تعالي. وهذه بدأت تغنج: توقف! لن أتوقف... توقف! توقف! لن أتوقف، لن أتوقف... ويقهقه، فتقهقه: توقف! توقف! توقف! لن أتوقف، لن أتوقف، لن أتوقف... وسمعنا انطراق باب الحمام. لماذا لا نصعد عندي؟ قلت لجورج ساند. عليّ الذهاب إلى العمل، قالت المرأة. ونحن نمضي بباب شقة الطابق الأرضي المفتوح نصف فتحة، رأينا كليوباترا بفرج الرجال، وهي تمارس الحب مع زوجيها. لا بد أن الأمر ممتع جدًا، رمت جورج ساند، وهي ترمقني بمكر، ثم قفزت، وغادرت العمارة. أخرجت بريدي من علبة الرسائل، كانت هناك بعض الفواتير وبعض الإعلانات الدعائية. تسلقت أدراج الطوابق الأربعة، وأنا ألهث، وعلى مقعدي المنجد ألقيت بنفسي. أفرغت كأس الشاي في حلقي، وضربت بها بكل قواي حبال المصعد، فإذا بالمصعد يتحرك، وإذا به يتوقف تحت نظراتي الدهشة الغائمة اللامصدقة، وإذا بأمي تدفع بابه المحطم.
ماما!
يا دين الرب، شابان، جدفت أمي. أطللت برأسي من فوق غير متأكد من أن المصعد يعمل، حتى أنني أمسكت بدفته، أغلقتها، وفتحتها. ماذا؟ صاحت أمي كعادتها. المصعد يعمل، ماما، كيف فعلت؟ سارعتُ إلى القول. هل أفاجئك أنا أم المصعد ليكون هذا الاستقبال الحار، بَصَقَتْ، وهي تشدد على كلمة "الحار". أنتِ، ماما. المصعد، ماما. أنتِ والمصعد، ماما. أَخْرِج الحقائب، يا ولد. اجلسي، ماما، ارتاحي، هل قمت برحلة طيبة؟ خراء، رحلة خراء! حقائبك كبيرة ثقيلة، ماما. هذا لأني لا أعلم متى سأغادرك. لماذا، ماما؟ نَهَضَتْ، وصفعتني على خد، بينما كنت أنحني لوضع الحقيبة الثانية. ماذا قلتُ، ماما؟ لا تريدني عندك، يا ولد؟ أريدك، ماما. أَخْرِج الحقيبة الثالثة. ها هي، ماما، قلتُ، وأنا أتحسس وجهي من أثر الصفعة. هذا المصعد البدائي لم يسع لكل حقائبي. انزل الآن، واحضر شانغهاي. شانغهاي معك؟ معي. من سيحرس لي كلبتي؟ لكنها لا تحبني مثلك، ماما. ولهذا السبب. ولهذا السبب ماذا؟ لأنها لا تحبك مثلي. أنت لا تحبينني، ماما، وكلبتك، لا تحبني مثلك، وعندما لا يحبك أحد، هذا يعني أنه لا يحبك. صفعتني على الخد الآخر، فأردتُ أخذ المصعد، لكنه أبى النزول. لم أتردد لحظة واحدة، رحت أبتلع الدرجات ثلاثًا ثلاثًا، وأنا لا أبالي بما يقول الجيران، عن أمي، عن المصعد، عن الشيطان الذي أحل أمي عندي. كنت أفكر لماذا جاءت؟ لكن شنغهاي، كلبة أمي، أخذت تنبح، وهي في قفصها، تشي تسو بشعة، وتقفز، تريد عضي. لم أشعر بصعودي الطوابق الأربعة إلا وأنا من جديد وجهًا لوجه مع أمي. ها هي كلبتك، ماما. قَرَّبَتْ جبيني من فمها، وقبلتني. دَخَلَتْ بالقفص الشقة، فانهرت على المقعد المنجد لاهثًا. عدة ثوان فيما بعد، انتفضتُ على صوتها الملعلع، وهي تطلب مني إدخال الحقائب.

* * *

رافقتني أمي إلى البار، طلبت لنفسي كأس نبيذي المعتادة، وطلبت لها كأس شاي بالنعنع. تجنبتني جاسمين، وهي تدور بين الزبائن ضاحكة مع هذا، صائحة مع ذاك، والزبائن ينفخون سجائرهم أو يطفئونها في مَنفضات ساعات الجدار المحطمة، فقالت لي أمي: هذه البنت تحبك، ويا للخسارة. لماذا يا للخسارة، ماما؟ سألتُ أمي. يا دين الرب، شابان، رمت في وجهي، وهي تبتسم للفتاة. أن تكون عاهرة شيء، وأن تحبني شيء آخر، ماما، همهمتُ. عاهرة تحبك، شابان! همهمت أمي، وهي تبتسم للفتاة. شعبان، ماما، شعبان. شابان، أصرت أمي على القول. شابان لماذا، ماما؟ لأني أكره أسماء العرب. واسمك، ماما؟ لأني أكره اسمي، أكره كل ما يمت بصلة بالعرب. ونحن، ماما؟ نحن خراء! نحن خراء، ماما؟ أوديت، هل تسمعين؟ قلت لصاحبة البار، العجوز الشمطاء، التي تجلس وراء الصندوق، وهي تكلم نفسها. نحن خراء، تقول ماما. ضحكت أوديت، وهمهمت: أمك امرأة عظيمة! نحن خراء، نسلنا خراء، أسماؤنا خراء. نادني منذ اليوم، كلوديا شيفير، يا صغيري شابان، هل سمعتني؟ نادني كلوديا شيفير. كفى مزاحًا، ماما. أنا لا أمزج، يا دين الرب! نادني خراء شيفير... خراء شيفير، همهمتُ. هكذا، أخذَتْ يدي، وقبلتها. أخذتُ جرعة نبيذ، وأنا أفكر مهمومًا: خراء شيفير. قلت لأمي: تحبين فرنسا، ماما. أحب فرنسا، أكدت أمي. وبعد أن أخذَتْ جرعة شاي بالنعنع، وهي تفكر مثلي مهمومة، سمعتها تقول: دومًا ما أحببت فرنسا، وفرنسا لم تحبني أبدًا. وأنا أيضًا، ماما. وأنت أيضًا ماذا؟ دومًا ما أحببت فرنسا، وفرنسا لم تحبني أبدًا. لأن فرنسا عاهرة صغيرة. عاهرة كبيرة، ماما. تموت من أجلها؟ أموت من أجلها، ماما، بعد أن غدت وطني. بدافع الواجب؟ بدافع الواجب. فقط بدافع الواجب؟ فقط بدافع الواجب، دافع اصطناعي، غير جوهري، أموت من أجلها بدافع اصطناعي، خراء، ماما! فجأة، راحت أمي تهمهم، وهي ترتعش: يا دين الرب! يا دين الرب! بقينا صامتين للحظات، لحظات قليلة لكنها كانت طويلة، كاللحظات التي يقضيها المرء في المقبرة. قذفتُ كل ما تبقى من نبيذ في حلقي، وطلبت إليها: لنذهب، ماما. والبنت التي تحبك؟ قالت أمي دون أن يبدو عليها أنها تمزح. يا دين الرب، ماما! رح معها على حسابي. يا دين الرب، ماما، يا دين الرب! واحد شاي آخر بالنعنع، صاحت أمي بأوديت، وواحد بوجوليه ثان لهذا الولد العاق. لم تكن نريد أن نذهب. بعد قليل سألتُها: كيف عرفت أنه بوجوليه، ماما؟ عرفت. كيف عرفت؟ له رائحة المرأة المحجبة، البوجوليه، الحجاب الشاد على جسدها ليبرز مفاتنها. ولو كان بوردو؟ البوردو شيء آخر، للبوردو رائحة المرأة الفاسقة، امرأة شقراء فارعة القامة لا تفكر إلا في العناق. ومع ذلك، أنت لا تعرفين ما هو طعم النبيذ، ماما. ابتسمت أمي، وسألت، وهي تشير إلى النادلة: تلك البنت، هل ستروح معها أم لا، على حسابي، أقول لك. جاسمين، نادتها، فجاءت. يريد شابان أن... انفجرت جاسمين باكية، وذهبت تجري لتختفي خلف المشرب. لماذا أنتِ قاسية، هكذا، ماما؟ لنذهب من هنا، أمرت أمي بعصبية، أنا لا أطيق دموع البغايا، ونهضت في اللحظة التي أحضرت فيها أوديت طلبها. مشجٍ كل هذا، كموتك من أجل العاهرة الكبيرة! قالت لي ساخرة. رمت لصاحبة البار ورقة كبيرة من النقود، وضربتني على كتفي كي أتبعها، والعجوز الشمطاء تنظر إليها ذاهلة.
ونحن في الطريق، رأينا سيارة محطمة، وجمعًا لا يعد ولا يحصى من الأطفال الذين يلعبون حولها وعليها وفيها. كان طفل يحطم ساعتها الداخلية بحجر، ويفجر أرقامها وعقاربها وزنبركاتها. همهمت أمي: إنه موعد نزهة شنغهاي، وطلبت مني الذهاب لإحضارها، وأنا أقول لنفسي، مع ماما تضاعف عدد صعودي الطوابق الأربعة ونزولها. تجاهلتها، فصاحت: هذه الكلبة أشرف منك! لأن جاسمين لم تشأ النوم معي؟ لأنها بكت، العاهرة التي تبكي أشرف من كل النساء. عند باب العمارة، قالت إنها ستصعد هي لإحضار كلبتها. قلت: سأصعد أنا. أمرت: انتظرني. انتظريني أنت، ماما، سأصعد أنا، رجوتها. سأصعد أنا، يا دين الرب، جدفت أمي غاضبة. ثم وهي في قلب باب العمارة: إذا أمعنت في معاندتي عدت من حيث أتيت! ضغطت على زر المصعد الذي لم يتحرك، رأيتها تصعد كشابة في العشرين، فابتسمت. كانت أمي وحدها. كانت أمًا بالفعل. كانت لبؤة. كنت فخورًا بها. خراء شيفير، همهمت، وأنا أداوم على الابتسام. كم كان رائعًا خراء شيفير! أمي خراء شيفير. كانت محيرة، منفرة، مسعررة، وكنت فخورًا بها. عندما عادت بالكلبة، راحت هذه تنبح عليّ. كل النساء لا تحبك، رمت أمي، قبل أن تضيف: أتمنى أن أكون على خطأ.
نزّهنا شنغهاي في الحديقة، وطوال الوقت لم تنطق أمي بكلمة، لكننا، ونحن في الطابق الأرضي قبل أن نصعد الدرج، أشارت إلى الباب نصف المفتوح للبوابة، وقالت إنهم الوحيدون الذين يحبون بعضهم بصدق، وليس مثلنا، وأنا أنتظر أن توضح. لأنهم ليسوا مثلنا. الشواذ يحبون، يحبون فقط، ولا يعرفون الكره، فهم طبيعيون أكثر من اللازم. ونحن في الطابق الأول، أشارت إلى باب ماري آنج وديابولومنت: هؤلاء هم أكذب البشر. لديهم مائة ألف طفل، ماما، وهم بانتظار توأمين. إنهم أكذب الناس. ونحن في الطابق الثاني، وصلنا صراخ مدام وموسيو برنار، فقالت: هذان سيجدان سلامهما عما قريب. من الطبيعي ذلك، ماما، فلن يبقيا في حرب إلى الأبد. ليس من الطبيعي ذلك، ولكنهما سيجدان سلامهما، أنت من سيجده لهما. أنا؟! أنت أو غيرك. ونحن في الطابق الثالث، وقد أخذ قلبي يدق دقًا عنيفًا، أشارت أمي إلى سالومي التي خرجت مبتسمة على سماع خطواتنا، وقالت: يا ليت كان باستطاعتي أن أحبك كما يحبها أبوها. أعرف أنك تكرهينني، ماما، همهمت. هلا دخلتما لترتاحا، طلبت سالومي إلينا. نعم، نعم، صاح الأب من الداخل، وهو يقذف سهامه في قرص ساعة حائط محطمة، فليدخلا ليرتاحا. كانت شنغهاي قد نطت بين ذراعي سالومي، وراحت تلعقها من ذقنها، وسالومي تتكركر، وتهمهم: حبوبة! حبوبة! أطل الأب بقامته المربوعة، وهتف: هلا تفضلتما؟ قلت: لم يبق سوى طابق. لكن أمي كانت قد استجابت لمطلب أبي سالومي، فنقل هذا الكلبة بين ذراعيه، وراح يداعبها من أثدائها، وهو يقول: حبوبة! حبوبة! والكلبة تهز ذيلها بسعادة. من عادتها ألا تحب الرجال، رمت أمي. هذا صحيح، أكدتُ، إنها تكرهني تمامًا. يجب أن تعرف كيف تداعبها، قال الأب، إنها ككل النساء. ابني لا يعرف كيف يداعب أحدًا، قالت أمي بخشونة، إذا داعب أبكى. ماما! رجوتُ. صحيح ما تقوله أمك؟ سألت سالومي. أنتَ كأبطال المسلسلات؟ أضافت سالومي. فكرت في أنها ستنهار باكية، فسارعت إلى النفي: أبدًا أبدًا. ابتسمت سالومي، وهي تعود إلى السؤال: أبدًا أبدًا أم أبدًا أبدًا؟ أبدًا أبدًا. أنا أشك في ذلك، رمت سالومي، وهي تبتسم، قبل أن تسأل ماما: هل تريدين أن أصنع لك شايًا بالنعنع؟ شايًا بالنعنع؟ أعادت أمي دون رغبة. بالأحرى هو بابا. هز الأب رأسه مشجعًا. وهو يتقنه تمامًا، يتقنه تمامًا كالعرب. كالعرب! صاحت أمي بغضب. أحضري لها بعض العصير، تدخلتُ. ولِمَ لا بعض البوجوليه؟ ناكدتني أمي. ماما! سنشرب كأس بوجوليه إذن، قال الأب. ماما لا تشرب النبيذ، أوضحتُ. ماما تمزح، فقط لا غير. أنا لا أمزح، سنشرب كأس بوجوليه. مارستُ كل الحريات بعد موت أبيك إلا هذا، لقد حان الوقت. ماما! اذهب لتلعب مع سالومي، واتركني ألعب مع أبيها. ماما، أنا ذاهب! وذهبتُ محتجًا، وسالومي تخف من ورائي، بينما أمي تجيب على سؤال أبيها: اسمي كلوديا شيفير. فانفجر الأب ضاحكًا: وأنا إيف سان لوران، قبل أن يضيف: البوجوليه مع سيجارة بالنعنع شيء مهول! فصحت، وأنا على عتبة الباب: ماما لا تدخن. لا تستمع إليه، قالت أمي، فماذا يعني ذلك، ألا أدخن السجائر، ألا أشرب النبيذ؟ في وقتنا، هذا لا يعني شيئًا. في وقتنا، كل شيء لا يعني شيئًا، قال أبو سالومي، في وقتنا كل شيء جائز، كل شيء جائز لأنه لا يعني شيئًا، يكفي أن تستتبع إحساسك، أن تسترجع إنسانيتك.
أنا آسفة! همهمت سالومي من ورائي. لا تأسفي، قلت لها، وأنا أستدير، بينما أواصل الصعود على الدرج إلى الطابق الرابع. توقفتُ، فجأة، وسألتها: ما رأيك في كأس شاي بالنعنع عندي؟ هبت تصعد الدرج لتتعلق على ذراعي، ولندخل معًا شقتي. لم نتوقف عن الضحك خلال تحضير الشاي بالنعنع، ولم نفطن إلى جورج ساند التي ما أن وضعت القدم على الطابق الرابع حتى وصلها ضحكنا. عندما خرجنا بالإبريق والكؤوس والتمر فاجأناها، وهي تتلصص علينا. تظاهرت بأخذ المصعد، وإذا بالمصعد يعمل، وكالصاروخ يصعد بها حتى سقف الطابق الخامس المزجج، ويخترقه قبل أن يتوقف تمامًا. وضعنا، أنا وسالومي، ما نحمله أرضًا، ورحنا نركض صاعدين، وكل الجيران، أمي أولهم، على صوت المصعد خرجوا، وجاءوا ليروا ما وقع. هل كل شيء على ما يرام، مدموزيل جورج ساند؟ صحتُ، وجورج ساند فوق لا تبدي حراكًا. مدموزيل جورج ساند، صاحت سالومي، وعلى عدم ردها، راحت تبكي على كتفي. ماذا حصل لمدموزيل جورج ساند؟ سأل أبو سالومي. إنها لا تجيب، قلت قلقًا. إنها لا تجيب، أعادت سالومي باكية، وهي تترك كتفي إلى كتف أبيها. افعل شيئًا، يا شابان، أمرتني أمي. ما الذي وقع؟ سألت مدام برنار، وهي لم تصل بعد إلى مستوانا. أليس عندكم سلم؟ سألتها أمي، بينما سالومي تنشج على كتف أبيها مرددة: مدموزيل جورج ساند، مدموزيل جورج ساند... عندنا، أجاب موسيو برنار، وعاد ينزل الدرج. لا تبكي، يا حبيبتي، همهم الأب. مدموزيل جورج ساند، مدموزيل جورج ساند... إنها مدموزيل جورج ساند، قال موسيو برنار لماري آنج ولديابولومانت زوجها الذي يساعدها على الصعود بسبب بطنها الضخم، وأنا ذاهب لإحضار سلم. لم يمت أحد إذن؟ سأل ديابولومنت. نحن لا نعرف بعد، قال موسيو برنار، وهو يبتلع الدرجات ثلاثًا ثلاثًا. لا يعرفون بعد إذا ما مات أحد، قال ديابولومنت لزوجته. اتركني، هلا أردت؟ نفرت ماري آنج بزوجها. ولكن، حبيبتي! قلت لك اتركني! ومن تحت، صاحت كليوباترا بزوجيها: يا سيزار، يا أنطونيو، أنا صاعدة! والأطفال الخمسة يتشيطنون من حولها، ويتسلقون فجوة المصعد. يا لأبناء الجن هؤلاء، من أي جهنم جاءوا؟ حضر سيزار، وحضر أنطونيو، وهما في آخر أناقتهما الخنثوية، لكنهما كانا عابسين: سنبقى هنا منتظرين أوامرك، تلعثم زوجا كليوباترا. أخرج أنطونيو سيجارة من عبه، وضعها في فمه، فاختطفها سيزار، ووضعها في فمه، مما اضطر أنطونيو إلى إخراج سيجارة ثانية من عبه، فعود ثقاب حكه بإليته، وبأصابع مرتعشة أشعل السيجارتين. إنها مدموزيل جورج ساند، قال موسيو برنار لكليوباترا، وهو يخرج بالسلم. إنها مدموزيل جورج ساند، صاحت كليوباترا بزوجيها، وهما مضطربان لا يعرفان ما يفعلان، والأطفال لا يتوقفون عن اللعب في فوهة المصعد. ها أنا أجيء بالسلم، هتف موسيو برنار من الطابق الرابع. كفى بكاء، يا حبيبتي، قالت ماري آنج لسالومي التي لا تتوقف عن النشيج بين ذراعيها بعد أن تركت ذراعي أبيها. ثم إلى زوجها: اذهب وأعنه! ما لك مكتوف اليدين هكذا؟ لماذا لم يرفعني أحدكم؟ سألت أمي. ارفعني، يا ولد! ها هم يأتون بالسلم، قال أبو سالومي. وسالومي لا تتوقف عن النشيج والترداد: مدموزيل جورج ساند، مدموزيل جورج ساند... تأخرتَ كثيرًا، قالت مدام برنار لزوجها. وضع موسيو برنار السلم على طرف علبة المصعد، فدفعته أمي تريد الصعود، ودفعتها كليوباترا تريد الصعود، لكن موسيو برنار هو الذي صعد. لم يمت أحد إذن؟ عاد ديابولومنت يسأل، وموسيو برنار في وسط السلم. انفجرت سالومي باكية للمرة الألف، وماري آنج تهدهدها، وتعنف زوجها بعينيها، وهي تقول: لا تبكي، يا حبيبتي! شابان، لماذا لم تصعد أنت، يا دين الرب؟ جدفت أمي. كان عليّ أن أصعد أنا، قال أبو سالومي، فابتسمت له أمي، وشدت على يده. مدموزيل جورج ساند، صاح موسيو برنار، وهو يقفز في علبة المصعد. ماذا، يا برنار؟ صاحت زوجته. لم يمت أحد إذن؟ صاح ديابولومنت، ودموع سالومي تتفجر على خديها. اذهب أنت، نبرت ماري آنج بزوجها، لا تبق هنا! لكنه لم يتحرك من مكانه. سمعنا موسيو برنار يقول دون أن نراه: هناك عش فيه خمسة من صغار الصقور. ومدموزيل جورج ساند؟ سألت مدام برنار بقلق، ثم قالت لي: إنه لا يقول شيئًا، هذا المغفل! ومدموزيل جورج ساند؟ صحتُ. لم يمت أحد إذن؟ همهم ديابولومنت، فهبت به ماري آنج، وطردته، لينزل عدة درجات، ويجلس على إحداها مكلمًا نفسه: لم أقل شيئًا، سألت فقط إذا ما مات أحد. لا تبكي، يا حبيبتي، طلبت ماري آنج إلى سالومي. مدموزيل جورج ساند فتحت عينيها، صاح موسيو برنار بصوت طافح بالحيوية، فقلنا "آه"، ونحن نبتسم لبعضنا. قفزت مدام برنار على عنقي، وقبلتني من خدي، وتركت أمي أبا سالومي يحيط كتفيها بذراعه، بينما راحت سالومي وماري آنج في هديل من الضحك المتواصل. مدموزيل جورج ساند بخير، صاحت كليوباترا بزوجيها من الطابق الخامس، وزوجاها: مدموزيل جورج ساند ماذا؟ بخير. ماذا؟ اسكتوا، يا أولاد! بخير، قلت بخير، مدموزيل جورج ساند بخير. مدموزيل جورج ساند بخير؟ اذهبا إلى الشيطان، أيها الأحمقان، جمجمت كليوباترا. وديابولومنت يهمهم لنفسه: لم يمت أحد إذن. كان تعيسًا. اصعد وساعده، يا شابان، طلبت أمي إليّ، لكن كليوباترا هي التي صعدت. أعطاها موسيو برنار عش صغار الصقور، فخففتُ، إلى الصعود لأتناوله منها، ولأعطيه بدوري لمدام برنار التي أعطته بدورها لماري آنج، وماري آنج تبتسم لصغار الصقور، وتداعبها من أجنحتها المزغبة. عددها خمسة كأبنائي الخمسة، همهمت ماري آنج. انظري، قالت سالومي، هناك بيضتان، وانفجرت كلتاهما ضاحكتين. كتوأميّ، همهمت ماري آنج، وهي تنظر في عيني سالومي. كتوأميك، همهمت سالومي، وهي تضع يدها على بطن ماري آنج، وتضغط ضغطًا خفيفًا. كانتا في منتهى السعادة. على مهلك، مدموزيل جورج ساند، همس موسيو برنار، وهو يساعدها على النزول وكليوباترا. نظرتُ إلى مدام برنار، فوجدتها تنظرُ إليّ. ابتسمنا لبعضنا. شيء ما تبدل فيها. لم تعد العنيفة كأمي، الشرسة، الجهنمية. شيء ما تبدل فيّ. حذار، كليوباترا، طلب موسيو برنار. شيء ما تبدل فيه. ابق أنت، واتركني أفعل، قالت كليوباترا. بقي فوق، وكليوباترا على وشك الانزلاق مع جورج ساند، صاح موسيو برنار لَهِفًا: قلت حذار، كليوباترا. حذار، كليوباترا الشجاعة، قالت أمي. ومن تحت: مدموزيل جورج ساند بخير؟ سأل زوجا كليوباترا. وضعت كليوباترا قدمها على الأرض، فجورج ساند. أخذتنا كليوباترا بالأحضان واحدًا واحدًا، وجورج ساند تنظر إلينا، وتبتسم. بسبب العش، همهمت جورج ساند. سقط على رأسي، فأغمي عليّ. بسبب العش لم يحصل لك أي أذى، قالت أمي، فلولا العش لما وقعتِ، ولاصطدم رأسك بالسقف. وإذا بالسلم يميل، والمصعد يتحرك. موسيو برنار! صاحت جورج ساند. الأولاد، يا سيزار، يا أنطونيو! صاحت كليوباترا بزوجيها اللذين راحا يلتقطان الأولاد من جوف المصعد، ويلقيانهم خارجه لما فجأة فلت المصعد في سقوط مدوخ، فترامت ماري آنج بين ذراعي سالومي على صراخ موسيو برنار المدوي غائبة عن الوعي. انطلقتُ هابطًا الدرج كالسهم إلى الطابق الرابع، وبسرعة البرق، حملت كأسًا من كؤوس شاينا بالنعنع، ورشقت بها حبال المصعد، وإذا بالمصعد يتوقف على بعد نصف متر من أرضه. كان سيزار، بعد أن ألقى بآخر طفل، ينام بطوله من تحته. قفز موسيو برنار من المصعد، بينما سحب أنطونيو الرجل الأسود، وسقط ثلاثتهم في أحضان بعضهم باكين. بكينا كلنا، حتى أمي بكت، وابتسمنا كلنا، ونحن نبكي. لكن المفاجأة كانت عندما جاءت أم الصقور عنيفة بعنف أمي بحثًا عن صغارها، هاجمتنا مثل كتيبة، ولم تهدأ إلا بعد أن علقت ماري آنج العش على نافذتها، وتركت الأم تحنو على صغارها كما تحنو هي على صغارها.

* * *

بعد ذلك الحادث، تبدلنا، وتبدلت أيامنا. لم تعد جورج ساند تذهب إلى العمل، كما كانت تدعي، كانت تبقى في الشقة طوال الوقت بصحبة موسيو برنار، فأسمعها، وهي تكتب رواياتها، وتقرأها بصوت عال يقطعه لهاثها المستعر، بسبب رأس عشيقها الذي غالبًا ما يتركه بين فخذيها. ولم تعد أمي تصعد عندي، أنزلتُ لها حقائبها وكلبتها عند أبي سالومي، ويا كلوديا شيفير، ويا إيف سان لوران، وهذه الكأس، وهذه السيجارة، وما رأيكِ فيّ؟ رأيي فيك؟ رأيكِ فيّ؟ رأيي فيك؟ رأيكِ فيّ كزوج؟ رأيي فيك كزوج؟ كزوج؟ كزوج؟ ليس كما تفكرين، رأيكِ فيّ كزوج؟ رأيي فيكَ كزوج؟ كزوج؟ ولِمَ لا كأب؟ سئمت من كوني أبًا. أنا أيضًا، سئمت من كوني أمًا. تأخذ أمي جرعة نبيذ، وتتك سيجارتها في مَنفضة على شكل قرص الشمس، وتهمهم: رأيي فيكَ كزوج؟ وما الفائدة، ونحن، في النهاية، نتك أعمارنا كما نتك الرماد؟ أما سالومي، فقد "تزوجت" من ماري آنج على الرغم من كل الذين في رؤوسهم الخراء، وأولهم ديابولومنت. راح الأطفال ينادونها "بابا"، وأنا أسعد الناس على سماعهم. كان فيّ من يصرخ: اتركوا الأطفال يختارون آباءهم من بين أمهاتهم وأمهاتهم من بين آبائهم. كانت تلك هي الحرية الفقيدة لولادتنا، وانتهاء عهد الأوصياء على أعمارنا. لم يأخذوا رأينا قبل أن نجيء إلى العالم هذا صحيح، لكننا نفرض رأينا عندما نعود بأعمارنا إلى الوراء، ولا يهم أن نكون أطفالاً، لا يهم أن يكون الأطفال أطفالاً، فالأطفال كبار دون أن نعلم. نظام أسرة الأطهار نظامكم نريد هدمه على رؤوسكم التي ليس فيها غير الخراء. خراء الناكح والمنكوح، منذ آدم إلى اليوم، على نفس الوتيرة، الناكح والمنكوح على نفس الوتيرة، دون لذة أخرى غير لذة الألفة، ومع الوقت، لذة فعل الشيء من أجل الشيء، أي دون لذة. أطفال دون لذة، أطفالكم، وأطفال بلذة، أطفال التبني، أطفال الحرية. وعندما كانت ماري آنج توزع البيض المسلوق على أطفالها لم تكن تنسى أن تضع في منقار كل واحد من صغار الصقور بيضة، وكذلك كانت تفعل بالبطاطا المقلية سالومي، وبحزوز الكلمنتينا، بينما أم الصقور ترقد على بيضتيها، وكلها اطمئنان على نسلها. لولو، قالت لي مدام برنار، وأنا أسألها عن اسمها. لولو، همهمتُ. لولو، أعادت. لولو، أعدت. وأنتَ... وانتظَرَتْ. ما الاسم الذي يعجِبُكِ؟ الاسم الذي يعجبني؟ نعم، الاسم الذي يعجِبُكِ؟ الاسم الذي يعجبني… وانتظَرْتُ. الاسم الذي يعجبني؟ الاسم الذي يعجِبُكِ؟ ماهوميه (محمد بالفرنسية). اتسعت ابتسامتي، وقلت بسعادة لا تصدق: ماهوميه، فليكن. أما ديابولومنت، فلم يغادر الدرج. كان يقضي كل وقته جالسًا هناك، فتعطيه سالومي ما يأكل، وكان يرفض النوم عند كليوباترا، ويفضل النوم في المصعد. كان يقول سيزار له مغريًا: جحيمنا أخضر، فيتدخل أنطونيو: ها أنت تبرهن على أنك من الغابون، ليجيب الرجل الأسود: أنا فرنسي يحب الغابون لا شيء أكثر.
لم أخلص من أرقي، على الرغم من كل شيء. في إحدى الليالي، تركت لولو، وهي تنام نومًا عميقًا، وقلت أذهب إلى الحديقة. كان ديابولومنت لا يعرف النوم مثلي في القفص المعطل، عندما مضيت به حييته، فلم يرد على تحيتي لا بأفضل منها ولا بأعطل. استدرت قبل أن أغادر العمارة، ورأيته يطرق الباب على كليوباترا وزوجيها. تلقفه الرجال الثلاثة كمن يتلقف أحدهم هدية تسقط عليه من السماء، وأدخلوه في جحيمهم الأخضر.
في الحديقة، تبولت كما لم أتبول من قبل، وتنهدت، وتمطيت. نظرت إلى السماء في فراش غيمها، كانت تكشف عن صدرها، وكانت بعض اللآلئ المفروطة حول حلمتيها. ذهبت إلى المقعد الذي من عادتي الجلوس عليه، كان المقعد رطبًا، فأصابتني قشعريرة قوية اهتز كل جسدي لها. فكرت في الشخص الذي يغادر الحديقة ما أن أصلها، وفي اللحظة ذاتها، تحرك أحدهم من بين الشجر المقابل إياي، وما لبث أن راح يعدو. عدوت من ورائه، وأنا أطلب منه التوقف، لكنه داوم على الهرب. في الشارع شبه المعتم، التفت الشخص ليرى إذا ما كنت أتبعه، فعرفت من كان.


الكابوس الثالث
القطب

في نهاية المطاف، هذا القُرَيْدِس الوردي ليس أسود للاحتباس الحراري، قلت لنفسي، وأنا أفحص في ميكروسكوبي هذا النوع النادر من القشريات العشارية الأقدام. لديها الحق، كريستين إكبيرغ. يغدو أسود لأنه يلدغ نفسه عند اصطياده، وهي طريقة في الانتحار قديمة قدم المحيطات لملوك هذه المحيطات، والقُرَيْدِس كان ولم يزل أحد ملوكها. اللون الجليل هذا، لون الموت، سببه السم الذي ينتشر في الجسد الصغير بسرعة لا تصدق. أخذتُ عينة من اللعاب، وبدأت بتحليلها، وتأكدت من استنتاجي. على شاشة الحاسوب اتضح الأمر تمامًا مع عدد من الألوان المتداخلة، تبدأ بالأبيض، وتنتهي بالأسود، عبر سيمفونية من الألوان الشاغفة للبصر. لكن الغريب في الأمر كان الشيء التالي: ما هو السم الزعاف لهذا الحيوان اللذيذ الطعم بين أسناننا لهو الريق الترياق لنا. ابتسمت، وأنا أستعيد طعم قبلة كريستين إكبيرغ على فمي، فإذا بالباب ينفتح، والسويدية الشقراء تدخل كعاصفة قطبية تجتاح كل شيء. الكل يشرب، ويرقص، احتفاء بوداعنا، وموسيو آدم فيرن يغلق عليه باب مختبره، ويواصل فحوصاته، جلجلت كريستين إكبيرغ. سَحَبَت الستارة بعزم، فدخلت شمس قوية أعمتني. كم الساعة، يا حبيبتي؟ سألتُ كريستين إكبيرغ. الحادية عشرة والنصف مساءً، أجابت عالمة الفيزياء. جلست في حضني، وقبلتني. آدم فيرن، هل تحبني؟ ولم تدعني أجيب. عادت تقبلني. آدم فيرن، متى سنتزوج؟ ولم تدعني أجيب. عادت تقبلني. آدم فيرن، هل ستأخذني إلى داركم في النورماندي لنقوم بفعل الحب في الحظيرة بين الخنازير؟ ولم تدعني أجيب. عادت تقبلني. جاء زملاؤنا، وهم يشربون، ويضحكون علينا، فقمنا، وكل منا، أنا وكريستين إكبيرغ، يأخذ قنينة جعة حملتها ماريان لنا، صديقة كريستين إكبيرغ، وذهبنا جميعًا إلى القاعة الكبرى لمحطة البحوث. لم نتوقف عن الرقص والغناء، الطعام والشراب، ولم نسع إلا للانتقام من شمس ليلنا. وكريستين إكبيرغ، بين ذراعيّ، قلت لها: وعن ذلك القُرَيْدِس الأسود، ألا تريدين أن تعرفي؟ أعرف ماذا وأنا أعرف؟ قالت لي. كريستين إكبيرغ، هل كل السويديين مثلك؟ مثلي كيف، ذكائي، جمالي، خرائي، خريناتي؟ خريناتك. خريناتي، لا، فالسويديون كلهم، آخر تربية، آخر حزن، آخر سقم، آه، لن تتصور كم أكرههم. أما أنا... أما أنتَ؟ أما أنا، أقول لكِ... أما أنتَ، تقول لي؟ أما أنا، أقول لكِ، أما أنا... أما أنتَ، تقول لي، خراء، أما أنتَ؟ فأحبهم. فتحبهم. أما أنا فأحبهم. هذا لا يهمني أن تحبهم. لم تسأليني لماذا. أعرف. اسأليني لماذا. قلت لك أعرف. اسأليني لماذا. تقبلني. اسأليني لما... تعود إلى تقبيلي، ثم تقول لي: أحبك أكثر من كل جليد العالم.
على الساعة الرابعة صباحًا، سحبنا الستائر لإدخال الشمس القوية التي لا تحيد عن سمتها في عيوننا، وقد بدأنا ننعس. ترامينا هنا وهناك، ونحن لا نتوقف عن الشرب. فتح أحدهم التلفزيون، فكانت نشرة الأخبار في إحدى القنوات الأمريكية. أخذ المذيع يتكلم كعادته عن الكوارث في العالم، فنهضت كريستين إكبيرغ، وهو يقول: هناك ظاهرة غريبة، الناموس. ظاهرة واحدة، في نيويورك، وفي مونتريال، وفي هلسنكي، وفي موسكو... أقفلت كريستين إكبيرغ التلفزيون، وهي تصيح بنا، تحت تأثير الكحول، كي نعود إلى الرقص، وتعيد إغلاق الستائر بعزم. عادوا إلى الرقص والصراخ، وعدت إلى فتح التلفزيون، وأنا أصغي بانتباه إلى آخر كلمات المذيع حول موضوع ظاهرة الناموس: ...وبعض الإصابات كانت قاتلة، خمس في نيويورك، اثنتان في مونتريال، إصابة واحدة في كل من هلسنكي وموسكو. أما الآن، فإليكم النشرة الجوية: سيكون الجو غائمًا في الغرب من الولايات المتحدة، والحرارة معتدلة، وهناك بعض الريا... أقفلت التلفزيون، وأنا أفكر في الناموس القاتل. سقطت الساحرة السويدية عليّ ككومة ثلج من أعالي شجرة صَنوبر، جرتني بين الراقصين، وراحت بي عناقًا، ثم أبعدتنا كلنا، وراحت ترقص وحدها، وهي ترفع ثوبها عن فخذيها الربانيتين، وتهز ثدييها المجمدين للحياة في العروق كما تجمد شمس القطب كل حياة. وعلى حين غرة، ألقت بجسدها على الطاولة فوق بقايا الأكل والقناني والصحون الفارغة، وذهبت في نوم عميق. حملناها إلى سريرها، وحملنا أنفسنا إلى أسرّتنا، والشمس تتراقص في حجرنا، ومن شدة الثمل والعياء، نام بعضنا في قلب الضوء دون إغلاق الستائر.

