أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - قراءة في كتاب السيدة بلقيس شرارة الموسوم -محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر-















المزيد.....



قراءة في كتاب السيدة بلقيس شرارة الموسوم -محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر-


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 4251 - 2013 / 10 / 20 - 19:54
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


صورة لغلاف الكتاب
عنوان الكتاب : محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر
اسم الكاتبة : بلقيس شرارة
الناشر : دار المدى
الطبعة الأولى : 2009
عدد الصفحات : 460
المدخل
كان "جدار بين ظُلمتين" هو أول كتاب قرأته للسيدة بلقيس شرارة, هذا الكتاب القيم الذي أنجز مناصفة بينها وبين زوجها المعماري الكبير والفنان المبدع رفعة الجادرجي, إضافة إلى ما قرأته لها من مقالات قبل وبعد ذلك, كما كنت متابعاً لنشاطها السياسي في بغداد في الخمسينيات من القرن العشرين. وبسبب إعجابي بالكتاب الأول, نشرت مقالاً حاولت فيه تبيان أهمية كتاب "جدار بين ظُلمتين" من الناحيتين المعرفية والتاريخية وما تضمنه من تسجيل لوقائع حقيقية ومعاناة إنسانية يومية مشتركة وأن اختلف المكان, فأحدهما في سجن صغير ولكن الثاني في سجن كبير يحتضن السجن الصغير من جهة, وعن مدى التناغم والتفاعل في ملامسة الحس الإنساني العميق بين زوجين حبيبين في تجلياته الواقعية الرائعة وفي ظروف الفرج والشدة, العسر واليسر, العتمة والضياء من جهة ثانية, وكذلك الأسلوب الجديد الذي تم اختياره لإنجاز الكتاب مناصفة وبتعاقب في الفصول من جهة ثالثة. إنه التجسيد عن معاناة زوجين فصل بينهما نظام ظالم متوحش لا يعرف السجين مصيره ولا يعرف أحياناً كثيرة لِمَ اعتقل أصلاً!
من هنا كنت متشوقاً لقراءة كتابها الجديد الذي يبحث في الشخصية الأدبية الرومانسية المتميزة والسياسية الوطنية المناضلة محمد شرارة (1906-1979), عن الرجل الذي حمل في ثناياه روحاً إنسانية أخاذة تأسر من يلتقي به بأسلوبه الهادئ والرصين في الحديث والمحاجة, إذ كنت أحد قراء مقالاته التي كانت تنشر في الخمسينات من القرن الماضي, كما اطلعت على كثرة من مقالاته التي نشرت في مجلات عراقية كانت تصدر في الثلاثينات من القرن الماضي والمتوفر بعض مجلداتها لدى الصديق الأستاذ عباس سميسم في غوتبورغ في السويد.
تعرفت على الأستاذ محمد شرارة في آب/أغسطس من العام 1978 وفي فترة حرجة من تاريخ العراق السياسي, التقيت به في دار الصديق الدكتور محمد صالح سميسم حين دعاني وزوجته حياة شرارة لزيارتهم. تمتعت بأمسية فكرية منعشة مع الأستاذ محمد شرارة والأخت حياة شرارة وزوجها الدكتور محمد صالح سميسم. جرى الحديث بيننا عن الشأن العام واستمعت إلى الأستاذ شرارة بأذن صاغية وهو يحلل الوضع السياسي حينذاك ويشير إلى التردي المتسارع في سياسات سلطة حزب البعث والعواقب الوخيمة المحتملة لاستمرار الدكتاتورية على الشعب العراقي برمته. وكان محمد شرارة قد رأي العاقبة التي سينتهي إليها نظام البعث مبكراً بحسه الوطني المرهف وموضوعيته العالية, ولكنه أدرك أيضاً بأن نهاية البعث ستقترن بالمزيد م
الويلات للشعب العراقي, رغم أنه كان لا يريد أن يفقد الأمل بقدرة الشعب على الخلاص من تلك الطغمة الفاسدة والظالمة والمتجبرة. وكانت في نبرة حديثه عتاب ودود لعواقب ذلك التحالف البائس بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي, وكأني به يقول "الم نكتف بشباط/فبراير 1963 و 1970/1971؟! وكانت المحنة ولا تزال كبيرةً!
مميزات كتاب السيدة بلقيس شرارة

قرأت كتاب السيدة بلقيس شرارة بعناية كبيرة. فهو كتاب قيم بتميز وجهد مشكور لشحذ ذاكرة من عايش محمد شرارة وتعرف عليه أو من قرأ له, كما إن الكتاب يهدف إلى جلب انتباه الشبيبة المثقفة لواحد من أبرز مناضلي العراق في مجال الأدب والشعر والمقالة والقضايا الاجتماعية والسياسية, ومن أجل أن لا يطويه النسيان, كما أشارت الكاتبة في المقدمة. وكم أتمنى أن ينتبه إلى ذلك أساتذة كلية الآداب وكلية العلوم السياسية لدراسة جوانب مختلفة من حياة وأعمال هذا الرجل اللبناني المولد والعراقي التكوين.
يتميز الكتاب بعدد من النقاط المهمة التي تستوجب الإشارة إليها سلفاً, ومنها:
1. يتضمن الكتاب دراسة تحليلية نقدية معمقة ومتعددة الوجوه لشخصية وحياة وأدب وشعر ومجمل تراث محمد شرارة بشكل مكثف غير مخل لفترة تزيد عن نصف قرن. فهو عبارة عن مسح تحليلي نقدي وليس مروراً عابراً لمحطات أساسية في حياة الشخصية الوطنية وكتاباته وشعره ونشاطه السياسي والاجتماعي وعلاقاته الخاصة والعامة بدءاً من مغادرته لبنان وهو ابن الرابعة عشر ودخوله المدرسة الدينية في النجف, التي ساهمت في تكوينه, ولكنه تحرر منها لينهل من ينابيع الفكر المتحرر ويتمتع بحرية الفكر المستقل بعد معارك فكرية واجتماعية غير قليلة في أجواء المدارس الدينية النجفية حينذاك.
2. ويمنحنا الكتاب فرصة التعرف على أهم وأبرز المواقف الأدبية والثقافية العامة والاجتماعية والًسياسية التي تبناها ومارسها محمد شرارة دون أن يمنعه عن ذلك تلك العواقب السلبية المحتملة التي يمكن أن تلحق به وبعائلته والتي حصلت فعلاً.

