أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - رياض حسن محرم - هنرى كورييل ..مناضل من زمان آخر















المزيد.....


هنرى كورييل ..مناضل من زمان آخر


رياض حسن محرم

الحوار المتمدن-العدد: 4313 - 2013 / 12 / 22 - 17:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


فى مقال للكاتب "حلمى محمد القاعود" بعنوان " هنرى كورييل يسطو على ميدان التحرير" يكرر الكاتب الحديث عن سيطرة أفكار هذا الرجل على ثورة 25 يناير، بإختصار يتوصل الكاتب أن فكر كورييل كان ملهما لهذه الثورة وذلك من خلال النضالات التاريخية لليسار المصرى الذى شارك هنرى كورييل فى تأسيسه فى أربعينيات القرن الماضى، فمن هو هنرى كورييل؟، هذا سؤال تصعب الإجابة عليه لندرة الوثائق المكتوبة عن الرجل، ولكن كتابا متفرّدا عنه كتبه المؤرخ الفرنسى "جيل بيرو" بعنوان "رجل من طراز فريد" يسرد فيه بمزيج من الرومانسية والتأريخ نشأة وتطور ونضال كورييل فى القاهرة ودوره فى تأسيس الحلقة الثانية للحركة الشيوعية فى الأربعينات وطرده من مصر عام 1950 ثم تشكيله "مجموعة روما" فى باريس بإعتبارها فرع من الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى (حدتو)، حتى إغتياله فى نزله بباريس فى ربيع عام 1978.
ولد "هنرى كورييل" فى عام 1913 فى حى الزمالك (حى الأرستقراطية المصرية والأجنبية) بالقاهرة لأب يهودى من أصول إيطالية هو المصرفى المليونير دانييل نسيم (الذى أصيب بالعمى) المنحدر من أب مرابى هو نسيم كورييل وأمه السيدة زفيرا بيهار ذات الأصول التركية العريقة ، وقد تربّى فى رغد حيث كانت الأسرة تقيم فى قصر صغير بالزمالك يضم بالإضافة لغرف الإستقبال 17 غرفة واسعة وتحيط به حديقة واسعة غرست بأشجار النخيل وأخرى ويطل على النيل ويشرف على نادى الجزيرة الرياضى ( هذا القصر أهداه كورييل لجبهة التحرير الوطنى الجزائرية وأصبح مقرا لسفارة الجزائر بالقاهرة حتى الآن)، وكان نمط حياتهم بسيطا (بالمقارنة مع أثرياء ذلك العصر) حيث كان لديهم 10 من الخدم، طباّخ ومساعده، وثلاثه للخدمة المنزلية، وسائق للأب والباقون يتوزعون على العمل بالحديقة وأعمال أخرى، وكانت المائدة تستقبل ضيوفا من اليهود المصريين والاجانب دون توقف، حيث يتم إحضار الخضروات والفواكه من مزرعتهم الخاصة بضاحية المنصورية والتى تبلغ 250 فدان.
كان اليهود الذين جاء معظمهم من أوروبا فى عصر بانى الدولة المصرية "محمد على باشا" وأيضا الذين إستقدمهم "الخديوى إسماعيل" باعث النهضة المصرية، يسيطرون على أدق مفاتيح الإقتصاد المصرى وخاصة فى الأسكندرية الذين شكلّوا خمس سكانها، حيث تركّز نشاطهم فى البنوك والعقارات والبورصة وتجارة القطن ومحطات البنزين ثم السينما والمطابع وإشتهرت بينهم عائلات كبيرة كقطاوى وموصيرى وزليخة ومنشا وحزان، وكان والد هنرى الخواجة دانييل يملك بنكا للرهونات بشارع الشواربى ويعمل خبيرا مثمّنا (قبل أن يفقد بصره)، وقد إنتعشت الرأسمالية المصرية كثيرا خلال الحرب العالمية الأولى (14- 1918) حيث تضاعفت رساميلها خلال تلك السنوات وباتت تتطلع الى إنفرادها بالسوق المصرى، ومن هنا كان حماسها لثورة 1919.