* * *

نقلتُ مع بعض الزملاء حقائبنا إلى خارج محطة البحوث، فجاء كلاب الزلاجات لوداعنا، أنا وكريستين إكبيرغ. هذا الصغير السن هو أجملهم، قالت عالمة الفيزياء، وهي تضمه إلى صدرها، وتقبله، والهوسكي السيبيري الكبير الحجم يبكي. توقف عن البكاء، فيكنغ، رجته الشقراء السويدية، أنا لست أمك، توقف عن البكاء قلت. وَصَلَنا هدير الهيلوكبتر، وما لبثت الطائرة المروحية أن برزت، وحاول قبطانها الهبوط أقرب ما يكون منا. فيكنغ، سأتركك الآن، قالت كريستين إكبيرغ للكلب الأبيض، كن عاقلاً. حملت الكاميرا المعلقة على صدرها مع عقود كثيرة من عقود الإسكيمو، وصورته، هو والكلاب الآخرين، بينما الهوسكي السيبيري ينوح نوحًا خفيضًا مديدًا لكنه عميق وحزين. خرج كل الذين كانوا يعملون معنا، احتضننا بعضهم، وبعضهم الآخر اكتفى بالابتسام، وتحريك اليد. صورونا بكاميرات هواتفهم المحمولة، وصورناهم. هذه أجمل صورة لكِ، كريستين إكبيرغ، قال أحدهم، وهو يواصل تصوير الشقراء السويدية الفاتنة. ارسلها لأمك، قالت عالمة الفيزياء ممازحة. ابْتَسِمْ، آدم فيرن، صاح أحدهم. توقفتُ عن التصوير بهاتفي المحمول، وابتسمتُ كالأحمق على ما يبدو، لأن كل من كان هناك انفجر ضاحكًا. صورتني كريستين إكبيرغ، وأنا أبتسم، والبخار المتصاعد من فمي وأنفي يضاعف من لطم وجنتيّ بالبرد، وصورتني ماريان، صديقة كريستين إكبيرغ، وصوروني كلهم. هكذا، هكذا، كانوا يرددون، وهم يتكركرون. كفى يا أولاد، قلت في الأخير، وأنا أشد كريستين إكبيرغ من ذراعها، وأركض بها لنتسلق الهيلوكبتر. ونحن في الهيلوكبتر، رفعنا لهم أيادينا، فركض بعضهم تحت دوامات الثلج، وبقي بعضهم يحرك لنا يده مودعًا، ويواصل تصويرنا، ونحن نصور الجميع من فوق، أو نحرك يدنا، ونراهم أصغر فأصغر حتى غابوا عن بصرنا.
لم نلبث أن توغلنا في سماء من البلور الأزرق، سماء أقرب ما يكون إلى أصابعنا، وتحتنا، في امتداد لا نهاية له، أرضٌ من الجحيم الأبيض. التساوق لهب هذا الجحيم، والبريق سجع الأبدية. كنا نحلق كالمعلقين بجناحين ثابتين، جناحي صقر خيالي، فالأبيض يظل أبيض مهما ابتعدنا، إنه أبيض الأرواح السعيدة. كانت على وجه كريستين إكبيرغ الأبيض ابتسامة السعداء الأبديين، كانت تبتسم من كل وجهها، وهي تبدو غائبة في حلم أبيض، مهول لشدة بياضه، حلم السعداء السرمديين. أمسكَتْ يدي، ووجهها يتفجر فجأة، على مرأى قطيع من الرنّات، أشار القبطان إليه، وعمل دورة فوقه، مما جعل تلك الأيّليّات الخوّافات ككل سكان الجحيم تجري في كل صوب بين أشجار قصيرة تناثرت لآلئ الثلج عنها مع عبورها. صورتها كريستين إكبيرغ، وهي تنتفض من شدة الجزل، ففكرت في ستوكهولم التي لم أزرها في حياتي مرة واحدة. كنت أحب ستوكهولم قبل حبي للعالمة السويدية، وأحلم بالنزول في أحد فنادقها، والتمشي في شوارعها، والنظر إلى الوجوه الربانية التي هي وجوه الناس هناك، وكنت أفكر في العناق مع سويدية جهنمية البياض، ونحن ننزلق عاريين، من كثيب إلى آخر، في صحراء جهنمية البرد، كل شيء فيها شهوة متقدة. التفت إلى كريستين، وهي تصور آخر رنّات القطيع، لكن أحد الدببة البيض لفت انتباهي إليه، ومن ورائه كان دبٌ طفلٌ يتبعه. نقرتُ على كتفها بإصبعي، وأشرت إلى الأم وابنها، فتحولت ابتسامة كريستين إكبيرغ من لؤلؤ إلى لؤلؤ، وأنا أقول لنفسي: في الجحيم الأبيض كل شيء يتشابه، لكنه يتشابه بطريقة أخرى. راحت الأم الدب تجري فجأة من وراء أرنب قطبي تمكن من الهرب والاختفاء في جحر، وعبثًا حاول الشيطان الأبيض هدمه أو اقتحامه. لم تتوقف كريستين إكبيرغ عن أخذ الصور، فأشار القبطان إلى الناحية الأخرى، ورأينا قطيعًا من ثيران المِسك التي بدت وكأنها تهرب مما يطاردها. أقلقنا الأمر، وكريستين إكبيرغ لا تتوقف عن أخذ الصور. عندما رأينا بعض الثعالب ذات الفراء المشتعل بالأبيض تركض من ورائها، عادت الابتسامة إلى ثغر الشقراء الساحرة، وعادت إلى نفسي الرغبة في زيارة ستوكهولم. في مدينة الحب والجليد لا تتحقق كل أمانيك، فتكتفي بالنظر إلى وجوه الناس لتكون سعيدًا. كنا قد بدأنا نترك اليابسة على منظر بعض الأبوام العُقابية، كانت لبياضها لا تُرى إلا من عيونها التي ينعكس فيها الذهب الأزرق والليل الأبيض. لم يكن الشاطئ القطبي في الصيف أشبه بالشاطئ اللازوردي عندنا، كان الجليد يتحطم هنا وهناك كفوهات النيران المتجمدة لما فجأة رأينا عددًا لا يعد ولا يحصى من كائنات البحر الميتة، من بينها القُرَيْدِس الأسود. أخذت كريستين إكبيرغ تصورها، وعلى وجهها تبدو أمارات الذهول. القُرَيْدِس أسود ليس لأنه انتحر بسبب صيد الإنسان له، صحت في أذن كريستين إكبيرغ لتسمعني، وضجيج الطائرة المروحية أمر لا يصدق. بالطبع لا، أكدت عالمة الفيزياء، وقد اختفت ابتسامتها تمامًا، بسبب شعوره بالخطر. اجتاح وجهها القلق، فتركت آلة تصويرها تسقط على صدرها، ولم تهتم للقبطان، وهو يشير إلى قطيع من الفقمات "البيبي" البيضاء المتكاسلة هنا وهناك، بقيت صامتة حتى بانت الغواصة الزجاجية، غواصة البحوث الأولى من نوعها، كسمك القرش ترسو هناك بانتظارنا.
دار بنا القبطان بطائرته المروحية من حول الغواصة التحفة عدة مرات، فعادت الحيوية تطفح من وجه كريستين إكبيرغ. أخذت تصور الغواصة من كل نواحيها، وهي تنتفض من شدة الجزل، فالغواصة كانت انسيابية الشكل، ذات طوابق خمسة، أعرضها فوق، وأضيقها تحت، وظهرها مفلطح كالجناح الظهري لسمك القرش. أنزلنا القبطان قرب بابها السفلي، فإذا بالباب ينفتح، ويخرج منه عدد من البحارة. تركناهم ينزلون حقائبنا، ودخلنا بعد أن قلنا للقبطان الوداع. أخذنا المصعد مع مضيفة في كامل أناقتها وجمالها، وفي الطابق الخامس تركتنا في صالون ضيق لكنه باذخ بمحتوياته. خلعنا ثيابنا الثقيلة، ورحنا ننظر من الجدران الزجاجية إلى المحيط المتحطم بجليده، وكريستين إكبيرغ لا تتوقف عن التصوير. فجأة، إذا بباب الصالون الضيق ينفتح، ليظهر سام هوارد، عالم الجيولوجيا الأمريكي المعروف. الآن ونحن الثلاثة معًا لن يصمد من أمامنا لغز واحد، هتف سام هوارد، وهو يسلم علينا. كريستين إكبيرغ، عالمة الفيزياء الكبيرة، حسنها يسبق صيتها، أضاف عالم الجيولوجيا، والشقراء السويدية تضحك للإطراء بزهو واغتباط. أما آدم فيرن، عالم الأحياء الكبير، فهو غني عن التعريف. سبق والتقينا منذ عدة سنوات، قلتُ. في أوسلو، قال سام هوارد، أذكر ذلك، في المؤتمر حول الاحتباس الحراري. كلمتك المروعة عن الغازات الدفيئة لم تزل أصداؤها ترن رنين ناقوس الخطر في أذني، لم يكن هذا رأي كريستين إكبيرغ. لم يكن هذا رأيي، قالت العالمة السويدية. وهل ما تزالين عند رأيك؟ لم أزل، ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض وانخفاضها ما هما إلا لدورات طبيعية. تدخلتُ: المشكل ليس أن يكون طبيعيًا أو اصطناعيًا، المشكل ليس هنا الآن، المشكل كيف نواجه الاحتباس الحراري في كلتا الحالتين. هذا صحيح، همهم العالم الأمريكي. المواجهة نعم، ولكن كيف المواجهة دون معرفة الأسباب؟ ألقت عالمة الفيزياء. هذا بالضبط ما نسعى إليه كلنا، وأنا لهذا، عالم الجيولوجيا، أردت معكما، أن أعرف الأسباب، أسباب الكوارث القادمة، كوارث إن لم نعرف أسبابها، التهمت كوكبنا كما تلتهم النار الهشيم. لنشرب نخب وصولكما، قال سام هوارد، وهو يصب بعض الكونياك في كؤوس ثلاث. قدم لكل منا كأسًا، واحتفظ بواحدة، ثم هتف، وهو يرفع كأسه عاليًا: بصحة أعظم مغامرين على وجه الأرض. دق كأسه بكأسينا، ودفعة واحدة، قذفنا ما تحويه في حلوقنا المرمرية، وابتسمنا لبعضنا ابتسامة متراوحة بين اليقين وعدم اليقين. وكأن العالم الأمريكي لاحظ ذلك، وضع كأسه، وقال، بصوت رنان، وهو يشير بيديه إلى عالم الغواصة الذي نحن فيه: هذا المكان ليس فقط جوهرة علمية ولكن أيضًا جوهرة تقنية لا مثيل لها. وضعت كأسي، ووضعت كريستين إكبيرغ كأسها. حملَتْ آلة تصويرها، وجعلها تجتاز أمامه، وكذلك أنا. خرجنا من الصالون لندخل مباشرة في قاعة مليئة بالأجهزة الإلكترونية وبعدد لا بأس به من التقنيين والمحللين الذين وقفوا لتحيتنا. هنا عقل الغواصة التحتية الخامسة، أوضح سام هوارد. الغواصة التحتية الخامسة؟ استوضحتُ. ابتسم العالم الجيولوجي: نعم، هذا ذنبي، كان من الجدير بي أن أبدأ بشرح تركيب البيت الزجاجي الذي نحن فيه. آدم فيرن، انظر، قالت كريستين إكبيرغ، وهي تشير بإصبعها إلى لقطة لمحطة البحوث التي كنا نعمل فيها على شاشة أحد الحاسوبات، وفجأة، انبثق فيكنغ، الهوسكي السيبيرى، كلب العالمة السويدية المفضل، وراح يركض بشكل غير عادي، كأنه يهرب من شيء كنا نجهل ما هو، ولكن ما لبثت لقطة أخرى أن حلت محلها. هذا لأن لنا قمرنا الصناعي الخاص بنا، قال العالم الأمريكي، وهو يغطي كل قطب الشمال. ما به فيكنغ؟ همست كريستين إكبيرغ في أذني مشغولة البال، بينما سام هوارد يتابع: إذن هذه الغواصة لهي في الواقع خمس غواصات متراكبة، كل منها غواصة تحتية، ومن هنا الطوابق الخمسة، كل طابق عبارة عن غواصة لصق أخرى، وهي لحجمها الأصغر فأصغر يمكنها الغوص، كل واحدة على حدة، إلى المدى الذي يسمح به ضغط الماء حتى قعر لم يكن يدرَكُ من قبل. لم يكن من الممكن إرسال قَمْرية كما هو متبع، للكتلة اللجية الهائلة، إلا بهذه الطريقة، فالخطر طبيعي، كما تقول كريستين إكبيرغ، ولكنه ليس فقط دوري حسبما أعتقد كعالم جيولوجي، الخطر محدق بنا من فوق ومن تحت، من أعماق السماء، ومن أعماق البحار.
دفعنا من أمامه، وكريستين إكبيرغ تهمس في أذني: فيكنغ، لماذا كان يهرب هكذا؟ وممن؟ هنا على الجانبين، أوضح سام هوارد، حجرات النوم والمخازن والمحركات، وهنا... فتح بابًا بالضغط على زر، الطاقم البحري. حيانا الربان ومساعداه، وتأملنا المحتوى المعقد لحجرة القيادة لثوان، والعالم الأمريكي يواصل إيضاحاته: هذا ما لكل غواصة تحتية على التقريب، بغض النظر عن الحجم. ونحن في الممر، تقدمت المضيفة منا، فأوقفها سام هوارد: لا، يا تينا، سنأخذ الدرج اللولبي. الحقي بنا في الطابق الرابع. نزل قبلنا، وكريستين إكبيرغ تهمس في أذني: وباقي الزملاء، لماذا لم نر أي أثر لهم؟ ماذا؟ رفع سام هوارد صوته. أتكلم مع آدم فيرن، قالت العالمة السويدية. نحن هنا في الطابق الرابع، قال العالم الجيولوجي، ونحن نترك آخر درجة، ونجد أنفسنا، مثل فوق، في ممر دخلنا منه إلى صالون أصغر مما هو عليه في الطابق العلوي، ثم إلى قاعة بحوث أصغر كذلك من قاعة بحوث الطابق الخامس، وبالتالي أقل عددًا فيما يتعلق بمحلليها وتقنييها، ثم إلى ممر داخلي تحيطه حجرات النوم والمخازن والمحركات، فمقصورة القيادة. عند باب مصعد الطابق الرابع، أوضح: الآن وقد عرفتما النظام الآلي، سننزل مباشرة إلى الطابق الأول، إلى الغواصة التحتية الأولى، الأهم. أغلقت المضيفة باب المصعد، وضغطت على زر راح يومض أحمر الضوء حتى وصلنا، وإذا بنا في مقصورة القيادة مع الربان ومساعده، وإذا من حولنا أجهزة إلكترونية لا تعد ولا تحصى. هذه الغواصة الصغرى "غواصتنا"، ألقى سام هوارد، وهو يضحك. سنطل منها على عالم ما تحت محيط الشمال لأول مرة في تاريخ البشرية، وسنكتب أسماءنا إلى جانب إيريك لو روج وهنري هدسون وفريديريك كوك. لم تكن كريستين إكبيرغ تستمع إليه، وصلت آلة تصويرها بأقرب حاسوب، وراحت تفحص الصور التي أخذتها حتى وقعت على فيكنغ، كلبها المفضل. إنه يبكي على فراقي، همهمت العالمة السويدية، لكن ليس هناك ما يخيفه. قلت لسام هوارد: ونحن فوق، نقل قمركم الصناعي لقطة لفيكنغ هاربًا مما يهدده. فيكنغ؟ الهوسكي السيبيري، كلب كريستين إكبيرغ المفضل. انظر، آدم فيرن، طلبت إليّ العالمة الشقراء جهمة الهيئة. ثيران المِسك هنا، أضافت، وهي تشير إلى قطيع ثيران المِسك الذي شاهدناه يركض ركض المجنون من الطائرة المروحية، تهرب، ليس من هذه الثعالب القطبية كما ظننا، فالحيوانات الصغيرة هذه تهرب بدورها. همهمتُ: لست متأكدًا من أنها تهرب. بلى، همهم سام هوارد، أخشى أنها تهرب. ولكن مم؟ ممن؟ همهمت كريستين إكبيرغ، ولا شيء من ورائها غير الجليد. لمس العالم الجيولوجي شاشة الحاسوب، وكبر الصورة بإصبعه أكبر ما يكون. لا شيء، عادت عالمة الفيزياء إلى الهمهمة. هل من الممكن تكبير الصورة أكثر؟ سأل سيد الغواصة الزجاجية الربان، فنهض مساعده، وهو يقول: من الممكن. وبعد عدة محاولات مع الأزرار، إذا بالفضاء يتسع، ويتسع، وإذا بخرطوم ناموسة يتضح، ولا يبين باقي جسدها، فاللقطة كان هذا كل حدودها. آه، يا إلهي! همهم سام هوارد، لم أكن أتوقع أن يرتفع تسخين المناخ بهذه السرعة وإلى هذه الدرجة. هل تعني أنه الناموس الألفي؟ سألت كريستين إكبيرغ مترددة، فأكمل العالم الجيولوجي: وقد تحرر لذوبان الجليد الذي كان يطوقه منذ آلاف السنين. إذا كان الأمر كذلك، همهمتُ، فالكارثة كونية. فرزت كريستين إكبيرغ صورها، وملأت الشاشة بالقُرَيْدِس الأسود المنتحر وباقي السمك الميت. هذا المشكل أمر آخر مختلف تمامًا، أوضح عالم الجيولوجيا. هذا الموت السمكي ليس سببه قرص الناموس وإنما انبعاث الغازات من جوف الماء. تدخلتُ: المحيط الشمالي خال من البراكين الجوفية. هذا رأي من بين آراء، سنقف على صحته من عدمها غدًا بعد غطسنا للمرة الأولى في تاريخ البشرية حتى العمق اللجيّ كما سبق لي وقلت، وخشيتي كبيرة أن يكون كل ما أتوقع صحيحًا، همهم سام هوارد، وهو يزم الصورة بإصبعه على بعض الأسماك الميتة: القاروس والدوراد سمكتان تحتملان برودة الماء الشديدة، وهما لهذا من أسماك المحيط الشمالي القريبة من سطحه، أما الأَبْرَميس والأَنْقَليس، فهما من سكان الماء الدافئ، ماء أعماق المحيط، الماء الحلو، فللمحيط الجليدي طبقات من الماء المالح والماء الحلو. تدخلت عالمة الفيزياء: هذا شيء أسمعه لأول مرة، طبقات من الماء المالح والماء الحلو، ولكن ليس هذا ما هو هام في حالتنا. همهمتُ: إذا كانت أسماك سطح محيط الشمال تموت كما تموت أسماك أعماقه هذا يعني أن الغازات القاتلة قد وصلت إليها، وأن هناك براكين جوفية بالفعل، وهي قد بدأت تنفث سمومها قبل أن تثور. همهم سام هوارد: سنتأكد من كل هذا غدًا، الآن اصعدا، وارتاحا، وعندي مفاجأة صغيرة لكما في المساء.
تَرَكَنا سيد الغواصة الزجاجية نصعد إلى الطابق الخامس مع المضيفة وحدنا، دلت كل واحد على قمرته، وذهبت، وهي تتألق أناقة وجمالاً. اتصلت كريستين إكبيرغ بمحطة البحوث، واطمأنت على فيكنغ، حتى أن ماريان، صديقتها، أرسلت لها صورته، وهو يتشيطن، ويلعب بدمية، ويكاد يمزقها. وجدنا في الخزانة بِزَّة بقلنسوة وقناع أكسجين كُتب عليها: ارتدها عند أول خطر. هذا ما ليس بالجميل، آدم فيرن، همهمت الساحرة السويدية. حقًا ما تقولين، أجبت، وأنا أفرغ حقائبي. احتضنتني من ظهري، وشدتني بقوة، وبقيت هكذا دون أن تتحرك. ماذا، يا حبيبتي؟ هذا ما ليس بالجميل. استدرت، وهي لم تزل تشدني بقوة، وقلت: إذا ما انفجر بركان في أعماق المحيط الجليدي، غدا الاحتباس الحراري طبيعي أم اصطناعي لا شيء، لا شيء على الإطلاق، ستذوب الجبال البيضاء، وستتحرر كل الحشرات كل الفيروسات كل الطفيليات، ولن يكون الناموس القاتل للبشر العدو الوحيد، ستجتاح الكون أمراض لم تعرفها البشرية من قبل، وسيغدو كل شيء حتى هذا الرداء الحصين أمرًا هشًا لا فائدة منه. دفنت وجهها في صدري، وهي تهمهم: أنا خائفة، آدم، أنا خائفة، يا حبيبي. جذبتني إلى السرير الضيق، ونامت بين ذراعيّ، وأنا أحس بها، وهي ترتعش.
في المساء الأبيض، التقينا وسام هوارد، في الصالون، من حول طاولة عشاء عليها شتى أنواع الأطعمة الشهية. لا، ليست هذه مفاجأتي لكما، قال العالم الجيولوجي مبتسمًا. تقول ليست هذه مفاجأتك لنا؟ همهمت كريستين إكبيرغ مأخوذة، منذ عيد الميلاد الأخير الذي قضيته مع عائلتي في ستوكهولم، منذ ثلاث سنين، لم أشاهد مائدة بكل هذه الألوان وكل هذه الروائح. حذار، كريستين إكبيرغ، قال سام هوارد، وهو يهز إصبعًا منبهة. لماذا؟ ليس لأن ثلاث حالات من الدزنتاريا استطعنا أن نحصيها بين طاقم الغواصة الزجاجية إلى حد الآن. ثلاث حالات من الدزنتاريا، هتفتُ. اطمئن، كل طعامنا معلبات، ونحن لا طباخ لدينا، طباخنا هو الفرن الميكروموجات. إذن حذار لماذا، سام هوارد؟ طلبت عالمة الفيزياء. لئلا تسمني، ألقى سام هوارد، وهو يقهقه، ونحن نقهقه معه. الحقيقة أن المرأة البدينة في القطب نعمة من النعم، وكل البرد الموجود في الخارج. تريد القول المكتنزة، صححت كريستين إكبيرغ، المرأة المكتنزة، في حالتي على الأقل. نعم، المكتنزة، همهم العالم الأمريكي، وهو يكاد يأكلها بعينيه، مما اضطرني إلى التدخل: وتلك المفاجأة؟
ذهب سام هوارد إلى رف الكتب، حمل مجموعة منها، فبان زر ضغط عليه، وإذا بسقف الصالون يتحرك، وإذا بمجموعة لا تعد ولا تحصى من الأسماك وشتى أنواع المائيات في حوض فوقنا. ذهلنا من المنظر، وكريستين إكبيرغ من المفاجأة لا تستطيع إطلاق ضحكتها كاملة. راحت تطلق ضحكة على دفعات، وهي تنتقل من مكان إلى آخر في الصالون رافعة رأسها إلى أعلى، وهي ترفع يدها دون شعور منها تريد الإمساك بهذه السمكة الذهبية أو تلك السمكة الفضية. إذا كانت مفاجأة، همهمتُ، فهي حقًا مفاجأة. إنها عِلِّيَّتي! ألقى سيد الغواصة الزجاجية مزهوًا، قبل أن يضيف: هكذا تصبح هذه الغواصة العجيبة سفينة نوح المعاصرة في حال ما كانت الكارثة كونية، تصبح الكون.

* * *

غاصت الجوهرة الزجاجية كقصر من الضوء، ونحن نتابع حركتها من الطابق الأول عبر الكاميرات وآلات التصوير الخارجية على شاشات الحاسوبات. كانت الصور واحدة في الطوابق الخمسة التي هي، في الواقع، غواصات خمس، ستنفصل الواحدة عن الأخرى حسب طبقات الماء بين مالح وحلو. وكان التقنيون والمحللون يعكفون على دراسة المعلومات التي تجنيها الآلات الإلكترونية الخارجية، كالحرارة، والضوء، والأكسجين، والهيدروجين، والبعد، والعمق، والأسماك، والغازات، والطحالب، وكل عالم ما تحت المحيط القطبي. لاحظنا وجود الدوراد بكثرة في المنطقة الباردة القريبة من السطح، فقسنا حجمه، وأخذنا وزنه، وحللنا لونه، وداعبته كريستين إكبيرغ، وهي تلصق وجهها على الزجاج. أنت الكبيرة حلوة كماما، همهمت كريستين إكبيرغ. أليست حلوة تلك الكبيرة، آدم فيرن؟ رفعت رأسي عن شاشة الحاسوب، وابتسمت لها. حلوة كماما، عادت العالمة السويدية إلى الهمهمة. أحضر أحد البحارة سمكة فضية التقطتها الأيدي الآلية للتحليل الحيوي والتحليل الفيزيائي، فعكفنا أنا وكريستين إكبيرغ على ذلك. وفي الأخير، ابتسمت عالمة الفيزياء: ماما بصحة جيدة، قالت قبل أن تضيف: مع الأسف لا يوجد طباخ لنأكلها. قلت: أنت لا تحبين السوشي، فقالت: أنا أحبك، وقبلتني قبلة خفيفة. قال سام هوارد: أرجو أن يكون هذا حال باقي الأسماك. وما أن نطق بهذه الكلمات حتى توقفت الغواصة الزجاجية، ومعها كل الحركة الإلكترونية من حولنا. انحنى العالم الجيولوجي على شاشة الحاسوب ليقرأ: المستوى الفاصل بين كتلتي الماء المالح والماء الحلو. رأينا على شاشة الفيديو كيف انفصل الطابق الخامس عن باقي الطوابق، وظهر لنا ظهر الطابق الرابع بجناحه المفلطح تمامًا كظهر الطابق الخامس. لتسهيل الانسياب، همهم سام هوارد، ولتحمل الثقل الطام للماء، والحجم الأصغر لهذا السبب أيضًا. في عالم الماء الحلو، انتشر الأَبْرَميس بشكل لافت للنظر. أنا لا أحب هذا النوع من الأسماك، همهمت كريستين إكبيرغ. لأنه كثير الحسك، قلت. لا أقصد أكله وإنما شكله. صحيح، ليس جميلاً، الأَبْرَميس، لأنه مستطيل ربما. ربما، همهمت العالمة الشقراء، وهي تنشغل بقراءة التقارير عنه. قمنا بتحليله حيويًا وعضويًا، والجوهرة الزجاجية تغطس بنا أكثر فأكثر في عالم المجهول.
ومرة ثانية، توقفت الغواصة الزجاجية في المستوى الفاصل بين الماء الحلو والماء المالح، تركنا فوقنا الطابق الرابع، وتوغلنا في أعماق المحيط الجليدي. بدأت الأضواء تذوي، والصمت الثقيل يتنامى. تخيل لنا أن القاروس المسيطر على الفضاء هنا أقرب في لونه إلى الفضي الأسود، فاحتارت كريستين إكبيرغ. هذا بسبب دفء الماء، همهمتُ. لماذا لم تقل بسبب سخونة الماء، آدم فيرن؟ نبرت العالمة السويدية، أنت تخريني بالفعل. نعم، بسبب سخونة الماء، همهم سام هوارد، وهو يفحص على شاشة الحاسوب درجة الحرارة. كم المعدل العادي، سألت كريستين إكبيرغ. سبع درجات فوق الصفر. والمعدل الحالي؟ عشر درجات فوق الصفر. هذا كثير، ألقت السويدية الشقراء، وهي ترفع شعرها بيد عصبية. هذا كثير بالفعل، قلت. ليس بالكثير كثيرًا، قال العالم الأمريكي. كلامك مرعب، سام هوارد، همهمت كريستين إكبيرغ. أعرف. إذا كان المعدل هنا عشر درجات فوق الصفر، فكم هو في العمق اللجيّ؟ بقينا صامتين، ننظر من حولنا، ونحن نغوص شيئًا فشيئًا في أعماق الماء وفي أعماق أفكارنا. قطع البحار علينا صمتنا، وهو يحضر لنا قاروسًا التقطته كريستين إكبيرغ بسرعة لم تدهشنا، وبدأت تحاليلها. كانت في البداية عابسة ومهمومة، وقليلاً قليلاً أخذ يعود إلى وجهها إشراقه الاسكندنافي. هل سنقوم بفعل الحب مع الخنازير في بيتكم النورمانديّ؟ سمعتها تهمس في أذني ولما أنتهي بعد من تحليل دم ولعاب الكائن البحري. كل شيء على ما يرام، كريستين إكبيرغ؟ همست في أذنها. لم تجبني. سنقوم. سنقوم بماذا؟ بفعل الحب مع الخنازير في بيتنا النورمانديّ. عدني. أعدك. كل شيء على ما يرام، قالت، وهي تبتعد عن أدوات الفحص، وأنت؟ كل شيء على ما يرام، كريستين إكبيرغ؟ سأل سام هوارد. كل شيء على ما يرام، سام هوارد. أنا أيضًا، همهمتُ، كل شيء على ما يرام. البيئة هي السبب، وليسj الحرارة، أوضح العالم الجيولوجي.
توقفنا للمرة الثالثة لنترك الطابق الثالث فوقنا، ودخلنا في أجواء نصف معتمة. لم يكن من الصعب كثيرًا علينا ملاحقة الأَنْقَليس الزالق بجسده الثعباني من حولنا، كنا نفضل ألا نشعل الكشافات الوهاجة لئلا نفزعه، وعلى أي حال، كانت الصور التي تصلنا واضحة تمام الوضوح بسبب علو تقنية أدواتنا. لم نلاحظ ما هو غير عادي في هذا الكائن البحري على الرغم من ارتفاع الحرارة خمس درجات أكثر مما كانت عليه فوق. توقفنا للمرة الرابعة، ووجدنا أنفسنا، ونحن في الطابق الأخير، نغوص وحدنا في الأعماق الدامسة التي اضطرتنا إلى إشعال الكشافات الوهاجة دون أن نقع على أية حياة. أخذنا نغوص رويدًا رويدًا، بينما يبين لنا رويدًا رويدًا قعر المحيط الجليدي تحت حرارة مضاعفة: ثلاثون درجة فوق الصفر، وكل هذا اللون الأصفر الغازي لكل شيء، للرمل، للشجر، للطحالب، للصخر، للمرجان، لكل شيء، لكل شيء. نحن في قعر الجحيم، همهمت كريستين إكبيرغ، وهي تقبض على ذراعي، وأنا أحس بأظافرها في لحمي. لم ينتبه سام هوارد لِما فاهت به العالمة السويدية، ولم يشعر بما تحمله كلماتها من هول. كان يعكف على دراسة التقارير، وينتقل من هذا الحاسوب إلى ذاك، بينما غواصتنا التحتية تنزلق بجسدها الانسيابي انزلاق عقرب الماء وعقرب الوقت، هذا إذا كان هناك وقت يقاس في ذلك المكان الأبعد من أعماق القطب.
آدم فيرن، انظر، هتفت كريستين إكبيرغ، وهي تمد إصبعها باتجاه قافلة من أسماك الدوراد المصفر المزدوج الرأس. هب سام هوارد واقفًا، وطلب من الربان تسليط الضوء على المكان الذي أشارت إليه عالمة الفيزياء. يا إلهي! همهمت كريستين إكبيرغ، والأسماك المشوهة تهرب في كل الاتجاهات من قوة الإشعاع. في الجهة الأخرى، وقعنا على قافلة من أسماك الأَبْرَميس المصفر المزدوج الجسم، فدفنت كريستين إكبيرغ وجهها في كتفي، وهي لا تستطيع التحكم بلهاثها. اذهب إلى ناحية اليسار، طلب سام هوارد من الربان، نعم، ناحية اليسار، أكثر، أكثر، ناحية اليسار قلت، هكذا، توقف. رأينا تحت الأضواء الوهاجة غازًا يتسرب وفقاعات تتبقبق. وفي الحال، ظهرت التقارير على شاشات الحاسوبات، فسقط ثلاثتنا عليها لقراءتها: ثاني أكسيد الكربون، ثاني أكسيد الكبريت، سولفور الهيدروجين... بعد عدة ثوان، أطلق سام هوارد نفسًا ضائقًا، وهو يلقي بنفسه في مقعد. انتظرنا أن يقول شيئًا، لكنه لم يفه بكلمة واحدة. كل هذه الغازات بركانية، سام هوارد، قلت بكل يأس العالم. لم يعم تسربها بعد، سام هوارد، قالت كريستين إكبيرغ بكل استسلام العالم. سام هوارد، صاح الربان، وهو يشير إلى قوافل الأسماك المشوهة، الأسماك من كل نوع، في الفضاء الذي اخترقه، فهببنا ننظر، بينما عادت كريستين إكبيرغ تقبض على ذراعي، وتغرز أظافرها في لحمي، وتتأوه متمتمة: يا إلهي! يا إلهي! لم يعم تسرب هذه الغازات بعد، أوضح سام هوارد، لأن هذه الكائنات البحرية استطاعت ابتلاعها، فحمت البشرية من كارثة أكيدة. لن تقدر على ابتلاع أكثر مما ابتلعت، وهذا هو وضعها المشوه، ألقت كريستين إكبيرغ. هذا صحيح، أكد العالم الأمريكي. وإذا ما تفجر البركان فجأة؟ ألقيت كي أضاعف من يأسي. عاد سام هوارد يدرس التقارير، وقال: لن يتفجر البركان قبل وقت بعيد، لكن... لكن كل هذه الغازات، قاطعته كريستين إكبيرغ، ستتسرب إلى كل طبقات الماء، وتعمل على ارتفاع حراري لا مثيل له في القطب يؤدي إلى ذوبان الجليد دونما حاجة إلى بركان أو غيره. هذا صحيح، أكد العالم الأمريكي. سام هوارد، عاد الربان يصيح. نظرنا إلى حيث يشير الربان، فرأينا بعين الدهشة وعين الحيرة أبا مريئة، السمك النهم المدعو "شِيق"، بطول عشرة أمتار بدلاً من متر ونصف طوله الطبيعي. كل هذا لا يبشر بالخير، همهمتُ، والأيدي الروبوتيكية تأتينا بعينات من الأسماك المشوهة التي عكفنا على تحليلها دون أن ننتبه إلى العيون التي كانت تراقبنا بحذر من وراء النباتات والصخور القعرية. طلب سيد الجوهرة الزجاجية من الربان الالتحاق بالطابق الثاني، فدار بنا عائدًا، وأنا وكريستين إكبيرغ منهمكان في مهمتنا. عند التصاقنا بالغواصة التحتية الثانية، وفي اللحظة التي صعدنا فيها للالتصاق بالغواصة التحتية الثالثة، مر من تحتنا شِيقٌ بطول مائة متر قبل أن يغيب في الظلمات.