3 . كما يتضمن الكتاب رؤية نقدية مباشرة وغير مباشرة مارستها الكاتبة بلقيس شرارة في البعض الأهم من تلك الأحداث والاتجاهات الفكرية والفنية والأدبية والسياسية التي كانت مشاركة فيها أو شاهداً عليها أو تحاورت بشأنها أو اتخذت موقفاً منها.
4 . ويتعرض الكتاب بحيوية وانفتاح على جوهر المعارك الفكرية والدينية والاجتماعية ومن ثم السياسية التي خاضها محمد شرارة ابتداءً من عملية التنوير والإصلاح الديني انطلاقاًً من النجف حيث تعلم في مدارسها الدينية ومروراً بحقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل, وانتهاءً بالموقف من الاستعمار والهيمنة ومصادرة الحريات الديمقراطية وتشويه الدستور. وتشخيص الكاتبة كان سليماً حين أكدت بأن نضال محمد شرارة لم يكن بالقلم فحسب, بل بممارسة النضال الفعلي ودخول السجن والتعرض للفصل والطرد من الوظيفة والعيش مع عائلته في حالة الكفاف من أجل ذلك.
5 . ويتعرف القارئ من خلال الكتاب على التحول الفكري الذي صاحب تكوين شيخ الدين محمد شرارة في النصف الثاني من ثلاثينيات, والذي كان والده قد خطط له أن يدير جامعاً ومدرسة دينية في إحدى بلدات لبنان, وتبني الماركسية, أو المنهج المادي الديالكتيكي, في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين, أي كان الرجل قد حدد النهج الذي التزم به وهو في سن النضوج الفكري والسياسي وتراكم الخبرة والمعرفة. وقد حافظ على ذلك حتى غيابه الأبدي عنا, رغم كل الضربات الموجعة التي تلقاها الماركسيون بسبب السياسات غير العقلانية وبسبب النهج الفكري والسياسي الخاطئين في فهم وقراءة الماركسية في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية والتي ساهمت في وقوع الانهيارات في دول المعسكر الاشتراكي في نهاية العقد التاسع وبداية العقد الأخير من القرن العشرين.
6 . ومن خلال الكتاب يتعرف القارئ, وكذا القارئة, على آراء ومواقف وعلاقات مجموعة كبيرة من الشخصيات الأدبية والثقافية والفنية والاجتماعية والسياسية التي عاشت خلال الفترة الواقعة بين سنوات العقد الرابع والعقد الثامن من القرن العشرين من خلال تشخيصات محمد شرارة ذاته أو من خلال شخصيات معروفة حينذاك أو كتابات لشخصيات عراقية وعربية عاشت وتفاعلت مع أحداث وشخصيات تلك الفترة, وكذلك من خلال الدراسة المتأنية والدؤوبة والدقيقة التي نهضت بها السيدة بلقيس شرارة والتي تتجلى في متن الكتاب.
7. والكتاب يقدم بلغة رشيقة وشفافة لوحة أدبية وعلمية نموذجية من حيث المنهج في كتابة السيرة يمكن أن يحتذى به, إذ أن الكاتبة لا تقدم لنا مادة جامدة يجري الحديث فيها عن الشخص فقط دون أن تترك الأبواب مشرعة على العصر الذي عاش فيه وطبيعة علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج والأفكار التي انتعشت وتصارعت حينذاك والتي تجلت في البنى الفوقية التي ميزت الدولة العراقية ووسمت التشويهات الكثيرة في تطبيق الدستور الملكي والمؤسسات الدستورية الشكلية, وحياة الميسورين والأغنياء وكبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار التجار, من جهة, وحياة الفقر والفاقة والعوز للغالبية العظمى من الشعب العراقي, وكذلك مجمل الحياة الاجتماعية في العراق من جهة أخرى, إضافة إلى حياة البؤس والفاقة للمعلمين وحملة الشهادات والمثقفين بشكل ملموس ومن خلال التعرف على الوضع المعيشي والضنك المالي والتنقلات الكثيرة سعياً وراء العيش الكريم.
8 . والكتاب ينقل إلينا صورة صادقة عن حياة سكان المدن والريف العراقي وعن المشكلات التي كانت تواجه الشعب العراقي بقومياته العديدة وأديانه ومذاهبه الكثيرة, عن معاناة الكُرد وعن عواقب تلك المعاناة في الممارسة اليومية الشعبية للكُرد في الموقف من العرب واللغة العربية, وكذلك عن المدرسة والتعليم ومصاعب المعلم وما كانت تعانيه العائلات من جراء تلك الأوضاع حينذاك.
9 . كما يستعرض الكتاب محللاً أوجه الحياة الثقافية والفنية, وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الملكية ودور المثقفين ومدارسهم المختلفة في الرسم والشعر والأدب عموماً. وتتحدث عن أبرز الرسامين والكتاب والشعراء, ومنهم جواد سليم ومحمود صبري وبدر شارك السياب ونازك الملائكة ..., وتبد موقفاً نقدياً بصورة غير مباشر للنشاط السياسي الاجتماعي الذي نقله محمود صبري إلى أجواء الفن التشكيلي, في حين أرى بأن محمود صبري شكل ظاهرة فنية مهمة وجوهرية في مجال الفن التشكيلي خلال الفترة التي سبقت مغادرته العراق والبقاء في الاتحاد السوفييتي ومن ثم في تشيكوسلوفاكيا بلوحاته الاجتماعية الجميلة والمعبرة عن واقع العراق حينذاك, وهو اليوم مشغول بعرض نظرية الكم الفيزيائية في الفن والتي عليها خلاف كبير عن مدى جدوى ذلك في مجال الفن.

وإذ ينتقل الكتاب من المرحلة الملكية إلى المرحلة الجمهورية ويؤشر الخيبة التي أصيب به المثقفون والسياسيون الديمقراطيون بعد سقوط الملكية الدستورية التي شوهت الدستور في الممارسة العملية, وبين الجمهورية التي أسقطت ذلك الدستور وتشويهاته, ولكنها عجزت عن إقامة دولة دستورية ومجتمع مدني وممارسة سياسات مدنية عقلانية, بل حافظ الثوار العسكر بالسلطة بأيديهم حتى تجرعوا وجرعوا غيرهم الموت على أيدي الانقلابيين الأوباش. ولكن الكتاب يقدم تحليلاً ذكياً وواضحاً عن مضامين وممارسات النظام السياسي الذي ساد في الفترة الملكية والتي كانت السبب وراء نشوء الرغبة العارمة في الخلاص من سياسات النظام الملكي ومن حكوماته المتعاقبة التي مارست الاضطهاد والظلم ضد قوى المعارضة السياسية حيث كانت ثورة تموز 1958 السبيل للخلاص من الملكية برمتها. أي أن الكتاب ينطوي على رؤية واقعية للعلاقة بين المجتمع والسلطة, بين أجهزة الدولة, وخاصة الأمنية والشرطة, وبين الشعب وقوى المعارضة السياسية التي كانت تعاني الأمرين من حياة السجون وعذاباته وآلام وحرمان عائلات السجناء.

أين تكمن أهمية وموضوعية كتاب بلقيس شرارة عن محمد شرارة؟

يبدو لي أن أهمية وموضوعية وشفافية هذا الكتاب تكمن في الأسلوب العلمي الجدلي والأدبي الرصين والتحقيق الدقيق الذي اتبعته الكاتبة بلقيس شرارة في وضع وتنفيذ مفردات هذا الكتاب. ويمكن بلورة بعض النقاط في هذا الصدد:
1. فالكاتبة لا تطرح أفكاراً ومواقف محمد شرارة وكأنها كلها صائبة, بل تقدمها للقارئ والقارئة كما كانت تعيش في ذهن وتتجلى في ممارسات محمد شرارة, وهي أفكار ومواقف قابلة للنقاش, بل هي تمارس النقد أحياناً إزاء بعضها بسبب تقليديتها أو رومانسيتها أو العواقب الوخيمة التي تترتب عليها.. الخ, وهي بالتالي دعوة صريحة وجدية للنقاش والحوار المفتوح, والذي يسهم في إغناء الجميع.
2 . وهي تطرح مواقف ورؤى سياسية لأحداث تاريخية اعتبرتها صحيحة, ولكنها, كما أرى, قابلة للنقاش وتستوجب إعادة النظر لا من قبل الكاتبة حسب, بل ومن المؤرخين لأحداث العراق, ومنها على سبيل المثال لا الحصر الموقف من ثورة العشرين والذي سأحاول مناقشته لاحقاً.
3 . ثم تطرح أفكاراًً لمحمد شرارة وما يخالفها أو يستكملها الأستاذ رفعة الجادرجي في موضوع الخلود لنص أدبي أو عمل فني, والذي أرى ضرورة التوسع به ومناقشته لما له من أهمية بالنسبة إلى مفاهيمنا المعرفية وسطحية التفسير له في الفكر السياسي السوفييتي وفي الموقف من الفن والثقافة والحداثة.
4 . وتطرح الكاتبة أسئلة كثيرة غير مباشرة في الحقول الأدبية والفنية والاجتماعية والسياسية في آن, وهي تحتاج إلى إجابات لا ترديد لما قيل سابقاً, بل تسعى إلى إجابات فيها التجديد والتحديث واكتشاف العلاقات في ما بين الظواهر التي تساعد على تشخيص اتجاهات التطور اللاحقة. وهي في بعضها تطرح دراسة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل, بين المتراكم من المعرفة والآثار الفنية والأدبية, وبين ما هو جديد, لا يقفز على الماضي ولا يتخذه متكئاً للراحة ولا يبتعد عن الواقع القائم, بل من خلالهما يدرك حركة التاريخ وقوانينها الموضوعية ثم يكتشف الجديد القابل للحياة بصورته الأكثر إنسانيةً وجماليةً واكتمالا.
5 . والكاتبة, وهي تبحث في ماضي حياة وأدب وشعر وآراء ومواقف محمد شرارة, تثير فينا بشكل عفوي جميل وبلا تصنع, رغبة المقارنة بين ماضي وحاضر حياة ومشكلات الشعب العراقي, فرغم المصائب التي عانى منها في العهد الملكي أو في أعقاب تراجع ثورة تموز 1958, وبين ما عانى منه العراق منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة والحروب الداخلية والخارجية التي خاضها والاستبداد والقسوة والتدمير الذي مارسه إزاء المجتمع, إضافة لما يواجهه اليوم من قضايا أكثر تعقيداً وتشابكاً, ما في موضوع الطائفية السياسية أو المحاصصة الطائفية في السلطة أو القتل على الهوية أو الصراع وضحالة الفكر الديني المتخلف الذي يهيمن على الشارع العراقي حالياً وغياب النقد الديني وضعف التنوير بالمقارنة مع سنوات الثلاثين من القرن العشرين مثلاً وتفاقم السلفية والتطرف والعدوانية.