كان غالبية اليهود المصريين من الفقراء، يسكنون عادة فى حارة اليهود بالقاهرة والأسكندرية وفى المدن الصغيرة ويعيش معظمهم على عطيّات وهبات أغنياء اليهود ومنهم دانيل نسيم الذى كان يدفع لهم بسخاء ويشجع ولديه راؤول وهنرى على الإحسان، وفى مرحلة من شباب هنرى كلفه أبوه بإدارة مزرعته بالمنصورية فكانت فرصة لإطلاعه على أحوال فقراء الفلاحين، تقول زوجته روزيت: "إكتشف هنرى أن المساعدات الإجتماعية والأعمال الخيرية ليست حلا لمشاكل الفقراء فبحث عن حلول جذرية لمشاكل المجتمع، ولذلك إتجه الى الشيوعية"، قبل ذلك إستعان به أبوه لمساعدته فى البنك الذى يملكه، لكنه لم يتحمل إستغاثات فقراء الفلاحين الذين لا يقدرون على دفع ديونهم، وسرعان ما ترك العمل بالبنك، وحاول بعدها أن يقنع أباه بإستخدام مخزن لمحل كبير يملكه فى الميدان فى إنشاء مكتبة لبيع الكتب، ووافق أبوه على مضض تحت إلحاحه، ولم يكذّب هنرى خبرا وأسرع فى إفتتاح مكتبة الميدان وأفرد جانبا كبيرا منها للترويج للكتب الماركسية (يحتفظ الحزب الشيوعى السودانى الذى أسسه هنرى كورييل حتى الآن باسم صحيفته اليومية "الميدان").
يتكون كتاب "جيل بيرو" من 292 صفحة، خصص حوالى ثلثيه عن عملية الإغتيال والتحول السياسى والإقتصادى فى مصر و النشاط الشيوعى لهنرى كورييل، وخصص الثلث الباقى من الكتاب عن نشاطه بعد الإبعاد الى فرنسا فى دعم الثورة الجزائرية والسعى لإدارة تفاوض بين الفلسطينيين (فتح) وبين اليسار الإسرائيلى، وإستخدم الكاتب لغة السينما من خلال "الفلاش باك" أو القطع والعودة الى الوراء، فبدا رسم لوحاته بمقطع عن إطلاق الرصاص على كورييل أثناء نزوله من المصعد، وفى لغة بوليسية حاول تعقب الجناة المحتملين، وبعد كل مقطع يعود الى الحديث عن مصر ثم ينتقل سريعا الى واقعة الإغتيال على زوجته وأصدقائه، وهكذا، وصف بيرو الحياة الخالية التى عاشها كورييل فى مطلع شبابه وغرامه بإعجاب الفتيات به، وخوف الأم ونصيحة الأب " أحببهن كلهن ولكن لا تحب واحدة"،
مع صعود النازية فى المانيا فى بداية الثلاثينات ملأ الذعر قلوب اليهود فى مصر، وكلما حققت النازية والفاشية تقدما إذداد خوفهم، وتشكلت جمعيات متعددة من شباب اليهود لمناهضة النازية، فى هذه الأثناء كان هنرى يقرأ كثيرا فى الماركسية بعد أن قرر إعتناق الفكر الشيوعى متأثرا بأخيه الأكبر راؤول وبصديقه ومعلمه السويسرى جورج بوانتى، وأصدر هنرى وراؤول جريدة يسارية أسمياها "دون كيشوت" مؤيدة للجمهورية الأسبانية شاركهم فيها بعض اليساريين السورياليين منهم جورج حنين ورمسيس يونان وكامل التلمسانى، ولكن سرعان ما أغلقت لأسباب مالية، وتعرف أثناء ذلك بفتاة ثورية كانت تعمل ممرضة متطوعة هى "روزيت العجم" التى إرتبط بها بعد ذلك حتى نهاية حياته، وأقنعته روزيت أن يشاركها فى الرعاية الصحية للفلاحين الذين يعملون فى مزرعة والده، لعلاج مرض التراكوما (الرمد الحبيبى) والبلهارسيا المنتشرين بضراوة بينهم، لكن الفلاحين كانوا يتوجسون كثيرا من إبن صاحب المزرعة، بينما أبوه كان رغم إحسانه الى فقراء اليهود يضيق ذرعا باهتمام إبنه بالفلاحين، وشارك الحبيبين لفترة الأب هنرى عيروط فى إهتماماته بالريف، ولكن سرعان ما توقف هنرى عن ذلك العمل معلنا أن الحل لا يكون الاّ بالعمل السياسى، فى تلك الأثناء كان هناك شبّان آخرين يقررون كلا بمفرده تمردهم على أوضاعهم البرجوازية وتبنيهم للفكر الشيوعى:
"مارسيل إسرائيل" (الذى كان أبوه يملك محلجا للفطن) يرى كيف يعامل الأطفال بوحشية ويعملون 16 ساعة يوميا بينما رؤساء العمال "ذوى الأصل الأوربى" يلهبون ظهورهم بالسياط وهم يضعون على وجوههم أقنعة لحمايتهم من الأتربة، وعندما سأل إسرائيل : لماذا لا يلبس الأطفال أقنعة..كان الرد لأنهم عرب، حيث كان هؤلاء الأطفال يموتون بالسل خلال عام، منذ تلك اللحظة قرر إسرائيل أن لا حل الاّ بالشيوعية.
"ريمون أجيون" الذى درس الطب فى فرنسا مقررا أن يعود لمعالجة الفلاحين وحينما عاد شاهد فى مصنع للزجاج الذى يملكه أخوه أطفالا فى الثامنة من العمر ينفخون عجينة الزجاج فى ظروف تعيسة، لحظتها قرر أن يكون شيوعيا.
"ديدار روسانو" كانت ترى أمام بيتها يوميا خرقة بشرية تعانى من المرض والذباب ورجليه متورمتين ومزرقتين ومتهتكتين، بينما والحرارة والرطوبة تغرى الذباب بالهجوم على جراحه، فرأت أنه لا حل الاّ بالقضاء على هكذا نظام يوصل لهذا الإنحطاط البشرى، و قررت أن تصبح شيوعية.
"جوزيف هازان" أنهى دراسته فى معهد زراعى بفرنسا، وبعد عودته إشتغل فى بنك التسليف العقارى براتب يفوق 10 امثال راتب زملائه من المصريين، وحين نقل الى الفيوم رأى فى اليوم الاول حشدا من 200 شخص يحيط بهم حرّاس يحملون بنادق، كان هؤلاء عمال مياومين ينتظرون دورهم فى فرصة عمل، والذى يتم إختياره منهم يضرب بالعصا والآخرين يصرفون عائدين كالثكالى، كان طعامهم يتكون من الخبز والملح ومات بعضهم وهم يحاولون سرقة البصل، حينئذ قرر أجيون أن لا حل الاّ بالشيوعية.
يقول "جوزيف هازان" صديق هنرى كورييل عنه ( لم ينس يوما أن بؤس الشعب المصرى هو الذى قاده الى السياسة"، الجميع عرفوا الصدمة المفجعة فى لقائهم بالبؤس على الأرض المصرية، بينما تعيش شريحة ميكرونية من الأجانب والإقطاعيين حياة رفاهية وبذخ لا توصف الاّ فى ألف ليلة وليلة، يقول بيرو يكفى أن يضع المرء كتابه جانبا وينظر من النافذة ليرى كيف يعمل الإستغلال بلا أى نظريات، يقول عنه صديقه الفيلسوف الماركسى الفرنسى "ماكسيم رودونسون" ( لم يكن هنرى كورييل متعمقا فى النظرية كثيرا، فى رأيي أنه قرأ لينين فقط، فحتى كارل ماركس كان شديد التجريد بالنسبة له)، وفى عام 1939 قرر كورييل الإجابة على سؤال "ما العمل؟" بأنه تأسيس حزب شيوعى مصرى، وفى 1935 حينما خيّر هنرى بين الجنسيتين المصرية والإيطالية إختار المصرية وبدأ فى تعلم اللغة العربية التى لم يتقنها حتى نهاية حياته، وكان يتحدث العربية بشكل مضحك ولكنه كما يقول محمد يوسف الجندى كان يقرأها ويفهمعا بشكل جيد.
عشية الحرب العالمية الثانية كانت القاهرة ورشة عمل كبيرة، إمتلأت بالنوادى والحلقات الدراسية والندوات والحلقات التى إلتف حولها الكثير من الأجانب والقليل من المصريين، وفى الأسكندرية (آخر تموضع لحزب 1924) بدأ جاكودى كومب فى تأسيس "رابطة أنصار السلام" كان أغلبها من اليهود أمثال يوسف درويش وريمون دويك وأحمد صادق سعد، بعد بداية الحرب إنضم لها كثير من المصريين منهم يوسف حلمى وآخرين، بعد ثورة يوليو تحولت الى رابطة الشعوب الأفروآسيوية وإنضم لها مئات من الشيوعيين والقوميين، فى المقابل تكون فى القاهرة والأسكندرية "الإتحاد الديموقراطى" عام 1939 بقيادة هنرى كورييل ومارسيل إسرائيل وهليل شوارتز وراؤول كورييل وأحمد الأهوانى، ولكن سرعان ما دبت الخلافات بينهم، فبينما كان كورييل مصرا على تمصير الإتحاد رأى شوارتز أن فكرة التمصير هى موضوع عنصرى وكان إعتراض إسرائيل على موضوع الهجوم على الدين فتفكك الإتحاد سريعا ونشأ على أنقاضه ثلاث حلقات، أنشأ شوارتز مجموعة ماركسية هى "الأيسكرا" وأسس مارسيل اسرائيل منظمة "تحرير الشعب"، وأنشأ هنرى كورييل "الحركة المصرية للتحرر الوطنى (حمتو)، وأصدرت تحرير الشعب مجلة علنية هى "الفجر الجديد" بينما حددت "ايسكرا" منهجا للتدرج يبدأ بالمرحلة الأولى فى النشاط فى أوساط الأجانب والثانية بينأوساط المصريين بينما تتوجه المرحلة الثالثة الى العمال وكان من أكبر إنجازاتها "مركز الدراسات العلمية" الذى لعب فيه "شهدى عطية شافعى" دورا رئيسيا وركزت نشاطها فى الجامعات، بينما إتجه هنرى كورييل الى ضم مصريين فقط فى منظمته منها عناصر من حزب 1924مثل الشيخ صفوان أبو الفتح ونشط سريعا فى أوساط النوبيين والسودانيين وجند عناصر من القوات المسلحة وقام بتصعيد كوادر مصرية الى اللجنة المركزية سريعا.
بينما كانت المكتبة تبيع كتبا عن الماركسية بلغات أجنبية لجنود الكومنولث الذين ملؤوا شوارع القاهرة، بدأ بعض المصريين الذين يتقنون اللغات الاجنبية فى التردد على المكتبة ودارت معهم حوارات عديدة، وتحولت المكتبة الى ما يشبه النادى، وفى صبيحة أحد الأيام حضرت قوة من البوليس المحلى وقامت بالقبض على هنرى كورييل وتفتيش المكتبة والفيلا، وتم نقله الى حجز الزيتون الذى وجد فيه عشرات من المصريين والأجانب المؤيدين للنازية (كان هوى معظم المصريين فى ذلك الوقت مع هتلر الذى سيقضى على الإحتلال الإنجليزى)، والتقى كورييل فى السجن بحسنى العرابى من حزب 1924 الذى حاول إقناعه بإعتناق الإسلام تجنبا لوصول النازى الى القاهرة ولكنه رفض ذلك حتى لا يقال أنه دخل الإسلام تحت سنان الحراب الألمانية، ولكنه أيضا صام مع المساجين رمضان كاملا وإنتقل بعدها مباشرة الى الإضراب عن الطعام تضامنا معهم، وحينما عرضت حكومة الوفد الافراج عنه مقابل فض اضرابه عن الطعام رفض ذلك حتى يتم الإفراج عن الجميع.