* * *

في اليوم التالي، ليس بعيدًا عن الغواصة الزجاجية، وضعنا متاعنا على زلاجات نارية، من أجل الذهاب إلى جبل الموت الأبيض، كما يدعوه العلماء، ولتقدير مدى ذوبانه، بعد اكتشافنا لتسربات الغازات البركانية في قعر المحيط القطبي. كنا ستة اختصاصيين، أنا وسام هوارد وأربعة آخرون، إضافة إلى كريستين إكبيرغ. تأخر دليلنا قرن الرَّنَّة، همهم العالم الأمريكي، وهو ينظر إلى ساعته. بعد قليل، وصلنا هدير زلاجة نارية. ها هو، قال سام هوارد في اللحظة التي ظهرت فيها الزلاجة النارية. والزلاجة النارية على بعد عدة أمتار منا، رأينا رجل الإسكيمو في ثياب من جلود الحيوانات القطبية من قمة رأسه حتى أخمص قدمه، وامرأة إسكيمو مغطاة بجلود الحيوانات القطبية مثله تجلس من ورائه، وهي تحيط صدره بذراعيها. توقف قربنا، ودون أن ينزل ليسلم علينا، أشار إلينا أن نتبعه، فركب كل منا زلاجته، وشغلها، ونحن نحدث ضجيجًا مثقبًا للآذان، ونثير في الأجواء دخان المازوت الأسود. تبادلت المرأتان البلدية والسويدية النظر، وانطلقنا.
أخذنا طريقًا موازيًا للساحل، طريقًا مستقيمًا أبيض ذهبيًا تنعكس عنه أشعة شمس الصيف إلى ما لا نهاية، وبقينا هكذا طوال عدة كيلومترات لما بدأ يبدو لنا منظر فيه كل الهول لمجزرة راحت ضحيتها مئات بل آلاف الفقمات البيبي البيضاء. كانت جثثها المسلوخة تنتشر على مسافة بعيدة، والثلج الذي كان أبيض أحمر قان. نزلنا نغطس بأقدامنا في بحيرات الدم، وكريستين إكبيرغ إلى جانبي لا تفوه بكلمة واحدة، كانت تفور غضبًا على حدة مثلنا جميعًا. تقاطعت نظرتها ونظرة المرأة الإنويتية، وسمعتها تهمهم: نكبر، فنشيخ، ونموت، لماذا لا نموت صغارًا؟ استدارت بوجهها إليّ، فذهلت على مرآه، كانت الشيخوخة تكتب على طرفي ثغرها قصة الحياة. عدنا نركب زلاجاتنا النارية، ولم نلبث أن وقعنا على البرابرة، وهم يقتلون قطيعًا آخر من الفقمات البيبي البيضاء بضربة من هراواتهم على رؤوسها. أيها القذرون، صرخت كريستين، وهي تذهب بزلاجتها النارية بأقصى سرعة باتجاههم، ونحن نفعل مثلها. صعدنا على أجساد البعض، ووجّه قرن الرَّنَّة قبضته إلى أكثر من وجه من وجوه المجرمين. وجدنا أنفسنا نسعى في الطريق المعاكس لإحدى البواخر الضخمة، كان الجليد يتحطم مع تقدمها، والماء يطفو على الشاطئ. أطلق ربانها النفير ليبعدنا عن طريقه، ففعلنا، والباخرة الضخمة تنفث الدخان الأسود المتصاعد الطارق أبواب السماء.
أوغلنا في أرض جليدية ذات أشجار قصيرة، وبعد مسافة طويلة، بدأت تظهر لنا الأشجار مقتلعة أو محترقة، وأخذت الطريق تمتد موحلة ومومسة. اخترقنا مدينة من مدن الجحيم معلقة بين الأرض والسماء، فلا هي مدينة، ولا هي شيء آخر صنعه البشر. كانت أشبه بالمدن الفُطور في كاليفورنيا أيام الانقضاض نحو الذهب، وكأن الزمن عاد بنا إلى الوراء: العربات المحملة بالفراء تغطس بعجلاتها في الوحل والجليد المذاب، والناس بقبعاتهم، يجيئون ويذهبون، يدخنون السيجار، ويشربون الجعة. كان رجال الإسكيمو يجلسون في الوحل والجليد المذاب هنا وهناك، وينظرون بعيونهم الفارغة كما لو كانوا لا ينظرون إلى أحد، وكانت الخيول المحملة بأدوات الحفر تغطس بحوافرها في الوحل والجليد المذاب. وعلى مقربة ليست بعيدة، وصلنا صوت ماكينات تثقب الجليد، كان الدخان الأسود يتصاعد منها، من ماخور الأرض إلى ماخور السماء. ونحن نحاذيها، تَبَيَّنَ لنا أنها تحفر آبارًا للنفط. وصل فريق من راكبي الزلاجات النارية المسلحين، وهم يجرون عددًا كبيرًا من الرَّنَّات القتيلة، رأينا بينها دبًا قطبيًا كبيرًا وآخر صغيرًا وعددًا من ثعالب القطب والأرانب البيضاء. أشار لنا قرن الرَّنَّة أن نتبعه حتى حانة كانت تتصاعد منها الموسيقى. سنرتاح قليلاً، قال قرن الرَّنَّة بالمغولية، وبعد ذلك سنواصل طريقنا.
في الحانة، كان العصر عصر رعاة البقر، فهو صالون بالأحرى، وكل هؤلاء الزبائن بين شارب ولاعب قمار وراقص. كانت معظم النساء من البلديات، خمس منهن يرقصن على الخشبة، وهن يكشفن عن نهودهن، ويرفعن فساتينهن الملونة حتى أعلى أفخاذهن. كان الضجيج من العلو بحيث كنا نصرخ عندما نتحدث مع البارمان الذي أحضر لكل منا قنينة جعة ولنا كلنا صحنًا مليئًا بقطع السجق المبهر. جرعت كريستين إكبيرغ قنينتها دفعة واحدة، وطلبت ثانية. ألا تريد أن تثمل، آدم فيرن؟ قالت لي دون أن أسمعها جيدًا، فتقدمتُ بأذني من فمها التي صاحت فيها: لِمَ لا نقم بفعل الحب هنا بين هؤلاء الخنازير؟ توقفت الموسيقى، فتسلق عشرات من البرابرة الخشبة، وتباروا فيما بينهم على اختطاف البنات الإينويت. جرعت كريستين إكبيرغ كل قنينتها الثانية دفعة واحدة، وطلبت ثالثة، فأمسكتُ بذراع البارمان، لكنها شتمتني، وخلصت البارمان من قبضتي: أريد أن أثمل، يا دين الرب! عادت الموسيقى تصم الآذان، فأخذتني بين ذراعيها عنوة، وراحت ترقص بي تحت ابتسامات الذين كانوا في صحبتنا، كانت ترقص بوحشية ككل من يرقص في ذاك الدغل. تركتني إلى قنينتها الثالثة، وراحت تجرعها، فصاح سام هوارد بها: حذار، لم تزل الطريق أمامنا طويلة! همهمَتْ لنفسها: ما شأنه، هذا الخراء؟ كنت قد عدت إلى مكاني على المشرب، ولما لم أضع بعد قنينتي في فمي، جذبتني، وراحت ترقص بي، وهي تطلق صرخات الهنود الحمر عند غضبهم لست أدري أم عند صفوهم. كانت كالوحل المختلط بالجليد المذاب، واللذين يغطس فيهما كل شيء، ويتلوث بهما. لم تكن هي، كانت ماهيتها. الغضب والصفو. كالوحل كان غضبها، المختلط بالجليد المذاب، صفوها. اسألني ماذا أتمنى أن أكون الآن، صاحت كريستين إكبيرغ بأعلى صوتها كي أسمعها هذه المرة ولا أضطرها إلى إعادة قولها. كريستين إكبيرغ أنت ثملة، صحت بدوري بأعلى صوتي. أن أكون عاهرة من عاهرات ستوكهولم. كريستين رجاء. هل مشت عليك الكذبة، يا حبيبي؟ رجاء كريستين. لا توجد عاهرات في ستوكهولم. كريس... ممنوع على العاهرات أن يكن عاهرات عندنا، وانفجرت تبكي، هل فهمت الآن؟ ممنوع الهوى الوحشي الهوى العتهي الهوى ابن القحبة عندنا نحن المتحضرين فوق اللازم، يا حبيبي، أبناء الآلهة الغائطيين، وأنا أتمنى أن أكون عاهرة من عاهرات ستوكهولم. تعالي، يا حبيبتي، قلت، وأنا أحاول سحبها، لكنها تخلصت مني بعنف، مسحت دمعها بأصابع عصبية، وراحت بالتراجع وحدها حتى اخترقت صفوف الراقصين، وبدأت ترقص كما لم يرقص أحد، وتصرخ كما لم يصرخ أحد. نظرت إليها من مكاني على المشرب، وكل من كان معنا، ونحن نلهث بإعياء. نَظَرَتْ إليها المرأة المصاحبة لقرن الرَّنَّة، وهي تبتسم بإعجاب. كانت الساحرة السويدية ترقص مع هذا، وترقص مع ذاك، وبدأت تعانق هذا، وتعانق ذاك. عند ذلك، اخترقتُ الجموع، وأنا أدفعهم بكل قواي، وجذبتها بعنف، مما أذهلها. راحت تضربني، وتشتمني. أراد بعضهم تخليصها مني، لكن قرن الرَّنَّة تدخل، فضرب، وشتم، واستعد كل من كان معنا إلى الدخول في معركة لن تكون في صالحنا ككل معاركنا الأخرى، كل معاركنا، كل معاركنا الأخرى. تمكنا من مغادرة الحانة، فأركبتُ كريستين إكبيرغ أمامي، بعد أن ربط قرن الرَّنَّة زلاجتها النارية بزلاجتي. ونحن نغادر مدينة الجحيم، تفجر النفط من إحدى الآبار، فلوث الكون على صيحات أصحابه المنتصرة ورقصهم البربري تحت مطره الغزير الأسود. فكرت في الشمس الثابتة دومًا، دومًا ثابتة، وقلت لنفسي: لا ماض، ولا حاضر، ولا مستقبل، الزمن في رؤوسنا، ورؤوسنا مليئة بخراء كل الحضارات مذ كانت الحضارات.

* * *

سرنا مسافة طويلة، بمقدار تعبنا، إذ كان تعبنا شديدًا. ملأنا خزانات زلاجاتنا النارية ببعض ما نحمله من مازوت، وعدنا نسير مسافة طويلة والبرد يجمد أطرافنا على الرغم من ألبستنا المبطنة بالصوف حتى أشرفنا على قرية من قرى الإسكيمو. كان الوقت في قلب الشمس يتجاوز منتصف الليل، لهذا لم يكن في الأزقة ظلٌ لعابر. تبعنا قرن الرَّنَّة بين قبب الجليد نصف الدائرية التي هي بيوت الإسكيمو حتى أحدها، فنزل هذا عن زلاجته، رفع الغطاء الجلدي عن الثقب الدائري الذي هو الباب، وأطلق صفيرًا متناغمًا. وعلى التو، خرج إنويت، وهو يلف جسده بجلد دب قطبي. تبادلا التحية بفرك الأنف بالأنف، وحيا الرجل المرأة المصاحبة لقرن الرَّنَّة دون أن ينتظر أي رد فعل منها، فهذه ظلت ساكنة دون حراك، وكأنها جمدت. تكلم قرن الرَّنَّة مع الرجل بالمغولية، وهذا يهز رأسه هزات متتالية. أشار قرن الرَّنَّة إلى امرأته بالدخول مع كريستين إكبيرغ في بيت الرجل. لم أكن أعرف إذا ما كانت امرأته، هل هي امرأته؟ قلت لسام هوارد، فسأله العالم الأمريكي بالمغولية. أجاب أنها امرأته، امرأته الأخيرة قال. جاءت هذه، وأحاطت بذراعها كتفي عالمة الفيزياء التي كان يبدو عليها العياء أكثر ما يبدو عليها، ودخلت بها تحت سقف الجليد. سار قرن الرَّنَّة من وراء الرجل، وفي داخل بيت الجليد، ترامت كريستين إكبيرغ على كمية كبيرة من الجلود كانت السرير، فراحت امرأة الإسكيمو تخلع لها ثيابها المبطنة بالصوف حتى عرتها تمامًا، والشقراء الفاتنة تتساقط بين يديها من ثقل النعاس. جعلتها تزلق تحت الفراء، وبحركة واحدة، رمت المرأة البلدية عنها كل جلودها، واستقامت عارية كتمثال. زلقت هي الأخرى تحت الفراء بينما كريستين إكبيرغ ترتعش، لا تتوقف عن الارتعاش. حاولت ضمها لتدفئها، لكنها ظلت ترتعش. تركت الفراء، وكشفت عن قدمي كريستين إكبيرغ لتضعهما تحت ثدييها حتى توقفت هذه عن الارتعاش. عندما دخل قرن الرَّنَّة على المرأتين، وجدهما تنامان عاريتين في أحضان بعضهما. تعرى مما يرتدي بحركة واحدة، وزلق تحت الفراء ليفعل في الزهرتين المِدَقِّيَّتين ما هو آخر طقوس الحياة وأولها.
كنا نحن الرجال قد توزعنا كل واحد منا في بيت من بيوت الإسكيمو، وفي أحضان امرأة من نساء الإسكيمو. كانت المرأة الإسكيمو المِدفأة الطبيعة في عالم لم يعرف الحضارة، وحافظ على كل إنسانيته. المرأة التي كان لها زوج، لف نفسه بالفراء، وخرج ليقعي على الباب، أو ليشعل بعض الأعواد، والمرأة التي كان لها طفل تركته ينام قربها. خلال ممارسة إلهة الإسكيمو فعل العشق معي، وهي فوقي، نظرتُ من حولي، ووقعتُ على العينين المفتوحتين لطفلها المستلقي غير بعيد هناك، وهو ينظر إلينا.
في صباح اليوم التالي، الصباح في المفهوم كما هو في باريس، كما هو في نيويورك، كما هو في ستوكهولم، تناولنا كفطور بعض اللحم المقدد، وشربنا بعض الطحالب المغلية، وما ألذه كان فطورنا. كنا نحمل معنا كل شيء، البسكوت، والبسكويت، والنسكافيه، والحليب البودرة، والعصير، لكننا لم نشأ الاعتداء على عادة من عادات مضيفينا. فيم تفكر، آدم فيرن؟ سألتني كريستين إكبيرغ، وهي مشرقة فتانة مسحقة مهلكة كما كانت دومًا. في لا شيء، أجبت، وأنا أبتسم، أقول لك، بلى، في الحي اللاتيني. في الحي اللاتيني؟ أسطح المقاهي الآن في الحي اللاتيني مليئة بالسياح، وهم يتناولون القهوة بالحليب مع الكرواسان أو الخبز بالشوكولاطة، الفطور إياه منذ قرون، والطعم إياه منذ قرون، منذ قرون، منذ قرون، شيء مثير للقرف، أليس كذلك؟ عندنا يفضلون "كريسبرولس"، صغير الخبز السويدي، مع الجانبون والجبن والخيار والخراء والبندورة، أو "كناكبرود"، رقائق القمح اليابسة، مع بيضة مسلوقة مقطعة وكافيار زهري اللون مملح مدخن مخرأ لا علاقة له بالكافيار الروسي، وكأس من عصير القِمام الآسيّ، عصير قمامة، أقسم لك، شيء أكثر من مثير للقرف. عندنا، تدخل سام هوارد، لا شيء غير الوَدَك، بكلمات أخرى شحم الخنزير، البيض بالوَدَك، المربى بالوَدَك، القهوة بالحليب بالوَدَك، لك الخيار بين الفطور المسكّر والفطور المملّح أو أن تجمع الاثنين في خليط غائطي ألذ ما يكون، له الشكل نفسه في الصحون وفي أحواض الاستخراء. لم يمنع أحد التقنيين الذين كانوا معنا نفسه عن التقيؤ، وعلى الرغم من عدم دهشتنا، لم يتوقف عن إبداء اعتذاره.
انطلقنا هذه المرة دون توقف حتى جبل الموت الأبيض، لم يكن جبل الجليد هذا كالجبل بمفهومنا، إذ كان ارتفاعه لا يزيد عن الأمتار الثلاثة، لكنه كان ممتدًا ملولبًا لا متناهيًا كالأسوار الموصوفة في الكتب المقدسة. حططنا الرحال عند قدمه، وفي الحال، أخذنا نزيل بمجرفاتنا قشرته في الناحية الأقرب منا. اعتمد قرن الرَّنَّة على شجرة، وهو يجمع بين ساقيه وذراعيه امرأته، ونام، لكن الإنويتية راحت تتابع ما نفعل بعينين فضوليتين. انظر، آدم فيرن، انظري، كريستين إكبيرغ، طلب سام هوارد إلينا. كل طبقة جليدية تمثل ألف عام من عمر جبل الموت الأبيض، ولدينا هنا... أخذ يعد الطبقات، اثنتا عشرة طبقة. اثنا عشر ألف عام عمر جبل الموت الأبيض، يا صديقيّ. وكل هذا الموت الذي يدبق بين أصابعي، همهمتُ. نقل سام هوارد حفنة من الجليد في قبضته، وهمهم: ماذا تريدني أن أقول لك؟ ارتفاع حرارة المناخ يجعل من الجليد صمغًا، ألقت كريستين إكبيرغ، وأصابعها تلتصق فيما بينها. هل ما زلتِ تصرين على أطروحتك، كريستين إكبيرغ؟ سألتُها قبل أن أضيف، ذوبان جبل الموت الأبيض على مثل هذه الطريقة لا علاقة له بدورة طبيعية أم غيره، هذا "الصمغ" الذي يهجم على أصابعك، ويدبق في كل مكان، سببه الوقود الأحفوري، لا شيء غير الوقود الأحفوري، سببه حضارتنا، يا حبيبتي، حضارتنا تقتل حضارتنا. لهذا سموه جبل الموت الأبيض، تدخل سام هوارد. لن نجد أحدًا يرقص على قبورنا، همهمت العالمة السويدية بكل اليأس في العالم. سنحفر الآن في العمق، قال سام هوارد، وهو يضرب مجرفته في صميم جبل الموت الأبيض. كل الموت الأسود في العمق، منذ آلاف السنين، وهو بانتظارنا. أخذنا نضرب مجرفاتنا كما يفعل العالم الجيولوجي الأمريكي إلى أن أشار لنا بالتوقف. اقترب بعدسة كبيرة من قطعة جليدية، وبعد ذلك تقدم بها إلى عالمة الفيزياء السويدية. ها أنا أحمل لك كل الموت، كريستين إكبيرغ. آه، يا إلهي، همهمت الفاتنة الشقراء، وهي تتركه يضع قطعة الجليد في وعاء. أتمنى ألا يكون الأمر كما أتصور، همهم سام هوارد. بل سيكون كما تتصور، سام هوارد، همهمتُ. اسكت بالله عليك، نبرت كريستين إكبيرغ. في أحد الأيام، عاد سام هوارد إلى الهمهمة، ضعت بسيارتي، ووجدت نفسي في قلب البرونكس. لم أضع القدم في البرونكس طوال حياتي مرة واحدة. وجدت نفسي أقود سيارتي في قلب البرونكس. كان الليل، وكان الظلام شديدًا، وأنا وجدتني في قلب البرونكس. فرملت بكل ما أوتيت من حنكة، وأنا أرتعد من الرعب. كنت على وشك أن أقتل أحدهم، شابًا أسود من سكان البرونكس. كان يشهر في وجهي بندقيته لأقف، ولم أكن أراه، فالظلام كان شديدًا، وأنا، بعد ذلك، تساءلت لِمَ لم يطلق، لكني فرملت في اللحظة الأخيرة، وأنا أرتعد من الرعب، وأنا أشتم، خراء، يا دين الكلب! فتحت زجاج نافذتي، واعتذرت. قلت الظلام شديد، وأنا لم أره إلا في اللحظة الأخيرة. أمرني بالنزول من السيارة، وهو يدفع فوهة بندقيته في دماغي. خراء، يا دين الكلب، كان يشتم. نزلت، والمفاتيح بيدي، فأشار إليها. كان يرتعد كله مثلي، وكانت أصابعه ترتعش. بيد كان يدفع فوهة البندقية في دماغي، وبيد كان يشير إلى المفاتيح بعصبية، ويشتم، خراء، يا دين الكلب. أعطيته المفاتيح، فركب السيارة، وشغل المحرك الذي لم يشتغل. أخرجت محفظة نقودي، وقلت له لماذا لم تأخذ محفظة نقودي. نظر إليّ مفكرًا، وهمهم آه لماذا، وانتزع مني محفظة نقودي. حاول تشغيل المحرك، فلم يشتغل، فعاد يشتم، خراء، يا دين الكلب. أعطني خمسين دولار فقط من أجل التاكسي قلت له، لكنه تمكن من تشغيل المحرك، وما لبث أن انطلق، ثم ما لبث أن توقف، عاد رجوعًا ليرمي لي الخمسين دولار الذي طلبت، للتاكسي، وبعد ذلك انطلق كالمجنون، والعجلات تحتك بالإسفلت مطلقة النار. بعد عدة أيام، استلمت طردًا صغيرًا فيه محفظة نقودي بكل ما فيها، بطاقتي البنكية، بطاقتي الوطنية، صورة آن زوجتي، صورة غروينلاند ابنتي، كل ما في محفظة نقودي إلا النقود... سكت سام هوارد، وبعد قليل، همهم: لا أدري لِمَ أحكي لكم كل هذا. كان المعاونون الثلاثة قد نصبوا مختبرًا مرتَجَلاً، فحللت كريستين إكبيرغ الحشرات الألفية، وحللت أنا الفيروسات الألفية، وكانت نتائجنا واحدة: الواحدة والأخرى تشكل خطرًا كبيرًا على الإنسانية، فالفيروسات لم نكن نعرفها كالأمراض التي ستفتك بنا، والحشرات لم نكن نعرفها كذلك كالناموس الغريب ذاك، ناموس قاتل اللعاب. قمنا مرتعدين على صراخ سام هوارد، حتى أن قرن الرَّنَّة قام. لم يستطع عالم الجيولوجيا النطق، كان يشير بإصبع إلى مكان جاء على حفره. عندما نظرنا، رأينا من الناموس المتجمد الآلاف المؤلفة، فلم نفعل سوى إعادة ردم الحفرة بالجليد. سارعنا، بعد ذلك، إلى ميكروسكوباتنا، فلم نجد الحشرات التي حللناها بعد أن ذابت سلاسل الجليد. كانت حريتها تعني عودتها إلى الحياة، وكانت عودتها إلى الحياة تعني موتنا.
نصحنا قرن الرَّنَّة بمغادرة المكان في الحال، لكننا ما أن غادرنا المكان حتى تساقط الجليد الذي ردمنا به الحفرة، وبدأ بعض الناموس يتحرك. ابتعد عنا قرن الرَّنَّة بامرأته كثيرًا دون أن نستطيع اللحاق به، كان يريد الهرب من الموت بأية طريقة. حاذى المحيط بجبال جليده العائمة، وإذا بالجليد ينشق تحت قوة زلاجته النارية، ويذهب به بلمح البصر إلى ناحية لم نتخيل أبدًا عجزنا أمامها، وبالتالي عدم قدرتنا على إنقاذه، هو وامرأته.

* * *

خيمنا، بعد عناء وتعب، في مكان تملأه الأشجار القصيرة القطبية. اتصل سام هوارد بغواصته الزجاجية، فطمأنه ربانها، قال له كل شيء على ما يرام. في خيمتنا، أنا وكريستين إكبيرغ، أشعلتُ السخان النفطي، فأخذت شقراء ستوكهولم تخلع ثيابها الثقيلة، وهي تقول لي: لسنا بحاجة إلى إشعال السخان. أشعلته من أجلك، يا حبيبتي، همهمْتُ. لا تشعله من أجلي، يا حبيبي، همهمَتْ. أطفأَتْه، فرفعت صوتي: لا تطفئيه، كريستين إكبيرغ، الدنيا برد. الدنيا برد، همهمَتْ دون أن تستجيب. أخرجَتْ معلق نهديها الشانيل ولباسها الصغير الشانيل. الدنيا برد، قلتُ لكِ. نحن في الصيف، قالت، ولا داعي لإشعال السخان. نحن في القطب، قلتُ، في الصيف أم في غير الصيف، نحن في القطب. ارتدت معلق نهديها الشانيل ولباسها الصغير الشانيل، وقالت: أنا أرتديهما من أجلك، يا حبيبي. إذا مرضتِ لا تقولي لي... فقاطعتني: أنت تخريني، آدم فيرن، يا دين الرب، دعني أمرض، أريد أن أمرض، هذا شأني، أنا من ستمرض وليس أنت. وانفجرت تبكي، وهي تضيف: وإذا لم يعجبك، فسأخرج إلى القطب، سأعانق القطب، ليس كما عانَقَتْه امرأة قرن الرَّنَّة هذا صحيح، سأعانق كل حيواناته، كل حشراته، كل فيروساته، سأرقص معها رقصة الموت... وغادرت الخيمة بمعلق نهديها الشانيل ولباسها الصغير الشانيل. كريستين إكبيرغ، يا دين الرب، صحت من ورائها. أخذَتَ تركض على الجليد شبه عارية، وراحت تصرخ في منتهى السعادة، وتقهقه، وتنادي: آدم فيرن، فخرج سام هوارد من خيمته، وكذلك فعل الباقون، وهم تدقهم الدهشة، الدهشة من الفعل الجنوني لكريستين إكبيرغ، والدهشة من كريستين إكبيرغ، من جمالها الشرير الرباني، جمالها الفذ العبقري. آدم فيرن! خلعت معلق نهديها الشانيل ولباسها الصغير الشانيل، وعادت تقهقه، وتصرخ، وتنادي: آدم فيرن! راحت تنتقل من شجرة إلى شجرة، والثلج يندف عليها من جديد: آدم فيرن! وكل القطب ينقل صدى الصوت الأعذب: آدم فيرن! آدم فيرن! الصدى تلو الصدى: آدم فيرن! آدم فيرن! آدم فيرن! نقلتُ جلد فراء، ورحت أعدو صوبها، كالزقاقي الملعون رحت أعدو صوبها، وهي لم تزل تنتقل من شجرة إلى شجرة، وتصرخ، وتقهقه، وتنادي: آدم فيرن! كالطريد من الجنة رحت أعدو صوبها، كالمغتصب لبكارة الأرض. كان من الأمتع لي أن أشرب كأس جعة على مشرب في مقهى من مقاهي الحي اللاتيني. فجأة، راح الجليد يهتز تحت أقدامنا، فأصاب كريستين إكبيرغ الهلع، وراحت تصرخ للهول الذي أصابها هذه المرة، وتنادي عليّ. حصلت شقوق تحت قدميها، لكني تمكنت من حملها، وأنا ألفها بجلد حيوان، والعودة بها إلى الخيمة تحت نظرات الذين كانوا في صحبتنا، نظرات أسماك قرش الوول ستريت والضالين من سود نيويورك. عندما نهضنا بعد نوم دام بضع ساعات، وجدنا سام هوارد ميتًا، وكذلك الثلاثة الآخرين.

* * *

ذاب الجليد في المنطقة التي كانت الغواصة الزجاجية ترسو فيها، ولدفء ماء المحيط، تمكنت الأسماك المشوهة من الصعود، والعوم في أعلى طبقاته. كان بعضها يقفز برأسيه أو بجسديه أو برأسيه وجسديه فوق سطح المحيط وكأنه يبحث عن الهرب من خطر أكبر من الخطر الذي تمثله هذه الكائنات الغريبة للبيئة. حار تقنيو ومحللو الغواصة الزجاجية في أمرهم، فالتقارير على أجهزتهم الإلكترونية كلها تؤكد أن ما يجري لا طبيعي، وأن العالم دخل في مرحلة اللاعودة لوجوده. أخذوا يرسلون إنذاراتهم إلى كل عواصم الكون، وبدأت وسائل الإعلام حملة موت الإنسانية أمام ذعر كوني لا مثيل له. لم تكن الصور التي تنقلها كاميرات الغواصة الزجاجية لتلك الحيوانات المائية المشوهة شيئًا آخر غير صورنا، صورنا التي كنا نصر على ألا نراها، صورنا غير الجميلة، صورنا الدميمة، فهل كانت لنا طوال وجودنا صور أخرى غير دميمة؟ أصاب تقنيي ومحللي الغواصة الزجاجية الهلع على مرأى أبي مريئة، ذاك الشِّيق الذي تجاوز طوله الطبيعي، متر ونص المتر، إلى طول الكائنات القبل التاريخية، مائة متر. كان الابن الوحش لشروط البيئة الجديدة، بسبب الغازات الجوفية من ناحية، والغازات الدفيئة من ناحية ثانية، والتي من أهم هذه الشروط ذوبان الجليد، فحطم سلاسل البرودة، وتمكن من العوم على مستوى واحد والغواصة الزجاجية. بعد قليل، دفعه نهمه الجامح إلى مهاجمة مربى المائيات القائم في سقف الطابق الأخير للغواصة، وبعد صراع مرير، تمكن من تحطيم السقف، والغوص بنصفه الأعلى فيه، وهو يلتهم من السمك ما لذ وطاب، ثم الغوص بكله، ولثقله، وجد نفسه يسقط في الصالون الفخم الذي كانه، ليموت اختناقًا بعد مصارعة للموت كانت ميثية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، انبثق من أعماق الماء شِيق ثان بطول الأول ذو رأس منفصل إلى نصفين، وشِيق ثالث ذو جسد منفصل إلى نصفين، وشِيق رابع ذو رأس وجسد منفصلين إلى نصفين، وشِيق خامس ذو رأسين مهولين، وشِيق سادس ذو جسدين مهولين، وشِيق سابع ذو رأسين وجسدين مهولين، وراحت تهاجم بدورها الغواصة الزجاجية. لم تكن الشراهة هي الدافع هذه المرة، وإنما العدوانية لأجل العدوانية، حتى الطبيعة الحيوانية تغيرت في البيئة الكارثية الجديدة للقطب الشمالي. لم تكن للبحارة الوسائل القتالية التي يدافعون بها عن أنفسهم، فغواصتهم علمية، من أجل الرفاهية الإنسانية، ليست نووية، والتي هي الأخرى لا فائدة منها في اللحظة التي تتساقط فيها كل العنجهية. تمكنت الوحوش من تحطيم غواصة العلم والمعرفة، وغدت لها السيادة المطلقة في المحيط الجليدي. زلقت بعيدًا عن حافة الجحيم، إذ ما لبث البركان الغافي في أعماق الماء أن استيقظ، وراح يرسل حممه إلى كل مكان يستطيع الوصول إليه، وخاصة إلى غرورنا وجشعنا والخراء الذي هو أدمغتنا، فذاب جبل الموت الأبيض، وتحرر الناموس القاتل من سلاسل الوقت الجليدي ليبدأ غزوه للعالم.
كنا أنا وكريستين إكبيرغ نسير على زلاجتنا النارية في أسهاب الجحيم الأبيض، أسهاب لا طول لها ولا عرض، لا بداية لها ولا نهاية، ونحن نرتدي بِزتنا الواقية وقناعنا الأكسجيني، وكأننا حشرتان من الحشرات الألفية، هي الظمأى لعدم الحياة على حسابنا، ونحن الظمأى لعدم الموت على حسابها. وصلت كريستين إكبيرغ على هاتفها المحمول آخر صور محطة البحوث قبل أن تلفظ صديقتها ماريان النفس الأخير: كلبها المفضل فيكينغ ميت، كل باقي الكلاب ميتة، كل جثث زملائنا متناثرة. كانت جحافل الناموس الدموي قد مضت من هناك قبل أن تهاجم مونتريال ونيويورك، دالاس ومكسيكو، هافانا وبرازيليا، الجزائر وبريتوريا، ستوكهولم وروما، باريس وأثينا، الدوحة وكل المشاخخ العواصم أخواتها، بكين وبومباي، طوكيو وسدني، مكة والقدس...
























الكابوس الرابع
المسجد

ليست هذه هي المرة الأولى التي تقول لي فيها عائشة زوجتي قبل ذهابي إلى مسجد باريس للصلاة: احمل حذاءك تحت إبطك، وعندما تصلي ضعه أمامك، هكذا لن يسرقه أحد منك. لكني أصلي لله وليس للحذاء، قلتُ. ولماذا لا تصلي مثلي وترتاح؟ قالت. لم تكن تعلم أنني أصلي لأنها لا تصلي، أصلي عنها بشكل من الأشكال. لا أريد ألا أصلي مثلك. إذن كما قلت لك، احمل حذاءك تحت إبطك، وعندما تصلي ضعه أمامك، والله غفور رحيم، إلا إذا كنتَ... إلا إذا كنتُ؟ إلا إذا كنتَ تريد أن تشتري حذاء كل يومين. أتظنينني مغرمًا بالأحذية إلى هذه الدرجة؟ أعرف أنك تحب الله أكثر من حذائك، وأنت لا إمكانيات لديك. أحب الله أكثر من حذائي هذا صحيح، أكثر من كل شيء أحب الله، وأنا لا إمكانيات لدي هذا صحيح أيضًا. إذن كما قلت لك، احمل حذاءك تحت إبطك، وعندما تصلي ضعه أمامك. حملتُ حذائي تحت إبطي، وعندما صليت وضعته أمامي، وعلى الرغم من ذلك، وأنا أقوم وأقعد وقوفًا جلوسًا ركوعًا سجودًا، تمت سرقة الحذاء.
ذهبت أبحث في خبايا مسجد باريس عن الحذاء، وترددت، وأنا أقف عند باب مكتب الإمام. كنت لا أثق بهذا الشيخ، وللحق أقول أنا لا أثق بكل الشيوخ، فعلاقتي بالله ليست كعلاقة هؤلاء الحافظين للقرآن عن ظهر قلب بخالق الكون. كان الله لي صديقًا أقرب من كونه إلهًا، لهذا كنت أومن به، ولا أومن بالوحي والآخرة، لا أومن بملائكته الذين هم في السماء، وبملائكته الذين هم على الأرض، الشيوخ بلغتنا، فالدين لهم وظيفة ككل وظيفة يقتات المرء منها، وهم لهذا كلما أمّوا بنا يؤمّون لأن هذا ما توجبه الوظيفة. والدنيا والآخرة، والجنة وجهنم، والمؤمنون والكافرون، والثواب والعقاب، والحلال والحرام، إلى آخر خطاب الوظيفة، كل هذا أنا لا أومن به. إذن اجعل من أي شخص صديقًا يكون لك الله، كانت تناكدني زوجتي عائشة. لا تجدفي رجاء، كنت أرد عليها. وأنا، تتردد عائشة، وهي تلمس بشفتيها شفتيّ، من أكون لك، سيدنا جبريل؟ أنتِ، أتردد، وأنا ألتهم شفتيها، وأكاد أقتلعهما بأسناني، أنت عائشة أم المؤمنين وأم الكافرين. تقهقه عائشة، وهي تفلت من بين ذراعيّ، فأسارع إلى إمساكها دون أن أتمكن من ذلك. تريد أن تقوم بفعل العشق مع أمك؟ عائشة، لا تجرحي مشاعري رجاء. وألقي القبض عليها، وهي تقهقه، وتمانع، لكني بظمأ رباني أرفعها فوقي، كما أرفع وجهي إلى الله حين دعائي، فأشعر باللذة لذتين، لذة الجنس، ولذة الدين.
فتحتُ الباب على الإمام دون أن أطرقه، فوجدته يعد الأحذية المسروقة المتراكمة على مكتبه. راح يتأتئ لما رآني أشير إلى حذائي، ووجد في الأخير ما يبرر فعلته: استعدناها من أبناء السوء الكفرة الضالين. لم أجادله، لم أقل له ليس هذا من أصول الوظيفة. وضعت حذائي، وخرجت. عزمت على ألا أعود إلى الصلاة في مسجد باريس ثانية، وأنا، لهذا، قلت لنفسي كأس شاي بالنعنع في كافيتيريا المسجد سيكون شيئًا استثنائيًا بما أنني لن أعود إلى هذا المكان إلى الأبد. سأصلي على الرصيف ككل السنغاليين والسعادين الذين لا يعرفون كيف يقرأون الفاتحة، ولن أصلي في هذا المسجد ما بقيت حيًا. أخذت مكانًا على دوشك كان يجلس عليه ثلاثة ملتحين، فقط كي أمد قدميّ أمامي، وأتأمل حذائي بحب وشوق كما أتأمل زوجتي عائشة. قدماي تحت الطاولة هناك قرب الطاولة التي تحتلها محجبتان لن تزوداني بكل هذه اللذة الرواقية. وأنا أحتسي شايي بالنعنع، لاحظت أن كل من يدخل حجرة تدخين النارجيلة من مؤمن أو مؤمنة لا يخرج منها. من الضروري أن يكون هناك باب آخر للخروج، قلت لنفسي، وأنا أبتسم لصديقي الذي يوحي لي بكل الأفكار الخيّرة. شكرته في سري، ونهضت بعد أن أفرغت ما في كأسي من آخر قطرات الشاي بالنعنع في حلقي. لماذا لا تأخذ لك نارجيلة بالتنباك المعسل آخر كيف؟ همهم النادل الملائكي الطلعة في أذني. آخر كيف؟ همهمت. آخر كيف، أعاد النادل، وهو يبتسم. قلت لنفسي والله لِمَ لا بما أنها المرة الأخيرة التي أضع فيها قدمي في هذا المسجد. آخر كيف على كيفك، همهم النادل، وابتسامته تتسع. لِمّ لا، عدت أهمهم. مد النادل لي ذراعيه مرحبًا، وجعلني أتقدم أمامه. فتح باب حجرة التدخين، وأدخلني، ثم أغلق الباب من ورائي، لأجد نفسي في عالم من الدخان معلق بين الأرض والسماء، لا يمت إلى الواقع بصلة، وهنا وهناك من يدخن أو من تدخن، ومن يستلقي أو من تستلقي. وفي الحال، جاءني أحدهم بنارجيلة تكاد تصل السقف لطولها، فتراميت على سجادة كما يترامى غيري، وأنا كلي سعادة روحية، ورحت أسحب الدخان من النارجيلة، وأنفثه. في البداية، سعلت، وبعد ذلك، لم أعرف إذا كانت هناك نهاية.
عندما استيقظت، وجدت نفسي عاريًا في مكان مغلق لا نافذة فيه. أخذت أطرق الباب بيديّ الاثنتين، وأصرخ افتحوا لي، ولا أحد يفتح لي. استجرت بصديقي، فأطل عليّ وجه عائشة الجميل دميمًا. كانت غاضبة، وعائشة عندما تغضب تغدو دميمة. لم أكن حذرًا، لهذا كان الوضع الرديء الذي أنا فيه، لهذا لم يكن الله راضيًا عني، لأني لم أكن حذرًا، حتى في المسجد كان من واجبي أن أكون حذرًا، سرقوا لي في المسجد حذائي، لأني لم أكن حذرًا، والآن روحي. ليس روحك، خِلْتُ عائشة تهمس، وهي عارية فوقي، وإنما جسدك. كانت عائشة الجميلة دميمة، لأنها كانت غاضبة، وكان غضبها من غضب الله، هي التي لا تؤمن بالله. عدت أطرق الباب بيديّ الاثنتين، وأصرخ افتحوا لي، ففتحوا: يا ابن القحبة! وراحوا بي لكمًا وركلاً. كانوا ثلاثة لا وجوه لهم كالشياطين كما أراهم في نومي، فالشياطين في نومي لا وجوه لهم. لم أكن أميز إذا كانوا عربًا أم عجمًا. لم تكن لهم وجوه، كالشياطين في نومي لم تكن لهم وجوه، لكنهم كانوا قساة القلوب، كسائر البشر. كانوا أقوياء، كانوا بشرًا. أغلقوا عليّ الباب، وذهبوا. وهكذا كانت حياتي خلال مدة لم أعد أقدر على معرفة كم: لكمي وركلي كلما طرقت الباب، وصرخت، ثم إغلاق الباب عليّ، إلى أن تمت لهم سرقة روحي وعقلي وقلبي وكلي وكياني.

* * *

أشرفت على دخول عشرات السيارات الفخمة في فناء أحد قصور السان-جيرمان-أُن- ليه، مدينة المال والجاه في ضاحية باريس الغربية، تم ذلك في بداية المساء ككل مساء، على الساعة التاسعة. وبعد ذلك، أغلق رجالي بوابة السور العالي المحيط بهذا البناء القديم من العهد الملكي. في الداخل، كان كل أثرياء ومتنفذي باريس، وهم يتوزعون بين طاولات اللعب أو بين أذرع الحسناوات اللاتي كانت عائشة زوجتي من بينهن: عندما لم أعد إلى البيت، جاءت تبحث عني في المسجد، فعرجت على الكافيتيريا. أنا عائشة، زوجتك، حبيبتك، همست عائشة في أذني أول ما التقتني في القصر. قمت بدورة بين اللاعبين، ووقفت إلى جانب عائشة، وهي تحمل كأس ويسكي، وترشف منه، بينما الرجل البدين الذي ترافقه، ينظر إلى أوراقه، وهو يجمجم: خراء! خراء الخراء! التفتت عائشة إليّ، وألقت عليّ نظرة مليئة بالعذاب والعتاب. كلمني أحدهم في أذني، وقال: هناك منحصر بين الزبائن، فذهبت أعدو. كان الزبون الماسيّ يريد من إحدى بناتنا أن ترضعه في الصالون أمام الحاضرين، فهمستُ في أذنه: خذها إلى إحدى الحجرات، يا سيدي، وأنا أدفع مسدسي في خاصرته دون أن أخرجه من جيب سترتي. نهض بعصبية دون أن يفوه بكلمة، وغادر القصر. سيعود غدًا، قلت للآنسة. هذا لأنني أمه، ألقت بنت الهوى دون أن يزول غضبها. نعم، هذا لأنك أمه. أنا أم لهم جميعًا هؤلاء الأوباش. آآآ... لست متفقًا معك! تواري في الحال!
انطلقت الموسيقى، وخفت الأضواء في الصالون. أخذت بناتنا يرقصن بين الزبائن، وهن يكشفن عن مفاتنهن، ويعانقن هذا أو ذاك. انطلقت الموسيقى الإلكترونية، فترك بعض الأثرياء اللعب، وجاءوا ليدخلوا دغل اللذة البيضاء، فالحمراء لم تبدأ بعد. كانت اللذة البيضاء هي الشمبانيا التي سالت حتى كادت تغرق الجميع. نظرت إلى حيث كانت عائشة زوجتي، فوجدتها دومًا في مكانها. أشعلَتْ للرجل الذي ترافقه سيجارة ولها أخرى، ونفختها، وهي ترسل نحوي نظرتها المليئة بالعتاب والعذاب. في التواليت، وجدتها من ورائي. كانت تبكي، كانت لا تبتهل، كانت تبكي، كانت فقط تبكي. عندما انتهيت من التبول، زررت بنطالي، وخرجت.
عادت إلى قاعة اللعب، وهي تمسح دمعها، فلم يرق ذلك للرجل الذي ترافقه. راح يجمجم: خراء! خراء! خراء! عجلَتْ إلى إشعال سيجارة له، وهي تنظر إليّ مرتبكة لا تدري ما تفعل. فجأة، توقف الرجل عن اللعب، ونهض. شد عائشة زوجتي من يدها، وجرها صاعدًا الدرج بها إلى حجرة في الطابق الأول. طاردتني عائشة زوجتي بعينيها الزائغتين، فأعطيتها ظهري، وذهبت أراقب بناتنا بعد أن رقصن، وهن يجلسن على ركب الزبائن، وهن يشربن، وهن يقهقهن، وهن يهمسن، وهن يغنجن، وهن يخضن المعارك الحامية، وهن يهرقن الدماء والدموع، وهن يحرقن القمر والنجوم. بعد ذلك، ذهبت كل منهن إلى حجرة مع زبون. بعد تأليه الزبائن لأنفسهم في معابد الجسد، هناك من كان يذهب، وهناك من كان يعود إلى قاعة اللعب أو الصالون. كانت الحركة لا تهدأ، طوال الليل لا تهدأ، حتى أول النهار، وهكذا كانت حياتنا كل مساء...