قراءة في بعض المسائل الفكرية والسياسية لمحمد شرارة

اختارت السيدة الكاتبة منهجاً علمياً وعملياً في دراسة والولوج إلى فكر وحياة ونشاط والدها محمد شرارة بحيث سمح لها منحنا رؤية بانورامية نادرة, فكانت واثقة من المادة التي بين يديها, بعيدة عن المبالغة بدور والدها أو التقليل من دوره أو إهمال بعض جوانب مهمة من نشاطه الأدبي أو السياسي أو علاقاته الواسعة والحميمة والخصبة مع الذين عرفهم من النساء والرجال, سواء أكان ذلك في مجال الأدب والشعر أم في مجال المشكلات الاجتماعية أو العمل السياسي أم في مجالات التعليم ومشكلات التنوير الديني والاجتماعي والمرأة. ولم تغفل حبه الجارف وهو ابن الرابعة عشر لبنت الجيران, ثم الخيبة الأولى في الحب وزواجه من غير من أحب وعلى طريقة النظام الأبوي في بلداننا العربية والشرق الأوسطية. ثم الحديث عن صراعه الداخلي في البيت حول الموقف من حرية البنات والعباءة وانتصار الحديث على القديم رغم الجراح الداخلية التي تتركها الخسارة في نفس الأم المؤمنة على طريقة أهالي النجف وكربلاء. وكان شعره في الحب رومانسياً يحلق في فضاءات وردية جميلة, رغم مرارة الحياة الواقعية في المجتمع الذي يعيش فيه, وكأن الشعر يداوي مواقع الخيبة في نفوس البشر, وخاصة في نفوس الشعراء.
عاش متنقلاً بين المدارس الثانوية في المدن العراقية واكتسب الخبرة والمعرفة بأمور الناس ومستوى التعليم والمعلمين. كتب عن حياته في أجواء الناصرية ومدرسيها قائلاً:
"فأنا أحيا ... حياة جافة جامدة لا أثر فيها للعاطفة المشبوبة أو الخيال الجامح أو الروح الملتهبة. حياة أقل ما يقال عنها أنها "ميكانيكية" بكل ما في لفظ الميكانيك من "معنى جاف". ولو كان لي مورد ضئيل من الرزق أحفظ به كرامتي و عزة نفسي, و أحفظ به عائلتي من الفاقة لضربت هذه "الوظيفة" ضربة فيها الكثير من الحقد و النقمة و الإهانة و السحرية لا لأنها "جنت" عليَّ بل لأنها قربتني من أناس أنا أبعد ما أكون عنهم روحاً و تفكيراً و عاطفة و خيالاً. قربتني من أناس لا يرون العلم إلا بقصاصة ورق ... والتجديد بالسترة والبنطلون ... ." (راجع: نفس المصدر, ص 88).
ورغم الموقف ألأممي الواضح لمحمد شرارة في تأييد حقوق الشعب الكردي في العراق, فقد عانى من مصاعب غير قليلة في التعامل اليومي حين عين وعمل في أربيل لتدريس اللغة العربية, إذ كان الموقف من الكُرد ومطالبهم العادلة من جانب الحكومة العراقية غير ودي وغير سليم وقهري, مما كان ينعكس في ردود فعل الناس بشكل عام وتجلياته في الموقف من العرب أو من تعلم اللغة العربية.
سأحاول أخيراً أن أتناول بالتعليق على البعض القليل من المسائل المهمة التي عالجتها السيدة بلقيس في هذا الكتاب بدراية جيدة , حيث وجدت مناسباً التطرق إليها وجلب انتباه القارئات والقراء لها بأمل أن يحظى كل الكتاب بنقاش حيوي من جانب الكتاب والشعراء والدارسين. فكثرة الجوانب المهمة التي عالجتها الكاتبة تحتاج إلى عدة مقالات لتغطية البعض المهم من تلك الجوانب, ولكن سأقتصر على عدد من المسائل العقدية.
1. الموقف من الاستعمار وثورة العشرين

ولد محمد شرارة وتربى في بيت ديني وأدبي لبناني كارهٍ للهيمنة الأجنبية والاستعمار. وحين وصل إلى النجف كانت ثورة العشرين قد أخمدت بعد معاناة ومظالم كثيرة ارتكبت بحق الثوار من جانب القوات البريطانية. تشير السيدة بلقيس شرارة إلى هذا الموضوع بما يلي:
"لقد بدأت الثورة العراقية لعام 1920 كاحتجاج عام ضد الحكم البريطاني و لكنها انتهت بثورة لمنطقة الفرات الأوسط. إذ "كانت الثورة بالنسبة إلى العراقيين حرباً وطنية من أجل الاستقلال. رفعت شعار الوحدة العربية إلى جانب استقلال العراق... كانت بمعاركها البطولية باعثاً قوياً لنشر الوعي الوطني, أغنت ممارسات الناس الحياتية وتجاربهم النضالية, وغذت العمل السياسي ضد الأجنبي ومصالحه غير المشروعة....". ثم تستعير مقطعاً من كتاب حسين جميل "شهادة سياسية 1908-1930 لتأكيد هذا التقدير للثورة. وتشير إلى أن الفتى محمد شرارة قد "أحس بما خلفته من غبن وتعسف وقسوة في إخمادها بين الناس. وخلفت في أعماق الصبي المتوقد الذهن , أثراً عميقاً من التمرد والثورة على الغبن, وتحدي الظلم" (راجع: بلقيس شرارة في كتاب "محمد شرارة". ص 33/34).