كانت الحركة المصرية للتحرر الوطنى أجنبية القيادة فى أغلبها، لقد شكّل كورييل خلايا ولجنة مركزية ومكتب سياسى للحركة ولكن المعضلة التى واجهته هى كيف يتم تمصير الحركة؟، من هنا كانت أكبر وأهم عملية أتمّها فى حياته بعقده لأول مدرسة كادر فى تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بعزبة أبوه فى المنصورية فى اكتوبر 1943و ضمت 20 متدربا كلهم من المصريين.
فؤاد حبشى ميكانيكى بسلاح الجو، سيد سليمان رفاعى ميكانيكى بنفس السلاح، مبارك عبده فضل طالب أزهرى، عبده دهب سودانى، وآخرين تم تجميعهم فى مجموعات صغيرة ليلا، وعصبت أعينهم بعد ركوب السيارات، وتحركت فى مسارات متعرجة لتضليل الأمن لتنتهى الرحلة الطويلة فى مزرعة دانييل نسيم كورييل بالمنصورية، كانت الدروس تبدأ مع شروق الشمس وتنتهى بغروبها مع ساعة واحدة لتناول الغذاء، حفظوا نشيد الأممية الذى ترجمه "طاهر المصرى" أحد المدربين، وكانوا يقضون معظم الليل فى المناقشات ومراجعة محاضرات اليوم، كان المحاضرون سته، 3 من الأجانب هم جوماتالون وكورييل ودافيد ناحوم، بالإضافة الى 3 مصريين هم طاهر المصرى وزكى هاشم وأحمد التونى، كان الدرس الأول لكورييل عن آفات مصر الثلاث (الجهل والفقر والمرض)، ثم توالت المحاضرات عن تطور المجتمع والطبقات والمادية الجدلية التى تم حذف أى تضمينات معادية للدين منها وخصصت الأيام الأخيرة للحديث عن الإشتراكية وبناء المستقبل، وبعد إنتهاء الدورة عاد المتدربين وهم فى قمة النشوة والسعادة والحماس بما لايقل عمّا شعر به هنرى كورييل.
بدأت مفاوضات الوحدة بين منظمتى حمتو والأيسكرا، كانت حمتو تنظيما يفتقد كثيرا الى متانة البناء الداخلى دون اهتمام كبير بالتأصيل النظرى مع تركيز الإهتمام على العمل الجماهيرى، بينما كانت أيسكرا منظمة أشبه بالنادى الثقافى تهتم بالأبحاث والدراسات الماركسية وتعتمد جوانب أمنية متشددة، لذا كان إتحادهما بعد مفاوضات استمرت 6 شهورإضافة حقيقية للعمل الشيوعى فى مصر، وباندماجهما نشأت الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى (حدتو) التى كانت كلها من المصريين ماعدا منصب السكرتير العام لهنرى كورييل ومسئول التنظيم لشوارتز، وأصدر الحزب الجديد جريدة "الجماهير" الواسعة الإنتشار حيث وصل معدل توزيعها الى 154 ألف نسخة، وفى خلال عام واحد زاد عدد المنتسبين للتنظيم 4مرات وكان العضو يدفع اشتراكا شهريا يساوى 10% من دخله على الأقل، وبالرغم من هذا الإنتشار لم يزد عدد الأعضاء عن 3000 عضو وظل تأثيرها محدودا فى الوقت الذى زادت فيه عضوية الاخوان المسلمين عن 250 الف عضو فى 1947، وأسباب ذلك متعددة على رأسها إستغلال الإخوان للمساجد فى مختلف الأنحاء.
عندما عرض كورييل كتاب "العمل والأجر والأرباح" لماركس لقطاع العمال بالحزب والذى يشرح فيه طبيعة الإستغلال الرأسمالى كتب فى مذكراته ( الذين كانوا يستمعون الىّ كانوا أعلم منى بالموضوع لأنهم كانوا يعيشون الإستغلال، كان بوسعهم أن يحسبوا بدقة نسبة إستغلالهم)، وعندما القت حكومة صدقى القبض على أكثر من مائة من الشيوعيين ( وإغلاق مكتبة الميدان بالشمع الأحمر) وعلى رأسهم هنرى كورييل الذى عثر فى منزله على رسالة من سعاد الرملى زوجة سعد الرملى تستفسر فيها عن صحة لينين، وهولّت الصحافة الرسمية عن مؤامرة بلشفية حول شفرة الرسالة (إتضح بعدها فى المحاكمة أن لينين لم يكن الاّ "لينين الرملى إبنهما)، وفى السجن كان يتم تغيير سجّانى كورييل إسبوعيا خوفا من تأثيره عليهم.
إهتم كورييل كثيرا بالرفاق السودانيين فى الحزب، وكوّن منهم منظمة شيوعية سودانية منفصلة أطلق عليها الاسم " حستو" أو الحركة السودانية للتحرر الوطنى وزودها بجريدة إسبوعية "أم درمان"، وكان منهم عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعى الذى تطور عن الحركة والشفيع الشيخ سكرتير اتحاد العمال السودانى القيادى بالحزب والتيجانى صالح وعبده دهب والعشرات غيرهم، ووضع كورييل قاعدة هامة (الشيوعيين السودانيين يعملون تحت حركة حدتو فى مصر، وحينما يعودون للسودان يعملون تحت حستو بنفس مستواهم التنظيمى فى الحالتين).
يقول "رفعت السعيد" عضو حدتوفى كتابه (تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر) إن خطأ هنرى كورييل الأساسى أنه لم يسلم القيادة الى غيره بعد تشكيل اللجنة الوطنية للعمال والطلبة فى 1946 " فمن المستحيل أن يقود الحركة الشيوعية أجنبى فى بلد محتل"، ولكن الحركة الشيوعية تعاملت بفظاظة وعنف مع الشيوعيين الأجانب وخاصة اليهود منهم واتخذت حالة عدائية مبالغ فيها ضدهم، هؤلاء الذين وهبوا عمرهم للنضال تحت رايتها وكانوا مؤمنين بأممية الكفاح، وحتى بعد خروجهم الى فرنسا ظلوا أوفياء للحزب الشيوعى المصرى وإعتبروا أنفسهم فرع الخارج لحدتو، وبالرغم من قرار الحزب بفصلهم مع الوحدة عام 1958، الآ أنهم ظلوّا على وفائهم للحزب وكانوا يجمعون التبرعات ويرسلونها الى سجن المحاريق بالواحات، ويصدرون البيانات ويتصلون بالاحزاب اليسارية الغربية للضغط على السلطات المصرية للافراج عنهم.
عندما كانت نذر الحرب فى فلسطين تحوم حول الرؤوس تبنت حدتو منهجا معاديا للحرب بوصفها حرب إمبرياليه الهدف منها صرف الأذهان عن وجود الإحتلال الانجليزى على الأرض المصرية والذى يجب أن تكون معركتنا معه، وحين وقعت الصاعقة ودخل الجيش المصرى الحرب رغم معارضة رئيس الوزراء "النقراشى"، وبعد الهزيمة (النكبة) تحولت الدفة ضد اليهود فى الداخل ما بين القبض على المئات منهم وعمليات الإرهاب التى قادها الإخوان ضدهم، وبدأت معسكرات الإعتقال والتعذيب، وهرب هنرى كورييل الى ضاحية المعادى، بينما رحّل رفاقه وآخرين الى ثكنة العباسية بعدها نقلوا الى معسكر الهايكستب وتم تقسيمهم الى ثلاث أقسام: يهود صهاينة، ويهود شيوعيين، وشيوعيون مصريين، وفى لحظة يأس قرر هنرى الإستسلام وتسليم نفسه للإنضمام اليهم، وبعد لحظات من الرعب بين المسجونين خوفا من الإبادة عرضت الحكومة المصرية على الشيوعيين اليهود الإفراج عنهم شريطة الرحيل النهائى خارج مصر، وقرر هؤلاء الموافقة على العرض ما عدا ثلاثة هم: هنرى كورييل وجومالاتون وشحاته هارون الذين استمر سجنهم حتى بعد فوز الوفد فى انتخابات 1950وتقرر أخيرا الإفراج عنهم بعد رحيل الآخرين، يقول هنرى عن تلك التجربة ( من السهل ا، تظل ثوريا داخل السجن مع الرفاق، ولكن الأمر يختلف عندما تخرج وتجلس وحيدا لتفكر منفردا).