* * *

في أحد الأيام، تمكنت عائشة زوجتي واثنتان من بناتنا من النزول من نوافذ الطابق الأول، والاختباء في صندوق إحدى سيارات المرسيدس. كان قدرهن غير الطوعي أن تكون سيارة الجنرال سواسون، البطل العائد من أفغانستان. أدخل سيارته في كراج الفيلا التي يسكنها وحيدًا، بعد أن طلقته زوجه لمشاركته في حرب لا فائدة منها وهَجَرَهُ أبناؤه، وأراد الصعود إلى الطابق الفوقي، فوصلته طرقات على باب صندوق السيارة تأتي من داخله. تناول إحدى البنادق المعلقة، وتقدم من صندوق السيارة، وهو يشهر سلاحه في صدر المجهول، وبسرعة فتحه، ليجد نفسه أمام الفتيات الثلاث، وهن ينحنين على بعضهن كما لو كن في بطن امرأة حبلى. ابتسم للمنظر، وترك الملعونات الثلاث يخرجن، وبأمر من سلاحه جعلهن يقفن في زاوية. أردن أن يشرحن له، لكنه أطلق النار بين أقدامهن، فخررن على الأرض، ورحن يرتعدن من الخوف، ويذرفن الدموع الحارة. سقطت صورة مؤطرة لسواسون في ثياب الجنرال كانت ملقاة إلى جانب، وتحطم زجاجها، لكنه لم يكن ليهتم إلا بتلك المخلوقات الرخصة الوجنات التي كانت ترتعد من الخوف، وتذرف الدموع الحارة. كان ذلك ما يسحره، الدموع الحارة على الوجنات الرخصة، كان ذلك ما يوتره، ويثير غُلْمَتَه، أكثر من كل الحروب، كل الحروب التي كان يدعوها "زوجاتي". رمى لعائشة زوجتي بعض الحبال المعلقة، وأمرها بعقد يدي البنتين الأخريين من وراء ظهرهما. وما أن انتهت، عقد يديها من وراء ظهرها، ودفع الهاربات الثلاث بعقب البندقية، ثم ضربهن بها، وهو ينقط متعة. أخذن يتوسلن، وهن لا يتوقفن عن البكاء. أيضًا، أيضًا، كان يصرخ كالمهستر. أيضًا، أيضًا، كان يقهقه كجبال أفغانستان. جعلهن يسقطن على قدميه، ففتح سرواله، أيضًا، أيضًا، كان عالم الحرب والدمار ينتصب كله ليس بعيدًا عن الثغور المتوسلة.
قرع جرس هاتفي المحمول، فكلمني رئيسي الذي لا أعرفه. أعطاني عنوان الجنرال، وذهبت مع معاونيّ لنعيد الهاربات الثلاث. ونحن نعود بهن على طريق الذئاب، أوقفنا السيارة، واغتصبناهن عقابًا وانتقامًا. كانت عائشة زوجتي تصرخ بي، وهي تتمزق بين مخالب معاوني، كي أرأف بها، كي أحميها.

* * *

على الساعة التاسعة مثل كل مساء، استقبلتُ السيارات الفخمة، إذ كنا نُقفل البوابة بعد ذلك، ولا نفتحها لأحد حتى ولو كان رئيس الجمهورية. كنت أسمع، وأنا أقوم بمراقبة كل شيء، ضحكات عائشة زوجتي. كانت تجلس بين زبونين، وكانت تداعب هذا، وتداعب ذاك، وكانت تضحك. كانت تضحك بصوت عال كالحطام التي لفظها البحر كي أسمعها، ويسمعها العالم أجمع. عندما مضيت بها، ضحكت، وهي تلتهمني بنظراتها، وظلت تضحك. أشربَتْ صاحبيها الشمبانيا من شفتيها لتثير في قلبي ريح الغيرة، وكانت تضحك. الغيرة، فالندم، فالعدم. كانت تجمجم كلمات ليست مفهومة لترفد حائط الشك لديها. الشك، فالارتياب، فالحقد. نهضَتْ أول ما انطلقت الموسيقى، وراحت ترقص مع هذا، وترقص مع ذاك. كانت تبحث عني بعينيها، وعندما تجيء عيناها في عينيّ، كانت تميل، وتغنج، وكانت تضحك. كانت تضحك مني، هذه المرة، لتتقمص شخصية الأخرى التي صارتها، لتهب كما تهب الرياح. انطلقت الموسيقى الإلكترونية، فراحت تنط كغيرها، تنط، وتنط، وكانت تضحك. جذبتني للرقص معها، لكني بقيت كالطود جامدًا، فلم تفلح في جعل وجعها مبتذلاً. راحت تمزج بين الهيب هوب والرقص الشرقي لتغريني بفتنة الوجع دون فائدة، فأثارت إعجاب الحاضرين بفتنة الجسد. لكن ما حصل في اللحظة التي توقفت فيها الموسيقى كان مروعًا، عندما كسرت عائشة زوجتي كأس الشمبانيا، وبقطعة منها قطعت عرق رسغها، وكأنها تريد أن تقطع كل علاقة معي. تجسدت في فعلها كل شدائد القدر، والقدر هو الوضع غير الوضع الذي كنا فيه، فهرعتُ على صرخات الحاضرين لأرفعها بين ذراعيّ، لكن صرخات أخرى تفجرت من الزاوية المقابلة في الصالون. كانت بنتان من بناتنا، البنتان اللتان هربتا مع عائشة زوجتي، قد اقترفتا الجرم نفسه بنفسيهما، فانتهت كل الروابط في التضامن. بدا العالم لا أهمية له، الوجود، الكلمنتينا. رحت أصرخ بمأموريّ ليطلبوا سيارة إسعاف، كانت البنات الثلاث على وشك الموت، وكان همي الوحيد إنقاذهن لئلا أدفع ثمن اللا اكتراث.
في المستشفى، تركت أحد مأموريّ عند باب الحجرة التي يحتللنها. سأقتلك لو تغمض عينيك، قلت له. لن أغمض عينيّ، قال لي. نظرت في عينيه، كانتا خضراء اللون. هل تحب السفرجل؟ سألته. أحب كل ما ليس أخضر، أجاب. تلك البنات الثلاث اللواتي حاولن الانتحار عيونهن عسلية اللون، فحذار، همهمتُ قبل أن أغادر المكان، وأنا أعزم على تبديله. في اليوم التالي، لم نقع على أي أثر لهن.
ذهبت عائشة زوجتي والمتضامنتان معها إلى الشارع الذي كن يعتقدن بالأمان فيه أكثر من كل شوارع باريس: بيغال. أبدت عاهرة تونسية لهن اهتمامًا وانتباهًا، وقادتهن إلى فندقها. تركتهن ينمن في فراشها، لكنها، وهي لم تزل في الفندق، نقلت هاتفها المحمول بأصابعها، وتكلمت مع مسئولي، الذي كما ذكرت لا أعرفه، وتكلم مسئولي بدوره معي. وبأسرع من البرق، حضرت ومعاوناي. حطمنا على الهاربات الثلاث الباب بأقدامنا، ورمينا بأجسادنا عليهن، واغتصبناهن عقابًا وانتقامًا.

* * *

سَلْسَلْتُ زوجتي عائشة وشريكتيها، ورميتهن في الطابق التحت الأرضي للقصر. تركتهن لقمة سائغة لذئابي، يدخلون عليهن متى يشاءون، يعذبونهن، يغتصبونهن، يبيدونهن، ويعيدون خلقهن، ويخرجون من عندهن متى يشاءون. أيتها القذرة! كانوا يبصقون في وجه كل واحدة منهن، أيتها القحبة! كانوا يتسلون، فكم كان عالم القصر مسئمًا: كان يجري فيه الشيء نفسه كل مساء ابتداء من الساعة التاسعة: السيارات الفخمة، أصحاب الجاه والمال، القمار، الرقص، الجنس، التأله، الهزل، المجون، العبث، العبث الأحمق الذي هو عبثنا. أيتها القحبة! كنت أسمعهم يصرخون. عائشة زوجتي. كنت أستبيح حُرمتي. بسبب المطر كنت أستبيح حرمتي. كانت السماء تمطر بغزارة، وكنت أرغب في الرقص تحت المطر، لهذا تركتها لقمة سائغة للذئاب. كنت أرغب في غسل جسدي، غسل جسدي بالمطر، غسلي كلي، غسل كياني، لهذا كنت أنا الآخر ذئبًا. كنت أرغب في غسل روحي بالأحرى، غسل روحي بالمطر. لهذا كنت أنا الآخر قذرًا، كخنزير كنت قذرًا.
في أحد المساءات، حضر الجنرال سواسون، وطلب مني إحضار البنات الثلاث إلى سريره. حررتهن من السلاسل، وأمرتهن بالاغتسال. زوقتهن بشتى الألوان، ورشقتهن بالعطر وبالموت. كم كان مديخًا العطر بين أثدائهن! كم كان مذهلاً الموت على أيديهن! مزق الجنرال سواسون حرائرهن عن ظهورهن، وراح بهن جلدًا، وأنا أسمع أوجاعهن من وراء الباب دون أن أفعل شيئًا. كانت صرخات الرعب والهلع الشيء الوحيد الذي يقدرن عليه، ليس من أجل أن يأتي أحد لعونهن، ليس من أجل أن يبكي عليهن الحجر، ليس من أجل أن تنطفئ النجوم، كانت صرخاتهن من أجل أن يقلن للعالم إنهن موجودات، بالرعب وبالهلع، بالألم وبالوجع، إنهن موجودات، كالحشرات، هذا لا يهم أن يكن موجودات كالحشرات.
وبدافع من لا يسمعه أحد، خلصن الجنرال سواسون السوط، وراحت كل واحدة منهن تنصف نفسها بنفسها. كن يسطنه، وهن يصرخن من اللذة. كان الهلع والرعب يتفجر من أعينهن، وهن يصرخن من اللذة. كان الهلع والرعب يرفعان أيديهن بالسوط، ويهويان به، وهن يصرخن من اللذة. رأينه يتقوض تحت ضرباتهن، ورأين أنفسهن كحشرات يحلقن بأجنحة عدم الأمن، فالأمن وهم. لم يكن موتهن شأنهن، كان موته. كان موته مجدهن. كان موته عودتهن إلى ما كن عليه من قبل، قبل أن يصرن عاهرات أو ملاكات، فالأمر في آخر المطاف سيان، وكل شيء يتوقف على الموقع الذي يكن فيه. أيتها القحبة! وكانت الأصداء: أيتها القحبة! أيتها القحبة! كان موته قوتهن الروحية، حريتهن الروحية، وجودهن الروحي. الفعل المنكر لديهن لم يكن منكرًا، كان من أجل إثبات عدم العدم، من أجل بذر عدم الرعب وعدم الهلع، لئلا يمارسن الشيء نفسه، لئلا يكنَّ أشياء، أشياء فقط، فقط أشياء، على سجادة الصلاة أو في الفراش.
فتحتُ الباب على الجنرال سواسن، فرأيته يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت أقدام اللبؤات الثلاث. كان بإمكاني أن أنقذه، لكنني لم أنقذه، بسبب عطرهن لم أنقذه، وبسبب جمال القاتلات، جمال مجرم يفتك بالحجر وبالبشر. كن قد عدن إلى ما كن عليه من قبل، كن قد عدن إلى البتولات اللواتي كن، مع فرق بسيط لا أهمية له، بتولات اليوم هن مومسات الأمس.
ألقى رجال الشرطة القبض عليهن، وحُكم عليهن بالسجن مدى الحياة. الوضع غير الوضع، التعذيب، الاغتصاب، غدا العالم مسئمًا دون هذا، غدا العمل محبطًا. أمضيت أيامي، وأنا أتنقل بين الإحباط والسأم، ورأفة بوضعي، جعلني رئيسي الذي لا أعرفه على رأس ماخور آخر للمثليين، فلم أصمد طويلاً. اقترح عليّ السيد الخفي وظيفة إمام، فوافقت في الحال. عملت بحماس وحمية، وقمت بكل ما توجبه وظيفتي هذه على أكمل وجه، بما في ذلك سرقة أحذية المصلين.














































الكابوس الخامس
القَرض

كان شيئًا أقرب إلى الحلم أن تمتلك بيتًا صغيرًا في ميامي، خاصة عندما تكون إمكانياتك متواضعة، ودخلك بسيطًا. مع الازدهار العقاري، منذ سنتين أو ثلاث، صار كل شيء ممكنًا: سَدادات صغيرة وفوائد ضئيلة. لكن نعيم الدنيا لا يدوم طويلاً، ارتفعت الفوائد، ولم يعد بإمكان البسطاء القدرة على وفاء دينهم، وهذه هي حال السيد والسيدة كوين. آمندا كوين وتيدي كوين. هذا القرنفل الأحمر سيذبل غدًا، آمندا، قال معلم الكراج، توني كوبر، الذي تعمل آمندا عنده كمضيفة للاستقبال. لم تفهم آمندا، فالقرنفل الأحمر قطعه لها زوجها من حديقتهم الصغيرة هذا الصباح، قبل أن يذهب إلى عمله. ككل شيء، أضاف توني كوبر. ككل شيء، سيد كوبر، أعادت آمندا بعد أن فهمت. خاصة في مدينة كلها شمس وملح كميامي، قال معلم الكراج الذي ما لبث أن أضاف بلهجة متعالية تثير النفور، يبدو أنك تفضلين المطر والضباب. أنا لا أفضل شيئًا، أجابت آمندا، وهي تحاول أن تكون محايدة بقدر الإمكان، ولا علاقة لذلك بالزيادة التي طلبتُها. بالطبع، قال توني كوبر بشيء من التبرم. بالطبع ماذا؟ لا علاقة لذلك بالزيادة التي طلبتِها. أعطاها ظهره، فأوقفته: هل حصلت على زيادتي، سيد كوبر؟ ليس بعد. متى سأحصل على زيادتي، سيد كوبر؟ لماذا تصرين على "سيد كوبر" هذه؟ متى، سيد كوبر؟ حط الصمت ما بينهما، كان يعطيها ظهره، وكانت تنحني بكل جمالها فوق المكتب. اعتني جيدًا بقرنفلك الأحمر، آمندا، ألقى توني كوبر قبل أن يغادر.
في حي كورال غيبلز، أحد أفخم أحياء ميامي، كان تيدي كوين، يتوقف بشاحنته الصغيرة عند أبواب الفيلات المذهلة الثراء ببركها ويخوتها وسياراتها ليوزع الطرود المرسلة باسم أصحابها. السيد فنسنت، السيد ويلسون، السيدة أوكلاهوما، السيد بوش، السيد كريزي، محمد علي كريزي، كان هذا الأخير من الأثرياء السود. سيد كريزي، سيكون هذا الطرد لك في الحال إذا ما وقعت هنا، قال تيدي كوين للعملاق، بعد أن رفض توقيع الخادمة. وتزعجني لأجل طرد صغير كهذا، همهم السيد كريزي، وهو ينقل القلم من يد الموزع. ربما كان في داخله ما هو أعظم مما تتصور، همهم تيدي كوين. نعم، آمين، خاتم الملك سليمان، همهم السيد كريزي، وهو يمضي، ويدفع القلم والدعامة. أيها الرجل، سأقول لك شيئًا، نبر السيد كريزي. في المرة القادمة، لا تخريني حتى ولو كان تاج ملكة إنجلترا. لا أخريك؟ سوزي لها كل الصلاحيات. سوزي؟ خادمتي سوزي خراء! كما تريد سيد كريزي. لا تخريني. لا أخريك. لا تخريني، قلتُ، وطرق الباب في وجهه.
عاد تيدي كوين إلى التوقف أمام فيلا تبين من ناحيتها هذه بركة في قلب حديقة مليئة بالقرنفل الأحمر، ولا يبين فيها أي كائن كان. شحبر بقلمه على ورقة، ثم بدل الخرطوش المليء بخرطوش فارغ، وهو يلتفت من حوله. جرب القلم، فلم يترك على الورقة أي أثر. وضعه في جيبه، وحمل طردًا اجتاز به الحديقة إلى باب الفيلا الفخم. ضغط على زر الجرس، فدوى الرنين في الداخل. عاد يضغط على زر الجرس، وهذه المرة، لم تتأخر امرأة طاعنة في السن عن فتح الباب. سيدة بيترسون، هتف تيدي كوين. كنت أعرف أنه أنتَ، قالت العجوز بصوت مرتعش. إنه الطرد الذي تنتظرينه، قال الموزع بوجه يقطر بشاشة. كاد الانتظار يقتلني، عادت العجوز تقول بصوت مرتعش. الانتظار لا يقتل أحدًا، سيدة بيترسون، عاد تيدي كوين يقول بوجه يقطر بشاشة، اليأس ربما أما الانتظار. أينها نظاراتي الشمسية؟ هتفت العجوز بصوت متماسك. ها هي، أجاب الموزع، وهو يمد الطرد للسيدة الكبيرة. على الرغم من أنهم قالوا يومين، أوضحت السيدة بيترسون، منذ أسبوعين، وأنا أنتظر. سبق وقلتِ لي ذلك، مدام بيترسون، قال تيدي كوين، لا تعملي طلبياتك على أنترنت، فهم يكذبون. من هم في مثل عمري ليس لهم غير... أين قلمك لأوقع، وننهي كل مراسم الموتى هذه. مراسم الموتى، سيدة بيترسون، ألقى تيدي كوين، وهو يدفع نفسه إلى الضحك. أين قلمك؟ ها هو. ومد لها القلم الفارغ المداد. حاولت المرأة التوقيع مرة، ومرة، وتيدي كوين يتظاهر بالبحث عن قلم آخر في جيوبه. فجأة، صاحت، وقد ذهبت عنها رعشة صوتها تمامًا: سأحضر واحدًا يخرأ كما يجب. وما أن غابت العجوز في الداخل حتى قفز تيدي كوين من ورائها، وراح ينظر في كل الأنحاء، عندما سمع صوت خطواتها المجرورة على الأرض عاد إلى مكانه على العتبة. أطلت عليك، قالت العجوز. أبدًا، سيدة بيترسون. وقّعت، وهي تشد الطرد إلى صدرها، وتقول: الآن يمكنني الجلوس في الشمس قرب البركة. حذار من ضربات الشمس، سيدة بيترسون، إنها قاتلة أحيانًا، وأعطاها ظهره. عندما تكون الشمس كل أهلك، فهي لا تؤذيك، همهمت مدام بيترسون، وأرادت أن تغلق الباب. قرنفلك الأحمر، سمعته يقول، وهو يفحص التربة. هذا الويك إند ما رأيك؟ قرنفلي الأحمر؟ همهمت السيدة بيترسون. تربته تحتاج إلى عناية، قال تيدي كوين. لم أعد أسقي قرنفلي الأحمر... لدي بعض الوقت هذا الويك إند، ساعتان، وربما ثلاث ساعات. والسيدة بيترسون تهمهم: كما كان ذلك في الماضي. لا تحملي همًا، سيدة بيترسون، يمكنك الاعتماد عليّ. إلى هذا الويك إند إذن، سيد... كوين، تيدي كوين. سيد كوين. إلى هذا الويك إند، سيدة بيترسون.

* * *

نعم، ما، قالت آمندا على الهاتف الأرضي لأمها، كما قلت لك، ما. ومن زاوية في الصالون كانت المطبخ، صاح تيدي: سأقوم بتحضير همبرغر بالبصل المقلي. نعم، نعم، ما، رددت آمندا على الهاتف الأرضي دومًا. هل تسمعينني؟ عاد تيدي يصيح. ماذا تقول، تيدي؟ هذا تيد، ما. جاء قربها، وحرك شفتيه لئلا تسمعه حماته: أمك تخريني! ثم: إنه اختصاصي. ما هو؟ الهمبرغر بالبصل المقلي، وبتحريك الشفتين: تخريني أمك، تخريني. كما تريد، تيدي، همبرغر بالبصل المقلي، يريد تيدي أن يحضر لنا للعشاء همبرغر بالبصل المقلي، إنه اختصاصه. وتيدي يردد بتحريك الشفتين، وهو يعود إلى المطبخ: تخريني، تخريني. تيدي لا يعرف كيف يعمل الهمبرغر بالبصل المقلي تقولين، ما؟ لا يعرف كيف يعمله مثلك، ما؟ لا يعرف كيف يعمل أي شيء؟ البرهان كل مصائبنا، القَرض أولها؟ طيب، لن أعيد ما تقولين كالبلهاء. ماذا سنعمل، ما؟ لم نعد نستطيع التسديد، والبنك يطالبنا بالتسديد. أن نبيع؟ أن نبيع البيت الذي كنا نحلم باقتنائه؟ لن نبيع، ما. أن نبيع، أن نترك كل شيء، العمل وكل شيء، أن نترك ميامي، ونجيء إلى دالاس عندك؟ صحيح، الجو عندكم حار كالجو في ميامي، ولكن ليس لديكم البحر. لن نحمل البحر في حقائبنا، ما. آخرون غيرنا نسوا أن يحملوا البحر معهم، فتاهوا في الأرض؟ البحر يُحمل في الرؤوس، ما؟ رؤوسنا فارغة، فلنملأها بالبحر؟ فلنملأها بالبحر بدل الهموم؟ لن نجيء إلى دالاس، عندك، ما. وتيدي من المطبخ، وهو منهمك بتحضير طبقه: تخريني، تخريني. وماذا سنفعل؟ لن نعمل في دكان دفن الموتى التي لك. بلى؟ الناس يموتون بكثرة، ما، وأنت في أمس الحاجة إلى عوننا. هل تسمع، تيدي؟ لا أريد أن أسمع. مامي تريدنا أن نذهب إلى دالاس لنعينها، فالناس يموتون بكثرة هذه الأيام. والآخر: تخريني، تخريني، وفي اللحظة ذاتها قرع هاتفه المحمول: نعم، جورج، ما هي آخر تعاساتك؟ وليام، أجاب جورج من الطرف الآخر للهاتف المحمول. دائمًا وأبدًا، علق تيدي، وهو يواصل تحضير الهمبرغر بالبصل المقلي. لا يريد الزواج مني، أوضح جورج. عليك أن تكون سعيدًا، ألقى تيدي. يقول إن الزواج شيء تقليدي، وهو طوال حياته كان ضد كل ما هو تقليدي. الزواج بين شخصين من جنس واحد شيء ثوري تمامًا. قل هذا للحمار الذي اسمه وليام. هذا أفضل لك ألا تتزوج من حمار، جورج. راح جورج يبكي، وتيدي ينادي عليه: جورج، جورج، لا تبك، وهو يكاد يحرق يديه للنار التي شبت في المقلى: خراء. أنا لا أبكي، همهم جورج، وهو يبكي. هذا حسن، همهم تيدي، ستجد زوجًا آخر أجمل وأغنى، وستحبه أكثر. أحبه أكثر من وليام؟ لا يوجد الشخص الذي أحبه أكثر من وليام. أعني أكثر بقليل. لا يوجد، لا يوجد. أعني أقل بقليل. لا يوجد، لا يوجد. أعني، خراء، وقد احترق البصل، وتيدي يبهّر الهمبرغر، ويملّحه. ماذا حصل؟ سأل جورج. احترق بصلي المقلي. الهمبرغر بالبصل المقلي شيء عظيم من تحت يديك. احترق بصلي المقلي، خراء. والحال هذه، قال جورج بنبرة جادة، ستكون لك عشرة الآلاف دولار. ماذا؟ صاح تيدي، وقد ترك اللحم في المقلى، وذهب باتجاه زوجته، وهو يقرب هاتفه المحمول من أذنها، حاثًا إياها على السماع بانتباه، فقالت هذه لمحدثتها: طيب، ما، سنفكر في كل هذا، وأغلقت، وراحت تحرك شفتيها لئلا يسمعها جورج قائلة: ما له، هذا المجنون؟ وتيدي يحرك شفتيه لئلا يسمعه جورج قائلاً: عشرة آلاف دولار. هل تسمعني، تيدي؟ سأل جورج من الطرف الآخر للهاتف. أسمعك، جورج، أجاب تيدي. إنها فلوس العرس. إنها فلوس العرس. كنا ننوي الزواج في لوس أنجلس، وبالنظر إلى وضعك مع قَرض الخراء، أنت الآن بسبب هذا الأحمق وليام أحق الناس بها. ولكن، ولكن... غدًا سأعمل لك تحويلاً. ولكن، ولكن... ضربته آمندا على كتفه، وحركت شفتيها قائلة: توقف عن قول ولكن، ولكن. ولكن، ولكن... سنعمل هكذا، وأقفل، فانفجر المديونان يضحكان، يتحاضنان، ويتباوسان. هذا ما يدعى "الأمل الأخير"، قال تيدي. اللا منتظر، قالت آمندا. فليحي وليام! هتف تيدي. شيء ما يحترق. آه، إنه همبرغري بالبصل المقلي، وراح يجري لينقذ طبقه بعد فوات الأوان. همهمت آمندا يائسة: قلت إنه اختصاصك، وتيدي لا يدري ما يفعل. رمى كل شيء في صندوق القمامة، وقال مبتسمًا: ولكني سأدعوك إلى العشاء في مطعم. لم تبتهج، وهي تعرف ضيق اليد الذي هم فيه. ستدعوني إلى... هل نسيتِ بهذه السرعة عشرة الآلاف دولار التي سيحولها جورج إلى حسابي؟ قرع هاتف آمندا المحمول، فقالت: لا، يا بربارا، ليست لدي رغبة في الكشف عن ثدييّ، وأغلقت، قبل أن تجيب على زوجها: لا لم أنس عشرة الآلاف دولار التي سيحولها جورج إلى... الكشف عن ثدييك؟ كانت بربارا، تريدني أن أعمل في النادي حيث تعمل، بضع ساعات بعد عملي في الكراج. لأن معلمَكِ رفض زيادة راتبك؟ في النادي النادلات يكشفن عن أثدائهن، الآن مع عشرة الآلاف دولار التي سيحولها جورج إلى حسابك لا حاجة بي إلى الكشف عن ثدييّ. كنتِ مستعدة للكشف عن ثدييك؟ كنت مستعدة، وإلا اضطررنا إلى بيع البيت، أنا لا أريد أن نبيع البيت. ولا أنا. لهذا كنتُ مستعدة للكشف عن ثدييّ. القذر، معلمك، رفض أن يزيد راتبك. يريدني أن أذهب معه إلى البحر. يريدك أن تذهبي معه إلى... وقرع هاتف تيدي المحمول: ماذا، يا جورج؟ وجورج بصوته الرنان الصداح: أردت فقط أن أقول لك إن وليام عاد عن رأيه. بهذه السرعة؟ إنه الحب! بل الخراء! سنغادر ميامي إلى لوس أنجلس هذا المساء. يا ابن الشرموطة! وأقفل.
مضت لحظات ثقيلة، طويلة، قطعتها آمندا قائلة: سأطلب بربارا. ستطلبين بربارا، همهم تيدي. سأطلب بربارا، يا حبيبي، قالت آمندا، وهي تلقي بنفسها على صدر زوجها الذي ظل يرخي ذراعيه. أخذت ترفع ذراعيه ليحيطها، وهي تمسكهما، من حول خصرها، وتقول: أقبل بكل شيء، تيد، بكل شيء، على أن أذهب إلى البحر مع معلمي. أنت تعرف ما يعني أن أذهب إلى البحر مع معلمي، تيدي. حتى لو قلت لي اذهبي إلى البحر مع معلمك، يا آمندا، فأنا لن أذهب، لأن هذا يعني أن... اذهبي إلى البحر مع معلمك، يا آمندا، همهم تيدي. لم تصدق أذناها، فأعاد: اذهبي إلى البحر مع معلمك، خراء. تركت ذراعاه تتساقطان، وابتعدت ذاهلة، وهي تسمعه يضيف: هذا الويك إند لدي ما أفعله.

* * *

خرجت آمندا بمايوهها الأحمر من البحر، وتبعها توني كوبر، وما لبث أن سبقها إلى بشكيره، ورمى بجسده عليه، غير بعيد من بعض الأولاد الذين يلعبون بالكرة. نظر إليها، وهي تأخذ مكانًا إلى جانبه، وقال لها: ميامي كلها تحسدني اليوم. لن أجفف شعري، قالت آمندا، ولا وجهي، ولا جسدي، وعرّضت نفسها لأشعة الشمس، وهي تغمض عينيها. أنت تحبين الشمس والملح مثلي، آمندا. لم تجبه، بقيت تغمض عينيها، فطلب توني كوبر إليها: انظري إلى تلك الفتاة القادمة، إنها ترتدي مايو أحمر مثلك. لم تفتح عينيها، فأضاف: وتلك الفتاة هناك، والأخرى التي تجلس بين ذراعي حبيبها من ورائنا، وكلهن، كلهن يرتدين مايو أحمر مثلك. وكلهن شقراوات، همهمت آمندا دون أن تفتح عينيها. دوننا نحن الشقراوات لن تكون ميامي ميامي، أضافت، وهي تغلق عينيها دومًا. ولماذا تحببن اللون الأحمر؟ سأل معلم ساحرة ميامي. في نيويورك اللون الأحمر شيء آخر، لهذا السبب، همهمت آمندا دون أن تفتح عينيها، لكنه فاجأها عندما نبر: الغائط لونه أحمر في نيويورك، هذا هو لونه، الغائط في نيويورك لونه أحمر. فتحت عينيها على سعتهما، وأحددت نظرها إلى عينيه: سيد كوبر، أنت تعرف تمامًا لماذا أنا هنا. طالما تدعوينني "سيد كوبر"، نعم، أعرف تمامًا لماذا أنت هنا، وأعرف تمامًا لماذا أنا هنا، يا دين الكلب، وإذا لم تكوني لطيفة معي ذهبت مع أية واحدة ممن هن حولنا. فاجأها، وعزمت على الذهاب، لكنها عدلت عن تنفيذ ذلك عندما قذفه الأولاد بالكرة عن غير قصد منهم، فحملها غاضبًا، ووقف ينظر إليهم، وعيناه تقدحان شررًا، ثم ضربها بعيدًا تحت النظرات المستنكرة باتجاه الموج. هل تريدين أن أُدَلِّك لكِ ظهرك، مَيْلادي؟ همس في أذن الشقراء التي تمضي به، والتي راحت تبتسم. كظمت آمندا غيظها، فعاد معلمها يجلس إلى جانبها، وقال لها: لن تفقدي تخشيبتك وحدك، آمندا. إذا ما مضى إعصار من هنا، وهو سيمضي ككل سنة، حتى المنازل الباذخة لن تصمد من أمامه، كل شيء سينهار. الإعصار المالي أقوى من كل شيء، سيد كوبر، ألقت آمندا. إذا لم ندفع في الأجل المحدد، باعوا تخشيبتنا، كما تقول، وحجزوا على متاعنا. تورطنا هذا صحيح، نحن وملايين غيرنا من الذين لا مخ في جماجمهم، لكننا لا نستطيع العودة إلى الوراء. باعوا بيتنا، هل تفهم؟ وحجزوا على متاعنا، وبعد ذلك سنهيم على وجوهنا كما تهيم على وجوهها الكلاب. فرش أصابعه على ساقها، وسار بها حتى أعلى فخذها، وهو يردد: أفهم، كيف لا أفهم؟ أنا أفهم، فحملت يده، وأبعدتها عنها. فطائر، فطائر... وصلهما صوت البائع المتجول. تعال، أمره توني كوبر، فجاء. فطيرة واحدة. باللحم؟ بالتوابل؟ بالفواكه؟ بالتوابل. دولاران. أعطاه، وقسم الفطيرة الصغيرة نصفين قدم أحدهما من آمندا، فنهضت هذه، وهي تقول: سأغتسل، وأغادر الشاطئ، وأعطته ظهرها. قذف الفطيرة، وهو يلفظ خراء، ولحق بها. آمندا، ما لك، يا دين الكلب؟ جذبها من ذراعها، فجذبت بدورها ذراعها، وعجلت السير إلى الدوش. غابت في الصندوق، فخف يجري ليغيب فيه بدوره. أخذها بعنف، وغصبها قبلة. مزق مايوهها، والتقم نهدها، لكنها تمكنت من دفعه، والهرب، وهي تحاول إخفاء ثديها عن عيون الناس. حملت حوائجها إلى تاكسي، وغادرت الشاطئ.
في حديقة السيدة بيترسون، كان تيدي يقلب بيديه المُقَفَّزَتين التراب من حول سيقان القرنفل الأحمر، ويعمل على تقليمه، بينما تجلس العجوز على كرسي هزاز قرب البركة، وهي تضع على عينيها نظارة شمسية ضخمة. أحسنتِ صنعًا، مدام بيترسون، صاح تيدي بصاحبة الفيلا. اختياري لها ضخمة لهذا، ردت العجوز بصوت مرتعش، لأحمي أكبر قدر من وجهي. هل أفتح لك المظلة؟ سأل تيدي، وهو يتقدم منها، بمقص ضخم. أين المظلة؟ ليس لدي مظلة، أجابت السيدة بيترسون. في المرة القادمة، سأجلب لك واحدة. لست بحاجة إلى مظلة. كما تشائين، مع أن المظلة... في الساعة التي تصبح فيها الشمس في سمت السماء، أذهب إلى الداخل، قالت العجوز بصوت أكثر تماسكًا، فعلق تيدي: كلما تكلمتِ كلما خف ارتعاش صوتك. تيدي، كم تعطيني من العمر؟ لستِ عجوزًا جدًا، قال تيدي بلهجة جادة. كم تعطيني؟ أعطيك...كم تعطيني؟ سبعين عامًا. هذا لطف منك. أخذ يلوح بمقصه الضخم قرب ذقنها، وهو يقول: أنا لا أمالقك، تظنينني أمالقك؟ إذن لن أقول لك عمري الحقيقي. نهضت السيدة بيترسون مسرورة، وسارت بخطوات متماسكة حتى باب الفيلا الفخم، وما لبثت أن غابت في الداخل. عاد تيدي إلى النبش والقص بسحنة مكفهرة، كان ينتظر عودة العجوز بين لحظة وأخرى. نظر إلى الشمس في سمت السماء، وقفز إلى الداخل، والمقص الضخم دومًا في قبضته. سمع حركة السيدة بيترسون في المطبخ، فأدخل رأسه في جورب زوجته، ودخل على العجوز يريد قتلها، لكنها ما أن رأته حتى انفجرت ضاحكة: تيدي، أنت تملك حس الفكاهة. داومت على الضحك المتواصل، مما اضطره إلى سحب الجورب، والسيدة بيترسون تقول: أشكرك على إضحاكي كثيرًا، فالضحك يطيل العمر. ثم، وهي تنقل القريصات الساخنة في صحن: صنعت لك بعض القريصات، قلت لنفسي القريصات أطيب من الفطائر، فهل تحبها بالعسل أم بالسكر؟

* * *

قالت آمندا، وهي تبكي: أنا أحبك، تيدي. لهذا السبب، لأني أحبك. وتيدي يهمهم: خراء، لأنها تحبني! شيء أقوى مني، داومت آمندا على القول. وتيدي يهمهم: شيء أقوى منها، يا دين الرب! كان البحر هناك، كان البحر ينظر إليّ. لم أكن أريد كل هذا. وأنا، هل كنت أريد كل هذا؟ نبر تيدي. لم أكن أريد كل هذا، لم أكن أحب البحر، كنت أحبك، تيد. لهذا السبب، لأني أحبك، تيدي. لأني أحبك. كفي عن ترداد لأني أحبك، صاح تيدي. لأني أحبك. لأني أحبك، تيدي، ولأن البحر كان ينظر إليّ. يا دين الرب، يا دين الرب! العالم دميم، همهمت آمندا، الحياة دميمة، الناس دميمون، وكان البحر هناك. لم يكن لونه أزرق، كان لونه أحمر. كان لونه بلون الليل في الخارج، أحمر. انظر إلى الليل في الخارج، قالت آمندا، وهي تذهب إلى النافذة، وترفع الستارة. لا أحد في الخارج، لأن الليل أحمر. التفتت إلى زوجها: ماذا سنفعل الآن؟ لا بد أنهم قادمون ليحجزوا على متاعنا، ويلقوا بنا في عرض الطريق. تخشيبة الخراء هذه كانت فكرَتَكِ، عاد تيدي يصيح. كانت فكرتي وفكرتك، قالت آمندا، كانت فكرتنا. لم تكن فكرة البحر. كان البحر هناك، كان البحر ينظر إليّ. عندما وجدتني بين ذراعيه، كان البحر ينظر إليّ. لهذا هربت، لأن البحر كان ينظر إليّ. أفضل سماع هذا، نبر تيدي، ليس لأنك تحبينني. لأني أحبك، همهمت آمندا، ولأني أكره البحر. والآن، ماذا سنفعل، يا دين الرب؟ صاح تيدي بأعلى صوته، ليستعيدوا نقودهم سيبيعون البيت، ولن يكفيهم ذلك بعد أن هبطت الأسعار إلى أدنى مستوى. لماذا هبطت الأسعار إلى أدنى مستوى؟ لأن كل الذين هم مثلنا يغرقون في الخراء حتى قمم رؤوسهم، فصار العرض أكثر من الطلب. بنصف ثمن البيت سيبيعون، بثلثه، بربعه، الحياة حلوة لمنايك الخراء الذين هم نحن! آه، يا إلهي! همهمت آمندا. وهل هناك إله؟ صاح تيدي بأعلى صوته. سارعت آمندا إلى الارتماء في أحضان زوجها، وهي تردد: أنا خائفة، تيدي، أنا خائفة. لكنه تركها ترتعد من الخوف وحدها: أينكَ، تيدي؟ أينني؟ في الخراء. ضُمني، تيدي. عادت ترتمي في أحضان زوجها: لن يأخذوا منا البيت، تيدي. سيأخذونه، وبنصف ثمنه إن لم يكن بثلثه، بربعه. لن يأخذوا منا البيت، سأجلب لك نقودًا، لن أتركهم يأخذون البيت، سأعود إليه، سأتركه يعبث بجسدي كما يشاء، سأتركه يقتل روحي برائحة صابون حلاقته، سأجعله يحلم أحلامًا لطيفة الوقت الذي يقضي فيه غرضه، وأترك لنفسي كل الكوابيس، هل أنت سعيد الآن؟ سنكون سعداء في بيتنا، لن نتركهم يأخذونه، سنحب بعضنا كالماضي، سنحب ميامي كما كنا نحبها دومًا، هي وأعاصيرها كنا نحبها، هي وكل أعاصيرها، سنحب بحرها وليلها وناسها كالماضي، لن نكره الرمل، سنحب الرمل لأنه رمل ميامي، والنخيل، لأن النخيل نخيل ميامي، والبارات التي لا تغلق أبوابها أبدًا، لأنها بارات ميامي، سنحب البنوك، نعم، البنوك، سنحب البنوك لأنها بنوك ميامي، سنحب كل شيء في ميامي، العاهرات، القتلة، اللصوص، سنحب الشمس، لأن الشمس شمس ميامي، ولن نترك أبدًا ميامي، لهذا سأذهب إليه، ولا يهم، بعد ذلك، ألا أحبك، لا يهم بعد ذلك ألا أخلص لك، سأذهب إليه الآن، في الحال.
عندما أيقن تيدي أن زوجه ذهبت لتبيع نفسها جن جنونه، ناداها، لكنها كانت قد ركبت شاحنتهما الصغيرة، وغادرت. أخذ يركض من ورائها في شارع القرنفل الأحمر، شارعهم، الشارع الجديد ببيوته المتواضعة ذات النمط الواحد، وهو يصرخ مناديًا إياها، إلى أن توقف من شدة التعب، وراح يبذل من عزة نفسه ما يبذل مع أنفاسه الضائقة. التفت من حوله يائسًا، ثم ما لبث أن أخذ الطريق إلى البحر. كان بعضهم يستحم عاريًا في الظلام، وسمع أحدهم ينادي كلبه: بوبي، أين أنت؟ كانت ميامي هناك بكل أضوائها التي لا تسأل عن أحد، التي لا يهمها أحد، والتي تتلألأ سيدة للكون. نظر إلى أبعد مدى، ولم يشأ البكاء. رأى كتلة لا شكل لها تنبثق من السراب الذي كانته ميامي، كتلة من لهب وخراء وأماني، أماني بربرية، أماني بربرية كثيرة، وخراء أسود، ولهب يفتك بكل شيء، وسمع أنغامًا مختلطة، جاز وإليكترو وموسيقى شرقية، وما لبث أن بان له بطن شرقي، وخصر شرقي، وردف شرقي. أحس بنفسه في صندوق زجاجي مع الراقصة، والموج يعلو، ودفعة واحدة ينكب على الصندوق الزجاجي الذي هو فيه. أغمض عينيه، فابتعدت الموسيقى، وتحولت الراقصة إلى خيالات تتحرك، تتحرك، تتحرك...
صرخت آمندا، وهو يدخلها، قالت آي، لكنه كان جهنميًا، كان يريدها كلها، وفي كل الأوضاع، كان يمارس الانتقام من شيء يجهله، كانت ميامي الشيء الذي يجهله على الرغم من كل الشمس التي فيها، الشيء الذي يريد أن يراه بوضوح، ولا بأس أن يرتكب إثمه الصغير، جنايته العابرة، كان يمارس الانتقام فقط، كان يمارس الانتقام على طريقته بعد أن غدا حتى الانتقام شيئًا مبتذلاً.
عاد تيدي إلى البيت، فوجد زوجه قد سبقته. أخرجت من حقيبتها خمسمائة دولار، ومدتها له، فصاح: فقط! ولطمها. نعم، كأي عاهرة، قالت آمندا، وهي تنفجر باكية. بقيا هكذا صامتين، كان الصمت كلامهما. قطعت كلامهما غير المسموع، وقالت: سأتركك، تيد، سأذهب إلى دالاس، عند أمي. وضع الخمسمائة دولار في جيبه، وخرج. إنه دوره الآن. كان عليه أن يأتي بالنقود. كان عليه أن يتصرف.