لا شك في أن هذا التحليل منطقي وسليم من حيث المبدأ ويتماشى مع ما طرح حتى الآن من تحليل حول ثورة العشرين. وبدا لي أن الدكتور علي الوردي حاول الإشارة إلى هذه المسألة بصيغة ما, وأشعر بضرورة الإشارة إلى مسالتين بشأن ثورة العشرين, وهما:
1. إن الاستعمار البريطاني وبسبب طبيعته الاستغلالية قد أجبر وبصورة عمياء, شاء أم أبى, على فتح نافذة مهمة للعراق على الحضارة الإنسانية الغربية الحديثة بعد ظلام وظلم داما أربعة قرون تحت هيمنة الثيوقراطية العثمانية الكالحة. وبالتالي وبالرغم من كرهنا لهذا الاستعمار البريطاني, فقد كان السبب وراء الانفتاح على العالم وفي الحصول على دستور ديمقراطي بعد فشل الثورة وولوج أولي للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية في قطاع التجارة والنقل وفي قطاع استخراج النفط الخام, ولكنها فرضت أسلوباً جديداً مرفوضاً في التعامل مع العراق حينذاك.
2. إن المشاركة الواسعة لشيوخ الدين والحوزة الدينية لم تكن كلها منطلقةً من روح وطنية, بل كان فيها الكثير جداً من الخشية الفعلية من ثلاثة اتجاهات محتملة:
أ. الانفتاح على الحضارة الغربية, وهي حضارة مسيحية تعتبر كافرة بالنسبة لشيوخ الدين المسلمين بشكل عام. وقراءة سريعة في بيانات شيوخ الدين حينذاك تؤكد هذه الحقيقة.
ب. وكان الانفتاح على العالم الخارجي يعني دون أدنى ريب بدء التقلص في نفوذ المؤسسة الدينية ودور شيوخ الدين في حياة الناس, كما تكون البداية لبناء المجتمع المدني والذي تبلور فيما بعد في دستور 1925.
ج. وكانت هذه الوجهة تعني بدء دخول العلاقات الإنتاجية الرأسمالية إلى اقتصاد البلاد, وهي بالضد من العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية, وكانت نذيراً بقرب نهايتها, وكذا المجتمع العشائري, رغم المساومة التي حصلت فيما بعد وفق قوانين "اللزمة" و"تسوية حقوق الأراضي" مع مجيء الخبير البريطاني "أرنست داوسن" من الهند إلى بغداد. وبالتالي فهذا التوجه كان يحمل في طياته خسارة كبيرة لشيوخ الدين الشيعة الذين كانوا يحققون جزءاً من إيراداتهم السنوية وإيرادات الحوزة الدينية من الإقطاعيين وكبار الملاكين في الوسط والجنوب وعلى حساب الفلاحين, بخلاف شيوخ الدين السنة الذين كانوا يتسلمون رواتبهم من السلطنة العثمانية ومن ثم من الدولة العراقية. لقد كان هناك تحالف اجتماعي وسياسي واقتصادي بين شيوخ العشائر والقوى المدافعة عن العلاقات شبه الإقطاعية وبين المؤسسة الدينية الشيعية على نحو خاص التي كانت تجد الرعاية والحماية من النظام الملكي والحكومات العراقية المتعاقبة.
ومن هنا يفترض أن نؤكد بأن قيادة الثورة لم تكن تحمل طابعاً وطنياً معادٍ للاستعمار حسب, بل كانت ذات مضمون رجعي مناهض للتقدم والتنوير والعلمانية أيضاً, خاصة وأن قيادتها كانت بيد شيوخ الدين وليس بيد التجار أو المثقفين حينذاك. لقد كانت دفاعاً عن السلطة والنفوذ والثروة لهذه القوى أساساً.
إن هذا لا يقلل من أهمية ثورة العشرين ولا من هبََّة جماعة أبو الكلل في العام 1918 في النجف أو في انتفاضة العام 1919 في السليمانية بقيادة الشيخ محمود الحفيد من جانب, ولا يقلل من أهمية النضال اللاحق الذي خاضه الشعب العراقي ضد الوجود البريطاني ومعاهدة 1930 وضد محاولة فرض معاهدة بورتسموث 1948 وما بعدها من انتفاضات والمشاركة الجادة من جانب محمد شرارة في هذا النضال الوطني. إلا أن الأهداف المتباينة للقوى التي كافحت حينذاك يفترض أن نضعها نصب عيوننا لنستطيع أن نقدر اتجاهات التطور اللاحقة التي عاشها العراق. كما يفترض أن نلاحظ التناقض الذي يحمله الاستعمار معه للبلدان المستعمرة والتابعة. ومثل هذا التحليل يساعدنا على تقدير ما يجري اليوم في العراق أيضاً من جانب قوى الإسلام السياسية المتطرفة وتلك التي يطلق عليها بالمعتدلة أيضاً.
لقد كان محمد شرارة مناضلاً صلباً في سبيل التحرر والاستقلال والتقدم الاجتماعي, كما كان مناضلاً ضد الحروب وفي سبيل السلام وكان عضواً في مجلس السلم الوطني في العراق, إذ عاش الرجل حربين عالميتين وأدرك مخاطرها في ظل السلاح النووي ونتائجه البشعة في هيروشيما ونغازاكي, واطلع على عواقب الحرب الفيتنامية والحرب الكورية وحرب التحرير الجزائرية والحرب في فلسطين, وقبل ذاك حرب التدخل في الاتحاد السوفييتي في العام 1918-1922. وقد دخل السجن وفصل وعانى من شظف العيش ومرارة البطالة نتيجة تلك المواقف المشرفة ضد الاستعمار وسياسات الحكومات القمعية والقهرية حينذاك. وقد كتب عشرات المقالات في التعبئة العامة ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية وفي سبيل التحرر والديمقراطية والتي وجدت مكاناً مميزاً لها في كتاب السيدة بلقيس شرارة, ونعم ما فعلت.


2. محمد شرارة وثورة 14 تموز 1958

اتخذ الأستاذ محمد شرارة موقفاً مؤيداً لثورة 14 تموز 1958 واستبشر بها خيراً لشعب العراق, الذي أصبح محمد شرارة منذ فترة طويلة جزءاً منه, رغم أنه لم يستطع تحمل الألحان والأغاني الحزينة الباكية ولا عمليات التطبير والضرب بالسلاسل وبقية البدع التي لم يجرأ جمهرة كبيرة من شيوخ الدين على مواجهتها ورفضها, فمحمد شرارة ولد في لبنان وترعرع هناك, حيث لم تكن هذه البدع معروفة هناك, والتي أدخلها خلال الأعوام الأخيرة ومنذ الحرب الأهلية بلبنان ومع تشكيل حزب الله اللبناني في إيران منذ العام 1982.
وقف محمد شرارة مع الحزب الشيوعي في دعم عبد الكريم قاسم وسياساته في الإصلاح الزراعي وقانون العمل والعمال وإلغاء معاهدة 1930 والخروج من حلف بغداد ومنطقة الإسترليني وإصدار قانون الأحوال الشخصية لصالح المرأة وبعض حقوقها المهمة...الخ. ولكنه تلمس أيضاً, وبعد فترة وجيزة من مسيرة الثورة, بروز الفردية في سياسات وسلوك عبد الكريم قاسم وإهماله للحريات الديمقراطية والدستور واتخاذه مواقف سلبية من الحياة العامة ومن الاعتداءات التي بدأت تمارسها القوى القومية الشوفينية والرجعية ضد الشخصيات الديمقراطية والتي تعرض هو شخصياً إليها. . (نفس المصدر, ص 316/317). وقد كتب محمد شرارة مقالاً يعبر فيه عن التدهور الجاري في مسيرة الثورة والعواقب المحتملة والتي وردت في مقال له تحت عنوان "كرامة المعلمين". جاء فيها قوله:
"و اعتقد الناس أنهم دخلوا في عصر جديد و أن تموز محا جميع المفاهيم السابقة وأحل محلها مفاهيم تتناسب مع روحه وفجره وإشراقته. ولكن العقائد – على ما يبدو – مسرفة في التفاؤل. فالمفاهيم التي ثار عليها تموز تحولت إلى أشباح و اختفت هنيهة في الكهوف. ثم أخذت تطل علة الحياة إطلالة الأفراخ الخائفة أخذت تحاول أن تظهر بمظهر النور. كل ما بناه تموز هوجم و كل مفاهيمه تعرضت للطعن و الضرب. و كان بإمكانه أن يعتمد الهجوم بإشارة من سبابته و لكنه ترك الهجوم يسير وتخلى عن شيء كبير من مفاهيمه ... ".
إن هذا النص الواضح, وبدلاً من أن يدفع بعبد الكريم قاسم إلى أن يعيد النظر بسياساته ويحاور الكاتب, أمر باعتقاله وتقديمه للمحاكمة وحبسه ثلاثة شهور, فكان الرجل سجين الرأي في العهد الملكي وسجين الرأي أيضاً في عهد عبد الكريم قاسم. ولم ينفع تأييد الديمقراطيين له, مثل حسين جميل وكامل الجادرجي, واحتجاجهم ضد صدور قرار حكم بالسجن على كاتب مخلص للعراق وشعبه مثل محمد شرارة بسبب مقال نقدي كتبه والذي اعتبره عبد الكريم قاسم تجاوزاً وإساءة له. وكان قاسم قد بدأ السير حينذاك في العد التنازلي لنظامه. إن من يتجاسر على تقديم كاتب مثل محمد شرارة وغيره من المخلصين للعراق وشعب العراق إلى المحاكمة والحكم عليهم بسبب مقالات نقدية لواقع العراق حينذاك, لا بد أن يكون قد تجاوز الكثير من الخطوط الحمر وأنه قد بدأ يحفر قبره بيديه.