لجأت السلطات فى 1950الى نقض الحكم القاضى بمنح كورييل الجنسية المصرية فى 1943 وقررت الترحيل الجبرى له بوصفه أجنبيا خطرا على الأمن العام بعد أن حذره حكمدار الأمن العام: إما أن ترحل أو تقتل، وعندما قال له كورييل: ولكن الوفد فى الحكم والأمور قد تغيرت، رد عليه: ولكن الشرطة لا تتغير، وفى 24 اغسطس جرى نقله الى سجن بورسعيد حيث تم ترحيله على متن السفينة "سوريانتو" بينما الميناء محاصر بقوات الشرطة والسفن الحربية تحيط بالسفينة المغادرة، وفى ميناء جنوة رفض النزول فتم انتزاعه قهرا الى خارج السفينة حيث وجد فى استقباله روزيت زوجته، كان عمره حينذاك 37 عاما، ولم يرى مصر مرّة أخرى.
التالى ( هنرى كورييل من المنفى الى الإغتيال)



#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار المصرى ..ومزيد من الإنقسام
- شيوعيون فى الواحات
- إقتراح للخروج من الأزمة السورية
- مساهمة فى تجديد الفكر الماركسى – 3
- حقيقة تنظيم أنصار بيت المقدس
- الإخوان وأردوغان والأزهر
- مساهمة فى تجديد الفكر الماركسى – 2
- مساهمة فى تجديد الفكر الماركسى
- علاقة الإنقلاب الثورى بالجيوش الوطنية
- الإرهاب فى سوريا يعيد تلميع وجه الأسد
- محمد عبد السلام فرج..مهندس تنظيم الجهاد
- أيمن الظواهرى ومصر التى فى خاطره
- على نويجى .. الحكيم الذى لم أعرفه كثيرا
- مصر والسيناريو الجزائرى ..هل تتكرر العشرية السوداء فى مصر؟
- اليسار المصرى ..الوحدة ولا سبيل آخر
- الإختلاط..أقصر طريق للفضيلة
- بين الولىّ الفقيه ومرشد الإخوان
- القضية الوطنية فى مصر الحديثة
- كوم أمبو .. مستوطنة صهيونية على أرض مصر
- الدكتور خالد مساعد ..مؤسس أول تنظيم جهادى فى سيناء


المزيد.....




- لمعالجة قضية -الصور الإباحية المزيفة-.. مجلس رقابة -ميتا- يُ ...
- رابطة مكافحة التشهير: الحوادث المعادية للسامية بأمريكا وصلت ...
- كاد يستقر في رأسه.. شاهد كيف أنقذ رجل غريب طفلًا من قرص طائر ...
- باتروشيف: التحقيق كشف أن منفذي اعتداء -كروكوس- كانوا على ارت ...
- إيران أغلقت منشآتها النووية يوم الهجوم على إسرائيل
- الجيش الروسي يعلن عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف القوات الأوكر ...
- دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي س ...
- إيران... إسرائيل تهاجم -دبلوماسياً- وواشنطن تستعد لفرض عقوبا ...
- -لا علاقة لها بتطورات المنطقة-.. تركيا تجري مناورات جوية مع ...
- رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية تمنح بوتين بطاقة -الر ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - رياض حسن محرم - هنرى كورييل ..مناضل من زمان آخر