* * *

دخل تيدي على السيدة بيترسون في قاعة الحمام، وهي تخلع آخر قطعة عن جسدها المتآكل، فقالت له، وهي تراه واقفًا خلفها عبر المرآة: لا فائدة من هذا الجورب، تيدي. سحب تيدي الجورب بحركة بطيئة، وهمهم: أنا آسف، سيدة بيترسون. مارغريت، همهمت العجوز. مارغريت، همهم تيدي. وهل ستكون لطيفًا معي؟ سألَتْ. وكيف تريدينني أن أكون لطيفًا معك؟ سأل بدوره. أن تكون لطيفًا معي. اقترب منها، ونظر إلى الجزر والخلجان على جسدها، فجاشت نفسه. أمسكها من ذراعها، وهو يعاني من شدة التقزز، كان كمن يمسك بشيء تَلِف نوعه، وكان يريد فقط أن يتخلص منه، أن يرميه. لم يكن فعل كهذا غيرَ إنسانيّ، وما شأن الإنسانية في كل هذا؟ أن يرميه. كمن يرمي شيئًا لا حاجة به إليه في صندوق القمامة. أن يرميه. وبعد ذلك، أن ينساه، ويواصل حياته. أعانها على وضع قدمها اليمنى في البانيو، فقدمها اليس... وإذا بأحدهم يقرع جرس الباب. نظر كل منهما إلى الآخر حائرًا: هل تنتظرين أحدًا، مارغريت؟ لا أنتظر أحدًا غيرك. رن الجرس مرة ثانية، تبع ذلك طرقات قوية، ثم لا شيء، غدا الطريق مفتوحًا إلى الجريمة. ترك تيدي العجوز عائمة في البانيو، وخف يصعد إلى حجرة نومها. كانت قد تركت صندوق حليها مفتوحُا ونقودها على السرير، فاندفع المجرم نحو الثروة التي لم يحلم بها من قبل، لكن الأحلام السعيدة لا تدوم طويلاً. كان أحدهم من ورائه، وهو يطقطق بلسانه محذرًا. التفت تيدي ليجد نفسه وجهًا لوجه مع جار السيدة بيترسون السيد كريزي، وهو يصوب سلاحه عليه.
كنت أمضي من هنا، همهم الرجل الأسود، فقلت أذهب لأرى السيدة بيترسون. رمى له كيسًا من البلاستيك أخرجه من جيبه، فراح تيدي يملأه بالغنيمة. مده للسيد كريزي، فأمر هذا: وكل ما في جيبك. أخرج خمسمائة الدولار التي أعطته إياها آمندا، ورماها في الكيس. ارم لي الكيس! رماه. ابق في مكانك، ولا تتحرك! بقي في مكانه، ولم يتحرك. لا تتحرك! لم يتحرك. هل تحتاج إلى توقيع أم ماذا؟ همهم. هذا الطرد مقابل عدم بيعي لك للإف بي آي، قال، وهو يرفع كيس البلاستيك عاليًا، لن يكون هناك عقاب، أضاف قبل أن يختفي.

* * *

بعد مغادرة آمندا، لم يعد تيدي يذهب إلى العمل، لم يعد يخرج من البيت، لم يعد يهتم بحديقتهم الصغيرة، فذبل القرنفل الأحمر، وذبلت روحه. كره حياته من الهمبرغر بالبصل المقلي اختصاصه، وأفرغ كل قناني الجعة في حلقه، كل قناني النبيذ، كل قناني الويسكي. بدأت تصله إشعارات من البنك تهدده ببيع البيت، والحجز على متاعه، وفي أحد الأيام، قرع أحدهم جرس الباب عليه، فلم يفتح، كان السمسار. دس السمسار الأمر بالبيع من تحت الباب، وغرس مأطورة "للبيع" في الحديقة الصغيرة، ثم ركب سيارته الفورد العائلية الحمراء، وغادر المكان خلي البال.
في الكراج، وبكل هدوء، أخرج تيدي بندقيته من صندوق كبير فيه كل شيء لم يعودوا يستعملونه أو كان مؤجل الاستعمال. نظفها، ولمعها، ووضع فيها رصاصة واحدة، وانتظر متى سيفجر رأسه. عاد السمسار يقرع جرس الباب عليه، وبمعيته من يريد شراء البيت، رجل وامرأة في مثل عمره وعمر آمندا. سارع إلى ملء بندقيته بالرصاص ليفجر رؤوسهم، لكن السمسار غادر المكان بالزائريْن إلى البيت المجاور، بيت للبيع أيضًا، فلم يتمكن تيدي من إطلاق النار. مضت أيام ثلاثة، وتيدي ينتظر أن يأتي السمسار بزائريه. في اليوم الرابع، ما أن نزل الرجل الشيطان من سيارته الفورد العائلية الحمراء والزائر الشاب الذي كان برفقته حتى أخذ تيدي بإطلاق النار عليهما، فاضطرهما إلى النجاة بجلدهما. جاء رجال الشرطة، وحاصروا "التخشيبة"، طالبين من تيدي تسليم نفسه. يقتل نفسه على أن يسلمها. أخرج من الصندوق الكبير صفيحة من سائل الإثْيَر الشديد الاشتعال، وصبه في زوايا البيت الأربع. وفي اللحظة التي كان فيها الاقتحام، احترق الحلم، ودوت في الأرجاء طلقة واحدة.
احترق أكثر من بيت في شارع القرنفل الأحمر، وعلى نفير صهاريج رجال المطافئ، كان هناك من يرحل بعيدًا، إلى أبعد مكان عن البحر، وكان هناك من يحفر قريبًا، في أقرب مكان من البحر. للبيع، للبيع، للبيع... كانت المأطورات المكتوب عليها "للبيع" كثيرة في الحدائق الصغيرة، وكان يتعلق بذراعيه على إحداها أحد المنتحرين كالمسيح المعاصر. لكن ما لم ينتبه إليه أحد، السيارة الفورد العائلية، السيارة الحمراء للسمسار. كان يقودها في شارع البناء والهدم فتى في الثالثة عشرة، وإلى جانبه طفلة في العاشرة. كان الصبي يضع على رأسه قبعة أبيه، وفي فمه سيجارة، وكانت البنت تضع على وجهها مساحيق أمها، وفي فمها علكة. فتحت الطفلة العلبة الأمامية للوحة القيادة، واطمأنت على وجود مسدس بيريتّا 92 أجمل من بنك، وابتسمت للسلاح. بحث الفتى بيده عن خنجر يمني أروع من بورصة، حتى وقع عليه، وابتسم لرب الأرباب. ومن صندوق السيارة الخلفي، كانت قطرات دموية تنضح ملوثةً الإسفلت، وميامي، وفلوريدا، وأمريكا، والعالم.








الكابوس السادس
النفق

إنه أيضًا رأي العالم يتزاك بوبوفيتش، البروفسور في شلل الأطفال، قال المعلق، بينما لقطات الفيديو تتتالى لطفل ودُلفين يلعبان تحت رقابة فتاة ساحرة ترتدي ثوب سباحة بقطعتين في بركة، فعلاج الكثير من المعاقين يتم بحافز خارجي عندما يعجز العلاج الدوائي عن تحقيق ما يرتجى منه. هذا وليس المقصود هنا بالحافز الخارجي التأثير في العالم النفسي للطفل، كما يقول العلماء النفسيون، هذا التأثير يظل ثانويًا، يمكن أن يكون هامًا، ولكنه يظل ثانويًا أمام حركة لا شعورية أو فعل غير منتظر يعيد الحياة إلى عروق الطفل، وليس هناك أفضل من الدُّلفين، هذا الكائن المائي البريء براءة الأطفال، من القيام بهذا الدور، دور الحافز الخارجي، ختم المعلق عبارته على لقطة كبيرة لساق الطفل المشلولة، وهي تتحرك بإرادة سرية لمحاولة العوم مع الدُّلفين. لهذا تتبنى مصحتنا هذه الطريقة في علاج شلل الأطفال، وتتميز بكونها الوحيدة في العالم. العنوان: مستوصف الأمل، 17 شارع روتشيلد، تل أبيب. الهاتف: 15 05 19 48.
التفت أبو السعيد إلى ابنه المشلول الساقين، ابن السابعة، والغافي في عربته، وتنهد. أبو السعيد، كم مرة أعدت رؤية هذا الفيديو؟ جاء صوت امرأته يسأل من ورائه. أخرج الأب التعيس الشريط، وأطفأ الجهاز. نظر إلى ابنه المعاق، ومن جديد تنهد. لولا الحصار لذهبت بالسعيد إلى تل أبيب في الحال، همهم أبو السعيد. ولماذا لا تأخذ السعيد إلى باريس، إلى مدريد، إلى موسكو، إلى سان فرانسيسكو؟ أنت ملك من ملوك الأنفاق اليوم، غني، والكل في غزة يسعى لنيل رضاك، طنت بصوتها أم السعيد. اسكتي، يا أم السعيد، بالله عليك، عاتب الرجل، عاملة حالك مش فاهمة، هذه الطريقة في علاج شلل الأطفال لا توجد إلا في إسرائيل. طب خليهم يبعتوا لك دُلفين، البِركة، وبنيتها، اقترحت أم السعيد على صوت الصغيرة سناء، ابنة الخامسة، التي دخلت راكضة إلى ذراعي أبيها، وهو تقول: يابا، يابا، علمني السباحة، يابا. فتح السعيد عينيه، وقال: وأنا أيضًا، علمني السباحة، يابا. ذرف أبو السعيد دمعة، وهو يضم ابنته وابنه، وكذلك فعلت أم السعيد. شدت شالها تحت ذقنها، ورفعت وجهها المدور كطنجرة المسلوعة ويديها إلى السماء، وراحت تبتهل إلى الله.
وهو في سيارته المرسيدس، كان أبو السعيد يتكلم في هاتفه المحمول مع المهرب المصري، ويقول: نعم، دُلفين، تُخَس الاسم العلمي. تُخَس، يا أبو السعيد، من أين؟ يقول المهرب من الطرف الآخر للخط. نحن لا عندنا تُخَس ولا رُخَص، قل لي حوت أحضره لك، سمك قرش أحضره لك، تمساح أحضره لك، أما تُخَس... ستحضره لي من تحت الأرض، ألح أبو السعيد، عندنا ممنوع على الصيادين الصيد في الماء الحلو، وإلا أرسلت بمن يحضر لي عشرة دلافين بدل واحد. ماء بحر غزة حلو، يا أبو السعيد؟ احتار المهرب في أمره. ماء بحر غزة خرا، كل خرا الغزيين يصب فيه بعدما قنبلوا المجاري، وفاضت به أدمغتنا، وعما قريب سيتغلغل في أعماق الأرض، فلا تحبل أرض ولا تحبل امرأة، ويغدو العقم كل حياتنا. طيب، قال المهرب محزونًا، سأسأل لك. من أجل ابني السعيد، همهم الرجل، وهو يذرف من جديد دمعة.
ترك أبو السعيد غزة من ورائه كحلم شيطاني مزلزلة مهدمة مهشمة كلها إلا مآذنها الواقفة على أذنيها بين ذراعي الوَرَع، سار في أنقاض ضاحيتها الحدودية، ونظر بعين الحسد إلى الأطفال الذين يلعبون في الخراء بكامل قواهم الجسدية. أوقف سيارته المرسيدس، وراح يتأملهم، ويتنهد. هؤلاء العفاريت لا يلزمهم دُلفين ليمشوا، همهم أبو السعيد بكل اليأس على سطح الأرض. كانت هناك بعض الأكواخ القذرة، وبعض العجائز المحجبات، وبعض الفتيات المحجبات، وبعض البنات المحجبات، وبعض الرجال الملتحين. رأى شخصًا غريب الشكل غريب الأطوار، وأحدهم ينتهر الأطفال: ابتعدوا عنه، لكن الأطفال كانوا يحبونه. كان غريبًا في كل شيء، في حركته، في صوته، عند ضحكه، عند بكائه. صعد على الأسطح، وصرخ بالأطفال: لا تطيعوا آباءكم! فأنزله الآباء، وراحوا به لكمًا وركلاً، وراحوا بأطفالهم لكمًا وركلاً، لكن الأطفال كانوا يحبونه. بكى الأطفال قليلاً، ثم مسحوا دموعهم. عاد الرجل الغريب إلى الصعود على الأسطح، والصراخ بالأطفال: لا تطيعوا آباءكم! فعاد الآباء إلى إنزاله، وراحوا به لكمًا وركلاً، وراحوا بأطفالهم لكمًا وركلاً. وفي كل مرة يتوقف فيها الآباء عن ممارسة طقس من طقوس الأبوة يعود الرجل الغريب إلى الصعود على الأسطح، والصراخ بالأطفال: لا تطيعوا...
عجل أبو السعيد الذهاب إلى نفقه الجديد، غير بعيد من بابل، وهو لا يفكر في بابل. في كل مرة، بعد هدم الطائرات الحربية لنفق، يبني نفقًا آخر أكبر وأوسع وأمتن، إنه الهدم الخلاق في حضارة الحصار. جاء العمال، وقالوا إنهم توقفوا عن حفر النفق الجديد لأنهم يريدون أجورهم التي تعود عليهم من حفر النفق القديم، فشخر أبو السعيد بهم، وراح يشكو حال الدنيا والآخرة، ويقول: لدي من الهموم ما فيه الكفاية، كل ما يلزم، وأنا سأغمركم بالنقود بعد إكمال حفر النفق الجديد، عن النفق الجديد والنفق القديم، والله سأغمركم. الصفقة ستكون كبيرة، بشرط أن يكون النفق كبيرًا، أكبر نفق في غزة أن يكون. الصفقة اسمنت وحديد وحنفيات ومواسير ورخام طلياني، الصفقة ستكون كبيرة. عجلوا الهمة بس، وأنا سأغمركم بالنقود، بالدولار سأغمركم، لا شيكل ولا جنيه ولا دينار، بالدولار سأغمركم، والله سأغمركم.
نزل العمال على حبل في حفرة بقدر عشر آبار، واخترقوا بأدواتهم نفقًا عريضًا لكنه ليس عاليًا، كان يضطرهم إلى الانحناء فيه. راحوا يعملون كالشياطين في أنفاق الجحيم، وهم يحفرون، ويخرجون الرمل، ويدعمون النفق بالأخشاب. كانوا يقولون فوقنا الرمل، وتحتنا الرمل، لم نصل بعد إلى حرس الحدود، ويا حبذا لو يزلق هؤلاء بأقدامهم لتكون نهايتهم على أيدينا، وكانوا يضحكون، ويدخنون سيجارة.
بعد يومين، قالوا نحن الآن في الطرف الآخر من الحدود، نحن الآن في بطن سيناء. كانوا سعيدين كحيوانات الخلد، وكان بعضهم يقول هذا النفق هو الأكبر والأقوى والأجمل، وهو آخر نفق يحفره، لأنه يريد الخروج من بطن سيناء. الخروج من بطن سيناء، يهمهم بعضهم الآخر. كان كل منهم يغدو تعيسًا، وعلى وجوههم الشاحبة ترتعش أشعة المصابيح الصفراء، فتزيدها شحوبًا. الخروج من بطن سيناء. كانوا يرمون أدواتهم، ويشعلون سيجارة. وبينما هم كذلك، إذا بجهنم تتفجر فوقهم. لم يكن شيئًا كبيرًا، كانت غارة إسرائيلية. لكن القنابل دكت المكان، وانهار الرمل على رؤوسهم، فسعلوا، وكادوا يختنقون. عجلوا في الخروج من النفق، وبعضهم فوق كان يتنفس بصعوبة. رائحة القنابل، قالوا، رائحة الموت ليست طيبة.
لم يتوقف القصف طوال الليل، ولم تنم أعين ناس الأكواخ القذرة. لم يكن لديهم ملجأ يلجأون إليه، كانت سماء الله ملجأهم. خرجوا إلى الأزقة، وفي أحضانهم أطفالهم. كان الأطفال يصرخون على كل انفجار يسمعونه، بينما الكبار يرتعدون، ويتكلمون مع أنفسهم تارة، وتارة مع الشياطين. كانوا يغلقون آذانهم عند كل انفجار، ويغدون صغارًا، يصرخون كأطفالهم، ثم يتوقف أطفالهم عن الصراخ، ويأخذون بالضحك على هستيريا القذائف. وفي الأخير، كان أطفالهم يغفون، والقصف على أشده، فتهزهم من أكتافهم يد الموت بقوة ودون رحمة، لينهضوا على انفجار في وسطهم أودى بحياة الكثيرين. كانت الانفجارات لعنة للواحد ورحمة للآخر كتلك المرأة التي لم يكف زوجها عن ضربها كل يوم منذ عشرات السنين لما سقط قتيلاً، أو تلك الأخرى التي قتلت زوجها لتقول هم الإسرائيليون. كذلك ذلك الرجل الذي جعل حياة الناس أسود من الجحيم حتى جاءه الجحيم إلى عقر داره، أو ذلك الآخر الذي قتله الوعد على يد من كان يريد كل الوعد وقال إنه الرجل الغريب. ماذا يعني أن يُقتل المرء في غزة؟ كان القتل في غزة شيئًا آخر غير ما هو عليه في الفاجعة، كان القتل في غزة فعلاً عاديًا، كالذهاب إلى بيت الماء، بعضه كان شيطانيًا، وبعضه كان ملائكيًا، لكنه يبقى عاديًا، عاديًا جدًا.
في اليوم التالي، كان العديد من الأنفاق قد تحول إلى ركام، ولم يكن نفق أبي السعيد من بينها. تعانق العمال لفرحهم، ووعد أبو السعيد بمضاعفة أجورهم: يالله يا شباب، عجلوا الهمة بس، وأنا سأغمركم بالنقود، بالدولار سأغمركم، لا شيكل ولا جنيه ولا دينار، بالدولار سأغمركم، والله سأغمركم. عادوا إلى الحفر، وبعضهم يسعل، وبعضهم يدخن، وبعضهم يفكر في اللحظة التي سيخرج فيها من بطن أمه.
في اليوم الذي سيتم فيه فتح النفق من الجهة المصرية، أحضر أبو السعيد ابنه المعاق معه. ستستقبل بنفسك الدُّلفين، قال أبو السعيد للسعيد سعيدًا. سأستقبل بنفسي الدُّلفين، قال السعيد لأبي السعيد سعيدًا. سيعلمك السباحة، همهم أبو السعيد. سيعلمني السباحة، همهم السعيد. نعم، سيعلمك السباحة، عاد أبو السعيد إلى الهمهمة. غير بعيد من حافة الحفرة البئرية، أنزل عربة ابنه من سيارة المرسيدس، ثم أنزل ابنه، ووضعه في العربة. سيجيئون لك بالدُّلفين بعد قليل، همهم أبو السعيد في أذن السعيد الذي بدا مسحورًا. شكرًا، يابا، همهم الطفل. تقدم السعيد بعربته حتى الحافة البئرية، ونظر إلى باب النفق، وراح يحلم. تخيل نفسه، وهو يزحف في جوفه، وهو يعلو بقامته الصغيرة، وهو يمشي. بقي يمشي في أعماق النفق حتى وصل إلى بابه الآخر، كان الباب يصل مباشرة بالرمل، بالبحر، بالدلافين. عانق الدلافين، وعام معها، حملته على أكتافها، وذهبت به بعيدًا، بعيدًا، ذهبت به بعيدًا، ذهبت به إلى مملكتها. تحت الماء كانت مملكتها. كانت مملكتها من المرجان. كلها من المرجان. أخضر كان المرجان، وأحمر، وأزرق غامق. وكان البحر من تلك الناحية أزرق فاتح. كان السمك فضيًا، وكان ذهبيًا، والبحر كان أزرق فاتح. نظر السعيد إلى عيون الدلافين، فكان لونها أزرق فاتح. أدخلته الدلافين في المرآة معها، ورأى في المرايا الأخرى التي في المرآة أن لون عينيه أزرق فاتح، ولون يديه، ولون قدميه. كان كل شيء في المرايا التي في المرآة أزرق فاتح، الأسود فيها أزرق فاتح، والأبيض فيها أزرق فاتح. وبينما هو يسير مع الدلافين إلى الطرف الآخر من المرايا، رأى من بعيد أطفالاً آخرين غيره. لم يكن لهم آباء، وكانوا لا يعرفون من أين جاءوا. كان البطن الذي حمل بهم الأزرق الفاتح. كان الأزرق الفاتح أمهم، وهم لهذا لم يكن لهم آباء. كانوا أحرارًا، لأنهم لم يكن لهم آباء. كالدلافين، لم يكن لهم آباء. كالسمك الفضيّ، لم يكن لهم آباء. كأبطال قصص شهرزاد، لم يكن لهم آباء. كالحور في الأوديسة، لم يكن لهم آباء. كرسوم والت ديزني المتحركة، لم يكن لهم آباء. لهذا كانوا أحرارًا، لأنهم لم يكن لهم آباء. وكانت لهم أفكار هي الأحلام، ولم تكن الأحلام. كانت أفكارهم أحلامًا، وكانت أفعالهم غير أفعال الكبار، كانت أفعالهم أفعال صغار لم يكن لهم آباء. لهذا كانوا أحرارًا، لأنهم لم يكن لهم آباء. وكانت المرايا التي في المرآة امتداد العالم الحر الذي لهم، دون آباء، ودون قوة الآباء عليهم. لم تكن عليهم إلا قوة الأزرق الفاتح، لون الحلم في أعماق البحر، ولون الحب، ولون الكره، لأن الكره في مملكة الدلافين كان حبًا.
انتظرناكم طويلاً، قال المهرب، والعمال يخرجون برؤوسهم من مهبل سيناء. تنفس العمال الصعداء، وقالوا: لم يكن الأمر سهلاً. لننته بسرعة، قال المهرب، هناك دورية. أخذ حمالوه ينقلون مواد البناء الثقيلة وأكياس الاسمنت وأكداس الرخام من الشاحنة، ويلقونها في النفق، وفي النفق كان العمال يسحبونها على بساط من البلاستيك، كل واحد منهم يسحبها إلى مسافة، وكانوا يتناوبون في سحبها حتى إخراجها، ومن قلب الحفرة البئرية، كانوا يرفعونها على حبال ربطوها بدولاب. والدُّلفين، يابا، سأل الصغير سعيد، وقد عيل صبره. في الطريق، أجاب الأب بعصبية.
ما هذا! صاح العمال دهشين على رؤية لاما كان الحمالون على وشك الإلقاء بها في النفق. قولوا لأبي السعيد إنني لم أجد الدُّلفين الذي طلبه، قال المهرب للعمال. وكيف سنخرجها؟ همهم الرجال الشجعان، ستنكسر ساقاها. اسحبوها، وهي على ظهرها، اقترح المهرب. على ظهرها أو على بطنها، ستنكسر ساقاها.
صاح السعيد أول ما رأى اللاما في قعر الحفرة البئرية: الدُّلفين، يابا! عندما تأكد لأبي السعيد، وهم يرفعون اللاما بالحبال، أنها لاما، أخذ يكفر مجمجمًا أقذع القذائع. معلش، يابا، قال الطفل، اللاما كالدُّلفين. اقترَبوا بها حتى لامس بيده عنقها، وراح يداعبها.
مضت الأيام دون أن يتعلم السعيد العوم مع اللاما، فاللاما لا تحسن العوم، ولكنها تحسن الكَلَفَ خاصة بالمشلولين الذين كان من بينهم الطفل الغزي. كانت تدفع عربته برأسها، وتدغدغه بذيلها، وترضبه بلسانها. وعندما قال أبو السعيد إنه سيذبحها، فاللحم مقطوع في غزة، وهو يشتهي طبق كباب من تحت يدي أم السعيد لا أحد في البلد يتقن صنعه مثلها، أخذ السعيد يبكي، ويقول: لا تذبحها، يابا. وكذلك بكت الصغيرة سناء، وقالت: لا تذبحها، يابا. فلم يذبحها كُرْمال عيون طفليه، حتى أنه ذرف دمعة عندما تذكر وضع ابنه الميئوس منه، ولم تفعل أم السعيد سوى شد شالها تحت ذقنها، ورفع وجهها المدور كطنجرة المسلوعة ويديها إلى السماء، والابتهال إلى الله.
لم يكن المساء مزهرًا في غزة ككل مساء، ولم تعتد اللاما على موت حديقة الليل. كم من مرة تعثرت قدمها، وكادت تسقط في البركة، لولا عيون السعيد التي تسهر عليها. تعثرت قدمها، وسقطت في البركة هذه المرة، ولم تنفع صرخات السعيد، فلم يجئ أحد إلى إنقاذها. والطفل يرى حيوانه المحبوب يغرق، ويموت تحت ناظريه، سار بعربته حتى حافة البركة، وألقى بنفسه في الماء، لكنه بدلاً من أن ينقذ اللاما كان يحتاج إلى من ينقذه. راحت اللاما تدفعه برأسها، وهي تقاوم الغرق، فلا يموت الطفل غرقًا. دب دبيب الحياة في الساقين المشلولتين، وفي اللحظة نفسها، انبثقت طائرة حربية، وقصفت المكان، فقتلت اللاما التي حمت الطفل بقلبها، بعقلها، بجسدها، بكلها، بكيانها الحيواني، وافتدته بدمها، ككل أم تلد البحر.
الكابوس السابع
الدولة