محمد شرارة والموقف من الماركسية والحزب الشيوعي العراقي

تبني محمد شرارة الفكر الماركسي, الجل التنوير الديني والاجتماعي.
وكان الرجل يعيش في مجتمع مديني ضيق ومحدود ومغلق على نفسه وتقاليده وعاداته, وهو مجتمع يحاصر الإنسان ويدفع به إما إلى التناغم معه والخضوع له أو الثورة ضده. والبيت الذي تعلم فيه والثقافة التي تزود بها لم تسمح له بالخضوع والقبول بواقع تلك المجتمعات فثار عليها. وهذا ما نجده في تمرد وثورة الكثير من أبناء وبنات هذه المدن العراقية التي تغلق أبواب الأمل والانطلاق والتفتح أمام الشبيبة بشكل عام, فتتحرى عن سبل وأدوات للخلاص من ذلك والتزام الفكر الذي يساعدها على السير بهذا الاتجاه.
وبرزت في العراق في تلك الفترة موجتان فكريتان سيطرتا حينذاك, أي في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات, على الساحة الفكرية والسياسية العراقية:
موجة الفكر القومي اليميني التي تجلت في توجه الكثير من الشباب صوب النازية والتي أججت فيما بعد الحرب العالمية الثانية ومارست سياسات معاداة الفكر الآخر والقوميات الأخرى والعرق الآخر وارتكبت أبشع الجرائم في معسكرات الاعتقال النازية.
موجة الفكر الماركسي التي تجلت في ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917 ومنجزات الاتحاد السوفييتي حينذاك ومشاركته الحرب ضد النازية وفي سبيل مصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين.
وقد اختار محمد شرارة الاتجاه الفكري الثاني بسبب ما في هذا الفكر من مواقف أممية ومن معاداة للاستعمار والرجعية ومن دعوة للعدالة وإنصاف الفقراء والكادحين ومساواة المرأة بالرجل ....الخ. وهذا الموقف هو الذي وضعه فيما بعد في صف الشيوعيين العراقيين ونضاله معهم.
كتبت السيدة بلقيس شرارة ما يلي:
"ظل محمد شرارة مؤمناً بالنظرية الماركسية, و ذلك بالرغم من أنها تطورت, خاصة بصيغتها الشيوعية, التي تتمثل بنظام دكتاتورية البروليتاريا, أي تفرد الحزب في قيادة الرؤية الماركسية واعتبر نفسه المالك لها دون غيره. وعلى تلك الرؤية أنبنى التفرد في قيادة المجتمع. و لم يتحدَ طلبات الحزب, بالرغم من الإنسانية التي كان يتحلى ويؤمن بها, والمتجلية عاطفياً في مختلف كتاباته في الشعر و النثر, لذا نجد أن هناك تناقضاً بين تلك الإنسانية و بين خضوعه التام لدكتاتورية الحزب." [خط التشديد تحت مؤمناً من عندي, ك. حبيب] (نفس المصدر ص 322) .
عند القراءة المدققة لهذا النص القصير يجد القارئ بعض النقاط المهمة التي تستوجب التوقف والمناقشة, وهي:
1 . هل كان محمد شرارة مؤمناً بالنظرية الماركسية أم مقتنعاً بها؟ لا شك في أن الفرق بينهما كبير جداً ولا يخفى على الكاتبة والأديبة السيدة بلقيس شرارة. فالإيمان يحول النظرية لدى المؤمن بها إلى دين, والدين لا يرقى إليه الشك لدى المؤمنين به وغير قابل للنقاش, في حين أن القناعة تنشأ عن دراسة وتدقيق وقبول من جهة, وهي قابلة للنقاش والتغيير والتعديل أو أنها تتطور مع حركة الزمن والتحولات الجارية في العالم ومع تطور المستوى الثقافي للفرد ذاته من جهة ثانية.
2 . فليست هناك نظرية ثابتة, بل هي متحركة ومتغيرة بتغير الظواهر التي تسببت في نشوء المقولات. والإيمان هو الذي كان يميز الجمهرة الغالبة من الشيوعيين في سائر أرجاء العالم, وبشكل خاص شيوعيو الدول النامية ومنها العراق, وخاصة الجانب السياسي الذي يرتبط بالدفاع عن الفقراء والمعوزين وضد الأغنياء والظالمين وضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية. في حين أرى بأن محمد شرارة بغزارة فكره وسعة اطلاعه وثقافته لم يكن مؤمناً بل مقتنعاً, إذ حين زار الاتحاد السوفييتي استطاع أن يكتشف الخلل ورفض ما يجري هناك ومارس النقد بشأن الأوضاع في الدولة السوفييتية والحزب الشيوعي السوفييتي, إذ أنها كانت تتناقض مع دراسته وقراءته للماركسية أولاً, ومع ما قرأه عن إيجابيات النظام والحياة والمجتمع في الاتحاد السوفييتي والتي لم تكن تطابق الحقيقة والواقع ثانياًً. وهكذا كان موقفه من الصين الشعبية.
3 . لدى القناعة بأن محمد شرارة قد التزم بالمنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي بالأساس, وهو الذي ساهم في جعل الكثير من مقالاته, أو قل أغلبها, ينزع إلى المناقشة والحوار والعلمية الرصينة, كما أنه قد التزم الموقف المناهض لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان والذى كشف عنه بصورة جلية كتاب رأس المال لكارل ماركس.
4 . لم يقدم ماركس رؤية متكاملة عن الاشتراكية, بل كانت إرهاصات في هذا الصدد وتطلعات, في حين أنه درس الرأسمالية بكل أبعادها, وكتابه رأس المال يشكل إرثاً إنسانياً كبيراً للبشرية كلها يدرسه الرأسماليون قبل الاشتراكيين والشيوعيين. والحزب الشيوعي هو من نتاج الفكر اللينيني في أعقاب الصراع الذي حصل في إطار الأممية الثانية (الأحزاب الاشتراكية الديمقراطي بشأن الموقف من الحرب العالمية الأولى على نحو خاص) وفي أعقاب ثورة أكتوبر 1917. وفي هذا تحدد الموقف من دكتاتورية البروليتاريا والتفرد بالسلطة التي آمنت بها كل الأحزاب الشيوعية وعملت من اجل ذلك. وهي بطبيعة الحال رؤية شمولية ومنافية للديمقراطية وكنت أحد الملتزمين بها والعاملين في سبيلها. ولكن تجارب الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان المعسكر الاشتراكي قد أكدت خطأ هذا الأسلوب في الحكم والذي شخصته روزا لوكسمبورغ في العام 1918 في كتابها الموسوم "الثورة الروسية" والذي كتبته وهي في السجن وقبل اغتيالها غيلة في كانون الثاني من العام 1919, وقد شتمها لينين قبل ذاك ونعتها بالسياسية العاهرة بسبب نقدها للمسيرة السوفييتية حينذاك, ولم يكن عادلاً ولا سليماً في هذه الشتيمة السياسية. إلا أن غالبية الأحزاب الشيوعية في الوقت الحاضر قد تخلت عن هذه الموضوعة, ومنها الحزب الشيوعي العراقي والذي انعكس في برنامجه الجديد ونظامه الداخلي الذي أقر في مؤتمره الخامس في العام 1993 والمؤتمرات التالية حسب اطلاعي عليها.
5 . كان الحزب الشيوعي العراقي في فترة قاسم يعيش صراعاًً بين اتجاهين بارزين, اتجاه يسعى للخلاص من قاسم وتسلم السلطة, واتجاه آخر يعتبر ذلك مغامرة تقود إلى عواقب وخيمة. وبين هذين الاتجاهين وقع الحزب بأخطاء شديدة زادها تأثيراً سلبياً ردود فعل الحزب إزاء سياسات القوى القومية الشوفينية وبعض الدولية العربية (مصر وسوريا) التي كانت تدعي سعيها للوحدة العربية, وكذلك الدول الإقليمية والدول الكبرى وشركات النفط الاحتكارية, وكذلك سياسات قاسم ورغبته في البقاء مع العسكر في السلطة وتفاقم النزعة الفردية في حكم البلاد.
6 . لا شك في أن قيادة الحزب كان تطالب جميع أعضاء الحزب وعلى كل المستويات بالتزام مبدأ التضحية ونكران الذات في تلك الظروف, والتي كانت ثقيلة على الجميع وعلى عائلات الشيوعيين, ولم تنتبه لعواقبها الوخيمة على عائلات الشيوعيين التي لا يفترض أن تكون كذلك. وكانت الديمقراطية الداخلية غائبة عن الحزب حينذاك وعن العلاقات مع القوى الأخرى. ورغم التزام الحزب بالنقد والنقد الذاتي, فأن ممارسة ذلك كانت بعيدة عن حياة الحزب الداخلية ومغامرة غير محسوبة العواقب, وتشديد المركزية على حساب الديمقراطية و"نفذ ثم ناقش" كان هو المبدأ المعمول به عملياً حينذاك! إن هذا الواقع وبعض تلك الأسس في العمل قد ألحقا أضراراً فادحة بالحزب ذاته وفقد الكثير من قياداته وأعضاء الحزب حياتهم أو دخلوا السجون. ويبدو لي أن هناك تغييرات كثيرة جرت منذ ذلك الحين وخاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي, ولدي القناعة بأن هناك الكثير الذي يفترض أن يتغير في هذه الأحزاب لكي تكون قادرة على التناغم مع الجديد وتسعى إلى استيعاب أوضاع العالم في عصر العولمة وتفاقم المشكلات الدولية والإقليمية والمحلية وسبل تعبئة الرأي العام لصالح القضايا العادلة والمشروعة.
7 . إن الحديث عن الحزب الشيوعي العراقي خلال الفترة موضوع البحث, يفترض أن لا يُنسى بأي حال دور الحزب في عمليات التنوير الاجتماعي والديني والسياسي, سواء كحزب أم كأعضاء ومثقفين ارتبطوا بالحزب بصيغ شتى, إضافة إلى دوره في النضال ضد الاستعمار والأحلاف العسكرية ومن أجل التنمية والتقدم الاجتماعي والسلام. لقد استطاع الحزب أن يعبئ جمهرة كبيرة من المثقفين حوله وزجهم في النضال من أجل قضايا الشعب. ولا شك في أن الحزب قد ارتكب أخطاء غير قليلة على هذا الطريق, وليس هناك من يعمل ولا يرتكب أخطاءً, إلا من لا يعمل وهو الخطأ الأكبر الذي يرتكبه الإنسان. إن الأخطاء التي ارتكبها الحزب نشأت من واقعين:
أ . من المستوى الفكري (النظري) والثقافي العام الضعيف لقيادة وكوادر وأعضاء الحزب بشكل عام حينذاك. وهذا لا يلغي بأي حال وجود عناصر مثقفة ثقافة عالية, ولكن الحديث هنا على المستوى العام.
ب . من التزام الرؤية السوفييتية للنظرية الماركسية القائمة على أساس اللينينية والبراغماتية في سياسات الدولة السوفييتية.
لقد كان محمد شرارة شيوعياً ملتزماً من الطراز اللينيني, وكنا جميعاً من هذا الطراز أو من هذه المدرسة اللينينية. وقد برهنت الحياة, كما أرى, على خطأ الكثير من أفكار تلك المدرسة, وخاصة في مسائل التنظيم أو الانفراد بالسلطة أو سبل تشكيل الجبهات والدور القيادي لحزب الطبقة العاملة أو دكتاتورية البروليتاريا...الخ.
إن الأخطاء التي ارتكبناها في القيادة (وأنا كنت أحدهم) جعلتني كعضو في الحزب وفي القيادة سابقاً أن أقدم اعتذاراً شخصياً في الذكرى الأربعينية لوفاة الكاتب هادي العلوي حين قدمت دراسة عنه في ندوة عقدت في أمستردام نظامها الناقد الأدبي والكاتب الأستاذ ياسين النصَّير, لكل من يمكن أن أكون قد أسأت إليه دون قصد بسبب الالتزامات الحزبية والسلوك اللينيني لي كعضو أو كمسؤول في الحزب حينذاك.

محمد شرارة ومسائل فكرية واجتماعية أخرى
1 . محمد شرارة والموقف من مأساة المرأة العراقية وحقوقها


أحسنت السيدة بلقيس كثيراً حين برزَّت, وفي هذه الظروف الجديدة بالذات حيث تعاني المرأة من ردة فعلية ضد مصالحها وضد ما صدر في زمن عبد الكريم قاسم من قانون خاص بالأحوال الشخصية بشكل خاص, الموقف الإنساني الرائع الذي التزم به ومارسه الأستاذ محمد شرارة في حياته الفكرية والاجتماعية والتنويرية والسياسية في الدفاع عن حقوق المرأة وإنارة الطريق أمامها وكشف المظالم الكبيرة التي كانت تتعرض لها. وقد تجلى هذا الموقف في علاقاته العائلية في البيت ومع زوجته وبناته الثلاث (مريم, بلقيس وحياة) ومع أبنائه, وفي نضاله اليومي. لقد كانت مساواة المرأة بالرجل واحدة من أبرز وأهم أهدافه النضالية. وكما نعرف فقد بدأ الكفاح من أجل حرية المرأة وضد الحجاب في العراق مبكراً بعد إقامة الدولة العراقية ومنذ أن بدأت جريدة الصحيفة, لصاحبها حسين الرحال وصحبه, بنشر مقالات تتميز بالقوة والصراحة والجرأة تطالب فيها بحقوق المرأة, ومنها حقها في التعليم وضد الحجاب وحبسها وراء جدران المطبخ والدار ومن أجل مساواتها بالرجل. وقد لمع في هذا المجال بعض اليساريين واللبراليين, ومنهم حسين الرحال وأمينة الرحال ومصطفى علي وحسين جميل وزكي خيري كما شارك في هذا الكفاح من أجل المرأة جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وغيرهما من المثقفين والشعراء العراقيين, سواء أكان عبر الكتابة والنشر الواسعين حول هذا الموضوع أم في خوض النقاشات في مختلف المحافل. كما بدأت جماعة الأهالي ومن ثم الإصلاح الشعبي والحزب الشيوعي النضال في سبيل هذه القضية أيضاً.
ولج محمد شرارة في الثلاثينات من القرن الماضي في هذا المعمعان وتحمل الكثير من النقد والاتهامات لهذا السبب, ولكنه كان صارماً في الموقف وحازماً في المطالبة بحقوق المرأة وحريتها ودورها في المجتمع رافضاً المساومة عليها. وقد تكرس هذا الموقف حتى قبل تبنيه الفكر الماركسي. وحين كان يعيش كمعلم تقدمي في الكثير من مدارس المدن العراقية, كان يصف لنا حالة المدينة والريف والظلم والاضطهاد المضاعفين اللذين تتعرض لهما المرأة من جانب الرجل والدولة والمجتمع. وقد وظف الشعر لهذا الغرض, كما كتب الكثير من المقالات القوية والشفافة والهادفة دفاعاً عن حقوق المرأة. ويكفي ما زودتنا به السيدة بلقيس شرارة في هذا الصدد حين نشير إلى مقطع واحد حول المرأة الريفية بعد أن شاهد بأم عينيه بؤس المرأة والعائلة الفلاحية والاستغلال البشع الذي تتعرض له من جانب الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية بشكل مباشر أو عبر السراكيل, إذ كتب يقول:
"أما هذه الفتاة التي وقفت على الربوة تغني بصوتها الشجي "هلي يا ظّلام" و هي: أهلي أيها الظالمون , تلقيها الفتاة بصوتها الحزين فتلوح لك الدنيا سحباً مدلهمة و أجواء محلولة, ويخيل إليك أن كل شيء حولك ينادي "هلي يا ظلام". إنها كلمة بسيطة و لكنها زوبعة. فالمرأة في الريف العراقي مظلومة لو كانت كلمة "مظلومة" كافية لتدل القارئ على معاملة هذا المخلوق المجاهد الذي لا يقل كفاحه في شق الأرض و زرعها و سقيها و حصدها عن كفاح أقوى الآلات الفولاذية. تلك المعاملة التي تتصل بأعمق أعماق العصور الجاهلية و أبعدها استهانة بحقوق الإنسان... لقد كان بلاء الشرق بعمائمه و قلانسه, فكيف الآن و قد تحالفت الطرابيش و البرانيط أيضاً مع القلانس و العمائم, و شكلت موكباً واحداً و جوقاً موسيقياًٍ واحداً يضرب على وتر واحد و يغني لحناً واحداً.", (نفس المصدر, السابق. ص 164), وهذا يعني لحن ظلم مضاعف ومشترك موجه ضد المرأة ومن اجل استمرار اضطهادها وممارسة القسوة الشرسة بحقها.