يمّا، هل أنت هنا، أم أن الموت يمنعك من المجيء؟ ها أنا في قلب الدُّوَّار، هل تذكرين الدُّوَّار في نابلس، مدينتك؟ كم كان كبيرًا، الدُّوَّار، قبل أن أترك مدينة أحلامي وهذياناتي، وكم غدا صغيرًا، بعد أن عشت غير بعيد من ساحة الكونكورد، أكبر ساحة في العالم، بعد أن عشت كل تلك السنين عنه بعيدًا. لكن شوقي إليه بقي كبيرًا، إلى ابتسامة فيه قطفتها عن ثغور حبيباتي، وإلى حكاية من حكاياتي الكثيرة على أرصفته، حكايات دون نهاية. هكذا كنت أنا وحكاياتي، حكايات دومًا دون نهاية. ليس هذا لأني لا أتقن صنع النهايات، وإنما لأني كنت ولم أزل أهرب منها. النهايات ما أصعبها، وأنا كنت ولم أزل أهرب منها. كي تبقى، الحكايات، نعم، كي تبقى. تَسَهَّلْ، قلت لسائق سيارة الأجرة المرسيدس. لم يزل لي راكب، قال السائق، وهو ينظر إليّ عبر المرآة الارتدادية، وإلى حبيبتي التي تجلس إلى جانبي، والتي لم يكن أحد يعرف أنها حبيبتي.أقول لك تَسَهَّلْ، فَتَسَهَّلَ. دار من حول الدُّوَّار، واخترق شارع المستشفى. لم يكن يهمني إلى أين يذهب، كل ما كان يهمني أن أقضي بعض الوقت إلى جانب حبيبتي، قربها، أتنسم رائحتها، وأنعم بحضورها. ذاك الحمار لا يعرف القيادة، صاح السائق، وهو يتفادى سيارة قادمة من الناحية المقابلة. كلهم حمير، قال الراكب الجالس في المقعد الأمامي، كلهم لا يعرفون القيادة. كلهم لا يعرفون القيادة، أكد السائق. حذار، حذار، نبه الراكب السائق، فكسر يمينًا. مالت حبيبتي عليّ، والتصقت فخذها بفخذي، وعلى الشتائم التي تساقطت من فم السائق شلالاً ابتسمنا لبعضنا. أن نبتسم لبعضنا، كان ذلك منتهى الوثنية. ذهب السائق والراكب في نقاش طويل لا ينتهي عن رخص القيادة، وعن الرشاوي، وبكل حذر وحيطة مددت يدي، وأمسكت يد حبيبتي. أن أمسك يد حبيبتي، كان ذلك منتهى التدلُّه.
في شارع فلسطين، شارع الملعونين والمجانين، أحد شوارع الدُّوَّار، غالبًا ما كنت أشعر بالتأثير السيء للأشياء عليّ. لأنني كنت مجنونًا وملعونًا، يمّا. في الماضي، كانت تخنقني رائحة بناياته الجديدة، واليوم تخنقني رائحة العفونة. تتفجر العفونة من جوانبه، شارع فلسطين، وأنا كغيري من العابرين أشمها، بلذة أشمها، وأمضي إلى قدر ليس قدري. رائحة العفونة. رائحة الزمن العفن. أتذكر المكتبة التي اشتريت منها لوليتا نابوكوف، فأبحث عن المكتبة. لم تعد مكتبة هناك، لم أجد في كل شارع فلسطين مكتبة واحدة. لوليتا. نابوكوف. لوليتا نابوكوف. كانت أول رواية قرأتها، أول رواية قضيت طوال الليل معها حتى أنهيت قراءتها، فهي لم تكن حكايتي. حكايات الآخرين أعرف نهاياتها كلها. ومنذ تلك الساعة، جعل مني نابوكوف عبدًا بعد أن عداني، نقل الجرثومة إلى دماغي، وأذلني، وها أنا إلى اليوم أعاني، أطلب الموت الذي لا يجيء، أستعين بالشياطين. قضيت كل عمري، وأنا أستعين بالشياطين. كانت الشياطين تستجيب لي أحيانًا، وأحيانًا لا تستجيب لي، بل وأكثر، كانت تعمل على قهر رغباتي. تعالي إلى حجرتي، قلت لجارتنا الصغيرة في رسالة طويلة. جارتنا الصغيرة. لم يعرف نابوكوف جارتنا الصغيرة. الحمراء الشعر، البيضاء الوجه، النمشاء. عرفتها أنا، ولم يعرفها نابوكوف. جارتنا الصغيرة. كما لو كنت أرغب في كتابة لوليتا التي لم يكتبها. ظلت تدور حول بيتنا طوال النهار، وأنا أراها من وراء الستارة مترددة متعثرة، ملهمة ملجمة، حارقة حائرة، فتّانة شيطانة، قوادة خلاقة، الرسالة بيدها، تفتحها، وتقرأها، وتدور. تفتحها، وتقرأها، وتدور. تفتحها، وتقرأها، وتفكر. تفتحها، وتقرأها، وتتكلم مع نفسها. تفتحها، وتقرأها، وتبتسم. تفتحها، وتقرأها، وتذرف الدموع. جارتنا الصغيرة. انثال شعرها الأحمر في الليل، وتلألأ النمش على وجهها. رأيتها فضية بلون القبر، فقلت لن تجيء.
سلكت طريقًا مختصرًا إلى شارع الشويترة، وأنا أفكر في سينما غرناطة، مهد الخيال، وملتقى اللوث، ودوام المحال حتى المحال. كانت المفاجأة الكبرى عندما وجدتهم، وقد صنعوا منها مسجدًا. سينما غرناطة، يمّا. صرت كبيرًا في سينما غرناطة. صرت جميلاً في سينما غرناطة. هناك كانت تجلس، في الناحية الخاصة بالنساء، وكانت تنظر نحوي. صرت كلبًا صغيرًا في سينما غرناطة. بعد أن تعلمت العواء. كانت لا تبتسم لي، كانت تنظر نحوي. كالغرباء كنا، وكانت تنظر نحوي. كانت تقول لي أحبك، وكانت تتجاهلني. ككلب صغير بين باقي الكلاب. كان الفيلم يبدأ، فنعرف أنه بدأ، ولا نعرف أنه انتهى. كانت تنظر نحوي. كان فيلمنا نحن أن ينظر أحدنا إلى الآخر. أن نعوي دون أن يسمعنا أحد. أن نبتهل إلى الثدي. كنا في قلب الصور، يمّا. هل يجهزون على الصور بالإيمان، فقط لأنها صورنا؟ والأحلام بالخشوع، فقط لأنها أحلامنا؟ والعواء بالدعاء، فقط لأنه لغتنا؟ ألهذا السبب ترفضين المجيء كيلا تري صورنا المنكل بها؟ كيلا تنوحي على أحلامنا القديمة؟ كيلا تعوي معنا؟ يا يمّا، في شارع الشويترة جنازة طويلة. لا شمس في شارع الشويترة، ولا فساتين قصيرة. في شارع الشويترة حجاب أسود يغطي نهدين خجلين ما بينهما آية قرآنية. آه، يا ليتني كنت آية قرآنية! في شارع الشويترة قلم حمرة يبحث عن شفتين همجيتين منذ غادرتُ نابلس، فليست للدين شفتان همجيتان. قلم حمرة دموي يبحث عن شفتين همجيتين ليضاجع التوت فيهما. كان التوت في نابلس كثيرًا، وكانت البنات تحب التوت لفاجعة التوت وقلبي. اليوم، الحجاب هو الفاجعة.
طلعت طلعة المدرسة الفاطمية إلى بيتنا المعلق بإصبع الله في شارع كلية النجاح القديمة. أخذت ألهث تحت وطأة سني عمري، وأنا أنظر من حولي، فأرى ظلال السفلة. أصدقائي. ابتعدت الظلال عني بدل أن تقترب مني. لم تكن ظلال أصدقائي السفلة سعيدة بمقدمي، كانت ظلالهم تخشى من مقدمي التجسد بعد أن تَرَكْتُ الماضي البعيد يذهب كما تذهب السفن في الملاحم. لهذا، لم تَرُدِّ الظلالُ عليّ السلام. وأنا أسلم عليها، لم تشد على يدي، لم تضمني، لم تشأ النظر في عينيّ لئلا تقع على ابن يجلد العميرة أو صديق دَيّوث. كانت في عينيّ فاجعةُ الوقت، بينما الوقتُ من حولي كل الفاجعة. كانت الفاجعة الحجاب الأسود والأبيض والأزرق، وكل رداء آخر بلون آخر يتسكع. كانت الفاجعة ألا تبدو أية فاجعة هناك، ألا يكون هناك شيء غير طبيعي، ألا يصرخ الطفل على أبيه، ألا يصدح العصفور وقت الجنازات، ألا تكشف المومس عن فخذها في المحراب. كانت الفاجعة أن نكون كغيرنا، يمّا، أن نفكر كغيرنا، يمّا، أن نعمل الكابوس نفسه، يمّا، نعم، يمّا، الكابوس نفسه، يمّا، يا يمّا، ألا نفرق بين احتلال ودولة، يمّا، الكابوس نفسه، الحلو، كالعسل، يمّا. كالغائط. الحلو، كالغائط، يمّا. يا يمّا، يا يمّا، هل تسمعينني على الأقل، يا يمّا؟ الكابوس الحلو كالغائط، كابوس حلو كالغائط، يمّا، كالتين، كابوس حلو كالتين الخرطماني، يمّا. كشقائق النعمان. كالدولة للناس. كالاحتلال للناس. أن يأكل الناس، ويشربوا، ويناموا. أن يأكلوا، ويشربوا، ويناموا. كابوس حلو كالعلقم، يمّا. أن يأكلوا، ويشربوا، ويناموا. كالخراء في التوراة. كصلاة السفلة، يا يمّا، يا يمّا، يا يمّا.
وقفت أمام بيتنا مذهولاً، لم يتغير فيه شيء، لون شبابيكه الأصفر هو هو، ولون درابزينه البني الغامق هو هو، ولون زمنه الفستقي هو هو، وطفولتي التي ظلت تنادي عليّ. طرقت الباب، فخرج ملتح قبيح الوجه، قلت له هذا بيتنا. دَفَعَتْهُ ظلال السفلة، أصدقائي، وجعلتني أدخل. وأنا أبكي في حجرتي، سمعت بكاءها، وهي ترجوني ألا ألمس ثديها، ألا ألمس بطنها، ألا ألمس فخذها، ألا أبحث عن الأسرار في قبلة من قبلاتها. أخذتني، هي، بين ذراعيها، أخذتني بعصبية، كقبيلة من الجرذان أخذتني، وقبلتني، ثم جلست على كرسي، وراحت تصرخ، وهي تضغط يدي على ثديها، وعلى بطنها، وعلى فخذها. وبحركة الهوجاء والحمقاء، ضربتني دون أن تشاء على أنفي، وأسالت دمي. كان على الدم أن يسيل من أجل قبلة. سمعت الجلاد، وهو يعذب امرأة وانية الشبق كانت زوجته. كان يشتهيها أكثر من زوجاته الأخريات، لأنها كانت وانية الشبق، ولأن الدم أبيض في ذاكرته. قالت لي النساء الثلاث، حرٌّ هو، كالسيف الهنديّ، يفعل فيهن كما تفعل في الناس نيودلهي. امتطاها، وهو يبتسم لي ابتسامة كريهة، فلم أبقَ. في الحديقة، رأيت الهند، رأيت الهند في الحديقة، ورأيت الهنود. سمعتُ امرأة، يعذبها أحدهم، فاقتربتُ لأرى، وإذا برجال من عندنا وعندهم يبصقون فيها قذارتهم، وما صرخات المرأة إلا بدافع اللَّذة. اللَّذة، يمّا. اللَّذة. الشرف أم اللَّذة؟ اللَّذة، يمّا. اللَّذة. الفرج، يمّا. الفرج. الله أم الفرج؟ الفرج، يمّا. الفرج. تسيبي ليفني، يمّا. تسيبي ليفني. الوطن أم تسيبي ليفني؟ تسيبي ليفني، يمّا. تسيبي ليفني. كانت تأخذهم كما تأخذ عشاقها، وكانت سعيدة، كانت سعيدة أكثر من مرحاض. أنتَ، هناك، انتهرني أحد الهنود، ماذا تفعل؟ لا شيء، أجبت. من أنت؟ عاد الهندي ينتهرني. أنا لا أحد، أنا كاتب. هب الهندي بي صارخًا: اذهب، وبغائطك، اكتب على قبر أمك أناشيد الأحياء.
خليهم هيك أحسن لهم، يمّا. الحرية لماذا؟ الحرية هَمّ. خليهم مدعوسين ومبسوطين أحسن لهم. أريح لهم. زمان، كنا نريد ألا يكون لهم شرف ولا دين. خليهم هيك أحسن لهم. ألا يكون لهم أصل ولا شتاء. أن يدوسوا القوانين، أن يحطموا النواميس، أن يعاندوا الأقدار. أن يتحولوا إلى ذئاب تتقن العواء، يمّا. أن يتحولوا. أن يتحولوا، على الأقل، إلى بنات آوى، كتلك التي كانت تعوي في الجبل الشمالي، في بليبوس، أيام زمان، يمّا، تلك التي كانت أعينها تضيء في الليل، عندما يدلهم الليل، فنخاف. الحرية لماذا، يمّا؟ لمن؟ الحرية لمن يستأهلها، وهم لا يستأهلون الحرية. الحرية لمن يموت من أجلها، وهم لا يموتون من أجلها. الحرية شيء آخر لا يعرفه إلا من يتركه من ورائه. الحرية عاهرة، عاهرة حريتنا. لهذا، في طرقات نابلس الكثير من الظلال العارية. الظلال العاهرة. في طرقات نابلس الكثير من الظلال الحبيبة التي أبكي عليها.
يبدو أن هذا من طبيعة الأشياء، يمّا. لتكون، على غيرك ألا يكون. يدخل الكل في المرآة، وتغدو للكل صورة الكل. هذه باختصار قصتنا مع حكامنا. تغدو للكل مصلحة واحدة، ولا يبقى إلا التبرير، لا تبقى إلا القبلات على كشحٍ وحشيّ. هناك تبرير وتبرير، يمّا، وهناك تدوير وتدوير، وهناك تعهير وتعهير، بشرط أن تبدو وطنيًا. هكذا أنت تخدم الكشحَ الوحشيّ، تخدم كشحك الفأريّ، وتحافظ على الأمر الواقع. إلى الأبد، يمّا. تحافظ على الأمر الواقع إلى الأبد، وتغدو الخيانة تفاحة نقضمها كل يوم، ونحن نجلس على حافةِ الكشحِ الوحشيّ. اغتصاب الأرض شيء كارثي، يمّا، ولكن اغتصاب جوهر الإنسان كارثي أكثر. بأمر الكشحِ الوحشيّ. من أجل ذلك، هذا الخزق الذي اسمه فلسطين، هذا الماخور الذي اسمه القدس، هذا الوطن الذي اسمه الجدار. دولة كغيرها مشخخة. الاحتلال كمخرأة أفضل. أحب العيش في بانتوستان، يمّا. أموت حبًا في التشيك بوينتس. أحلم في الليل بطيز تسيبي ليفني. أصرخ دون كلل: نتنياهو! هذا الوطن الذي اسمه ليبرمان. التوت أزرق على شفتي مارين. الوصايا العشر أحن علينا ألف مرة أكثر من هيلاري. يقدس الأرض المستوطنون، ونحن نقدس الكشحَ الوحشيّ. سوار دو باري. خراء دو باري. الثورة. المقاومة. الحجارة. خراء دو باري. كل هذه الحجارة، أين الحجارة؟ لن ننهض في الأرض، وكل هذه الحجارة. العاصيات. أقلام الحمرة. العاصيات، يمّا، هن الحياة. النزهة على جواد. هن الخطاب. المفيد. المُجدي. كل ما دبجه المفكرون العرب ثرثرة، يمّا، لا شيء غير الثرثرة، غرغرة، كل ما خربشه الشعراء العرب، لا شيء غير الغرغرة. الكشحُ الوحشيّ.
أهلاً نابلس! أين الدبابات التي تقمعك؟ أين القنابل؟ أين عشاق الموت؟ أهلاً نابلس! أيتها المومس! أنت لست أهلاً بقضيتك، أنت لست أهلاً بِشِشَمِك، أنت ماخور المتقين. أهلك ليسوا أهلاً بك، إنهم الفقاقيع. شعبك ليس شعبًا لك، إنه النعل الحزين. شعب الخوافين شعبك. الهرابين. الجبناء. الأنذال. الحمقى. الخنوعين. المداهنين. الخونة. ما عدا العاهرات والشهداء. العاهرات والشهداء فقط من كل شعبك. هل تذكرين لما كنتِ أحلامي؟ هذياناتي؟ هل تذكرين لما كنتِ الخراء؟ أنت لا تذكرين شيئًا. السأم يطحن الحجر في نابلس، يطحننا، نحن، كل السفلة اليوم. السأم، السقم، اليأس. لكننا لم نزل نحتاج إلى حبك، حب من اختار الحرية. أعطينا الحب، لا تعطينا الصمت. أعطينا الحقد، لا تعطينا التين. التين الخرطماني. أهلاً نابلس ! في الشك، وفي الصمت. كنت قد طاردتها من رفيديا، من أرض العاصيات التي كانتها رفيديا، إلى السرايا، إلى أرض أقلام الحمرة التي كانتها السرايا. كنا في قلب نابلس القديمة، في قلب اللؤلؤة السوداء، ولم أكن أتوقع أن تصعد ذات النقاب الأزرق درج الجامع الكبير. لم يكن الوقت وقت صلاة، وربما لهذا السبب، فالقدم من حولنا كانت كثيرة، لأن الوقت لم يكن وقت صلاة، والمسجد كان خاليًا. في الداخل، كان بعض المؤمنين هنا وهناك. بحثت عنها بين الأعمدة دون أجدها، كانت في الطابق العلوي الخاص بالأساور، وكانت تشير بيدها إليّ كي أصعد، فصعدت، وأنا أسعى من وراء رنين الأساور. كانت وحدها، في زاوية معتمة. كانت تنتظر أن أجيئها، فجئتها. ككل أحرار العالم جئتها. فجأة، دوى صوت المؤذن، فابتهلت ذات النقاب الأزرق. تأوهَتْ كمختنق، كشيطان، كمكبوت، كزقاقي، كزقاق، كحمام، كحصن، كحصنٍ مومسيّ، كعصرٍ جاهليّ، منحط، قديم، بعيد، متقدم. بعد ذلك، والمؤمنات قد بدأن يتواردن، نظرَتْ إليّ من تحت نقابها، وهي ترمقني بعينيها المكحلتين، الشاكرتين، فقرأت فيهما كل القصة، القصة التي لم تنته إلى اليوم.
لماذا جئتَ بي من الجحيم، صاحت أمي غاضبة، وأنا أنقل القدم في أزقة نابلس القديمة الخالية من كل قدم، فالوقت وقت صلاة، وقتٌ معلق، ومكانٌ معلق. يمّا، هتفتُ، وأنا أريد أخذها بين ذراعيّ. منعتني من أخذها بين ذراعيّ، وتابعت بعدوانية: أنا سعيدة هناك. في الجحيم، يمّا؟ همهمتُ مندهشًا، أنت سعيدة في الجحيم؟ الفردوس لا يوجد، أوضحت أمي، يوجد الجحيم. الجحيم غير ما تتصور، خاصة في الشتاء. الأنبياء وكل المرسلين يقضون عطلة الشتاء عندنا. والله؟ سألتُ مترددًا. قُلْ لعبادِهِ الله امرأة، طنت أمي بصوتها الملعلع إلى الأبد. هم، لهذا، يقدسون الفرج دون أن يعلموا، همهمتُ. على طريقتهم، قالت أمي، لكنهم يقدسونه تقديسهم لله. هم بشر كغيرهم، همهمتُ، لهذا هم يجهلون. لا جاهل على الأرض بعد اليوم، ألقت أمي، وهي تهم بالعودة إلى الجحيم. ولكن، تلعثمتُ، لم تسأليني عني، ولا عن بناتي. هذا العالم المقلوب على رأسه ليس لك، قالت أمي بلهجة قاطعة، ليس لهن، فعد إلى عالمك، عد إليهن. لم أقل لها: فوّتُ قطاري، فوّتُ حياتي. رأتني أقف حائرًا في مكاني، فأشفقت عليّ، وبيدها لمست خدي، فجبيني، فشعري، وهمهمت: آه، يا ولدي، كم أشتاق إليك! يمّا، سارعت إلى القول، لماذا لا تبقين، يمّا؟ في هذا الجحيم؟ تهكَّمَتْ، تريدني أن أبقى في هذا الجحيم؟ الجحيم فوق أهون بكثير. سكتَتْ، وبعد قليل، سألَتْ: وما حال كلبة ابنتك الصغرى؟ مرفهة معززة مكرمة أكثر من فلسطيني، أجبتُ. سلم لي عليها. على ابنتي؟ على كلبتها. وعادت من حيث جاءت، وعدت من حيث جئت، بعد أن قضيت خمسين عامًا بعيدًا عن نابلس، دون أسف.














































الكابوس الثامن
الأسْوَدُ

لم يكن يوسفو يشعر بنفسه جيدًا، فتذمر: لقد اقترب موعدك، يا يوسفو. لم يكن تعيسًا مع ذلك، المرضى الذين هم مثله يبدون تعساء، وهو لم يكن تعيسًا. ليس لأن ديالا، امرأته، ماتت، وهو لا أولاد له منها، ولا أحد، لم يكن تعيسًا، وكفى. لم يشعر في حياته بالتعاسة، بالحزن ربما، أما بالتعاسة، أبدًا. بالحزن على شيء أضاعه، أو فرصة لم يستطع اغتنامها، أو عمل لم يقدر على إنجازه، وبالألم، لكنه أبدًا لم يكشف عن ألمه. كان هكذا يوسفو، شيء أشبه ببحيرة رِتبا، البحيرة الوردية، الملح في أعماقها، وعلى الرغم من ذلك، تظل يانعة. تطلع من نافذة براكته المشرفة على الدرب الترابي الشاق لسانغالكام، تلك القرية المحظوظة مرتين، لأن البحيرة الوردية تقع على أراضيها، ولأن رالي باريس-داكار ينتهي عند أعتابها. انتظر أكثر مما يجب، فلم يظهر عبدو بقامته الطويلة، وهو يلوح بيده، مبتسمًا. كانت الشمس على وشك الأفول، وغالبًا ما كان عبدو يعود من البحر، وفي سلته بعض السمك الأحمر الفاقع، والشمس على وشك الأفول. غلى يوسفو إبريقًا من القطلب، وصب كأسًا قطّر فيها قطرة من طيب الزباد، وأذاب فيها الكثير من السكر، وراح يجرع كأسه الساخنة جرعة تلو جرعة، وهو ينفخ عليها. كانت عادته ليزيل قلقه، ويبعد الأفكار السوداء عن نفسه، وكأنه يجهز عليها فكرة تلو فكرة. غاصت الشمس في المحيط الأطلسي، هناك حيث كان عبدو في قاربه الصغير، فخلعت البحيرة الوردية ثوب النهار لترتدي ثوب الليل. كانت على بعد عدة أمتار من بحر الظلمات، لكن غياب عبدو جعلها على بعد آلاف الأمتار، فنهض يوسفو من مكانه بسرعة، وغادر براكته، وهو يسارع بالسير في الدرب الترابي، دون أن يرد السلام على أحد ممن يلتقيهم، إلى أن وجد نفسه بين أكوام الملح الأسود، وهنا وهناك في بحيرة الورد المعتم بعض النساء اللاتي لم يزلن يجنين ثمر الدموع.
غادرت النساء المكان، فوجد يوسفو نفسه وحيدًا دون أن يجد عبدو. وبعد قليل، وجد يوسفو نفسه مع بعض أهل القرية الذين راح عددهم يزداد شيئًا فشيئًا، لأن كل الصيادين عادوا ما عدا عبدو. علا في الأجواء غناء امرأة: عما قريب ستنبثق أشعة قنديل من جوف المحيط، عما قريب سيعود آخر صياد يتيم لا أم له ولا أب. كان الصوت حزينًا، يدفع إلى البكاء، ولم يكن أحد يبكي. كان الصوت عميقًا، كان الصوت إفريقيًا. عندما تكون إفريقيا حزينة، إفريقيا لا تبكي. ربما لأنها بكت كثيرًا في الماضي، ذرفت كل دموعها. وعلى حين غرة، انبثقت من شمس الظلام أشعة قنديل عبدو، فصاح أهل القرية فرحين، وهنأوا بعضهم البعض على مرأى عبدو، وهو يقترب بزورقه. أينعت على وجهه الأسود ابتسامة بيضاء على مرآهم، وهمهم يوسفو، وهو يعانقه: شغلت بالنا عليك. كنتُ قد أوغلت في بحر الظلمات أكثر مما يجب، قال عبدو على مسامع الجميع، مما طمأنهم، فعادوا إلى بيوتهم.
أخرج عبدو، وهما في البراكة، سمكتي دوراد وردي اللون، كانتا كل صيده. أنت مثلي، همهم يوسفو، لم تكن محظوظًا يومًا. سأكون محظوظًا ذات يوم، قال الصياد الشاب. ذات يوم، أعاد الصياد الشيخ، وكأنه يحدث نفسه. ثم لعبدو بشيء من الحدة: الحظ لن يجيء بتوغلك في بحر الظلمات، هل تسمعني؟ أسمعك، أجاب عبدو مبتسمًا. إذن لماذا؟ عاد يوسفو يقول بشيء من الحدة. لقد أقلقتني عليك، وحرمت هؤلاء المساكين، جناة الملح، من اللجوء إلى فراشهم باكرًا. عدني ألا يتكرر الأمر ثانية. ولكني لم أبحث عن إلحاق الأذى بأحد. بلى، عندما لا تعود مع غروب الشمس، أنت تلحق الأذى بي، أنا بمثابة أبيك، كما تعلم، بمثابة أبيك. بمثابة أبي. أنا بمثابة أبيك، فَكِّر في أبيك، لا تقل لنفسك إن يوسفو لم يكن ذا حظ في حياته أبدًا، فتغامر بحياتك من أجلي. وعلى أي حال، حياتي على وشك الانتهاء. يوسفو، أنت مجنون إذا فكرت هكذا، همهم عبدو بشفتين مرتعشتين. فتح يوسفو بطن السمكتين، بعد أن برش الحراشف بيد عصبية، وراح يفرغهما، وهو يقول: أنا مجنون إذا فكرت هكذا، ولكني مجنون بالفعل. كن مجنونًا، قال عبدو، ولا تفكر كالمجنون. وهل يتركونك بسلام كيلا تفكر كالمجنون؟ كن مجنونًا، يا يوسفو، كما كنت دومًا، ولا تفكر كالمجنون قلتُ لكَ. ضحك يوسفو، وقال، وهو يغسل الدورادين الورديين، ويداعبهما كما يداعب ثديين: لو كانت حوا مريضة بالسيدا أو لم تكن لما ترددت لحظة واحدة عن مضاجعتها. هذا لأنك مجنون، لأنك ممسوس في عقلك، همهم عبدو. نهداها يخضعان الرجال والنساء في كل السنغال، ردفاها يهزمان كل أفريقيا، فخذاها تجعلان من كل الفرنسيين عبيدًا. وهل كنتَ تعرف؟ سأل عبدو متلألئ الثغر. أعرف ماذا؟ أنها مصابة بالسيدا. وماذا يهم لو كنت أعرف؟ ساقاها تذهبان بكل الزنوج الذين هم مثلنا إلى زمن الحرية. راح يوسفو يقهقه، وهو يضم السمكتين كما يضم حوا: الحياة، ما الحياة؟ مائة عام تجد خلالها بضع لحظات من السعادة أو بضع لحظات من السعادة تساوي مائة عام. آه، حوا!
بدت على وجهه أمارات الحزن، فهمهم: اغفري لي، يا ديالا، يا امرأتي، لو لم تزالي على قيد الحياة لما خنتك! هذا بسبب الخيانة، قال يوسفو لعبدو. ديالا ماتت، كل ما وجد عبدو قوله. هذا بسبب الخيانة، أعاد الصياد الشيخ. حية امرأتك أم ميتة، عندما تنام مع أخرى، هذا يسمى خيانة، وخيانة امرأتك كخيانة الله، ألقى يوسفو. كان عبدو يفكر: مسكين يوسفو، هذا لأنه سيموت عما قريب. إقْلِ لنا السمكتين، يوسفو، أنا جائع، لم آكل شيئًا كثيرًا في بحر الظلمات. أراد عبدو أن يغير الموضوع، ويعيد إلى صديقه الشيخ روح الدعابة، روحه، لكنه رآه يلقي السمكتين جانبًا، ويحرك أصابعه الطويلة الكالح لونها أمام عينيه، وهو يقول: بالله عليك أن تقول لي لماذا لم تستمِعْ إليّ؟ من؟ همهم عبدو، وقد حيره سؤاله. من غيرها؟ ديالا! لم يعلق، كان الشيء يجثم ثقيلاً على قلبه، فتركه يقول، ليخفف بعضًا من ثقل الشيء الجاثم على قلبه. لم يكن ذنب السيد فرانسوا كاس، كان ذنبها، همهم يوسفو. السيد فرانسوا كاس، همهم عبدو. تعرفه. أعرفه، كيف لا أعرفه؟ كل الناس في السنغال تعرفه، تاجر السيارات المستعملة. نعم، كل الناس في السنغال تعرفه، أعاد يوسفو، وكأنه يريد الوصول إلى شيء يعجز عن البوح به. يشتري السيارات المستعملة باتنين يورو ويبيعها بالآلاف، قال يوسفو، كل الناس في السنغال تعرفه، كل الناس في السنغال تسوق بفضله. ليس كل الناس تسوق، قال الصياد الشاب، ولكن الناس الذين يسوقون يسوقون بفضله، شيء كثير أن نقول كل الناس تسوق بفضله. بفضله أم بغير فضله، نرفز يوسفو، هذا لا يمنع من كون كل الناس تسوق بفضله. يوسفو، رفع عبدو صوته على معلمه، إلى ماذا تريد أن تصل؟ ما شأن امرأتك، ديالا، رحمها الله، في كل هذا، كل الناس تسوق بفضله؟ كل الناس تسوق بفضله، همهم يوسفو. وبعد ذلك، بدأ يرتعش لما راح يصيح: كانت تعمل عندهم ديالا، امرأتي، أنت تعرف هذا. هز الشاب رأسه، فتابع الشيخ: عندهم، أعني عنده. وأنا... وتردد: ليست حوا، لم تكن حوا، لم أعرف في حياتي امرأة اسمها حوا. يوسفو! صاح عبدو كمن سحقته الكلمات. كانت ديالا، اعترف الشيخ، وهو يجدف بالمجذاف على نفس موجات صوته العالية. وبعد قليل، همهم: ها أنت تعرف كل شيء، الوحيد الذي يعرف كل شيء. كانت ديالا، همهم عبدو بصوت يُسمع بالكاد.
تناول يوسفو المقلى ليقلي الدورادين الورديين، فأوقفه عبدو: لا بأس، أنا لم أعد جائعًا. وكأنه لم يسمعه، كان الشيء الجاثم على قلب يوسفو لم يزل ثقيلاً، لم يزل ثقيلاً ثقل الكذبة التي احتفظ بها طويلاً، فراح يقول: عندما عَجِزَتْ كل السنغال، كل إفريقيا، عن معالجتها، طَلَبَتْ مني أن... وصاح يوسفو فجأة: لكني لم أفعل في البداية. قلت لها سنذهب إلى المرابط، فرفضت، لأنها لم تكن تريد العيش. كانت كل الأدغال التي في جسدها تتأكل، بالصدأ تتأكل. هل سمعت بأدغال تتأكل بالصدأ؟ كانت الأدغال التي في جسدها. لم يحتجني ذلك إلى قوة كبيرة بعد أن هزلت حبيبتي ديالا، وغدت كأعواد الدُّخْن. سقط كلاهما في الصمت، لم تعد للضواري أصوات، ولا للشلالات، ولا لمناجم اليورانيوم والذهب والعقل. كان كل شيء يسقط في الصمت، وكانت على إيقاع الصمت ترقص الفساتين القصيرة في الشانزليزيه. سأذهب، همهم عبدو، وهو يقف. لن تذهب، قال يوسفو، وهو يمسكه من ذراعه، ويشده في مكانه على الكرسي. رمى المقلى، فأراد عبدو أن يقول شيئًا ليخفف قليلاً من وطأة الجو: الواقع أنني لم أقل لك الحقيقة، أنا أيضًا، لم أقل لك لماذا أوغلت في بحر الظلمات، فأصغى يوسفو بكل انتباه. إنه خَيْمَر الذي أردتَ صيده، ولم تقدر على ذلك، كشف عبدو. الكائن الذي له رأس أسد وجسد شاة وذيل ثعبان؟ هتف يوسفو، ولكنه خرافة، يوسفو ثان، يوسفو المريض اليوم بالسيدا، غير ذلك الذي قتل ديالا، امرأته ديالا، حبيبته ديالا، امرأته، حبيبته، والذي يتظاهر بالعيش بانتظار أن يأتي أحد لقتله. كاسمه خرافة، عاد يوسفو يهتف، لا شيء غير خرافة. لا تكن مجنونًا مثلي، أضاف بعد أن هدأ، كن عاقلاً، واعرض عن ذلك. وبضع اللحظات من السعادة التي تساوي مائة عام؟ سأل عبدو، وهو يبتسم بحزن، كأنه مستشفى "لا بيتييه سالبيتريير". هذا الكائن الذي لا وجود له هو حوا بالنسبة لك الآن؟ سأل يوسفو بدوره، وهو يبتسم ابتسامة ساخرة، نهداها، ردفاها، فخذاها، ساقاها، كل مفاتنها وكل كوابيس جسدها. لم أَصِدْهُ ليس هذا لأني لم أقدر على ذلك، أوضح الشيخ الضائع، وإنما لأنه غير موجود، لم يجده أحد في الدغل لتجده أنت في البحر؟ لأن البحر مملكته، قال الشاب الحالم، هذا ما كنتَ ترددُ أنت. مستحيل. إنه موجود. مستحيل. إنه موجود، إنه موجود، رأيته بأم عيني. رأيته بأم عينك؟ رأيته بأم عيني، رأيته البارحة، ورأيته اليوم، بدأ يعرفني، وبدأت أعرفه، وهو يبدو عليه أنه يفهم ما أريد. يفهم أنك تريد صيده؟ يفهم ما أريد، يفهم أنني مثلك ما كنت يومًا صيادًا محظوظًا، وأنني أفعل ذلك من أجلك، قبل أن تموت، يوسفو، وتذهب عني بعيدًا كما ذهبت عنك بعيدًا ديالا، امرأتك. كلنا سنذهب بعيدًا ذات يوم، تنهد يوسفو، كلنا سنموت... كلنا سنموت... وبخطوات بطيئة، غادر الكوخ. لم يتبعه عبدو، تركه وحده. كلنا سنموت... تركه ليشعر بنفسه خفيفًا كجناح إفريقي بعد أن أزال عنه كل ما كان يجثم على قلبه. كجناح إفريقي. كجناح تحرر. كجناح يخفق في الفضاء بعد أن تحرر.
في فجر اليوم التالي، أخذ عبدو عدته وعتاده، وقطع بقاربه البحيرة الوردية إلى المحيط الأطلسي دون أن يعود كباقي الصيادين قبل غروب الشمس، دون أن يعود في المساء، خلال الليل، دون أن يعود في الصباح. جاء يوسفو، وجاء أهل القرية، وعلا غناء المرأة في الأجواء: عما قريب ستنبثق أشعة قنديل من جوف المحيط، عما قريب سيعود آخر صياد يتيم لا أم له ولا أب. تكرر الأمر كل يوم، ويومًا عن يوم كانت حالة يوسفو تتدهور، وتزداد سوءًا، إلى أن لفظ نفسه الأخير. ألقت القرية بنفسها خارج الزمن، لتلحق بيوسفو في عالم العِتْق والتهويم. وضع بعض أفرادها رؤوس الأسود على رؤوسهم، وبعضهم الآخر أجساد الشياه على أجسادهم، وضربوا من ورائهم بذيول الثعابين. رقصوا حول جثمانه حتى كلوا، ورتلوا حتى ملوا، وبعد ذلك دفنوه، وهم يلقون نظرهم باتجاه بحر الظلمات. ذهبوا لجني الملح من البحيرة الوردية، وهم يلقون نظرهم باتجاه بحر الظلمات. ظلوا كل مساء يجيئون، وهم يلقون نظرهم باتجاه بحر الظلمات، كل مساء، إلى أن كان مساء رأوا فيه خيّالاً يقود وحشًا غريبًا، وحشًا كبيرًا، وهو يشق الموج، ويسحب من ورائه قاربًا صغيرًا. خافوا، وأرادوا الهرب، لكنهم لما رأوا عبدو ممتطيًا خَيْمَر خيالاتهم، انتظروا، ونظروا مبهورين. قالوا لعبدو إن يوسفو قد مات، فبكى عبدو لأن يوسفو لم ير الكائن الخرافي الذي لم يقدر على صيده. بكى كطفلٍ فقد اباه، وسالت دمعة حارة من عين هوميروس عليه. أراد عبدو أن يعيد خيمر إلى المكان الذي أحضره منه، فبعد موت يوسفو، لم يعد هناك سبب يدفعه إلى الاحتفاظ بابن الإنسانية. نزع اللجام عنه، وحرره، فلم يتحرك من مكانه. كلمه، قال له: مات يوسفو، ألا تفهم؟ ولا فائدة من العناد. مات الذي كان يحلم بك، مات الذي أفنى عمره من أجل صيدك، فاذهب بسلام. كان الكائن الخرافي يفهم ما يقول، لكنه لم يتحرك من مكانه. هذا لأنه تَعِبٌ، قالت إحدى القرويات، قَطْعُ بحر الظلمات لم يكن سهلاً، فاتركه يرتاح. وهل هناك خيمرٌ يرتاح؟ همهم عبدو، اذهب بسلام، قلت لك. لن يذهب، يا عبدو، قال أحد القرويين، لا أحد يضع القدم في بلدنا إلا ويريد البقاء فيها. اذهب، يا... قال عبدو للكائن الخرافي، سأسميك، سأسميك... سمه "حُلْم"، اقترح قروي ثان. سأسميك حلم يوسفو، همهم عبدو، طيب؟ حلم يوسفو. اذهب، يا حلم يوسفو، عد إلى بيتك. حلم يوسفو، هل تسمعني؟ عد إلى بيئتك، عد إلى وسطك، أنت ابن البحر. ليتهرب خيمر من عبدو، لفَّ من حول الحاضرين، وخبأ نفسه بظهورهم. ضحك الكل، وقالت امرأة لعبدو: إذا كنت لا تريده، فأنا أريده، اتركه ينام عندي، لم أعد أحلم منذ زمن بعيد. أراد كل واحد من أهل القرية أن يأخذ خيمر عنده، فبانت على وجهه علامات الارتياح، لكنه لما رأى علامات الضيق على وجه عبدو، عاد إلى الوقوف بين يديه. أنت من العناد ما كانه يوسفو، يا حلم يوسفو! قال عبدو، وهو يطبطب على ظهره، ويسحبه من لبدته.

* * *

لم يبق مريض واحد بالسيدا في سانغالكام، كان من وراء ذلك خيمر، حُلْمُ يوسفو. لم يكن عبدو يعلم أن الكائن الخرافي كان من وراء ذلك، لأن كائن الحُلم يفهم، ولكنه لا يتكلم، فلم يقل لسيده إنه هو من عالج مصابي القرية، وجعلهم يبرأون. ولأن الكائن الخرافي كان يفعل بالسر ما يفعل، كان يخرج في النهار دون أن يقول إلى أين هو ذاهب، أو كان يترك البيت في الليل، وعبدو نائم. وفي أحد الأيام، تبعه عبدو حتى بيتٍ كانَ نائيًا، وتفاجأ على سماع صياح الفرح، دون أن يرى ما وقع. لكنه رأى الأم، وهي تضم طفلها، وتبكي لسعادتها، ورأى الطفل، وهو يضم أمه، ويبكي لسعادته. حُلْمُ يوسفو، خاطب عبدو خيمر، هل هذا أنت؟ لا تكذب عليّ، قل الصدق، هل هذا أنت؟ بقوة الأسد التي لديك تبرئ الناس أم بحليب الشاة أم بِسُمِّ الثعبان؟ حلم يوسفو، لا تكذب على عبدو، صاحبك، أنا صاحبك، فلا تكذب عليّ. حلم يوسفو، تكلم. كانت تتحرك على وجه الكائن الخرافي الظلال، وكان الكائن الخرافي يأخذ بلعق عبدو بلسانه، وبدغدغته بذيله، فيكركر عبدو. توقف، يا حلم يوسفو! توقف، يا حلم يوسفو! يردد عبدو، وخيمر لا يتوقف حتى يكاد يغمى على عبدو من كثرة الضحك.
ذاع صيت الكائن الخرافي في كل داكار، فقال عبدو لحلم يوسفو، وهو يرى طابور المرضى بالسيدا الطويل: أنت مبسوط كما أرى، قوتك من شفاء الناس. داعبه عبدو من عنقه، وشد رأس الأسد الذي له بين ذراعيه. قوتك من شفاء الناس، همهم عبدو. كان يكفي للمريض أن يشرب من ضرع الشاة التي لخيمر بضع قطرات من الحليب، فيذهب عنه مرضه إلى الأبد. قوتك من شفاء الناس، يا صديقي، يعود عبدو إلى الهمهمة، والناس في كل مكان من السنغال تريدك. الآن أفهم لماذا رفضت العودة من حيث أتيتُ بك. آه، يا ليوسفو المسكين، لماذا ماتَ ولم ينتظر قليلاً؟
ذهب عبدو بحلم يوسفو إلى كل مدن السنغال، ليبرئ بالحلم كل المرضى بالسيدا، وليسمع صياح الفرح. اعتاد عبدو على سماع صياح الفرح، لهذا ذهب بالكائن الخرافي إلى كل مدن السنغال، واحدة واحدة، فمن الصعب على المرء أن يتخلى عن شيء اعتاد عليه. كان عبدو يضم خيمر كلما اختلى به، ويسأله خائفًا على صحته: هل ما زال في ضرعك الكثير من الحليب؟ لا تبتسم ابتسامتك البلهاء هذه، وفكر في نفسك، فكر في صحتك... فكر فيّ. وبعد قليل، يقول له: جيراننا أيضًا يريدونك، نعم، كل جيراننا، فأنت أشهر من نار على علم الآن. جيراننا. كل جيراننا. كلنا مرضى، يا حلم يوسفو. كلنا مرضى، وَمَنْ غيرك لنا لينقذنا؟ فانتبه على نفسك، انتبه على صحتك، بعد موت هذا المأفون يوسفو لم يبق لي أحد آخر غيرك.
بعد جولة في موريتانيا، ومالي، وغينيا، وغينيا بيساو، وغامبي، نادت على حلم يوسفو دول أفريقيا الباقية، فلبى الكائن الخرافي النداء. كان كلما سأل عبدو عنه بدافع الخوف على صحته، رد عليه بابتسامته المعهودة، لكن عبدو لم تعد تطمئنه ابتسامة خيمر كثيرًا، كانت تطمئنه قليلاً، ولم يكن يعرف لماذا.
في باريس، استقبلوه كما يستقبلون الرؤساء والملوك، صعدوا به شارع الشانزليزيه، وعكف الأطباء على تحليل حليبه. ها أنت غدوت كما لم تتوقع أبدًا، همهم عبدو في أذن صاحبه، شيئًا كبيرًا، وأنا لا أحب كل هذا. كان تعيسًا، فلم يبتسم خيمر. كان هو أيضًا تعيسًا. كان تعيسًا لأن عبدو كان تعيسًا. ما رأيك لو...، قال عبدو فجأة، وابتسامته عادت تتلألأ على ثغره. ما رأيك بجولة لنا وحدنا في أحياء باريس؟ ابتسم حلم يوسفو، وعبدو يضيف: سنحب واحدة، أنا وأنت، يوسفو كان يحب واحدة لم توجد على وجه الأرض، كان يحب حوا، عاهرة لم توجد على وجه الأرض.
في مساء باريس المعطر، راح الصديقان يتجولان، وينظران إلى النساء. تلك القنطرة هناك، قال عبدو لحلم يوسفو، هل تراها؟ لم يكن الظلام كثيفًا، وتحت الأشعة الشاحبة للقنديل، كانت هناك فتاتان. إنهما لنا، همهم عبدو. لي ولك. سنحبهما كما أحب يوسفو حوا. وهما قربهما، سمعا الواحدة تقول للأخرى: إذا ما توقفتِ عن حبي ألقيت بنفسي في السين. هل سمعت، يا صديقي؟ همس عبدو في أذن الكائن الخرافي، ستلقي بنفسها في السين، السين يبتلع الكثير كما نسمع، يبتلع الكثير كما تبتلع السيدا عندنا. تقولين فلألق بنفسي في السين؟ عادت الفتاة إلى القول للأخرى. سألقي بنفسي في السين، ولا تلومي بعد ذلك إلا نفسك. طيب؟ سألقي بنفسي في السين. استعدت للقفز، وفي اللحظة ذاتها، أطلق خيمر من ذيله بضع قطرات من سُمِّهِ على الفتاتين، وإذا للسم مفعول السحر عليهما. ترامت الواحدة في أحضان الأخرى تحت النظرات الدهشة لعبدو، وما لبثتا أن ذهبتا في قبلة طويلة. لم أكن أعلم أن لك هذه القوة أيضًا، قال السنغالي الشاب، قوة الحب بين الناس، والكائن الخرافي يبتسم. لا بد أنك تخفي عني أشياء كثيرة. هل تخفي عني أشياء أخرى؟ حُلْمُ يوسفو، أنا صاحبك، فلا تخف عني شيئًا، طيب؟ لا تخف عني شيئًا. إذا أخفيت عني شيئًا ألقيت بنفسي في السين. لا، لا تقلق، أنا أمزح، فقط لا غير. وبعد قليل: إذن قوتك من شفاء الناس، ومن حبهم، هذا هو الفعل وإلا فلا!
عندما عاد الصديقان إلى داكار، وجدا الدنيا قائمة قاعدة. لم يعد الناس يريدون الرئيس رئيسًا، ولأن الناس، بعد أن برئوا، راحوا يبحثون عما يبحث عنه كل ذي صحة جيدة: كل الحقوق. أراد الناس أن ينصّبوا حلم يوسفو عليهم رئيسًا، فرفض، لكن عبدو حاول إقناعه: أنت كأسد لا بد لك من عرين، وسدة الحكم ستكون لك عرينًا. هل تخشى العدل؟ قل لي، هل تخشاه؟ كل مهابتك، وتخشى العدل؟ أم أن العدل ليس قوتك كالحب قوتك والشفاء قوتك؟ حلم يوسفو، حقق حلم يوسفو، يوسفو لم يعرف العدل في حياته يومًا. لا تخش شيئًا، لن أتركك وحيدًا، لن أتركك لقمة سائغة للضيم، سأكون إلى جانبك، سأصيح عليك عندما تنسى ولا تعدل.
بعد عدة أيام على رأس الدولة، بدأ الكائن الخرافي يهزل، وينحل، ويفقد قواه. كان عبدو يراه يهزل، وينحل، ويفقد قواه، ويقول لنفسه إنه ذنبه، لأنه دفعه إلى ذلك، إلى أن يقيم العدل، والعدل ليس قوة من قواه، وَضْعُهُ يبرهن على ذلك. أمام كدره وسخطه، إذا به يسمع خيمر يقول، كان يعرف الكلام، وكان يقول ما يقول شعرًا:

في بحر الظلمات
لا أحد يعرف العدل
لأن لا أحد يعرف الظلم
في بحر الظلمات

في بحر الظلمات
لا أحد يشعل النار
لأن لا أحد يطفئ الليل
في بحر الظلمات

في بحر الظلمات
لا أحد يعرف الموت
لأن لا أحد يجهل أسرار الحياة
في بحر الظلمات

كان الكائن الخرافي على وشك الموت، فضمه عبدو، وبكى. لا تبك، يا صديقي، قال خيمر. إذا متَّ متُّ معك، قال عبدو. لن تموت معي، قال خيمر، لدي من القوة ما يجعلني أبقيك حيًا إلى الأبد. لا أريد، قال عبدو، أريد أن أموت معك. انفجر الاثنان يبكيان، وكل منهما ينوح في أحضان الآخر، لما، فجأة، قال عبدو، وهو يمسح الدمع: كل القوى المعجزة التي لك، ولم تفكر، كما يجب عليك أن تفكر، يا حلم يوسفو! يحصل أن أكون قويًا في أشياء وألا أكون قويًا في أشياء، قال الكائن الخرافي، ثم، بخجل: ككل كائن خرافي. سأعيدك إلى بحر الظلمات، قال عبدو، وهو ينهض واقفًا، هناك حيث لا أحد يجهل أسرار الحياة.
وبالفعل، عاد عبدو بالكائن الخرافي إلى بيته، إلى بحره، إلى بيئته، إلى إفريقياه، إفريقياه التي لم تُكتشف، لم تُغتصب، لم تُبع في أسواق النخاسة، لم تُنهب، لم تَفتك بها الأمراض، هناك حيث يسكن الحلم، ولا مكان للملح إلا في البحيرات الوردية.