2 . الموقف من مسألة الخلود في النص الأدبي والفني

تشكلت لدى محمد شرارة فكرة الخلود للأعمال الأدبية بعد أن تبنى الرؤية السوفييتية للآداب والفنون بشكل عام, وهي رؤية ضيقة عموماً وقاصرة وقائمة على تسييس الآداب والفنون التي تخدم قضية الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ومصالح الدولة السوفييتية وتساهم في تكريس دكتاتورية البروليتاريا, وبتعبير أدق دكتاتورية الحزب الواحد لـ"خدمة" الطبقة العاملة! وهي رؤية ضيقة تبلورت في فترة ستالين وروج لها نظرياً وعملياً ديمتري جدانوف في النصف الثاني من العقد الرابع وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي. ولم يبتلِ بهذه الرؤية محمد شرارة حسب, بل الغالبية العظمى من الأحزاب الشيوعية والشيوعيين في العالم حيث كانت التنظيرات الفكرية والمواقف العملية القادمة من الاتحاد السوفييتي في فترة ستالين ووجود الكومنترن, بل حتى بعد حله في العام 1942, باعتباره المركز التنفيذي للحركة الشيوعية العالمية, هي الأكثر صواباً, وكان الشعار العام هو "التعلم من الاتحادي يعني تعلم تحقيق النصر!". ومن هنا اعتبرت الأعمال الأدبية والفنية التي تخدم قضية الطبقة العاملة وفق المفهوم السوفييتي وفي المرحلة التي يمر بها المجتمع هي التي يكتب لها الخلود. ومن هذا المعين الفكري انبثقت مقالة محمد شرارة تحت عنوان "الخلود الأدبي".
أشارت السيدة بلقيس شرارة إلى هذه المسألة بصواب حين كتبت تقول:
"... اعترض محمد شرارة في هذا المقال على بعض الكتاب الذين كانوا يكتبون عن بعض الآثار الأدبية من أنها خالدة و هي لا تستحق هذه التسمية. و تخوف من الجمود الذي أضفى على الآثار الأدبية كما حدث في الصين, و نشأ تقديس للماضي والثناء عليه, ومن نافذة هذا التقديس المتزمت أطل الخطر على تطور الحياة فرمي الكتاب الذين حاولوا التجديد بالوقاحة الإلحادية, وكان من أثر ذلك أن نشر التقديس أجنحته على الكتاب الكلاسيكيين, و ألقى على اللغة الصينية وشاحاً من الجمود, و أوقفها عن التطور منذ فجر التاريخ." ثم يتساءل عن الخلود و ما هو الخلود؟ فكتب:
"الخلود. ما هو الخلود؟ حتى يهون هذا الهوان, ويبتذل هذا الابتذال! إنه كلمة هائلة لو قدر لها الوجود فيما ينتجه العقل الإنساني لأوقفت عجلة التاريخ عن الاندفاع, و أوقفت جرثومة الحياة عن التطور, وأبقتها في دائرة خاصة من الدوائر الضيقة التي تصاب معها العقول بالشلل و الأفكار بالالتواء و في ذلك ما فيه من الخطر على سير الإنسانية, و حركتها المستمرة الصاعدة! ... فأن كان الأدب "تصويراً" للحياة – و هو ما نؤمن به - فخلوده يدور في الفلك الذي دارت به الحياة. فقد قيل عن "روميو وجوليت" في الأدب الإنكليزي إنها خالدة, ولكن القصة الإنكليزية أحيطت بظروف وعادات وقتية لم يبق لها أثر في الحياة الإنكليزية الحديثة, وإذا كانت العناصر التي استمدت القصة و روحها قد زالت في العصر الجديد فكيف يمكن أن يبقى الشيء خالداً وهو معدوم الروح؟! (نفس المصدر, ص 169).
ترفض السيدة بلقيس شرارة هذا الرأي بحق وتتبنى رأي الأستاذ رفعة الجادرجي الذي حاور محمد شرارة بهذا الخصوص فكتبت تقول:
"ولكن يرجئ رفعة الجادرجي الخلود إلى "الابتمال في الفن":
" إن مبدأ الخلود في الفن الجيد هو تصوير للحياة كما كتب محمد شرارة, حيث يعبر عن حالة اجتماعية معينة, نتيجة فكر معين و عاطفة معينة في وضع اجتماعي معين. لذا فهو ضمن التاريخ ويكتسب أهميته و زواله مع أهمية التعبير عن الحالة العاطفية في زمنها, وما أن زالت الظروف فتزول أهميتها. وهذا الموقف من الفن هو بتأثير النظرة السوفييتية, التي حددت مفهوم العلاقة بين الفن و التفاعل الاجتماعي و لم تستطع أن تتوصل إلى مصطلح الابتمال – "“optimal في الفن". فالفن ليس فقط تصويراً للحياة, "و قيمته بقيم الحياة التي تعبر عنها فقط, و إنما يتضمن الفن التعبير عن عاطفة الإنسان و قدرة هذه العاطفة في التعبير عن نفسها. فإذا تمكن الأديب أو الفنان أن يتجاوز الحاجة الزمنية المعينة ويعبر عن عاطفة الإنسان العمومية, يكون بذلك قد استطاع أن يتجاوز الفترة الزمنية التي كتبت فيها تلك القصة أو المسرحية أو الصورة التي رسمت فيهنا القطعة الفنية, وأن تقدم الزمن وراء السنين...". (نفس الكتاب, ص 171).
أتفق مع هذا التدقيق الذي تقدمه السيدة بلقيس شرارة عن الأستاذ رفعة الجادرجي حول موضوع الخلود وأرى بهذا الصدد ما يلي الذي أطرحه للمناقشة:
إن الأعمال الأدبية والفنية من شعر ورواية أو مسرحية أو لحن موسيقي أو لوحة تشكيلية أو نحت أو عمل معماري ..الخ التي يكتب لها الخلود على صعيد حضارة مجتمع واحد أو على صعيد الحضارة الإنسانية العالمية يفترض فيها أن تعبر في تكوينها شكلاً ومضموناً عن ثلاث خصائص جوهرية, وهي:
** إنها تعبر عن عملية تراكم فني ومهني رفيع المستوى لشعب معين أو للإنسانية جمعاء, إذ أن الجديد ينبثق من استيعاب وهضم القديم ووعيه بشك جيد والتعرف على سماته وخصائصه ومن ثم تجاوزه.
** أنها تعبر عن عاطفة إنسانية جياشة تعبر عن لحظة معينة, ولكنها تتجاوز تلك اللحظة إلى زمان يفوق ويمتد بعيداً.
** وأن يكون العمل الأدبي أو الفني قد وصل إلى حد الكمال والاكتمال أو كما يسميه الأستاذ رفعة الجادرجي " الابتمال".
وهناك الكثير من الأمثلة على هذا النمط من الآداب والفنون الخالدة التي تعتز بها شعوب العالم والتي تشكل جزءاً أصيلاً من حضارتها.