.













الكابوس التاسع
الأصفر

التقت الزوجات الثلاث لأقوى الرجال في الصين، رئيس اللجنة التنفيذية غانغ (متانة) ونائبيه كانغ (بأس) وجيان (بأس كذلك)، من أجل البحث في أمر خيانة هؤلاء الأخيرين لهن. أنا لم أعد أحتمل، قالت آي (حب) زوجة رئيس اللجنة التنفيذية، أن أتظاهر بعدم معرفتي للعلاقات الناعمة التي يقيمها غانغ من وراء ظهري. تدعوين علاقات ناعمة، يا عزيزتي، قالت باو (كنز) زوجة نائب رئيس اللجنة التنفيذية الأول، تلك التي تقام في شارع غِيو (أمة)، شارع المومسات؟ زوجات مخدوعات نحن، قالت هِيا (زهرة) زوجة نائب رئيس اللجنة التنفيذية الثاني، مُهانات، هذا ما يعود علينا من علاقات أزواجنا الناعمة، هؤلاء الظمأى لكل شيء، للسلطة وللجنس وللمال. لم أشأ جرح مشاعركن، همهمت آي. مشاعرنا مجروحة، همهمت باو. مسفوحة، همهمت هِيا. رشفت كل منهن رشفة من فنجان شايها الأبيض، ورحن يتأملن لوحة قاتمة لنساء عاريات تكاد تغطي الحائط. وماذا سنفعل؟ سألت آي. لم نزل حلوات في أكثر عمرنا مَلاحة، قالت باو، وهي تذرف دمعة. لا تبكي، باو، قالت هِيا، وهي تبكي. لا تبكيا، باو، هِيا، رجاء، قالت آي، وهي تبكي. أنهين شرب فناجين الشاي، وقالت الواحدة للأخرى: لنرسم خطة. اقتربت كل واحدة برأسها من رأس صديقتيها، وثلاثتهن رحن يهمسن، وهن يحركن رؤوسهن تارة بالموافقة وتارة بعدمها.

* * *

كان لا بد من الزوجات الثلاث أن يعددن أنفسهن على أكمل وجه ليكون باستطاعتهن التغلب على أزواجهن، فبدأن بإصلاح بعض العيوب في أجسادهن: آي، التجاعيد التي تغزو طرفي فمها وعينيها، باو، ترهُّلُ ثدييها، هِيا، ترهُّلُ ردفيها. اخترن أحسن مستوصف تجميل في بكين، مستوصف شان (جميلة)، واستسلمن لأيدي الأطباء المهرة، وفي أقل من أسبوعين، عدن إلى شبابهن: آي، وجهها كالقمر، باو، ثدياها ثديا فتاة في العشرين، هِيا، ردفاها ردفا ممثلة من ممثلات البورنو. وجه جميل، وثديان جميلان، وردفان جميلان. تمنت كل واحدة أن يكون لها ما للأخرى، لكنهن كن راضيات بما لهن تمام الرضاء.
بعد مستوصف التجميل، ذهبن إلى أكبر صالون للتدليك في بكين، صالون فانغ (معطَّرة)، وتركن أجسادهن لأصابع المدلكات الحاذقات، وفي أقل من أسبوعين، عدن إلى رشاقتهن: آي، جسد البان، باو، جسد النعام، هِيا، جسد الثعبان. وهن يسرن في الشارع، عاد الصفير يشنف الآذان، وطنت كلمات الغزل في الأجواء، وركض الشبان الذين لا يكلون من الركض. كل هذا أسعدهن، وجعلهن يشعرن بكسب المعركة سلفًا ضد الخونة أزواجهن.
قضت الزوجات نهارًا كاملاً في دكاكين السيكس شوب الواقعة خلف ساحة تيانانمن، فاشترين كل الثياب التحتية والفوقية الخليعة، واشترين كل الدهون والحبوب المثيرة. اشترين أفلام ومجلات البورنو، واشترين البواطن النسائية والرجالية الماشية ببطارية. اشترين الروايات والقصص الجنسية، واشترين الموديلات الحية والبلاستيكية. كن يشترين، وفي الوقت ذاته، يكركرن، وهن يكتشفن ما لم يخطر على بالهن، وهن يلمسن ما كان محرمًا في عرفهن: فخذ هذا الشاب، أو إلية تلك الشابة، ولكن خاصة عندما رحن يأخذن دروسًا في التقبيل، وفي الترجيم، وفي التنجيم.

* * *

صارت الزوجات الثلاث على استعداد لبدء الحرب ضد أزواجهن الخونة، ورحن ينتظرن منهم التذرع بقضاء الليل خارج البيت الزوجي لاجتماع طارئ تعقده اللجنة التنفيذية، لكن شيئًا من هذا لم يقع. كان الأزواج الثلاثة يعودون إلى المنزل في المساء، وهم منهكون، يأكلون، ويذهبون إلى السرير ليناموا حتى صباح اليوم التالي. غانغ، يا حبيبي، ماذا جرى؟ تطلب آي، وهي تغنج، تحت نظرة زوجها المستغربة، ليس هناك من اجتماع طارئ للجنة التنفيذية؟ لا! يجيب غانغ بجفاف. اشرح لي، يا حبيبي، تطلب آي من جديد، وهي تلتصق بزوجها، فيدفعها، ويتجه إلى السرير، وهو يقول: لم أحصل بعد على عمولتي. أية عمولة؟ تسأل آي مصدومة، عمولاتك كثيرة. عمولتي مقابل بناء عشرة مفاعلات نووية، يكشف الرجل القوي. بناء عشرة مفاعلات نووية! عمولتي! عمولتك؟ نعم، عمولتي، عمولتي، يردد غانغ بجفاف قبل أن يضيف: مليار. تكلفة بناء العشرة المفاعلات النووية؟ عمولتي، يا دين تاو! يقذف الزوج، ويلقي بجسده على السرير، ولا يلبث أن يبدأ بالهلوسة. وأنتَ، يا حبيبي؟ تطلب باو، وهي تغنج. وأنا ماذا؟ يرد كانغ بجفاف. اجتماعاتك الطارئة للجنة التنفيذية؟ اجتماعاتي الطارئة للجنة التنفيذية على قفاي، يقول الزوج بجفاف. هذا لأنك تحبني كثيرًا، يا حبيبي، تقول باو، وهي تلتصق بزوجها، أكثر من اجتماعاتك الطارئة للجنة التنفيذية. أحبك كثيرًا، يا دين تاو، أكثر من نصف مليار عمولة لبناء عشر غواصات نووية. عشر غواصات نووية... عمولة... نصف مليار؟ تسأل باو مصدومة. وماذا عن ليلة هادئة بعيدًا عنكِ، يا دين تاو! يقذف الزوج، ويلقي بجسده على السرير، وفي الحال يأخذ بعمل كوابيس لا تنتهي. وبدورها، تسأل هِيا: عمولة لاجتياح البط أسواق الصين من أقصاها إلى أقصاها! نصف مليار، يطن جيان، أيتها المغناج العظمى من بين مغناجات حريم ماو! نصف مليار... المغناج العظمى... حريم ماو! تعيد هِيا دون أن تخفي خيبتها. يعني الأسوأ من بين كل حريم ماو، يا دين تاو! يقذف الزوج، ويلقي بجسده على الأرض، فهو يوجعه ظهره، والنوم على الأرض، حسب أساطين الطب الصيني التقليدي، خير من ألف علاج خراء!

* * *

أصاب الزوجات الثلاث اليأس، وليس في الأجواء أقل ما يوحي بأن علاقات أزواجهم الناعمة عادت إلى سابق عهدها، فغرقن في تناول الكحول والأفيون، وانشغلن بممارسة الاستمناء والسحاق. كن يهرقن طاقتهن الشبقية بطريقة من الطرق في سبيل احتمال ما لا يحتمل: أن ينأى أزواجهن عن خيانتهن سعيًا وراء المال. لم يكن المال السعادة التي ينشدنها من وراء مغامرة أعددن لها، كان المال آخر ما يهمهن. الجنس كان أول ما يهمهن، أما مليارات أزواجهن، فلم يكنّ يحلمن بها. كانت لهن ككل الصينيات أحلام متواضعة، ولكن جسورة، غيورة، غير بريئة، غير سرية، غريبة، عجيبة، إغرابية، إعجابية، فيتعرفن على أجسادهن، ويكتشفن ما هو خفي في التاوية. السلطة ربما كانت أهم من المال، أهم من الجنس، شرط أن تكون في خدمة الجنس، لهذا اشترين الأثواب الجلدية، والسياط الجلدية، لهذا أردن أن يمارسن سلطة الجنس، سلطة الثياب التحتية، لا سلطة المال، سلطة الثياب الفوقية. طال ابتهالهن لتاو، إلا أن المفاجأة كانت كاملة عندما قال الأزواج الثلاثة لزوجاتهم إن لديهم اجتماعًا طارئًا للجنة التنفيذية هذا المساء سيدوم حتى الصباح.
حال مغادرة الرجال الأقوياء الثلاثة، ارتدت نساؤهن ما يفجر مفاتنهن، وبالغن في تزويق وجوههن. وضعن على رؤوسهن شعرًا مستعارًا أزرق وأحمر وأصفر، فلم يعد يعرفهن أحد، حتى أن أفراد الغونغانبو (مخابرات وزارة الأمن العام) المكلفين بالسهر على الزوجات المهمات لم يفرقن بينهن وبين مومسات خلف ساحة تيانانمن: جياو (جميلة)، لا تذهبي أبعد، لدي كل ما تشتهين، همسوا في آذان سيداتهم. ركبت كل منهن تاكسي، وأمرن السائق بالإسراع إلى زقاق دان (أحمر) المتفرع عن شارع غِيو (أمة)، شارع المومسات، هناك حيث كانت تقف بائعات الهوى الأجمل. مع سائق تاكسي مثلي بين فخذيك، لا داعي إلى الإسراع، همهم الرجل، وهو يلقي نظره على المفاتن المخنقة المصعقة المسحقة عبر المرآة الارتدادية. ضربته آي بحقيبتها البلاستيكية على ظهره، وهي تنبر: قليل من الأدب! فانفجر السائق يقهقه. جذبته بسلسة حقيبتها من عنقه، وهددت: ستكون نهايتك على يدي! راح سائق التاكسي يزكزك، واصطدم ببعض عربات الطباخين الجوالين. امتثل الجبان لأمر المرأة القوية، المتخفية تحت المساحيق المدنسة وزيها الشيطاني، وفي أقل من لا شيء، أوصل آي إلى المكان الذي تريد الذهاب إليه.
وجدت آي صديقتيها باو وهِيا بين المنتظرات في زقاق الهوى، تكلمت معهما بلغة الإشارات، وفهمت أن أزواجهن لم يصلوا بعد. كن يعرفنهم جيدًا، أزواجهم الخونة، فهم لا بد أن يكونوا في إحدى الخمارات أمام كأس نينغكسيا، أو في أحد صالونات التكييف يدخنون الماريجوانا. كانت الليلة ليلتهن، فلزبائن الجسد كن محور اختيارهم، مما أثار حنق "زميلاتهن". تضاربت إحداهن مع باو، فهبت هِيا وآي للدفاع عنها. أين قوادكن؟ راحت المومس تصرخ مغلوبة على أمرها. لمحت ثلاثتهن سيارة ليموزين سوداء، وهي تقترب متهادية، فتركن المومس تصرخ من جديد: أين قوادكن؟ ونزلن إلى وسط الطريق، وهن يعرضن مفاتنهن. لم يكن يعرفن زوج من كان، فذهبت النساء الثلاث على إشارة من إصبع مثقلة بالماس تبين بالكاد من وراء الزجاج الخلفي. كان غانغ، زوج آي. أرادت الصعود في الليموزين، لكنه أشار إلى هِيا، ذات الشعر المستعار الأصفر، فصعدت آي على الرغم من كل شيء، وضربت الباب بعنف آمرة السائق: كلب! بمعنى امش.
وما أن مشت الليموزين حتى وصلت سيارة فيراري حمراء يسوقها كانغ بنفسه، فلم تعرفه باو، زوجته. كان في آخر أناقته، مزيت الشعر، مكحل العينين، مفتوح القميص، وكان يبتسم ابتسامة أشبه بابتسامة إلفيس بريسلي. أراد، هو أيضًا، هِيا، ذات الشعر الأصفر، وهذه قبلت بكل سرور، وهي تغنج، وتبتسم لبليه بوي بيكين، فقرصتها باو بغضب الثعابين التي تنتظر من يلتهمها في المطاعم الشعبية، وأبعدتها، وركبت هي إلى جانب زوجها. احتار كانغ، وبكل لطف، طلب من هِيا المجيء مع "زميلتها"، لكن باو ضربت الباب في وجهها، مما اضطر النائب الأول لرجل الصين القوي إلى حمل صاحبة الشعر الأزرق، والانطلاق بها تحت أنغام الموسيقى السوداء.
تفاجأت هِيا على إصبع تنقر كتفها، فالتفتت، ووجدت نفسها أمام زوجها. كان يضع على رأسه قبعة من القش، ويبتسم ابتسامة بلهاء. صاحت به، وطردته. نسيت أنها هنا لخطة رسمتها مع صديقتيها، وأرادت الذهاب مع شاب أقذر من قمر منغوليا، كانت تفوح منه رائحة الغائط، وفراشات الليل ترفرف فوق رأسه. أمر جيان بعينيه رجاله المتخفين في الهواء بإرسال هذا الكائن البشري إلى الجحيم. وفي لمح البصر، اختفى الشاب الدنس من حي الساقطات، من بكين، من الصين، من الكرة الأرضية. أشار النائب الثاني لرجل الصين القوي إلى تاكسي، فتوقف التاكسي عدة لحظات قبل أن ينطلق بالتنين ذي الابتسامة البلهاء وصاحبة الشعر الأصفر، وعشرات الرجال المتخفين في السيارات من ورائه ومن أمامه ومن حوله.
توقفت سيارة الليموزين عند عتبة غِيلو (برج الطبل)، العمارة الشهيرة، وكذلك سيارة الفيراري والتاكسي، وسارع كل واحد من التنينات الثلاثة إلى الاختفاء في طابق طوابقها، ثم في شقة من شققها، غانغ مع آي، زوجته، المومس في ظنه. وكانغ مع باو، زوجته، المومس في ظنه. وجيان مع هِيا، زوجته، المومس في ظنه. طلبت آي من رجل الصين القوي ألا يشعل القوي من الضوء تحت ذريعة أن الضوء الخافت أكثر رومنسية، بينما في الواقع كيلا يُفتضح أمرها. استجاب الزوج المغرر به، ولم يتأخر أحدهم عن قرع الباب. كان شابًا يحمل أكياسًا شتى من الطعام، وضعها على أقرب طاولة، وهو يهمس: أطيب أطباق لحم الكلاب، يا سيدتي. نسيت آي ما تلعبه من دور: لحم الكلاب! قالت بصوت عال، ثم بصوت واطئ: لحم الكلاب! كان رد فعلها العفوي، فزوجها لم يكن يحب لحم الكلاب. أخرجت من حقيبتها ورقة نقدية بخمسين يوان أعطته إياها، ففتح الشاب عينيه واسعًا على رؤية الورقة النقدية الكبيرة، وغادر المكان، وهو يبتسم للمرأة الإلهة. فتحت آي أحد الأطباق الكلبية، باللوز والزنبق، ورمت قطعة لحم في فمها وجدتها لذيذة. ناداها الزوج المغرر به بصوت ناعم لم تعهده من قبل: مومس، هلا أتيت، من فضلك؟ بصوت ناعم، وبكل لطف. دخلت غرفة النوم، فوجدته عاريًا يستلقي على بطنه. هلا تفضلت بتدليكي؟ عاد يطلب بصوت ناعم، وبكل لطف. وهذا أيضًا كان شيئًا جديدًا عليها. خلعت ثيابها، وصعدت على إليتيه لتدلك ظهره حسبما اعتقدت، فهمهم: مومس، يبدو أنك جديدة، قبل أن يضيف: تدليك بروستاتي. كادت المفاجأة تدفعها إلى إطلاق صرخة كبيرة، لكنها اكتفت بقنبلة نووية راحت تتفجر دون صوت في عينيها. تجدين في طاولة الليل كل ما يلزم، همهم أقوى رجل في الصين. تناولت آي أنبوب كريم فرنسي، وجلست بين ساقي زوجها، وهي تنفخ مترددة. مومس، اذهبي بهدوء، همهم غانغ، بكل هدوء. بعصبية، سكبت آي نصف الأنبوب، وأدخلت إصبعها بعنف، فصاح: مومس، بهدوء، ثم بأرقّ صوت: بهدوء، بهدوء، بهدوء، وراح يتأوه لَذَّةً واستمتاعًا.
بعد أن شبع استمتاعًا ولَذَّةً، طلب من زوجته، المومس في ظنه، أن تقوم على الأربع، فقالت آي لنفسها: هذا كوضع كنت أجهله. ظنت أنه سيأخذها، فابتسمت لأن ذلك لا بد أن يكون شيئًا طريفًا ومبتكرًا أن يأخذها. وعلى عكس كل التوقعات، زحف برأسه تحتها، وتناول بفمه حلمتها هذه، فحلمتها هذه، حتى أهلك نفسه، وأهلكها. انقلبت على ظهرها كي يأخذها، ويفجر فيها النجوم، لكنه تمدد إلى جانبها، وانفجر يبكي. راعها أن ترى زوجها، لأول مرة في حياتها، يبكي، فراحت تقبله، من فمه، ومن صدره، ومن بطنه، ومن كله، من كله، من كله، حتى تفجر العالم. تراخى، فهزته، كان ينام نومًا عميقًا. ولحم الكلابِ الشهيّ، لماذا إذن؟ قامت لتأكل بشراهة الكلاب. بعد ذلك، ارتدت ثيابها، وعادت إلى بيتها.
خلال ذلك، كان كانغ يجلس على حافة السرير عاريًا لا يتحرك كالأشياء التي من حوله، وكان لا ينتظر من باو، زوجته، المومس في ظنه، أن تفعل شيئًا من أجله. وكلما جاءته، طلب منها الابتعاد، فتبتعد، وكلما جاءته، طلب منها الابتعاد، فتبتعد، وكلما جاءته، طلب منها الابتعاد، فتضرب قبضتها في الهواء. أخرجت من حقيبة يدها علبة فياغرا، وقدمت له حبة مع كأس ماء، فشرب كأس الماء دون الحبة. جننها، قذفت الحبة في فمها، وهو يجلس على حافة السرير عاريًا لا يتحرك كالأشياء من حوله، وهو يبتسم ابتسامة صفراء طفيفة تشبه قفا الحكماء الكونفوشيوسيين. بدأت حبة الفياغرا تفعل مفعولها على باو، فعادت تحاول مع الزوج البارد برودة جبال سونغ التي قطعها ماو في الشتاء. ظلت الثورة تختنق بأنفاسها، فراحت تتلوى على السرير وحدها، حتى انهارت الأسس التي قام عليها السور العظيم منذ آلاف السنين.
ماذا تريدين أن أفعل من أجلك، يا حبيبتي؟ همهم جيان في أذن هِيا، زوجته، المومس في ظنه. أن تتوقف عن الابتسام، نبرت المرأة التي تستفزها الابتسامة البلهاء. لماذا؟ لأنها لا تعجبني. لماذا؟ لأنني لم أعتد عليها. لم تعتادين عليها! تلعثمت: لأنني لا أحب الرجال الذين يبتسمون. آه، لهذا. لهذا ماذا؟ لم تعتادي عليها. والآن، ماذا سنفعل؟ لا شيء. لا شيء! لا شيء. سنتفرج على بعضنا؟ نعم. هكذا تفعل مع كل مومساتك؟ ليس مع كلهن. ليس مع كلهن؟ ليس مع كلهن. وأنا، لماذا؟ لأنني أحبك. تفعل مع اللواتي لا تحبهن؟ نعم. انفجرت تبكي، فهو بوصفه زوجها، لا يكتفي بالتفرج عليها. القذر! من؟ الآخر. نشق جيان من المخدرات ما رماه أرضًا، فسحبت هِيا شعرها الأصفر بيد مرتعشة، وهي تتأمل زوجها، وتبكي.

* * *

تكرر الأمر مع الأزواج الأقوياء الثلاثة، حصل الشيء نفسه كل مساء. لكنهم في الليلِ كانوا غيرَ ما هم عليه في النهار، كانوا في النهار يضعون حدًا لكل تحركٍ شعبيّ بالحديدِ والنار، لكل مطلبٍ شعبيّ: رفع الأجور، تحسين شروط العمل، حرية الرأي، حرية التعبير، حرية التنفس، حرية التغوط، حرية الاستمناء، حرية الأوضاع، حرية الاستيهام، حرية الرياح، حرية الحبل، حرية الولادة، حرية الإرادة، حرية الموت، حرية الحياة. الحياة. الحياة. حرية الحياة. ملأ الموت ساحة تيانانمن، والأرواح الطيبة السجون. هذا المساء، عودي من حيث أتيتِ، همهم غانغ بكل لطفه ونعومة صوته عندما فتحت آي الباب، ودخلت. اغتاظت آي، وهي ترى مومسًا ثانية كيف حلت محلها، واهتاجت. هدئي روعك، عاد غانغ يهمهم بصوت ناعم وبكل اللطف. لم تهدئ روعها، كان في حقيبتها ما لا يهدئ روعها. ارتدت ثوبها الجلديّ، ورفعت سوطها الجلديّ، وتقدمت والموت من تباريح الهوى لتقضي عليها. لكن الزوج غير الزوج سارع إلى هاتفه المحمول، وطلب رجاله الذين جاءوا، وحالوا دون عرسٍ للجِلد. وكذلك فعلوا مع باو عندما أحضر زوجها غير زوجها فتى بدمامة القمر، أكثر دمامة من كل أقمار منغوليا، ومع هِيا عندما وجدت زوجها غير زوجها يمارس "الكره" مع ذكر وأنثى.
اجتمعت الزوجات الثلاث المخدوعات، من جديد، لينظرن في علاقاتهن الزوجية التي تتفاقم يومًا عن يوم. بَكَيْنَ، ولطمن، وعذبن أنفسهن بملاقط عضت حلماتهن. إنها توجع بالفعل، لهثت باو، وهي تتلوى من الألم، ولكن لا بأس، أريد أن أتوجع لأعرف. لتعرفي ماذا؟ سألتها آي، وهي تتلوى كباو من الألم. لأعرف، أعادت باو، وهي تواصل التلوي من الألم. لتعرف، همهمت هِيا، وهي تتلوى كالأخريين من الألم. تخلصن من الملاقط، وسقين حلماتهن من الماء البارد ما يروي كل أثدائهن. كانت كل منهن أجمل من الأخرى، وكلهن أجمل من شنغهاي. سننتظر كثيرًا، قالت آي. المجلس الوطني الشعبي القادم لم يزل بعيدًا، قالت هِيا. من هم في بكين لا يفكرون بشنغهاي، قالت باو. أعرف مطعمًا يقدم الأفضل مما يؤكل في شنغهاي، قالت باو من جديد بعد عدة لحظات من الصمت، رائحة الأكل أكثر ما أحب. أحب رائحة البحر في شنغهاي، قالت آي. أنا، أحب رائحة الخراء في شنغهاي، قالت هِيا. رائحة الخراء! تعجبت آي وباو، وانفجرتا ضاحكتين. رائحة الخراء! همهمت الصديقتان، وهما تواصلان لعبة القذارة، قذارة الضحك، ومعهما انفجرت هِيا ضاحكة، وهي تحلف: أقسم لكما أنني أقول الصدق. رائحة الخراء! أعادت آي وباو، وهما تكادان تختنقان من كثرة اللعب في مخرأة العالم.
حضرت الصديقات الثلاث، في اليوم المشهود، بشعرهن المستعار، وبزيهن الخليع، مما زلزل الأرض تحت أقدام الأزواج الأقوياء الثلاثة. وعلى العكس، دفع جمالهن، جمال المرأة المنحطة، إلى التفاف أعضاء وعضوات المجلس الوطني الشعبي حولهن، ولأول مرة في تاريخ الحزب الشيوعي الصيني كانت الثورة ثورية، وكانت القرارات ثورية. نحن نندد بالفساد، طنت آي من قلب المجلس، فترنح زوجها. نحن نطالب بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، كل السجناء المجانين والمثليين، كل السجناء الحالمين، طنت بوا في وجه أعضاء اللجنة المركزية، فترنح زوجها. نحن نوجب حرية الرأي، حرية التعبير، حرية الشَّخِ، حرية الشم، حرية البحر، حرية البر، طنت هِيا في وجه أعضاء اللجنة التنفيذية، فترنح زوجها. خرجت وسائل الإعلام المقروءة والمرئية على ما لم يعتد عليه الرأي العام، عندما طالبت بعض الأقلام باعتقال الثلاثي القوي ومحاكمته. الثلاثي القوي، التنين ذو الرأس الثلاثي، القاذف للجحيم، للجحيمِ وللجحيم، المرتكب للمعاصي، داو العصيّ، الملتاث، الممسوس، الهِستيريّ، إمبراطور الصين المحرمة، الماخور العسكريّ، الماخور الإيديولوجيّ، الماخور البروستاتيّ. نعم، الاعتقال، المحاكمة، الكابوس الأفظع لمن على معاصمهم الساعات. لمن أقدامهم في الأحذية. ماذا سنفعل؟ همهم غانغ، الرجل الصيني الأقوى. كما فعلنا في كل مرة، قال كانغ وجيان، نائباه. كما فعلنا في كل مرة، عاد غانغ إلى الهمهمة. كما فعلنا في كل مرة، أكد كانغ وجيان. كما فعلنا في كل مرة، همهم غانغ من جديد. كما فعلنا في كل مرة، عاد كانغ وجيان يؤكدان. كانت الاعتقالات على يد سمك أعماق المياه، اليد الخفية للغونغانبو، بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، بعشرات الآلاف، بمئات الآلاف، بالملايين، بعشرات الملايين، بمئات الملايين، بالمليارات. هذا عقاب من لا يحب رائحة الخراء، لفظت آي وباو، وانفجرتا مع هِيا باكيتين. حشا رجال الغونغانبو الأفواه بالورق، وفتكوا بالطيور. الطيور تحب الحرية، لهذا فتك رجال الغونغانبو بالطيور. بِكّين دون طيور لم تعد بِكّين. لم تعد السنين. لم تعد القناديل. الملونة.

* * *

توقفت العاهرات في شارع غِيو (أمة) وفي الأزقة المتفرعة عَنْهُ عَنِ الصعودِ في السيارات الليموزين السوداء، كانت طريقتهن في الرد بحدة وبسرعة على ما يجري. التحقت بهن آي وباو وهِيا، وهن يضعن شعرهن المستعار الأزرق والأحمر والأصفر، ويرتدين قطعهن المعرية لهن أكثر العراء. كلما مضت سيارة ليموزين سوداء بهن، وبانت من زجاجها الخلفي إصبع مثقلة بالماس، كلما ازددن إصرارًا على عدم الامتثال لها. سنلقنهم درسًا لن ينسوه، قالت آي لباو وهِيا. سنعلمهم كيف يطيعوننا، قالت باو لهِيا وآي. سنقضي على بطشهم الخشن ببطشنا الناعم، قالت هِيا لآي وباو. جاء شاب تبدو على وجهه سذاجة الطلاب الجالدي العميرة، وقال لثلاثتهن بحياء دون أن يتوجه إلى واحدة منهن: مومس، هل تصعدين معي؟ سأصعد معه، قالت باو، في الوقت الذي نادتها فيه إصبع مثقلة بالماس. اعملي على إسعاده، سارعت هِيا إلى القول، وباو تتعلق بذراع الشاب، وتذهب معه. هذا كل ما أسعى إليه، قالت باو. لا، بجد، اعملي على إسعاده، أعادت هِيا، وباو تطبع على خد الشاب قبلة. مومس، يا دين تاو، جاء صوت أبح من وراء هِيا وآي. التفتتا، فرأتا متسولاً قذرًا. أنتِ أو أنتِ، يا دين تاو، أريد من إحداكما أن تذلني، فقهقهت المرأتان، والرجل القذر يبتسم ببلاهة. أن تذلني، يا دين تاو، عاد المتسول إلى القول بصوته الأبح، وهو يواصل الابتسام ببلاهة. هذا لكِ، آي، قالت هِيا. بل لكِ، قالت آي، وهي تدفعها مع الرجل القذر، ومن ورائهما تقول: دعيه يأخذ حمامًا، ولكن، آه! كدت أنسى، أنت تحبين رائحة الخراء، وانفجرت ضاحكة. كان أحدهم يجلس على حافة الرصيف، وهو ينظر إليها. لماذا تنظر إليّ هكذا؟ نبرت آي. وبعد قليل، نادته: تعالَ، فجاء. لماذا تنظر إليّ كالنذل؟ تردد الشاب قبل أن يهمهم: مومس، لأنك تشبهين أمي. أمك، أشبه أمك! قالت آي، وانفجرت ضاحكة. لأنك تشبهين أمي، عاد الشاب إلى الهمهمة. وما رأيك في النكاح مع أمك؟ سألت آي، وهي تسعى إلى استفزازه. مومس، هذا أحب ما عليّ في الوجود، قال الشاب، وهو يبتسم كالطفل. أنت عامل؟ أنا عامل. عامل كيف؟ عامل كل شيء. عامل كل شيء؟ عامل كل شيء. يا لحظ معلمك! قالت آي، وهي تسحبه من ذراعه. وبعد عدة خطوات، سأل الشاب: مومس، لماذا؟ حظُّ معلمِكَ؟ حظُّ معلمي. لأن لا حظ لك. مومس، لماذا؟ لأنك المال الذي له، أنت المال، أنت كل شيء بالنسبة له، أما الأداة، فشيء قديم الزي. مومس، لماذا؟ احتارت، ماذا تقول له؟ لأنك مثلي، همهمت آي بثقة. مومس، مثلك، أنا؟ مثلي... أنا. وابتلعهما شارع غِيو (أمة)، شارع العاهرات.
تمكنت العاهرات من النجاح في قمعِهِنَّ الجنسيّ، فزلزلن الأرض تحت أقدام تنينات السياسة، وكانت النتيجة: غانغ، رئيس اللجنة التنفيذية، رمى بنفسه من برج الطبل، كانغ، نائبه الأول، أطلق في فمه طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط، فقط واحدة، جيان، نائبه الثاني، شنق نفسه.
















































الكابوس العاشر
الأحمر

كان كاييه، هندي الأمازون، يرصد الغابة الخضراء التي كانها عالمه، من أعلى شجرة جوز، ويرى الجرافات الهائلة على قدم وساق، وهي تحمل جذوع الأشجار المقطوعة، وترميها في شاحنات ضخمة يتصاعد دخان أسود من مداخن محركاتها. كان يشعر بالتقوض، كما لو كان هو الجذع الذي يتقوض، وبالانهيار، كما لو كان هو العالم الذي ينهار. لم يكن يرى المناشير الكهربائية في أيدي جبابرة يضعون على رؤوسهم القبعات كرعاة البقر، إلا بعد أن تتهاوى القامات الخضراء. وهم من بعيد، كانوا يبدون كخشب الظلال. كم كان يحب القامات الخضراء، كما لو كان يحب نفسه، وكم كان يحسد الأمازون على مداعبته لأصابع أقدامها، كما لو كان يحسد نفسه. كل الطيور التي كانت له صديقة، أولها اليَعْجَمِيّ، ذلك الطائر من طيور الأمازون التي كانت منذ كان الأمازون، ذابت في الهواء، كل الفراشات التي كانت له عدوة، أولها الزرقاء، تلك المجسدة للروح الشريرة، امحت ألوانها، كل الزواحف التي كانت له أخوات، أولها الإغوانة، تلك العظاءة العاشبة، نفدت بجلدها، كل الحيوانات التي كانت له أخوة، أولهم اليّغْوَر، ذلك النمر المرقط، أضربت عن الطعام، ثم تضورت جوعًا، حتى أن الدُّلفين الورديّ ترك الماء العذب للجذوع الخشنة، وفضل الموت بعيدًا. كان كاييه لا يريد الموت، بعد أن غادر كل أفراد قبيلته، كالدُّلفين الورديّ بعيدًا. بدت سحابة من الغبار الأحمر من أقصى الطريق، فوقف كاييه بطوله، وهو في أعلى شجرة الجوز، ليتأكد من أنها السيارة أربعة-أربعة. تأخرت السيارة عدة أيام عن إحضار ما يأكلونه وما يشربونه، بعد أن استحالت لديهم كل إمكانية في الحصول على الطعام والشراب، من غابة الألف قوس قزح وسهم. هب إلى النزول، وهو يزلق، وتتكسر العروق مع احتكاكها بجسده. عندما وجد نفسه يقف على الأرض، صاح بساو، زوجته، بلغتهم، لغة الكايابو التي لهم: توقفي عن إسقائه الجعة! كانت تسقي بارا، رضيعها ذا السبعة أشهر، الجعة من رضّاعة، وثدياها المصبوغان بألوان المنون يتدليان ميتان، تحت عنق غطته عقود الخرز الأحمر. لم تستجب ساو، فأوضح كاييه: السيارة أربعة-أربعة لن تلبث أن تصل. أبعدت ساو الرضّاعة عن فم الطفل، فصاح بأعلى صوته، وأخذت تند عنه حركات المتشنج. عادت الأم تسقي ابنها الجعة، وبارا يتراخى، وهو يفتح عينيه، ويغمضهما، ككل الثملين. توقفت السيارة أربعة-أربعة على مقربة من العائلة الهندية، وفي الحال، قفز سائقها، وهو يمسح الرطوبة عن جبينه، ويهمهم: خراء! استدار ليخرج صندوقًا مليئًا بالطعام، فآخر، فدزينة من قناني الحليب، وثلاث دزينات من قناني الجعة. هذه آخر مرة، همهم الرجل قبل أن يعود إلى المِقْوَد، لا أريد أن أجدكم هنا، بقيتم أم ذهبتم، عدة أيام وتصل الجرافات. سحب كاييه ريشة حمراء كان يغرزها في أنفه، وقدمها له، فتردد الرجل في أخذها. تأمل كاييه، وتأمل ساو، وتأمل بارا، رضيعهما الثمل. كانت حيرته كبيرة أمام كل تلك المكابرة الفطرية، كمكابرة شجرة موقرة. انتزع الريشة الحمراء، وهو يجمجم "و... خراء!"، ركب سيارته، وغادر المكان.
أفرغت ساو جعة الرضّاعة في حلقها على بكاء البي بي، وسارعت إلى ملئها بالحليب، لكن الصغير رفض الشرب. عض كاييه طرفًا من سجقٍ وقع عليه في الصندوق، وذهب ليأكله مع قنينة جعة، وهو يهمهم: لقد جعلتِ منه سكيرًا، هذا المُدَرَّع. جرعت ساو الحليب دفعة واحدة، وملأت الرضاعة بالجعة، فسكت الرضيع حال وضعها في فمه، وهو لا يتوقف عن جرع الكحول حتى أغفى. اقتربت بقرتهم الضامرة ذات السنام، فقطع كاييه، بسكينه المعقود بخيط حول خاصرته، قطعة سجق أكلتها بنهم. تناولت عن الأرض قنينة جعة كاييه بين أسنانها، وأفرغتها في حلقها. أرادت قطعة سجق أخرى، فأعطاها، وطبطب على رقبتها لتذهب. بعد أن وضعت ساو ابنها في سريره المعلق، فتحت قنينة جعة، وجلست تحتسيها هناك، تحت شجرة، وهي لا تنظر إلى شيء. بدا عليها أنها تستمتع بزوال الأشياء، واضمحلال الوجود. راحت تبتسم، وزوجها يرمقها، دون أن يسره ذلك. دار بوجهه إلى الناحية الأخرى، حيث جذور الأشجار الناتئة كأصابع الشياطين.
في المساء، وصلتهم أصوات موسيقى، وضحكات فتيات، وصيحات سكارى، فصعد كاييه إلى أعلى شجرة الجوز، ونظر إلى البيوت المتحركة للعمال ومقطوراتهم في قلب الطريق التي يشقونها، والمصابيح ترشق أشعتها، فتبين الغابة، وهي تميد في الخراب والدمار. كانت الفتيات أهليات، اختلط ضحكهن ببكاء الصغير بارا، فصاحت ساو بزوجها: لا يريد أن يشرب الحليب! لم يرد كاييه عليها، كان يضحك لضحك الفتيات، وهن يفلتن من أحضان أصحاب قبعات رعاة البقر، فيركض هؤلاء من ورائهن، وبأيديهم قناني الجعة. كان بعضهم يسقط على هذه أو تلك فوق جذع ضخم، وبعضهم يلهث عند حافة الجحيم. مع صراخ بارا، تبتعد أصوات الموسيقى، وتبتعد ضحكات الفتيات، وتبتعد صيحات السكارى. ماذا أفعل، يا كاييه؟ صاحت ساو بعد أن عيل صبرها أمام رضيعٍ يفضل الجعة على الحليب، فاضطرته إلى النزول. حمل ابنه كما لو كان يحمل قارضًا من القوارض، وأخذ يجبره على جرع الحليب حتى كاد يخنقه. انتزعت ساو الطفل منه، وهي تنبر: تكاد تقتله! كانت بقرتهم السنامية لا تنام مثلهم، فذهب كاييه بالرضّاعة إليها، لكنها، هي الأخرى، رفضت شرب الحليب، وعضت بأسنانها قنينة جعة تريده أن يفتحها لها. ليس لكِ، عادت ساو إلى الصياح، للصغير، وخلصتها القنينة. للصغير، تهكم كاييه، ستقتلينه، والصغير لا يتوقف عن البكاء. عندما بدأ البي بي بشرب الجعة، ولم يعد يصرخ، علت أصوات الموسيقى، وضحكات الفتيات، وصيحات السكارى. أخذ كاييه يرقص كيفما اتفق له الرقص، فضحكت ساو عليه. تعالي، قال لها، وهو يشدها، لكنها لم تأت. واصلت إفراغ الجعة في فم الرضيع، وهي تضحك. ألقى كاييه الرضيع الثمل أرضًا، وأخذها بين ذراعيه، وهي لا تتوقف عن الضحك. راحا يرقصان كيفما اتفق لهما الرقص، ويضحكان كيفما اتفق لهما الضحك، وراحا يقبلان بعضهما، وهما يرقصان، وهما يضحكان. تناولت البقرة ذات السنام بأسنانها الرضّاعة نصف الملأى بالجعة من فم الطفل الضائع مع أحلامه، وأفرغتها في فمها. ألقت ساو عنها ثوبها البدائي، واستمرت وكاييه ترقص، وتضحك، وتقبله، ترقص، وتضحك، وتقبله، ترقص، وتنعق، وتقبله. تركها تفك العقدة الرابط بها عضوه، وجرها إلى أرجوحة النوم.
في صباح اليوم التالي، وجدا بارا، ابنهما، ميتًا، فصاحت ساو، وناحت، إلا أن كاييه بقي هكذا، مهيبًا، سيد نفسه، دون أن يرف له جفن، وكأنه بموت طفله استعاد شجاعته التي فقدها. حمل صغيره، وذهب حتى وسط الجرافات الممسوسة في عقلها، وألقاه بين أذرعها، دون أن يأبه به أحد من واضعي قبعات رعاة البقر. عند عودته إلى كوخ الأعشاب المستسلمة بين أصابع الرماد وأوراق الموز المحبورة بين أسنان الجفاف، وجد كاييه ساو، زوجته، تطفو في بحيرة من الدم. كانت قد قطعت عرق رسغها بحطام قنينة جعة، فحاول إنقاذها بالصمغ والوحل. ماتت بين أصابعه، وعند ذلك، ارتعد كالطفل، واهتز كالوتر، وتهاوى كالسهم. كان الرعب، ولم يكن الحزن. دخل شرطه، الشرط الأخير من تجربته الإنسانية. بقي هكذا، وكأنه تحجر، وغدا تمثالاً لا ينطقُ، لا يخفقُ، تمثالاً يقوم طوال الزمن، مذ كان زمن، بانتظار أن يدب في عروقه دبيب الحياة. اقترب الخلق الهدام منه، واقترب. اقترب الخلق الهدام. الهدام لكل شيء لا لبعض شيء في سبيل الخلق. الإنهاء على البيئة. على النظام البيئوي. الدخول في مرحلة عدم الرجوع إلى الوراء. الإصرار على الاستمرار. الخلق الهدام. عزمت المناشير الكهربائية على الهجوم بأسنان الجحيم التي لها، ولكن بسبب وجود كاييه لم تحقق ما عزمت عليه، وتوقفت الجرافات الممسوسة في عقلها عن القيام بعملها على أكمل وجه.

* * *

اخترقت السيارة أربعة-أربعة الطريق غير المعبدة، وهي تثير الغبار الأحمر من ورائها. كانت فيها ثماني نساء أهليات، وجوههن مصبوغة، صدورهن عارية، أثداؤهن ضخمة، عليها عقود من الخرز كثيرة، وكان الناظر إليهن يتمنى لو يطبع قبلة على حلماتهن. كانت الرطوبة تنبثق من مسام الأشياء إلا من مسامهن، فمسح السائق جبينه، وهو يهمهم: خراء! وجرع من قنينة، للحرارة التي لا تنخفض، بعض الماء. وصل إلى المطار الأقرب من ورشتهم، فرأى أن الطائرة الصغيرة كانت هناك، وهم، من بابها العريض، كانوا ينزلون بيانو كبيرًا على كف جرافة، بينما العازفات الثماني يعملن كل ما بوسعهن على أن يتم ذلك كما يردن. كن يتكلمن كلهن في وقت واحد، وكان السائدُ في الأجواء تنافرَ الأصوات. توقف السائق تحت أنف الطائرة، فغادرت الهنديات السيارة، وكذلك السائق الذي صاح بالربان، وهذا يطل من كوته: اعتن بالبضاعة جيدًا. لمس قائد الطائرة بإصبعين جبينه، وهو يبتسم. هيا، فلتصعدن، طلب السائق من النساء الأهليات، وهو يمسح الرطوبة، ويهمهم: خراء! أخرج الربان ذراعه من الكوة، وهو يقبض على شيء، فتقدم السائق لتناوله. هذا ما طلبه باتش كاسيدي، قال الربان، وهو يفتح قبضته. تلقف السائق عينًا زجاجية ضخمة، وألقى: هل أمه عوراء، هذا الخراء؟ قل له نسيت الملبس. جاء دور إنزال الحقائب الموسيقية، فقفص دجاج كبير، فخنزير لم تهتم الموسيقيات بأمره، فكيس بطاطا. صناديق الجعة والحليب ضعوها في سيارتي، صاح السائق بالحمالين. التفتت العازفات، ورحن يتأملن السائق. أنت من سيقودنا إلى الورشة؟ سألت أصغرهن حجمًا. أنا من سيقودكن إلى الورشة، أجاب السائق. أقدم نفسي، رئيسة الفرقة، نيويورك نيويورك. نيويورك نيويورك، همهم السائق دون أن يبدو أقل رد فعل على وجهه. تابعت نيويورك نيويورك، وهي تشير إلى أحداهن: هذه واشنطن، وهذه شيكاغو... فأوقفها السائق، أنا شيت (خراء)، ومعرفة أسماء الخراء التي لكنّ لا تهمني. أرسلت الفتيات صيحات الاستنكار، وهن يمسحن الرطوبة عن وجوههن. من الأفضل لكنّ، سيداتي، أن تصعدن في الأربعة-أربعة، قال شيت، ولكن، قبل ذلك، ها أنا أخبركن، جهاز التكييف معطل. عدن إلى الصياح، وصعدن في السيارة، ليتكدسن كالسردين في جوفها. ستلحَقُ بي، صاح شيت بسائق الجرافة قبل أن يأخذ مكانه من وراء المِقْوَد، فلمس هذا بإصبعين جبينه. أنا لا أحب السردين المعلب، رمى سائق الأربعة-أربعة، وهو يلتفت إلى الوراء. ومن جديد، أرسلت العازفات صيحات الاستنكار. لن تكون الطريق طويلة، همهم شيت.

* * *

بيلي بيل. كان بيلي بيل، رئيس الورشة، الأشقر، الأزرق، المبتسم دومًا وأبدًا، يضع على رأسه قبعة راعي البقر فوق أرياش الهنود، وهو يثني امرأة أهلية على طاولة في بيته المتحرك، ويمارس معها وقوفًا، في الوقت الذي يخاطب فيه سهم، زوجها الجالس على مقربة منه. كان بيلي بيل يبتسم، فتشع نابه اليسرى الماسية: قل لمنقار، رئيسكم، سأعمل كل ما بوسعي على إبعاد كاييه دون أن ألحق به أقل أذى، هذه كلمة شرف من طرفي. ثم لنفسه، وهو يواصل الممارسة والابتسام: لماذا هذا لا يأتي، يا دين الرب؟ فيضاعف من حركته. قل له بيلي بيل عندما يَعِد يفي. يا دين الرب! يا دين الرب! سأبعده عن أسنان المناشير وأفواه الجرافات. قل له بيلي بيل سيبعده، وبالطريقة الأكثر حضارية عندنا. يا دين الرب! يا دين الرب! يا دين الرب! راح يلهث، ويواصل الابتسام، وفي الوقت ذاته يرى من النافذة السيارة أربعة-أربعة تدخل الورشة، إلى أن تساقط على ظهر المرأة. اعتدل، ونابه الماسي يشع، وطبع على الردف الربانية قبلة صغيرة. التفت إلى سهم، وهو يقفل سرواله، ويمسح جبينه: لكن إذا لم أنجح في إبعاد هذا المجنون، فالذنب لن يكون ذنبي، قل لمنقار، رئيسكم. رمى له حفنة دولارات، وسهم يقول بغضب: فليذهب كاييه إلى الجحيم! تفاجأ بيلي بيل، وابتسم ابتسامة عريضة لأنه لم يفهم شيئًا. بدأ الرجل يتكلم بدارجة الكايابو، وعيناه تقدحان شررًا، تارة يكشف عن ثديي زوجته، وتارة يكشف عن ردفيها، فيجيبه بيلي بيل بدارجة الكايابو، والضوء يشع من كل أسنانه، تارة يغطي ثديي المرأة، وتارة يغطي ردفيها. كان للهندية ثديان كبيران، وردفان جميلان، ولم يتفق الرجلان. قبل أن يغادر بيلي بيل البيت المتحرك، رمى لسهم حفنة دولارات أخرى، وكأنه نسي أن المرأة زوجته: ها أنا أدفع لك، إذا كانت لديك رغبة.
كانوا كلهم هناك لاستقبال العازفات: روكي ورامبو التوأمان الضخمان، الأول مسئول عن المناشير، والثاني مسئول عن الجرافات. روكي، رامبو، أنتما على أحسن وجه؟ رمى بيلي بيل وكله ابتسام أول ما جاءت عيناه في عينيهما. الحياة جميلة وكل هذه الرطوبة الخراء؟ وكأنه ذكرهما بمسح الرطوبة عن وجهيهما. كل هذا بسببه، قال روكي، وهو يشير إلى رامبو، ويصرف أسنانه، فتبين نابه اليسرى الذهبية. كل هذا بسببه، قال رامبو، وهو يشير إلى روكي، ويصرف أسنانه، فتبين نابه اليمنى الذهبية. كان كل منهما يكظم غيظه من الآخر، وبيلي بيل يضحك عليهما. تدخل باتش كاسيدي، طبيب الورشة، المسماع على كتفه، وقصده إبراز نابه اليمنى الماسية. السعادين أكثر منكما ذكاء، قال للتوأمين. أكثر منهما ذكاء، باتش كاسيدي، أبدى بيلي بيل تعجبه، هذا كثير، أتساءل أحيانًا إذا ما كانت هناك حيوانات أقل ذكاء من السعادين. هناك، قال لوكي لوك، مساعد بيلي بيل، وهو يفتح فمه عن أسنانه القاطعة العليا الذهبية، قبل أن يتلعثم، ويكاد يقع دون أن يمسه أحد: الديناصورات. الديناصورات، قال بيلي بيل، وهو يقهقه. هل سمعت ما يقوله لوكي لوك؟ توجه رئيس الورشة، بيلي بيل، بسؤاله لصاحب الورشة، روكفلر، الديناصورات. ديناصورات قفاي، لفظ العجوز روكفلر بلسان المتعجرف القذر دومًا وأبدًا، وهو يكشر نفورًا، فتبين أسنانه القاطعة العليا الماسية. انظروا إلى كل هذه الديناصورات، يا أصدقائي، هتف بيلي بيل، وبنات الفرقة الموسيقية يتقدمن منهم. ليس هناك أجمل من هذه الديناصورات! أهلاً بكن في غابات الأمازون، صاح رئيس الورشة، وهن على بعد عدة أمتار منه، ونابه الماسية تشع كما لم تشع من قبل. وصلن، وهن يكركرن، فسلم عليهن بيلي بيل بحرارة، وهو يقول لكل واحدة: بيلي بيل، بيلي بيل، بيلي بيل... وهكذا فعل عند تقديمه كل من كان باستقبالهن. أشارت نيويورك نيويورك إلى نفسها: أنا رئيسة الفرقة، نيويورك نيويورك، العازفة على البيانو، ليصيح بيلي بيل بمن معه: هل رأيتم، يا أصحاب؟ ها أنا أجيئكم بنيويورك، أجيء بنيويورك إلى عقر أمازونكم! نيويورك نيويورك، أعادت الفتاة، وهي تغنج. نيويورك نيويورك، أعاد بيلي بيل، وهو يرفع إصبعين، بمعنى مرتين. هذه واشنطن. واشنطن، أعاد الرجل الأشقر، وهو يلمس قبعته لمسة خفيفة. وهذه شيكاغو. شيكاغو. وهذه سان فرانسيسكو. سان فرانسيسكو. وهذه إنديانابوليس. إنديانابوليس... كان شيت قد أخذ مكانًا من وراء معلمه، فهمس في أذنه: إنديانابوليس الخراء! وهذه هارفارد. هارفارد. وبسرعة: هارفارد؟ هارفارد. هارفارد كهارفارد؟ هارفارد كهارفارد. يدرّسون الموسيقى في هارفارد؟ يدرّسون كل شيء إلا الموسيقى في هارفارد. ولماذا هارفارد؟ كن صبورًا، يا حبيبي، وسأقول لك. سأكون أكثر من صبور، يا حبيبتي، بما أنك تطلبينه أنت مني. شكرًا، سيد بيلي بيل، قالت، وهي تغنج. بيلي، قال، وهو يجذب ريش الهنود كمن يجذب أحدهم شاربه. بيلي، قالت، وهي تطلق كركرة كمن يضرب أحدهم على أصابع البيانو. وهذه ساكرامنتو. ساكرامنتو. وهذه لاس فيغاس. لاس فيغاس، هل تذكر، روكفلر، لاس فيغاس؟ كيف لا أذكر لاس فيغاس، وكل نقودي القذرة التي ربحتها، أيها اللص؟ قال صاحب الورشة بلهجة مترفعة. لا تكلمني هكذا، روكفلر، قال بيلي بيل بابتسامة واسعة. لا أكلمك هكذا؟ لا تكلمني هكذا. لا أكلمك هكذا كيف؟ بلهجتك المترفعة هكذا، أوضح بابتسامة واسعة، ونابه الماسية تطلق شعاعًا أسود، لهجتك المترفعة، نيك ماماك! لهجتي المترفعة، نيك ماماي! نيك ماماك! نيك ماماي! نيك... ماماي! ماماك! ماماي! وعن هارفارد، ماذا، يا حبيبتي؟ أرادت الكلام، لكن لوكي لوك سأل، وهو يكاد يقع على الأرض دون أن يمسه أحد: أين توجد هارفارد؟ انفجر بيلي بيل ضاحكًا، وألقى: في جوف ديناصور! فضحكوا كلهم ما عدا شيت. ديناصور الخراء، همهم. ماذا تقول، شيت؟ أقول ديناصور الشيت، بابا. كان في مثل عمره، في الثلاثينات من عمره، ويدعوه بابا. ديناصور الشيت، شيت؟ كما تقول، بابا. إذن، يا حبيبتي... الواقع أن كل واحدة منا اختارت المدينة التي جاءت منها لقبًا، أوضحت نيويورك نيويورك، مع قليل من الغنج، ثم مع كثير من الغنج، إنه الاسم الفني الذي لنا. يا لها من فكرة، روكفلر. تقصد أن نعمل الشيء نفسه مع أولئك القذرين الأهليين؟ سأل الرجل الثري بعجرفة. أنا لا أقصد شيئًا، روكفلر، نيك ماماك! نيك ماماي! نيك... وتوجه إلى الآنسات: سيرافقكن لوكي لوك إلى بيوتكن المتحركة لترتحن، سيداتي، اليوم خمر وغدًا موسيقى. انفجر يضحك، وكل من كان معه، بينما شيت يهمهم: اليوم خراء وغدًا خراء. لكن... قال باتش كاسيدي، قبل ذلك، أود لو أعرف شيئًا. تود لو تعرف شيئًا مثل ماذا، باتش كاسيدي، نفخ بيلي بيل دون أن ينسى الابتسام. خراء! خراء! أعاد شيت. راح الطبيب يلمس العازفات من أثدائهن، وبالمسماع يريد أن يفحصهن، وهؤلاء يكركرن، ويهربن. جاء جمع من هنود الأمازون جعلهم يقفون حائرين، تعثر لوكي لوك، فحالت العازفات دون وقوعه. خراء! خراء! همهم شيت. كان الأهليون يسحبون عنزة تبين أنها حامل، وصبي يحمل رأس ولدها. صرخت العازفات، وهن يدرن وجوههن إلى الناحية الأخرى، بينما دفنت نيويورك نيويورك وجهها في صدر بيلي بيل، فأسعده ذلك. ما هذه سوى كرة، قال رئيس الورشة، وهو يفتح فمه عن ابتسامة واسعة، واسعة جدًا، جعلت القصيرة نيويورك نيويورك ترى ضرسًا ماسية للأشقر الأزرق لما رفعت رأسها إليه. باتش كاسيدي، انظر ما الذي يريدونه، يا دين الرب! نبر بيلي بيل، وهو يبتسم. كلمهم الطبيب بلغة الكايابو، وهو يعاين الحيوان، ثم ما لبث أن هتف بروكي ورامبو ليحملا العنزة إلى عيادته المتنقلة، والعنزة يسيل الدم من مهبلها. هل هو طبيب بيطري؟ سألت نيويورك نيويورك. طبيب من كله، أجاب بيلي بيل. من كله؟ من كله. بعد عدة دقائق سمع الجميع صوت العنزة الوليدة، فحيرهم الأمر، وهي لا رأس لها. لكن ما لبث روكي ورامبو أن خرجا، أحدهما يحمل عنزة وليدة برأس، والثاني عنزة وليدة بدون رأس. ابتسموا كلهم، وهنأوا أنفسهم. عاد باتش كاسيدي بالعنزة الأم، ووضعها قرب صغيرها، فأخذت تلعق هذا مرة، والرأس المفسوخ مرة. خلال ذلك، سلخ الهنود العنزة الوليدة القتيلة، وأفرغوها. رموا الأحشاء لكلابهم، وعلى نار أشعلوها، راحوا يشوون الجسد الصغير. عمل جميل، باتش كاسيدي، همهم بيلي بيل. عمل خراء، بابا، همهم شيت، وهو يشير إلى أحدهم كان يسحب تمساحًا معصوب العين. لي عندك شيء لم تعطني إياه، قال باتش كاسيدي للسائق، والعازفات يصرخن خوفًا من التمساح هاربات. إنه مدجّن، أوضح بيلي بيل، وهو يضحك منهن. مدجّن قفاي، همهم روكفلر. إنه مدجّن، أعاد لوكي لوك هاربًا. ها هو، قال شيت، وهو يضع العين الزجاجية في يد الطبيب. والملبس؟ لقد نسيه. ها هم يأتون بالببغاء، همهم باتش كاسيدي على مرأى أسرة أهلية تتقدم من بعيد، وهي تحمل قفصًا. دغدغ الطبيب التمساح كما لو كان يدغدغ كلبًا، وضع رأسه بين فكيه، وقبله من فمه، ثم خلع الضماد، وفي الفجوة ألقى العين الزجاجية، عين زرقاء كعين بيلي بيل. هذا توأمي، هتف رئيس الورشة مفتتنًا. هذا توأمك، بابا، همهم شيت قبل أن يقذف: خراء! أما أنتم، قال باتش كاسيدي للأسرة الهندية، فلم يحضروا لي الملبس، والببغاء تردد: ملبس! ملبس! ما لها الببغاء؟ سألت نيويورك نيويورك، وهي تفتح القفص، وتخرج الطائر. ملبس! ملبس! لقد فقدت النطق، قال بيلي بيل مقلدًا إياها: ملبس! ملبس! ولكنها تتكلم! لم تعد تعرف قول سوى هذه الكلمة التي تكررها مرتين، أوضح باتش كاسيدي. ملبس! ملبس! ولماذا الملبس؟ عادت نيويورك نيويورك تسأل. وصفته لها كعلاج لتستعيد صوتها. لدي هذا، قالت رئيسة الفرقة الموسيقية، وهي تخرج من حقيبتها الصغيرة علبة علكة اختطفتها الببغاء بمنقارها، وراحت تلوكها بنهم. أعادت نيويورك نيويورك الببغاء إلى أذرع أصحابها، وهؤلاء يأخذون من فمها إلى أفواههم، بينما الكل يضحك سعيدًا، والتمساح "ينبح"، ويهز ذيله، كما تهز ذيولها الكلاب.

* * *

وصلت الجرافة بالبيانو وباقي حملها، فتضاعفت الحركة في الورشة. العازفات أخذن بالتمرن، والطباخون أخذوا بإعداد الطعام، والعمال أخذوا بنصب خيمة كبيرة، جعلوا فيها من الجذوع طاولاتٍ ومقاعدَ. نادوا على بيلي بيل ليرى كيف الدجاج نُتف ريشه، وهو حي، والخنزير انتُزع جلده، وهو ميت. وكما هي عادته، لَطَّفَ رئيس الورشة من الجو بدعاباته وابتساماته. كان كل همه أن تحبه نيويورك نيويورك، لكنه لم يكن يعرف كيف يفعل. دعاها إلى جولة أمازونية، على القدمين. وهما في وسط الطريق، قذف في روعها أن قاطورًا سيهاجمها، ومن الذعر، ألقت بنفسها بين ذراعيه، فغصبها قبلة، تبعتها صفعة. وكانت النتيجة أن فرت رئيسة الفرقة، وبيلي بيل ينادي من ورائها: نيويورك نيويورك.
على مائدة العشاء، فاجأ المدعوون الهنود الجميع، وهم يتزينون بأرياش الدجاج إلا منقار، رئيسهم، فهو لأَنَفَتِهِ ونُبلِهِ، لم يفعل كالباقين، واكتفى بجلد الخنزير لكتفيه غطاءً مهيبًا. أشرف روكي على توزيع أطباق المشوي، ورامبو على توزيع أطباق المقلي. كاد لوكي لوك يقع في المجمرة دون أن يمسه أحد، بينما لم يتوقف باتش كاسيدي عن فحص النساء الأهليات ذات الأثداء الضخمة. دفع سهم زوجته بين يدي الطبيب، وهو يكشف تارة عن ثدييها، وتارة عن ردفيها، ويصرخ بلغة الكايابو التي لهم. أفهمه باتش كاسيدي أن ثدييها في طبيعتهما كبيران، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا من أجلها. عاد سهم يكشف عن ردفيها، فأخبره الطبيب أن بيلي بيل يحبهما هكذا. راح الرجل بالمرأة يصيح، ويقول على مسامع الجميع أن لا حظ له، والكل يضحك عليه. ألقى روكفلر نظرة ازدراء على الناحية التي قعد فيها الهنود، وعنهم، اختار مكانًا بعيدًا، وهو يهمهم: القذرون! روكفلر، نيك ماماك! همهم بيلي بيل، وكله ابتسام. نيك ماماي! همهم روكفلر، وكله اكفهرار. كل هذا خراء، بابا، همس شيت في أذن بيلي بيل. ماذا؟ سأل بيلي بيل، وهو يود من كل قلبه لو يحصل على قبلة من شفتي نيويورك نيويورك مقابل نابه الماسي. كل هذا. كل هذا ماذا؟ كل هذا. خراء، نبر بيلي بيل، وهو يبالغ في الابتسام لنيويورك نيويورك. وليثير في قلبها الغيرة، ذهب يجلس وسط العازفات اللواتي رحن يلمسن بأناملهن قبعته وأرياشه وسترته "الأميريندية" التفصيل لمسًا خفيفًا، وهو يبدو أسعد الناس في أدغال الأمازون. بعد قناني الجعة، ثمل الكل مع الكل، أمريكيين وهنودًا، وتخدر الكل مع الكل، وضحك الكل مع الكل، ورقص الكل مع الكل، ونام الكل مع الكل، إلا شيت. بقي شيت يردد: شيت، شيت، وهو يشرب الجعة، ويمسح الرطوبة. هل صحيح ما تقول؟ سألت نيويورك نيويورك. صحيح ما أقول، أجاب بيلي بيل. يا ليت يكون لي صدر مثلهن، تنهدت عازفة البيانو، وهي تشد ثدييها الصغيرين بيديها. لكني أحبك هكذا، همهم بيلي بيل، وهو يطبع قبلتين صغيرتين على حلمتيها. وأنا لا، صاحت بعصبية.

* * *

في قلب الدمار والخراب، ليس بعيدًا عن كاييه، الرابض بقمة شجرة الجوز، كانت الفرقة الموسيقية تعزف "جزيرة الموتى" لرحمانينوف، أمام مجموعتين من المشاهدين، مجموعة للهنود، ومجموعة للأمريكيين. كان الضرب على البيانو يرق أو يجل، والآلات الموسيقية الأخرى تتساوق مع الضرب على البيانو، فتُسمع رقرقة الماء في الأمازون، وحركة الحياة في الغابات. تحرك كاييه مع الحركة، وراح ينظر من حوله. كان أمازونه ما يرى، وطيوره، وحيواناته، وفراشاته، وكان ابنه من يشاهد، وزوجته، ونفسه، وقبيلته. لم يكن يشعر بالموت القادم على الزورق، فالريح كانت ساكنة. نزل، وهو يحتضن الأغصان، والأغصان تبكي عليه. ترك شجرة الجوز وحدها، وترك المناشير الجبارة تقوم بعملها. لم يكن يهمه ما تفعل، ما كان يهمه اللحظات السعيدة التي فقدها، أحاسيس النفس في سلامها، أحلام المرء على كثرتها، همسات الورد حين حبورها. لم ينتبه إلى الجرافات التي راحت تلتقط بمخالبها الجذوع، ولم يفطن لبيته، والآلات الجهنمية تقتلعه من الجذور. كان كالمسحور، كالمحلق فوق الكون، كالجناح، كالشعاع، كالانعكاس، كماء السماء. الشفاف. وفي اللحظة التي راحت فيها الأنغام تتحرر من أوهام الحياة، والعازفاتُ تتركُ الموتَ يضرب على أوتارها، التفت كاييه إلى حيث كان، وعرف أنه قد فقد بالفعل ولده وزوجته ونفسه وقبيلته. لقد كذبت الموسيقى عليه. تركته يحمل عبء إثبات الذات. دوى التصفيق. كان كل شيء قد انتهى.

* * *

بعد أسبوعين، عادت الطائرة الصغيرة بالنساء الأهليات لتأخذ العازفات. اختفت صدورهن الضخمة، وركبن السيارة أربعة-أربعة بأثداء مترهلة. لم تغادر نيويورك نيويورك مع زميلاتها بعد أن قررت إجراء عملية تجميل لثدييها. كانت الأولى في صف النساء الأهليات أمام باب العيادة المتنقلة، تلكم اللواتي يريد أزواجهن إعادة نفخ صدورهن لقاء بعض المال. في الواقع، لم يكن الغرس الضرعي سوى كيس من المخدرات كبير. عندما عرفت نيويورك نيويورك بالأمر، ذرفت دموعًا حرى، وانتظرت مع الأخريات أن يأذن لها باتش كاسيدي بالسفر الذي كان بمفاجأة لم يتوقعها أحد: كاييه بثديي امرأة، وبقرته العجفاء بِضَرْعٍ لا يضاهيه ضَرْع. لم تكن المفاجأة الأولى، لأن زوجة سهم جاءت، وهي تميل كالديناصور، بربلتين ضخمتين، ولأن هنديات أخريات حشون خدودهن بأكياس المخدرات، وبطونهن، وأردافهن، وكأنهن يجررن كل غابات الأمازون من ورائهن.

* * *

بعد شهرين، تفاجأ بيلي بيل بكل العازفات، وهن يسقطن عليه كما تسقط الصواعق على الغابات، قلن له إن نيويورك نيويورك بعد زواجها من كاييه اشترت شقة فخمة في الشارع الخامس، وإنهن هنا للشيء نفسه. راح يدغدغهن من أثدائهن، ومن أثدائهن، ومن أثدائهن، وراح يدغدغهن، وهو يبتسم، وهو يبتسم، وهو يبتسم، وهو يعرض أنيابه الأربع... الماسية.



تمت كتابة هذه القصص يوم الخميس الموافق 2013.01.24
في باريس








فهرس

الكابوس الأول: الرصيف
الكابوس الثاني: الطوابق
الكابوس الثالث: القطب
الكابوس الرابع: المسجد
الكابوس الخامس: القَرض
الكابوس السادس: النفق
الكابوس السابع: الدولة
الكابوس الثامن: الأسود
الكابوس التاسع: الأصفر
الكابوس العاشر: الأحمر





















































أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995
7) كوابيس 2013

الأعمال الروائية

8) الكناري 1967
9) القمر الهاتك 1969
10) اسكندر الجفناوي 1970
11) العجوز 1971
12) النقيض 1972
13) الباشا 1973
14) الشوارع 1974
15) المسار 1975
16) العصافير لا تموت من الجليد 1978
17) مدام حرب 1979
18) تراجيديات 1987
19) موسى وجولييت 1990
20) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
21) لؤلؤة الاسكندرية 1993
22) شارع الغاردنز 1994
23) باريس 1994
24) مدام ميرابيل 1995
25) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
26) أبو بكر الآشي 1996
27) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
28) بيروت تل أبيب 2000
29) بستان الشلالات 2001
30) فندق شارون 2003
31) عساكر 2003
32) وصول غودو 2010
33) الشيخ والحاسوب 2011
34) تراجيديا النعامة 2011
35) ستوكهولم 2012
36) شيطان طرابلس 2012
37) زرافة دمشق 2012
38) البحث عن أبولين دوفيل 2012
39) قصر رغدان 2012
40) الصلاة السادسة 2012
41) مدينة الشيطان 2012
42) هنا العالم 2012

الأعمال المسرحية النثرية

43) مأساة الثريا 1976
44) سقوط جوبتر 1977
45) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

46) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
47) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
48) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
49) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
50) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
51) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
52) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
53) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

54) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
55) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
56) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
57) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
58) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
59) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
60) خطتي للسلام 2004
61) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
62) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
63) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
64) الله وليس القرآن 2008 - 2012
65) نافذة على الحدث 2008 - 2012



[email protected]
























كوابيس ليست قصصًا لأحلام مزعجة، إنها كوابيس الحياة، الكوابيس التي يصنعها الإنسان لنفسه، والتي يرصدها المؤلف في فعل مكرر ذي دالة وحيدة التغير، أو في واقع كارثي يبلغ به الفاجع إلى حد يكون فيه واقعًا غير معقول، ولكن على الخصوص الكوابيس كمادة للتخليق والتعبير، فالشخصيات تعيش في عشرة أقسام، عشرة كوابيس، تصل في حدتها إلى أقصى ما يكون كحدة الوقائع الشيطانية، على الرغم من عدم وجود أية شيطانية هناك، لأن التوترات توترات سردية وحدثية وعاطفية تتغلغل في أعماق النفس الإنسانية: في القسم الأول تحت عنوان "الرصيف" تقف الشخصية الرئيسية على النافذة، وتراقب شابًا يجلس على حافة الرصيف قرب محطة باصات في الوجه المقابل، وهمها الوحيد أن تقتل الوقت فقط لا غير، ليس هناك بحث عن زمن ضاع ولا عن زمن لم يضع، عن زمن قادم، هناك فقط تضييع للزمن القائم. السيارات تعبر، والباصات تصل وتغادر، والركاب ينزلون ويصعدون، والشاب قاعد هناك، على حافة الرصيف، والناس يمضون، والشاب قاعد هناك، على حافة الرصيف، تركض من حوله الحوريات، وتُرتكب الجرائم، وتطوق الشرطة المكان، والشاب قاعد دومًا هناك، ينظر إلى هذا وإلى ذاك وإلى لا شيء، ولا يولي للأحداث أدنى اهتمام. هل يعيشها كي يوليها أي اهتمام؟ كأنه لا يسعى إلى عيش شيء آخر غير موته. القسم الثاني يحمل عنوان "الطوابق"، التي تصعد عليها الشخصية الرئيسية كل يوم، وتنزل، عدة مرات، لتعطل المصعد. خمسة طوابق، تسكن في كل طابق منها شخصيات متنافرة فيما بينها، لكل شخصية حكاية من حكايات كل يوم، ككل يوم. ودون سابق إشعار، تحل أم البطل عنده، أم ليست كباقي الأمهات، فيكفّ السكان عن استهلاك أنفسهم في الحكايات العادية لكل يوم، ككل يوم، ليدخلوا في حكايات أخرى غير عادية. القسم الثالث يحمل عنوان "القطب"، فالبطل والبطلة، عالم بيولوجي وعالمة فيزيائية، يتركان محطة البحوث في قلب القطب الشمالي للالتحاق بأول غواصة للبحث في أسرار ما تحت عالم "الجحيم الأبيض"، أسرار مذهلة لغرابتها، مرعبة لخطورتها، ولأول مرة في حياة البشرية نقف على أن المكان يبتلع في جوفه الزمان، على عكس المقولة المعروفة، وكل الهول معه. القسم الرابع عنوانه "المسجد"، بعد أن تكررت سرقة حذاء الشخصية الرئيسية كلما صلت في المسجد، تُقرر حمله معها، ووضعه أمامها، وحتى بهذا تتم سرقة الحذاء خلال سجودها، فتذهب للبحث عنه، لكنها تكتشف أن الإمام هو من وراء ذلك، وتكتشف كذلك في كافتيريا المسجد ما هو غريب: حجرة خاصة بتدخين النارجيلة، حجرة خارج الزمن، لا أحد يدخلها إلا ويغمى عليه. في الواقع، يتم تخدير الزبائن من النساء والرجال، وتوزيعهم في مواخير للكبار من متنفذي باريس. القسم الخامس يحمل عنوان "القَرض"، قرض تحصل عليه الشخصية الرئيسية لشراء منزل بتسهيلات كثيرة، على الرغم من دخلها المتواضع، ودخل الزوجة المتواضع، فالأولى تعمل ناقلة للطرود، والثانية مستقبِلة في كراج. يبدأ كابوسهما عندما يرتفع سعر الفوائد، فيعجزان عن الدفع، ولتفادي بيع المنزل بثمن بخس، يقومان بكل المحاولات الممكنة وغير الممكنة دون أن يفلحا، وفي الأخير، يتركان نفسيهما لقمتين سائغتين في فم الزمن الذي لم يتردد عن قضمهما، وابتلاعهما، كما تقضم أسماك القرش فرائسها، وتبتلعها. القسم السادس عنوانه "النفق"، نفق يتم حفره تحت القصف الجوي، وذلك لأجل الوصول إلى الناحية الثانية من الحدود، وإحضار دُلْفين للابن المعاق لصاحب النفق، كان العوم مع الحيوان الظريف أنجع وسيلة لاستعادة الطفل لقوته، لوقته، وتمكنه من المشي، والكبر، لكن المهرب يجيء بلاما. "الدولة" عنوان القسم السابع، دولة ليست كباقي الدول، دولة تحت الاحتلال، في زمان معلق ومكان معلق، والكابوس عندما لا يجري شيء لأجل إنهاء الاحتلال، وعندما يتواطأ حكام الدولة والمحتل. القسم الثامن عنوانه "الأسود"، عن كابوس السيدا في أفريقيا. القسم التاسع عنوانه "الأصفر"، عن كابوس الحزب الواحد في الصين. القسم العاشر والأخير عنوانه "الأحمر"، عن كابوس قطع الأشجار في غابات الأمازون. وهكذا بانتقاله من بلد إلى بلد في العالم، ومن مسألة إلى مسألة تقلق العالم، يرتدي أفنان القاسم ثوب المواطن العالمي (كوسموبوليت) الذي كانه، ولم يزل.



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس العاشر: الأحمر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس التاسع: الأصفر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثامن: الأسود
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السابع: الدولة
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السادس: النفق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الخامس: القَرض
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الرابع: المسجد
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثالث: القطب
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني: الطوابق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الأول: الرصيف
- أفنان القاسم - اديب ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات والقرا ...
- موسم الهجرة إلى الشمال أو وهم العلاقة شرق-غرب
- موسم الهجرة إلى الشمال دور مصطفى سعيد
- موسم الهجرة إلى الشمال الراوي كيف يرى العالم؟
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الشرق
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الغرب
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الذات
- ضد الدين وليس ضد الإسلام
- تأملات في واقع الثورات العربية
- رسالة إلى العفيف الأخضر


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - كوابيس المجموعة القصصية