3 . ملاحظات أخرى سريعة

* لم يكن الاتفاق في انقلاب صدقي - سليمان قد تم بين الشخصيتين وبعض اللبراليين, بل كان بين الاثنين وجماعة الأهالي أو بين الاثنين وقيادة الإصلاح الشعبي, علماً بأن حكمت سليمان كان قد أصبح عضواً في جماعة الإصلاح الشعبي حينذاك وقبل ذاك كان محمد جعفر أبو التمن هو الآخر قد التحق بقيادة الإصلاح الشعبي, في حين كان كل من الأساتذة كامل الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وحسين جميل أعضاء قياديين سابقين في الإصلاح الشعبي. أما الذي رفض الانقلاب والتعاون مع بكر صدقي فهم الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم. وكان أول من قدم استقالته من وزارة حكمت سليمان هو الأستاذ كامل الجادرجي وبقية مجموعة الإصلاح الشعبي للأسباب التي ذكرت وأسباب أخرى, خاصة وأن الفردية سادت عمل بكر صدقي وحكمت سليمان وانعدم الانسجام في الحكومة ورفضا تحويل السلطة إلى المدنيين فقط والكف عن التدخل في الشأن الحكومي من جانب بكر صدقي. لم يكن الفريق بكر صدقي العسكري عنصراً ديمقراطياً, بل كان مستبداً, وهو من العناصر التي أُرسلت لقيادة القوات العسكرية لضرب انتفاضات الشعب في الوسط والجنوب وفي كردستان العراق في النصف الأول من العقد الرابع من القرن الماضي, وهو الذي أمر باغتيال جعفر العسكري.
* لم يكن كل الذين التحقوا وأيدوا ألمانيا من العناصر الكارهة للاستعمار البريطاني فقط, بل كانت هناك مجموعة غير قليلة قد تبنت الفكر القومي اليميني المتطرف لا كرهاً ببريطانيا حسب, بل وإيماناً بالفكر القومي اليميني الشوفيني, أو الفكر القائم على الأرضية الفكرية النازية, والذي برز ابتداءً في نادي المثنى بن حارثه الشيباني ودور الدكتور بيتر غروبه, الوزير المفوض الألماني في بغداد, في إقامة الدورات التثقيفية وإرسال الوفود إلى ألمانيا ومنها وفود الكشافة أو الفتوة. لقد كان على رأس المؤمنين بالنازية حينذاك مفتي القدس محمد أمين الحسيني ورشيد عالي الگيلاني وسامي شوكت, إضافة إلى العقداء الأربعة. ولا شك في أن أحد الأسباب في ذلك التوجه صوب النازية هو عداء النازية لليهود أو للسامية من منطلق عنصري وبالارتباط مع القضية الفلسطينية.
لقد كان محمد شرار مقتنعاٌ بفكرة الأممية التي لا تعني بأي حال إهمال القومية بمفهومها الوطني وليس بمفهومها العنصري أو الشوفيني من جهة, كما أنه كان ضد كل أشكال التمييز, ومنه التمييز القومي أو الديني أو المذهبي أو التمييز ضد المرأة من جهة أخرى, وهما وجهان متكاملان لعملة واحدة. وقد برز هذا واضحاً في موقفه الوطني من قضية فلسطين وإدانته للصهيونية كفكر قومي يميني متطرف وعنفي. وكان محمد شرارة داعية ومناضلاً من أجل أن تبقى فلسطين لكل سكانها من مختلف القوميات والأديان والمذاهب, رفض التعرض لليهود في العراق وشجب الاعتداء عليهم, ومنه ما حصل في الفرهود الذي تعرض له اليهود في بغداد في الأول والثاني من حزيران/يونيو 1941 وفي البصرة أيضاً.
كتبت السيدة بلقيس شرارة عن حادثة تعرض فيها مواطن يهودي عراقي إلى اعتداء من صبية عراقيين كانوا يرمونه بالحجارة ويسيئون إليه بأقذع الشتائم. أيدتهم في ذلك وشجعتهم امرأة عربية كانت تشتغل معينة في بيت عائلة شرارة واسمها "شنينة". وحين علم السيد شرارة بذلك وبخها على فعلها وطلب منها عدم تكرار ذلك. وعبر بهذا الموقف عن البنية الفكرية الإنسانية السليمة لدى الكاتب والشاعر السياسي والاجتماعي محمد شرارة. (راجع نفس المصدر, ص 100/101).

الخاتمة
هناك الكثير من القضايا التي كان بالإمكان استعراضها والبحث فيها, إذ أن الدراسة القيمة التي قدمتها لنا الكاتبة والأديبة بلقيس شرارة تستحق القراءة الجيدة, لأنها ممتعة ومثيرة للأسئلة والنقاش, إضافة إلى كونها متعددة الجوانب وتبحث لا في الواقع العراقي خلال الفترة التي عاش فيها الأستاذ محمد شرارة, بل تبحث في الوضع الاجتماعي والسياسي اللبناني أيضاً. كما أن اعتماد الوثائق والتحقيقات الشخصية والمعرفة الملموسة بالوالد وحبها الكبير منحت الدراسة قيمة إضافية تستحق التقدير.
ولا شك في أني سأعود إلى الموضوع مرة أخرى في فرصة أخرى للبحث في موقف الأستاذ محمد شرارة من مسألة نقد الفكر الديني ودوره البارز في هذا المجال والذي قدمته السيدة شرارة بشكل جيد وواضح, خاصة وان هذا الموضوع يحتل في أيامنا هذه أهمية استثنائية.
لقد مات الرجل ولم يحض بقبر آخر بعد أن مارس الطاغية صدام حسين فعلته القبيحة حين سوى المنطقة التي دفن فيها جثمان محمد شرارة بالأرض وأزال معالم القبر بالبلدوزرات. كتبت بلقيس شرارة في هذا الصد والحزن ينهشها ما يلي:
"الحاكم" يلملم جراحه, بعد معركة "أم المعارك" و ينتقم من شعبه, أحياء و أموات. سارت البلدوزرات/جرافات لشق الطريق, في مقبرة "وادي السلام" في النجف, شيئاً فشيئاً تتقدم في عمق المقبرة, تجرف أمامها القبور التي بدأت تتلاشى من الوجود, فقطعت المقبرة وجزئت, كما تقطع أشلاء جثة خروف" ثم تواصل فتقول: و مثل أمام ناظري "البلدوزر" في مدينة النجف, وقفت أمامه أبحث عن لحد والديَّ, في صمت المقبرة الموحشة الواسعة التي طمست معالم قبريهما: أفتش عما تبقى من قبريهما. وقفت أمام كماشة "البلدوزر", وهي تجرف عظام الموتى الممزوجة بتراب الأرض. كومة من العظام الممزوجة بالتراب, و ثلمة من الرخام, ترتفع و ترتمي أمام ناظري, تتلوى و تتكسر بين أنياب "البلدوزر".
كاظم حبيب



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحزب الذي أصبح كارثة ورئيسه الذي أصبح طامة كبرى بالعراق!!!
- قراءة في مسرحية -ثور فالارس- للكاتب والصحفي ماجد الخطيب
- نقاش هادئ مع أفكار افتتاحية طريق الشعب في 10/10/2013
- هل من أخطاء فادحة ارتكبتها المعارضة السورية؟
- جرائم بشعة متلاحقة ترتكب يومياً بالعراق!!!
- قراءة في كتاب -نبوة محمد- للكاتب الدكتور محمد محمود
- الحذر ثم الحذر ثم الحذر من مخاطر التلويث الإضافي لبيئة عراقي ...
- قراءة في كتاب هروب موناليزا -بوح قيثارة- للشاعرة بلقيس حميد ...
- بشاعة الجرائم الدموية التي ارتكبت بمدينة الثورة ببغداد، فمن ...
- هل وقع حكام العراق على وثيقة شرف جديدة, أم إنها محاولة جديدة ...
- من المسؤول عن قتل وتهجير أتباع المذهب السني وآل السعدون في ا ...
- من المسؤول عن ضحايا المفخخات وضحايا السرطان يا وزير الإسكان ...
- لماذا يُعقد مؤتمر أصدقاء برطِّلة بالعراق؟
- من أجل محاكمة بشار وماهر الأسد أمام المحكمة الجنائية الدولية ...
- يواجه الشبك إرهاب القاعدة وغياب الحماية الحكومية بالعراق
- من يمارس القتل ضد مجاهدي خلق في معسكر أشرف بالعراق؟
- مع حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في مؤتمرهم السابع
- هل نسى نوري المالكي أن الشعب العراقي يمهل ولا يهمل!!
- البعث الصدامي وبعث الأسد وجهان لعملة وجريمة واحدة!!!
- سلوك السفير العراقي ببرلين كان الاحتجاج والهروب لا الإصغاء ل ...


المزيد.....




- بالتعاون مع العراق.. السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية ...
- مسؤول إسرائيلي حول مقترح مصر للهدنة في غزة: نتنياهو لا يريد ...
- بلينكن: الصين هي المورد رقم واحد لقطاع الصناعات العسكرية الر ...
- ألمانيا - تعديلات مهمة في برنامج المساعدات الطلابية -بافوغ- ...
- رصد حشود الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية على الحدود مع ...
- -حزب الله-: استهدفنا موقع حبوشيت الإسرائيلي ومقر ‏قيادة بثكن ...
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- طعن فتاة إسرائيلية في تل أبيب وبن غفير يتعرض لحادثة بعد زيار ...
- أطباق فلسطينية غيرتها الحرب وأمهات يبدعن في توفير الطعام


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - قراءة في كتاب السيدة بلقيس شرارة الموسوم -محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر-