أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - شوقي إبراهيم قسيس - تعلموا العربية وعلموها للناس - ألحلقة الرابعة عشرة (14): في المنصوبات















المزيد.....



تعلموا العربية وعلموها للناس - ألحلقة الرابعة عشرة (14): في المنصوبات


شوقي إبراهيم قسيس

الحوار المتمدن-العدد: 4226 - 2013 / 9 / 25 - 16:26
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


سأتوقَّفُ مطوَّلاً عندَ المنصوبات لأُشيرَ إلى أنّه من الأفضل إلغاءُ تدريسِ مواضيعَ تتناولُ أنواعَ المنصوباتِ المختلفة وتحتلُّ صفحاتٍ كثيرةً من كتبُ النّحو،ِ وتدرَّسُ قوانينُها بأسلوب مُملٍّ ومُرعب. ومن هذه المنصوبات (بالإضافة إلى المفعول به): 1) ألتمييز والحال. 2). ألمفعول لأجلِه والمفعول معه. 3) ألمنادى والمستثنى. 4) ألمفعول المطلق ونائبه. 5) ألظروف (إلاّ ما بُني منها). سأعالج كل مجموعة على حدة، وأبيّن أنّ جميع هذه المنصوبات نُصِبَت، في كلِّ حالةٍ تقريباً، بفعلِ فعل، وهو ما أشرتُ إليه سابقاً بقولي إنّها ارتبطت بفعلِ الفعل ولم تكن الفاعل.

ألتمييز والحال:
هذه أولاً أمثلة عليها:

1. اشْتَرَيْتُ رَطْلاً بَلَحاً

2. قَرَأْتُ عَشْرينَ كِتاباً

3. عِنْدي رَطْلٌ عَسَلاً

4. خالِدٌ أَكْبَرُ مِنّي سِنّاً

5. اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً

6. قال جرير في بني أميّة:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطايا // وَأَنْدى الْعالَمينَ بُطونَ راحِ

7. جاءَ الرَّسولُ راكِضاً

8. قال النابغة الذبياني مخاطبا النعمان بن المنذر ملك الحيرة:
فَجِئْتُكَ عارِياً خَلَقاً ثِيابي // عَلى خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنونُ

9. وقال أبو الطيب المتنبي عن نفسِه:
تَغَرَّبَ لا مُسْتَعْظِماً غَيْرَ نَفْسِهِ // وَلا قابِلاً إلاّ لِخالِقِهِ حُكْما

في كلٍّ من الأمثلة التسعة توجد كلمة نكرة ومنصوبة (تحتها خط، وهي على التوالي: بَلَحاً، كِتاباً، عَسَلاً، سِنّاً، شَيْباً، بُطونَ، راكِضاً، عارِياً، مُسْتَعْظِماً). تقول كتبَ النحو عن هذا المفردات في الأمثلة من 1 إلى 6 إنّها تمييزٌ منصوب، وتقول عن المفردات الثلاث في الأمثلة 7، 8 و 9 إنّها حال منصوب، وذلك صحيح في الحالتين. لكنْ إذا تمعّنت في هذه الكلمات ترى أنّ كلَّ واحدة منها قد نُصبَت في الواقع بفعل فعل، وهذا هو ما على الطالب أن يدركَه، وليس مهمّاً أن يعرفَ إن كانت الكلمةُ تمييزاً أو حالاً أو غَيرَ ذلك. فالكلمات "بَلَحاً" (مثال 1) و "كِتاباً" (مثال 2) و "شَيْباً" (مثال 5) ارتبطت بالفعل في أوّل كل جملة فنُصبَت به، ولك أن تجعلَها تابعة في الإعراب للمفعول به قبلَها. وكلمة "عسلاً" (مثال 3) و "سِنّاً" (مثال 4) نُصبَت بتقدير فعل "أُمَيِّز" أو "أَعني". وجرير يقول لبني أميّة: "أَلَسْتُمْ... أَندى الْعالَمينَ كَفّاً؟ (بُطونَ راحِ)"، أي، أُميِّزُ أو أعني بَطونَ راحِ. والأمر نفسه ينطبق على كلمات الحال في الأمثلة الثلاثة الأخيرة، فكلمات "راكضاً" و "عارياً" و "مُستَعْظِماً" نُصبَت بفعل "جاءَ" و "جِئْتُكَ" و "تَغَرَّبَ". وإذا نظرت إلى أمثلة التمييز تدرك أنّ الجُمَلَ بدون التمييز فيها إبهام رغم أنّها من ناحية التركيب تشكّلُ جُملاً مفيدة، وجاء التمييز ليزيلَ هذا الإبهام. أمّا جُملُ الحال فلا إبهامَ فيها إن قلتها بدون كلمات الحال، وجاءت كلمات الحال لتصف حالة حدوث الفعل.

مرونة التّعبير في اللغة العربية:

إذا تأمّلتَ الأمثلة التسعة أعلاه ترى أنه يمكنُك التعبير في كُلِ حالة تقريباً بطريقة أخرى أو حتّى بأكثرَ من طريقة. كأمثلة على ذلك، يمكن قول المثال الأوّل: [اشْتَرَيْتُ رَطْلَ بَلَحٍ] أو [اشْتَرَيْتُ رَطْلاُ مِنْ بَلَحٍ]. ويمكنُ قول المثال الخامس: [اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأسِ]. ويمكن لجرير أن يقولً: [أَلَيْسَتْ... كَفُّكُمْ أَنْدى أَكُفِّ الْعالَمين؟]. ويمكنك القول في المثالِ السّابع: [جاءَ الرَّسولُ يَرْكُضُ]، أو [جاءَ الرَّسولُ وَهُوَ يَرْكُضُ]. تقول كتبُ القواعد إنّ الحال يكون كلمة مفردة (مثال 7)، أو جملةً فعلية (يَركُضُ)، أو جملةً إسمية (وهو يركُضُ) أو [جاءَ الرَّسولُ وَرِسالتُهُ في يَدِهِ]، أو شبهَ جملة: [جاءَ الرَّسولُ بَعْدَ فَواتِ الأَوانِ]. وأَدّعي أنّ سرد هذه الأمور كقوانين هو أمر لا لزومَ له (أنظر إعراب الجُمل لاحقاً)، وتكفي الإشارة إليها كأمثلة على إمكانية التعبير في اللغة العربية بطرقٍ مختلفة.
يقودني هذا إلى التطرّق بشيءٍ من التفصيل إلى مرونة اللّغة العربية في التعبير. لعلَّ العربيةَ هي اللغةُ الوحيدة الّتي يمكنكَ أن تقولَ فيها جملةً إخبارية تقريرية على شكلَين: لكَ أن تقول: [دَرَّسَني الأُسْتاذُ عُلومَ الأحْياءِ]، مبتدئاً كلامَكَ بالفعل، أو أن تقولَ: [ألأُستاذُ دَرَّسَني عُلومَ الأحياء]، مبتدئاً كلامَك بالاسم (الفاعل). كذلك فإنّ الترتيب في الجملة الفعلية هو عادةً: فعل ثمّ فاعل ثمّ مفعول به، لكنْ يمكنك أن تقدِّم المفعول على الفاعل لهدفٍ بلاغيٍّ أو لمجرّدِ الرغبةِ في ذلك، فتقول: [دَرَّسَ مُحَمَّداً عَلِيٌّ] و [دَرَّسَ عَلِيٌّ مُحَمَّداً]. وقد سمعتُ البعض يطعن في قوانين الإعراب مشيراً إلى أنّ جملةً من نوع [دَرَّسَ عيسى موسى] لا نعرفُ منها مَنْ دَرَّسَ مَن لتعذّرِ وجود علامات الإعراب على أواخر كلمتَي "عيسى" و "موسى". وهذا كلامٌ مرفوض لأنّه يمكنكَ أن تقولَ أيضاً [موسى درَّسَ عيسى]، فيزول الالتباس. كمثال آخر ننظر إلى قول أحمد شوقي في "مجنون ليلى" على لسان قيس بن الملوح :

كَسا النِّداءَ اسْمُها حُسْناً وَحَبَّبَهُ // حَتّى كَأَنَّ اسْمَها الْبُشْرى أَوِ الْعيدُ

إنْ رأيتَ هذا البيت مكتوباً بدون تشكيل فعليكَ أن تُدركَ المعنى فيه كي تشكِّلَ كلمتَي "النِّداءَ" و "اسْمُها" تشكيلاً صحيحاً. فاسمُ ليلى هو الّذي يكسو النّداءَ حُسناً ويحبّبُه، وليس العكسً. لذا "النِّداءَ" هو مفعول "كَسا" مقدَّم و "اسْمُها" هو فاعل مؤخَّر. أمّا كلمة "اسْمَها" في العجز فهي منصوبة بالحرف المشبه بالفعل، كَأَنَّ"، وكلمة "الْعيدُ" مرفوعة بالعطف على "الْبُشرى" المرفوعة على الخبرية. وهناك أمثلة أخرى كثيرة على إمكانيّة التعبير عن المعنى بأكثر من طريقة، وقد ذكرتُ بعضها في طيّات هذا الكتاب.


ألمفعول لأجله والمفعول معه:
لننظرْ إلى المثالَين:

10. وَقَفْتُ احْتِراماً للشَّيْخِ

11. سِرْتُ وَسورَ الْحَديقةِ

نجدُ في كلٍّ منهما أيضاً اسماً منصوباً بفعلِ فعل. كلمةُ (احْتِراماً) في مثال 10 نصبَها الفعل (وَقَفْتُ)، وكلمةُ (سورَ) في مثال 11 نُصبَت بفعلِ (سِرْتُ)، والأولى تُسمّى مفعولاً لأجلِه (لأجلِ ماذا وقفتُ؟)، بينما تُسمّى الثانية مفعولاً معه، والواو هي واو المعيّة. على أنّ الكلمتَين بقيتا من المفاعيل ونُصبتا بفعل فعلٍ، وهذا هو كلُّ ما يهمُّنا.


ألمفعول المطلق ونائبه:

12. ضَرَبْتُهُ ضَرْباً مُبْرِحاً

13. مَشى مِشْيَةَ الْأَسَدِ

14. شُرِّدْتُ عَنْ أَهْلِيَ مَرَّتَيْنْ

15. أُحِبُّهُ كَثيراً

16. أُحِبُّهُ جِدّاً

لقد نُصبت المنصوبات في هذه الأمثلةِ بفعلِ فعلٍ. على أنّ كلّاً من المفعولَين في 12 و 13 اشتُقَّ من نفسِ جذرِ الفعل، لذا سُمِّيَ مفعولاً مُطلقاً، وذلك لأنّه أشدُّ المفاعيلِ مفعوليّةً (إذا صحَّ التّعبير)، لكنّه يبقى مفعولاً منصوباً. وتجدرُ الإشارة إلى أنّ كلماتٍ مثلَ (شُكْراً) و (عَفواً) هي أيضاً من المفاعيل وهي مفاعيلُ مطلقة لأفعال محذوفة، وكأنّكَ تقولُ (أَشْكُرُكَ شُكْراً، أُعْفُ عَفْواً). ومن الكلمات المنتشرة والمنصوبة على المفعولية (وإعراب جميعها مفعول مطلق) نذكر: عَفْواً، خُصوصاً، عُموماً، مَثَلاً، مَهْلاً، خِلافاً، تَبّاً، سُبحانَ، مَعاذَ، لَبَّيْكَ، دَوالَيك. كمثال آخر على المفعول المطلق أذكر: [وَبِالْوالِدَيْنِ إحْسانا] (ألبقرة، 83. ألنساء، 36، وفي مواضع أخرى)، أي (وأَحْسِنوا بالوالدَيْنِ إحْسانا).

أمّا كلمة (مَرَّتَيْن) في مثال 14 فقد بيّنتْ عددَ التّشريداتِ الّتي شُرِّدتُها، وبذا نابت عن المفعولِ المطلق، فكأنّك تقولُ (شُرِّدتُ تَشريدَيْنِ اثْنَيْن). وناب عن المفعول المطلقِ أيضاً كلٌّ من (كثيراً) في مثال 15 و (جِدّاً) في المثال الأخير، حيثُ وصفت كلُّ كلمةٍ من الكلمتَين مفعولَها المطلق، وكأنّك تقول في 15: "أُحِبُّكَ حُبّاً كَثيراً". وتّعبيرات من نوع التعبيرين في 15 و 16 هي من أكثر التَّعبيرات انتشاراً في كلامِنا الفصيح والمحكيّ. وأدّعي أنّه لا لزوم لإثقالِ كاهلِ الطّالبِ بالتَّسميات المختلفة وبالقوانين الجافّة، ويكفي تنبيهُ الطّلاب إلى أنّ الحال والتّمييز والمفعول لأجله والمفعول معه والمفعول المطلق ونائب المفعول المطلَق هي جميعاً من المنصوبات ونُصبَت بفعل فعل. لكنْ لمن يرغب في التفاصيل أقول: إضافةً إلى العدد (مثال 14) والصفة (15 و 16) ينوب عن المفعول المطلق أيضاً هذه الأنواع:

• مرادفه: [فرِحَ الشَّعْبُ جَذَلاً. أَقْرَرْتُ بِذَنْبي اعْتِرافاً]، فجَذَلاً واعترافاً ترادفان "فَرَحاً" و"إقراراً" في المعنى.
• نَوعُه: [رَجَعَ الْجَيْشُ الْقَهْقَرى].
• آلته: [رَمى الصَّيّادُ الظَّبْيَ سَهْماً]
• بعض وكل مضافتان إلى مصدر الفعل: [وَثِقْتُ بِهِ كُلَّ الثِّقةِ. احْتَرَمْتُهُ بَعْضَ الاحْتِرام].
• اسم الإشارة الذي يشير إلى المصدر: [لا تُعامِلْني هذه الْمعاملة].
• ألضمير الذي يعود على المصدر: [عامَلْتُهُ مُعاملةً لا أُعامِلُها أَحَداً].
• أيّ الشرطيّة الّتي تجزمُ فعلَين: [أَيَّ لُعْبةٍ تُتْقِنْ أَلْعَبْها مَعَكَ].
• كَيْفَ الاستفهامية، وذلك إذا كان السؤال عن الحدث لا عن الطريقة: ["أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادْ"]

والعديد من التعابير التي فيها نائب المفعول المطلق هي من أكثر التعابير انتشاراً في كلامنا الفصيح والمحكي.


ألمنادى والمُستثنى:

17. يا صَلاحَ الدّينِ

18. يا مُسْرِعاً في الْعَجَلَةِ النَّدامةُ

19. قال أحمد شوقي:
يا ناعِماً رَقَدَتْ جُفونُهُ // مُضْناكِ لا تَهْدا شُجونُهْ

20. وقال أبو الطيب:
ما لَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ // أَنا أَهْوى وَقَلْبُكَ الْمَتْبولُ

21. وقال الأعشى:
قالَتْ هُرَيْرَةُ لَمّا جِئْتُ طارِقَها // وَيْلي عَلَيْكَ وَوَيْلي مِنْكَ يا رَجُلُ

22. وقال أحمد شوقي:
مَلأَتَ سَماءَ الْبيدِ عِشْقاً وَأَرْضَها // وَحُمِّلْتُ وَحْدي ذلِكَ الْعِشْقَ يا رَبُّ

23. نَجَحَ الطُّلّابُ إلاّ طالِباً

24. لَمْ يَنْجَحْ إلاّ طالِبٌ

25. لَمْ يَرْسُبِ الطُّلّابُ إلاّ طالِباً (أو طالِبٌ)

26. وَصَلَ الطُّلّابُ غَيْرَ طالِبٍ

27. لَمْ يَنْجَحْ غَيْرُ طالِبٌ

28. لَمْ يَرْسُبِ الطُّلّابُ غَيرَ طالِبٍ (أو غَيْرُ)

29. أَلا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ

30. نَجَحَ الطُّلّابُ عَدا طالِباً (أو طالِبٍ)

سأتوقَّفُ قليلاً عند المنادى والمستثنى لأبيّن الأسلوب الأفضل – حسب رأيي - لتدريسها. إذا نظرنا إلى المنادى (أمثلة 17 – 22) نرى أنّه في مثال 17 نُصبت كلمة "صَلاحَ" بفعلِ فعلٍ للنّداء (أُنادي) أشار إليه حرفُ النّداء "يا"، وعلى هذا النحو نُصبت الكلمتان في المثالين 18 و 19، فهذه الكلمات هي مفاعيل لفعلٍ محذوف. أمّا في الأمثلة 20 – 22 فقد جاء الاسمُ بعد "يا" مع ضمّة على آخِرِه (رِسولُ، رَجُلُ، رَبُّ). تقولُ كُتَبُ الإعراب: "يُنصبُ المنادى إذا كان مضافاً أو شبيهاً بالمضاف ويُبنى على الضّمِّ (أو على ما يُرفَعُ به) إذا كان علماً مُفرداً أو نكرةً مقصودة"، وهذا صحيح. لكنْ من الأجدى أنْ ننظرَ إلى المنادى على أنّه منصوبٌ بفعلِ النّداء، وأنْ ننتبهَ إلى دقّة كلام العرب حيثُ عبَّروا في كلامِهم الشَّفهيِّ والمكتوب عن قصدِهم مناداةِ شخصٍ معيَّن بذاتِه بأنْ ميّزوه عن غيرِه بعدم نصبه على النداء وبمنعِه من الصّرف (عدم تنوينِه رغمَ أنّه نكرة)، وهذا كلُّ ما على الدّارسِ أنْ يعرفَه(1).

نستعملُ للنِّداء أيضاً كلمة [أَيُّها] أو [يا أَيُّها]، ويأتي الاسمُ بعدها معرفةً ومرفوعاً: [يا أيُّها المُؤْمِنون]. ولمَن يرغبُ في التفاصيل النّحويّة، ألإعراب في هذه الجملة هو كالتّالي: يا: للنّداء. أيُّ: منادى مبني على الضّمّ (في محلِّ نصب مفعول فعل النّداء). ألهاء: للتّنبيه. ألْمؤْمِنون: نعت لِأَيّ مرفوع بالواو. وإذا كان الاسمُ بعدَ أيُّها جامِداً، نحو [أيُّها الرَّجُلُ أو يا أيُّها الرَّجُلُ] يعربُ بدلاً أو عطفاً بيانيّاً من "أيّ" مرفوعاُ. واضحٌ أنّ هذه التّفاصيلَ لا تفيدُ شيئاً في ضبطِ كلامنا الفصيح.

نحن نستثني باستعمالِ واحدةٍ من خمسِ أدواتِ استثناء تقعُ في ثلاثِ مجموعات: [إلاّ]، [غَيْر وسوى]، [خَلا وعَدا وحاشى]، والأداةُ الأخيرةُ لا تعنينا لأنّها قليلةُ الاستعمال. تضعُ كتبُ القواعدِ قوانينَ الاستثناء وأحكامَ المستثنى بهذه الأدوات بشكلٍ جافٍّ ومُرعب فتقول: "إذا كان الكلامُ مُثبَتاً (لا منفيّاً) والمستثنى منه موجوداً فيُنصَبُ المستثنى بإلاّ، وإذا كان الكلامُ منفيّاً والمستثنى منه غيرَ موجودٍ فيُعرَبُ المستثنى حسبَ موقعِه من الجملة. أمّا إذا كان الكلامُ منفيّاً والمستثنى منهُ موجوداً فلك أنْ تنصبَ المستثنى على الاستثناء أو أنْ تعربَه حسبَ موقعِه من الجملة". وأنتَ، عزيزي القارئ، لستَ بحاجةٍ إلى كلِّ ذلك، وما عليك حين ترتطم بإحدى الجملتين، 23 أو 24، إلّا أنْ تسألَ: مَن الّذي نجحَ؟ والجواب سهلٌ في الحالتَين، فَفي 23 جوابُك هو (ألطُّلاّبُ)، وفي 24 جوابُكَ هو (طالِبٌ). فكلمة (الطُّلّابُ) في 23 مرفوعة لأنّه لم يحدثْ ما يوجِبُ النَّصبَ، وهي فاعل، وكلمة (طالِباً) منصوبة بفعلِ الفعِل المحذوف (أَسْتَثْني). وفي مثال 24 كلمة [طالِبٌ] مرفوعة لأنّها هي فاعل نَجَحَ. لا تهتَّمَّ كثيراً بمثال 25 لأنّ التعبيرَ فيه قليلُ الاستعمال، وإذا ارتطمت به فلكَ أنْ تنصبَ (طالباً) على المفعولية أو أنْ ترفعَها على أنّها تابعةٌ لفاعل (نجَحَ)، وتعربُها كتبُ الإعراب "بدَل" من (الطُّلّاب).

ما ينطبق على الاسم بعد إلاّ ينطبقُ أيضاً على كلمتَي "غَير" (أمثلة 26 - 28) و"سِوى"، وهما من الأسماء لا من الحروف ("إلاّ" هي حرف لا اسم)، فتعربان حسبَ وظيفتِهما في الجملة، أي مفعول به منصوب بفعل أستثني في مثال 26 (يقولون عنها: مستثنى منصوب) وفاعل "ينجحُ" مرفوع في مثال 27.

ملاحظة مهمّة: ممنوع تعريف كلمة "غَير" بأل، فهي "مغرِقة في التَّنكير" أو "متوغِّلة في الإبهام"، ولا تفيدُها الإضافة تعريفاً أو تخصيصاً. وهناك خطاٌ شائعٌ حيثُ نجدُ من يقول مثلاً: "أمّا الغيرُ مُسلِمين مِنَ الْعَرَبِ..."، والصحيح: "أمّا غَيْرُ الْمُسْلِمين". أحياناً تُستعملُ "الغيرُ" بمعنى الآخر، كما في قولك: [لا تَسْتَغْيِبِ الغَيْرَ]. مثل "غير" من المبهمات، الّتي لا تُعرَّفُ بأل ولا يتَّضحُ معناها ألّا بما يُضافُ إليها، نذكر: [حسبَ، مِثْل، ناهيكَ].

أمّا (عَدا) و (خَلا) فهما فعلَان حين نُدخل عليهما (في كلامنا الفصيح والمحكيّ) "ما" الحرفيّة [ما عدا، ما خَلا]، والاسم بعدهما منصوبٌ على المفعولية (مثال 29). أمّا إذا استُعملتَهما بدون "ما" فلكَ أن تجعلَهما أفعالاً وتنصب الاسم بعدهما، أو أسماءً فتجرُّ الاسم بعدهما على الإضافة (مثال 30).
--------------------------------------
(1) يكثرُ استعمال قول "يا هذا"، كأن تقول "إتَّقِ اللهَ يا هذا". و "هذا" هي اسمٌ مبنيٌّ فلا يهمُّنا ما هي حركة آخِره. لكن إذا ارتبط بكلمة "هذا" اسمٌ معربٌ (كأنْ يكون تابعاً لها على البدلية) فهل يكون هذا الاسم منصوباً (على أنّ "هذا" في محلّ نصب بفعل النداء) أم مرفوعاً (على أنّ المنادى هنا مقصود ومبنيٌّ على ما يُرفعُ به)؟ خير مثال على ذلك قولُ عبيد بن الأبرص مفتتحاً إحدى قصائدِه في مخاطبةِ امرئ القيس:
يا ذا الْمُخَوِّفَنا بِقَتْـ // ـلِ أَبيهِ إذْلالاً وَحَيْنا
أَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ قَتَلْـ // ـتَ سَراتَنا كَذِباً وَمَيْنا
أعترفُ بأنّ تراكيباً من هذا النوع هي قليلة الاستعمال، لكنّ السؤال: كيف تشكِّلُ كلمة "الْمُخَوِّفنا" بالضّمة أَم بالفتحة؟ (وهي تابعة لكلمة "ذا" (هذا) على البدلية). ألجواب: لكَ أن تشكِّلَها كما تريد، بالضّمّة أو بالفتحة. لا ندري كيفَ قالَها عُبَيد، لكنّ كتبَ الأدب المختلفة شكَّلَتها على الحالتَين.
--------------------------------------


ألظّروف:

غنِيٌّ عن القول إنّ الظروف منصوبة لأنّها ارتبطت بفعل فعل ولم تكن الفاعلَ: [ذَهَبْتُ بَعْدَ الظُّهْرِ إلى الْمِسْرَحِ]، [سَأُسافِرُ غَداً إلى الْمَدينةِ]، وذلك باستثناء ما ذُكر في الفصل التاسع من الظروف المبنية، والظروف الّتي نبنيها لهدفٍ بلاغيّ.


أسماء الأفعال والأسماء العاملة:

هناك كلمات في لغتنا هي في الواقع أسماء لكنّها تحمل معنى الفعل، فتعملُ عملَه وتأخذ فاعلاً أو نائبَ فاعل، وبعضها يأخذ أيضأ مفعولاً به. تقع هذه الأسماء في مجموعتَين منفصلتَين وهما: أسماء الأفعال، والأسماء العاملة. سأعالج كل مجموعة على حدة.


أسماء الأفعال:

وهي مجموعة من الأسماء المبنية (لا تتغيّرُ حركةُ آخِرِها) التي تحمل معنى الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر لكنّها لا تحمل علامات الفعل، وبعضها من أكثر المفردات استعمالاً في لغتنا الفصحى والمحكية. وهذه أمثلة على أشهرِها:

1. [هَيْهاتَ الأَمَلُ إذا لَمْ يُسْعِفْهُ الْعَمَلُ]. هَيْهاتَ: اسم فعل ماضٍ مبني على الفتح بمعنى بَعُدَ. ألأَمَلُ: فاعل مرفوع.

2. [شَتّانَ ما بَيْنَ الإثْنَيْنِ]. شَتّانَ اسم فعل ماضٍ مبني بمعنى بَعُدَ. "ما": موصوليّة في محل رفع فاعل. وكأنّك تقول "بَعُدَ الّذي بَيْنَ الإثْنَيْن".

3. [صَهْ إذا تَكَلَّمَ غَيْرُكَ]. صَهْ: اسم فعل أمر مبني بمعنى أُسكُتْ، والفاعل ضمير مستتر. إنتبهْ إلى أنّك قد تخاطب بكلمة "صَهْ" المفردَ والمثنّى والجمع وبالمذكر والمؤنث دون أن تُصرِّفَها مع هذه الضمائر، وهو ما عنيته حين قلت أعلاه أن أسماء الأفعال لا تقبل علامات الفعل. وكي تخاطبَ في هذه الجملة غيرَ المفردِ المذكَّر ما عليك إلاّ أن تُصرِّفَ كلمة "غَيْر" مع الضمير المناسب.

4. [آمين]: اسم فعل أمر بمعنى استَجِبْ.

5. [حَيَّ عَلى الْفَلاح]. حَيَّ: اسم فعل أمر بمعنى أَقْبِلْ، والفاعل مستتر.

6. [قَدْكَ اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ في الْغَلْواءِ كَمْ تَعْذِلونَ وَأَنْتُمْ سُجَرائي] (أبو تمام). قَدْكَ: اسم فعل مضارع بمعنى يكفي، والفاعل مستتر (هو)، والكاف في محل نصب مفعول به، وكأنّه يقول "يَكْفيكَ".

7. [أَقَلُّ فَعالي، بَلْهَ أَكْثَرَهُ، مَجْدُ وَذا الْجَدُّ فيهِ نِلْتُ أَمْ لَمْ أَنَلْ جَدُّ] (ألمتنبي). بَلْهَ: اسم فعل أمر بمعنى دعْ، والفاعل مستتر. أَكْثَرَهُ: مفعول منصوب (أُتْرُكْ أَكْثَرَهُ).

8. [فَحَذارِ حَذارِ مِنْ جوعي وَمِنْ غَضَبي] (محمود درويش). حَذارِ: اسم فعل أمر بمعنى إحذَرْ.

9. [دونَكَ الْقَلَمَ]. دونَ: اسم فعل أمر بمعنى خُذْ والفاعل مستتر. ألْقَلَمَ: مفعول منصوب.

10. [رُوَيْدَكَ، قَدْ خُدِعْتَ]. رُوَيْدَكَ: اسم فعل أمر بمعنى تَمَهَّلْ.

11. [إلَيْكَ فَإنّي لَسْتُ مِمَّنْ إذا اتَّقى عَضاضَ الأَفاعي نامَ تَحْتَ الْعَقارِبِ] (ألمتنبي). إلَيْكَ: اسم فعل أمر بمعنى تَباعَدْ.

12. [عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعايِبِها وَخَلِّ عُيوبَ النّاسِ للنّاسِ]. عَلَيْكَ: اسم فعل أمر بمعنى إلْزَمْ. ونَفْسَكَ مفعوله

13. [هَلُمَّ إلى الْعَمَلِ]. هَلُمَّ: اسم فعل أمر بمعنى تَعالَ.

14. [هَيّا نَلْعَبْ]. هَيّا: اسم فعل أمر بمعنى أَسْرِعْ، والفاعل مستتر. نَلعَبْ: مضارع مجزوم لأنّه جوابٌ للطَّلب.


ألأسماء العاملة:

كما رأينا، لا ينصبُ الاسمَ إلاّ فعلُ فعل. على أنّ هذا الفعل قد يكون معناه موجوداً في بعض الأسماء، وتسمّى أسماء عاملة، أي عاملة عمل الفعل. والأسماء العاملة تأخذُ فاعلاً أو نائب فاعل، وإنْ كانت من فعلٍ متعدٍّ قد تأخذُ أيضاً مفعولاً به. يمكن حصرُ الأسماء العاملة في لغتنا في أربعة أنواع: أسماء الفاعل، أسماء المفعول، بعض المصادر، والصفة المشبّهة باسم الفاعل. وهذه أمثلة على كلِّ مجموعة يليها ملاحظات:


اسم الفاعل:

1. قال أبو الطيب المتنبي من قصيدته في رثاء جدّتِه لأُمِّه:
تَغَرَّبَ لا مُسْتَعْظِماً غَيْرَ نَفْسِهِ // وَلا قابِلاً إلاّ لِخالِقِهِ حُكْما
وَلا سالِكاً إلاّ فَجاجَ عَظيمةٍ // وَلا واجِداً إلاّ لِمَكْرُمةٍ طَعْما

2. وقال من قصيدة "مُنىً كُنَّ لي إنّ الْبَياضَ خِضابُ" في كافور:
وَهَلْ نافِعي أَنْ تُرْفَعَ الْحُجْبُ بَيْنَنا // وَدونَ الَّذي أَمَّلْتُ مِنْكَ حِجابُ

3. وقال من قصيدة "لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْ دَهْرِهِ ما تَعَوَّدا" في سيف الدولة:
وَرُبَّ مُريدٍ ضَرَّهُ ضَرَّ نَفْسَهُ // وَهادٍ إلَيْهِ الْجَيْشَ أَهْدى وَما هَدى

4. وقال النابغة الذبياني:
وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخاً لَكَ لا تَلُمُّهُ // عَلى شَعَثٍ، أَيُّ الرِّجالِ الْمُهَذَّبُ

5. وقال الأخطل:
وَلَسْتُ بِصائِمٍ رَمَضانَ طَوْعاً // وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضاحي

6. وقال الأعشى:
مَنْ مُبْلِغٌ كِسْرى إذا ما جاءَهُ // عَنّي مآلِكَ مُخْمِشاتٍ شُرَّدا

7. وقال أبو الطيِّب من قصيدة "أَلْحُبُّ ما مَنَعَ الْكَلامَ الأَلْسُنا" في بدر بن عمّار:
لَيْتَ الْحَبيبَ الْهاجِري هَجْرَ الْكَرى // مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ واصِلي صِلةَ الضَّنى

8. وقال الشاعر:
وَما أَنا خاشٍ أَنْ تَحينَ مَنِيَّتي // وَلا راهِبٌ ما قَدْ يَجيءُ بِهِ الدَّهْرُ

ألكلمات الّتي تحتها خط (طبعاً، الحقل المخصص لنصّ الموضوع متحجر ولا يقبل كلمات تحتها خط أو كلمات بالخط البارز) في الأمثلة الثمانية جميعُها أسماء فاعل. وفي بَيتَي أبي الطيب في المثال الأوّل أربعة أسماء فاعل جميعُها منصوبة بفعل "تَغَرَّبَ" وهي: مُسْتَعْظِماً من اسْتَعْظَمَ، وقابلاً من قَبِلَ، وسالِكاً من سَلَكَ، وواجِداً من وَجَدَ. وترى أنّ كلَّ واحدٍ من هذه الأسماء قد نصبَ مفعولاً به، وهذه المفاعيل هي على التوالي: غَيْرَ، حُكْما، فَجَاجَ، وطَعْما. والفاعل في كل حالة مستتر. يتكلّمُ أبو الطيِّب في هذين البيتَين عن نفسه، وأقول لمن يرغب في الإعراب: لا يجوز اعتبار كلمة "مستعظماً" مفعولاً لأجله، لأنّه، من المعنى، استعظام الشاعرِ نفسَه ليس سبباً في تغربه، بل تغرّب وهو مستعظم نفسه، لذا فكلمة "مستعظماً" هي حال منصوب.

في المثال الثاني نصب اسمُ الفاعل "نافعٌ" ضميرَ النصب المتصل (ياء المتكلم)، والفاعل هو جملة "أن تُرفَعَ الحُجْبُ"؛ وكأنّ الشاعرَ يقولُ: "هل يَنْفَعُني رَفْعُ الحُجْبِ بَيْنَنا؟". وفي المثال الثّالث نجد أنّ اسمَي الفاعل، "مُريدٍ" و "هادٍ"، قد نصب كلٌّ منهما مفعولَه، "ضَرَّهُ" و "الْجَيْشَ". وفي المثال الرّابع نصب اسمُ الفاعل "مُسْتَبْقٍ" (وهو مجرور بحرف الجرّ الزائد) كلمةَ "أَخاً". وفي المثال الخامس كلمة "رمضانَ" هي مفعول اسمُ الفاعل "صائم"، وكلمة "لَحْمَ" هي مفعول اسم الفاعل "آكِل". أما في المثال السادس فنرى أنّ اسمَ الفاعل "مُبْلِغٌ" قد نصب مفعولَين، وهما "كسرى" و "مَآلِكَ" (معناها رسائل، والواحدة مَأْلَكة). والمثال السّابع فيه اسما فاعل نصبَ كلٌ منهما مَفعولَين، ألأول هو الضمير المتّصل (ياء المتكلم)، والثّاني من جذره (هاجِري هَجْرَ، واصِلي صِلةَ)، أي مفعولاً مطلقاً. مفعول "خاشٍ" في المثال الثّامن هو جملة "أنْ تَحينَ مَنِيَّتي"، وكأنّه يقول "لا أخشى مَجيءَ مَنِيَّتي"، ومفعول "راهِبٌ" هو "ما" الموصولية.


اسم المفعول:

9. قال أميّة بنُ أبي الصلت (شاعر جاهلي أدرك الإسلام ولم يُسلِم):
وَسَمَّيْتَني بِاسمِ الْمُفَنَّدِ رَأْيُهُ // وَفي رَأْيِكَ التَّفْنيدُ لَوْ كُنْتَ تَعْقِلُ

10. وقال نزار قبّاني:
سافَرْتُ في بَحْرِ النِّساءِ وَلَمْ أَزَلْ // مِنْ يَوْمِها مَقْطوعةٌ أَخْباري

11. وقال ابنُ الرومي (836 – 897) على لسان زوجة ابن المعلِّم:
أَنا زَوْجةُ الأَعْمى الْمُباحِ حَريمُهُ // أَنا عِرْسُ ذي الْقَرْنَيْنِ لا الإسْكَنْدَرِ

12. وقال الشاعر:
ما عاشَ مَنْ عاشَ مَذْموماً خَصائِلُهُ // وَلَمْ يَمُتْ مَنْ يَكُنْ بِالْخَيْرِ مَذْكورا

إذا نظرتَ إلى المثال التّاسع تجدُ كلمة "الْمُفَنَّدِ" وهي اسم مفعول من "فنَّدَ يُفَنِّدُ" (الأصحّ، من فُنِّدَ يُفَنَّدُ)، وقد أخذت نائبَ فاعل هو كلمة "رأْيُهُ"، وكأنّ الشاعر يقول: "وَسَمَّيْتَني بِاسْمِ مَنْ يُفَنَّدُ رَأْيُهُ". ونجد اسمَ مفعول (الْمُباحِ) ونائب فاعله (حريمُهُ) في المثال الحادي عشر، و "مَذْموماً" و "خَصائِلُهُ" في المثال الثّاني عشر. كلمةُ "الْمُباحِ" في 11 مجرورة على إتباع "الأعمى المجرورة على الإضافة، وكلمة "مَذْموماً" في 12 منصوبة بفعلِ "عاشَ".

نرى مِمّا تقدّم أنّ اسمَ الفاعل يأخذ فاعلاً، بينما اسمُ المفعول يأخذُ نائبَ فاعل، وهذا منطقيّ. واسم الفاعل من المتعدي يأخذ مفعولاً أو مفعولَين، بينما لا ينصب اسمُ المفعول مفعولاً إلا من جذره (مفعولاً مُطلقاً)، كأنْ تقول "هو مُفَنَّدٌ رَأْيُهُ تَفنيداً"، أو أن يكون من فعل متعدٍّ لأكثر من مفعول كي يأخذَ مفعولاً به، وقلّما نستعمل ذلك.

أمّا قول نزار قبّاني في المثال العاشر فلنا عنده وقفةٌ مُطوَّلة لما فيه من إشكال نحوي ومن جوازات عدّة. باختصار: كلمة "مقطوعةٌ" هي اسم مفعول وإعرابُه مبتدأ مرفوع بالضّمّة، وكلمة "أخباري" نائب فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر، وهو مرفوع بالضمّة المستبدلة بالكسرة على الراء لمجانسة الياء، والجملة الإسمية "مقطوعةٌ أخباري" في محلّ نصب خبر "لم أَزَلْ". لقد استمعت إلى قبّاني يلقي قصيدةَ "إنّي عَشِقْتُكِ وَاتَّخَذْتُ قراري" الّتي منها هذا البيت خلالَ أُمسية شعريّة أُقيمت له عامَ 1994 في إحدى مدن ولاية نيو جيرسي الأمريكية، وسمعتُه يقول "مقطوعةً" (بالنّصب). وحين عاد إلى مقعده بعد قراءة عددٍ من قصائده أشرت إليه - وكنت جالساً بجواره - بأنّه كان من الأفضل أنْ يقولَ "مقطوعةٌ" (بالرّفع) بدلَ "مقطوعةً". قال: "أخبرتني أنّك متخصِّص في علوم الأحياء، فما دَخلُكَ باللغة؟". أجبتُ: "علوم الأحياء اختصاصي، لكنّ العربية هي لغة أمّي، وعلومُها هي هوايتي المفضَّلة". وفي النّهاية وافق على رأيي، إذ أنّه لو أراد أن ينصب "مقطوعةً" لكان من الأفضل أنْ يقول "لَمْ تَزَلْ" بدلَ "لَمْ أَزَلْ" لتناسبَ "مقطوعةً" في التأنيث، وتصبح "مقطوعةً" خبرَ "لَمْ تَزَلْ" منصوب (كما قرأها)، وكلمة "أخباري" نائب فاعل لها. كذلك، لو أنّه استعمل "لم تزَل" لَأمكنه القول أيضاً: "لمْ تَزَلْ أخباري مقطوعةً" ("أخباري" مرفوعة على الابتداء (اسم "لم تَزَلْ"، وكلمة "مَقْطوعةً" منصوبة بفعل لم تَزَل أو خبر منصوب بلم تَزَل)، لكنّ "مقطوعةً أَخْباري" أبلغ. بالمقابل كان يمكنه أنْ يقولَ"لَم أَزَلْ مَقْطوعَ الأخبارِ" (بصيغة الإضافة) لتناسبَ "لم أزَل" في التذكير، لكنَّ القطع عن الإضافة أبلغ.


ألمصدر العامل:

13. قال الشاعر:
ما أَرى الْفَضْلَ وَالتَّكَرُّمَ إلاّ // كَفَّكَ النَّفْسَ عَنْ طِلابِ الْفُضولِ

14. وقال أبو الطيب معرِّفاً المجدَ في قصيدة "أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدَّهْرُ":
وَلا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ زِقّاً وَقَيْنةً // فَما الْمَجْدُ إلاّ السَّيْفُ وَالْفَتْكةُ الْبِكْرُ
وَتَضْريبُ أَعْناقِ الْمُلوكِ وَأَنْ تُرى // لَكَ الْهَبَواتُ السّودُ وَالْعَسْكَرُ الْمَجْرُ
وَتَرْكُكَ في الدُّنْيا دَوِيّاً كَأَنَّما // تَداوَلَ سَمْعَ الْمَرءِ أَنْمُلُهُ الْعَشْرُ

في المثال الثّالث عشر نرى المصدر "كَفَّكَ" (من كَفَّ يَكُفُّ كَفّاً)، وهو منصوب لأنّه مفعول ثانٍ للفعل "أَرى". وقد نصب هذا المصدر كلمة "النَّفْسَ" على المفعولية. وفي البيت الثالث من المثال الرّابع عشر نرى أنّ المصدر "تَرْكُكَ" (من تَرَكَ يَتْرُكُ تَرْكاً) قد نصب كلمة "دَوِيّاً" على المفعولية. وكلمة "تَرْكُكَ" مرفوعة على إتباع كلمة "السَّيْفُ" في البيت الأوّل. كذلك نرى في البيت الثاني لأبي الطيب مصدراً آخرَ هو "تَضْريبُ" (من ضَرَّبَ يُضَرِّبُ تَضْريباً)، لكنّه غيرُ عامل، إذ أُضيف إلى كلمة "أَعْناقِ" ولم ينصبْها. ويمكن أنْ يُعمِلَ المصدر "تضريب" ويقول: "وتَضْريبُكَ أَعْناقَ الْمُلوكِ". وعلى النّهج نفسه يمكن إبطال عمل المصدر في المثال 13 باستعمال صيغة الإضافة: "كًفَّ النَّفْسِ". في الواقع، يمكنُ أيضاً إبطالُ عمل اسم الفاعل واسم المفعول باستعمال صيغة الإضافة. ففي مثال 12 تُبطل عمل "مَذْمومٌ" إذا أضفته فتقول"مَذْمومَ الْخَصائِلِ". وإذا نظرنا إلى بَيتَي جبران خليل جبران أدناه نراه استعمل اسمَي الفاعل، "قاتل" و "سارق"، بصيغة الإضافة فبطُلَ عملهما:

وَقاتِلُ الْجِسْمِ مَقْتولٌ بِفِعْلَتِهِ // وَقاتِلُ الرّوحِ لا تَدْري بِهِ الْبَشَرُ
وَسارِقُ الزَّهْرِ مَذْمومٌ وَمُحْتَقَرُ // وَسارِقُ الْحَقْلِ يُدْعى الْباسِلُ الْخَطِرُ

إنتبهْ إلى التّجاوز اللغوي في عجز البيت الثاني، أذ رفعَ "الباسِلُ" (ورفع "الْخَطِرُ" على إتباعها)، وكان عليه أن ينصبَها لأنّها مفعولٌ ثانٍ للفعل المبني للمجهول "يُدْعى" (أنظر "نائب الفاعل" في الفصل السّابق). ويُقالُ أنّه طُلبَ من جبران أنْ يغيِّرَ البيت إلى (لَهُوَ الباسِلُ الْخَطِرُ) كي يستقيمَ الإعراب، لكنّه رفض، وذلك لأنّ "يُدعى"، حسب رأيه، تعبِّرُ عن المعنى الوقصود أفضل من "لَهُوَ".


ألصفة المشبّهة باسم الفاعل:

15. قال المتنبي من قصيدة رثاء جدّته:
كَأَنَّ بَنيهِمْ عالِمونَ بِأَنَّني // جَلوبٌ إلَيْهِمْ مِنْ مَعادِنِهِ الْيُتْما

16. وقال الشاعر:
رُبَّ مَهْزولٍ سَمينٌ عِرْضُهٌ // وَسَمينِ الْجِسْمِ مَهْزولُ الْحَسَبْ

17. وقال أبو فراس الحمداني:
أَراكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شيمتُكَ الصَّبْرُ // أَما لِلْهَوى نَهْيٌ عَلَيْكَ وَلا أَمْرُ

ألأسماء العاملة في الأمثلة الثلاثة هي من نوع الصفة المشبهة باسم الفاعل، وهي "جَلوبٌ" بمعنى "جالِب" و "سمينٌ" بمعنى "سامِن" (وكلمة "سامِن" غير مستعملة) و "عَصِيٌّ" بمعنى عاصٍ. وقد نصبت "جَلوبٌ" كلمةَ "الْيُتْمَ" على المفعولية، وأخذت كلمة "سمينٌ" فاعلاً هو "عِرْضُهُ"، ولم تأخذ مفعولاً لأنّها من فعلٍ لازم. وقد وردت الصفة المشبّهة "سمين" واسم المفعول "مهزوم" في عجز البيت بصيغة الإضافة (وَسَمينِ الْجِسْمِ مَهْزولُ الْحَسَبْ)، ولم تعمل أيٌّ منهما في الاسم بعدها. واضح مما تقدم أنّ إعمالَهما يكون بإبطال الإضافة وتحويل القول إلى: [و(رُبَّ) سمينٍ جِسْمُه مَهْزولٌ حَسَبُهْ]. إنتبه إلى التشكيل في مثال 16: كلمة "وَسمينِ" في بداية العجز (وكذلك "مَهْزولٍ" في الصّدر) مجرورة برُبّ الزائدة لفظاً فقط، وهي مرفوعة محلاًّ على الابتداء. أمّا "مَهْزولُ" في العجز و "سَمينٌ" في الصّدر فكلٌّ منهما مرفوعة على الخبرية (أو تابعة للمبتدأ محلاً لا لفظاً). كذلك استعمل أبو فراس الصفةَ المشبّهة، عَصِيّ، بصيغة الإضافة ولم يُعمِلْها، ولو أراد أنْ يُعملها لقال: "أَراكَ عَصِيّاً دَمْعُهُ"، فتكون "دَمْعُهُ" فاعلاً مرفوعاً.

للتلخيص: بعض الأسماء تعمل عملَ الفعل (وفيها معنى الفعل) في معمولاتها، فترفع فاعلاً أو نائبَ فاعل وتنصب مفعولاً إن كانت من فعل متعدٍّ. وفي معظم الحالات يمكن التعبير إمّا بإعمال الاسم، أو بإبطال عمله وذلك باستعمال صيغة الإضافة. في الواقع، نحن نستعمل هذه الصيغ شفهيّاً وكتابيّاً دون الحاجة إلى دراستها، فلا لزوم للدروس العديدة والقوانين الجافّة التي تحتلُّ في كتاب "النحو الواضح" (الجزء الثاني للمرحلة الثانوية) أكثر من أربعين صفحة.

أخيراً، إذا نظرنا إلى قولٍ من نوع [ألقاهرةُ أَكْثَرُ ازدحاماً من الإسكندريّةِ] نرى أنّ كلمة "ازدحاماً" منصوبة ، ولا نهتدي إلى الفعل الّذي نصبَها. ألتّعبير في هذه الجملة هو تعبير تفضيل، وفي لغتنا يمكننا أنْ نفضِّلَ تفضيلاً مباشراً بين أمرين إذا كانت صفةُ أَفْعَل التفضيل (أَكْبَر، أَصْغَر، أَجْمَل، أَضْخَم) مشتقّةً من فعل ثلاثيٍّ فقط، فنقول مثلاً: [ألقاهرةُ أَكْبَرُ مِنَ الإسكندريةِ]، أما إنْ كانت الصفةُ مشتقةً من فعلٍ رباعي أو خماسي أو سداسي، فنستعينُ بكلماتٍ مثل [أَكْثَرُ، أَشَدُّ، أَقَلُّ] مصحوبةً بمصدر الفعل منصوباً على التّمييز (ازْدِحاماً، من ازْدَحَمَ يَزْدَحِمُ). مفيدٌ أنْ أُذَكِّر أنّ الأمرَ نفسَه موجودٌ في لغاتٍ أخرى كالإنجليزية. هناك شروط أخرى يجب أن يستوفيها الفعل الّذي يصلح لصيغة أفعل التفضيل، وجميعها شروطٌ بديهية يعرفها كلُّ عربيّ بالسليقة ويستعملها في كلامه الفصيح والمحكي دون الحاجة للرجوع إلى كتب تدريس النحو. وعلى سبيل المثال، نعرف أنّ الفعل [مات] لا يمكن استعماله في التفضيل المباشر لأنّه غيرُ قابلٍ للتَّفاوتِ (تعدَّدَتِ الأسبابُ والْمَوْتُ واحِدُ)، لكنَّنا نقولُ مثلاً: [ما أَفْجَعَ ميتةَ فُلان].


باب التَّعجُّب:

وهنا أيضاً لا لزوم - على الأقلّ في المسار العامّ - للدخول في قوانين التّعجّب التي نستعملها بالسليقة وفي كلامنا الفصيح والمحكي على حدٍّ سواء. تكفي الإشارة إلى أنّ الأمرَ الّذي نتعجّبُ منه تأتي الكلمةُ الدّالّةُ عليه منصوبةً دائماً بفعل فعل التّعجّب، وهو فعل جامد على وزن [أَفْعَلَ]، ويأتي مسبوقاً بما التعجبية، فنقولُ مثلاً: [ما أَجْمَلَ نورَ اللَّوْزِ]. قال أبو الطيب:

ما أَبْعَدَ الْعَيْبَ وَالنُّقْصانَ مِنْ شَرَفي // أَنا الثُّرَيّا وَذانِ الشَّيْبُ وَالْهَرَمُ

حتّى في كلامنا المحكيّ نحن نستعمل ضميرَ النصب لا ضمير الرفع مع فعل التّعجّب، فنقول: [ما أَحْسَنَكْ]. لغويّاً، يمكن النّظر إلى جملة التّعجب وكأنّك تقول: [شَيْءٌ جَمَّلَ نورَ اللَّوْزِ]، فكلمة "ما" هي اسم مبني بمعنى "شَيْء" في محلّ رفع مبتدأ. وفي كلامنا الفصيح نتعجّب أيضاً باستعمال صيغة [أَفْعِلْ بِهِ]، ومن التعابير الشائعة على هذه الصيغة قولُنا [أَنْعِمْ وأَكْرِمْ]، أي: أَنْعِمْ بِهِ وَأَكْرِمْ بِهِ. وخارجَ تعبير "أَنْعِمْ وَأَكْرِمْ"، أكثرُ ما نرى صيغة "أَفْعِلْ بِهِ" في أشعار العرب وفي القرآن الكريم. قال المتنبّي مخاطباً سيفَ الدولة عن رسول ملك الروم الّذي جاء يطلب الفداء:

فَإنْ تُعْطِهِ مِنْكَ الأَمانَ فَسائِلٌ // وَإنْ تُعْطِهِ حَدَّ الْحُسامِ فَأَخْلِقِ

ويعني بكلمة "فَأَخْلِقِ"، أي ما أَخْلَقَكَ بأنْ تُعطيه حَدَّ السيف بدلَ الأمان.

وقال أيضاً في ذمّ "الدُمُسْتُقِ" قائد جيش الروم (من قصيدة "فَهِمْتُ الْكِتابَ أَبَرَّ الْكُتُبْ"):
فَأَخْبِثْ بِهِ طالِباً قَتْلَهُمْ // وَأَخْبِثْ بِهِ تارِكاً ما طَلَبْ

إنتبهْ إلى أنّ "قَتْلَهُمْ" منصوبة على المفعولية لاسم الفاعل "طالِباً".

كذلك وَرَدَ في القرآن الكريم: [أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتونَنا لكِنِ الظّالِمونَ الْيَوْمَ في ضَلالٍ مُبينْ، مريم، 38]، أي ما أَسْمَعَهُمْ وما أَبْصَرَهُمْ (إنتبهْ: خفّف "لكنَّ" فأبطلَ عملَها). وورد أيضاً في سورة الكهف، الآية 26 [أَسْمِعْ بِهِ وَأَبْصِرْ...].


مفاعيل لأفعالٍ محذوفة:

ورد أعلاه أنّه يمكنُ أن ننظرَ إلى المستثنى والمنادى المنصوبَين على أنّهما نُصِبا بفعل الاستثناء أو بفعل المناداة. وهناك حالاتٌ أخرى، وأكثرُها شائعةُ الاستعمال، يُنصَبُ الاسمُ فيها على المفعولية لفعلِ فِعلٍ محذوف، ويُفهَمُ الفعلُ المحذوف من السياق، وهذه أهمُّها:

1. أَهْلاُ وَسَهْلاً:

واضح أنَّ هذه التحية المشهورة تعني: [قَدِمْتَ/قَدِمْتُمْ أَهْلاً وَوَطِئْتَ/وَطِئْتُمْ سهلاً]، فالكلمتان منصوبتان على المفعولية لفعلَين محذوفَين.

2. نَحْنُ الْمُوَقِّعين أَدْناه نَشْهَدُ أَنَّ...

3. نَحْنُ طُلاّبَ الصَّفِّ العاشِرِ نُطالِبُ بِـ...

4. نَحْنُ الْواقِفينَ عَلى خُطوطِ النّارِ نُعْلِنُ ما يَلي: ... (محمود درويش، من قصيدة "قصيدة بيروت")

5. قال نهشل بنُ حَري الدارمي (شاعر جاهلي) من قصيدة "إنّا مُحَيّوكِ يا سَلْمى فَحَيّينا":
إنّا - بَني نَهْشَلٍ - لا نَدَّعي لأَبٍ // عَنْهُ وَلا هُوَ بِالأَبْناءِ يَشْرينا

6. سورة الْمَسَدّ (أو اللَّهَبْ):
تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبِ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمّالةَ الْحَطَبِ (4) في جيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدِ (5).

7. قال رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي):
بِلادَكَ قَدِّمْها عَلى كُلِّ مِلّةٍ // وَمِنْ أَجْلِها افْطِرْ وَمِنْ أَجْلِها صُمِ

8. وقال آخر:
إذا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّها // هَواناً بِها كانَتْ عَلى النّاسِ أَهْوَنا
فَنَفْسَكَ أَكْرِمْها وَإنْ ضاقَ مَسْكَنٌ // عَلَيْكَ بِها فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنا

9. [فَأَمّا الْيَتيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ] (الضُّحى، 9 و 10).

في كلِّ مثالٍ من الأمثلة التّسعة كلمةٌ منصوبة (تحتها خطّ)، لكنَّنا لا نجدُ الفعل. ولو تمعَّنت في هذه الأمثلة لَأَمكنكَ تقدير فعلٍ محذوف هو غالباً "أَخُصُّ" أو " أَعني" أو "أَقْصُدُ"، فالكلمات نُصبَت على المفعولية لهذا الفعل المحذوف. وتراكيب مثل "نحن الموقعين أدناه" و "نحنُ طُلاّبَ" من أكثر التراكيب شيوعاً في اتصالاتنا العصرية. لاحِظْ أنّه لو لم ننصب كلمة "طُلاّب" مثلاً لأصبح القول "نحنُ طُلابُ الصف العاشر" عبارة عن جملة اسمية إخبارية نقول فيها نحن طلاّبُ الصف العاشر، لا طُلاّب الصّفّ التاسع مثلاً، وواضح أنّ هذا ليس هو المقصود هنا، لذا وجب النّصب للتّعيين والتّحديد. والأمر نفسه ينطبق على "حمّالةَ الحطب"، والّتي أراد بها تّقريع وذم زوجة أبي لهب عمّ الرسول. وقصد أن يقولَ: "وَامْرَأَتُهُ، أَعْني حَمّالةَ الْحَطَبِ، في جيدِها حَبْلٌ".

في المثالَين 7 و 8 نرى فعل أمر استوفى مفعوله (ألهاء)، لكنّنا نرى قبله كلمة منصوبة بفعلِ فعلٍ، ولا يمكن أن تكون قد نُصبَت بفعل الأمر لأنّ مفعولَه موجود، ولا يأخذُ أيٌّ من الفعلَين أكثرَ من مفعول واحد. وعليه فقد نُصبَت كلٌّ من "بلادَكَ" و "نَفْسَكَ" بفعلِ فعلٍ محذوف تقديره "أَخُصُّ" أو "أَقصدُ". حين تنظرُ إلى مثال 7 أو مثال 8 قد تقول لنفسِكَ إنّ الاسمَ المنصوب قبلَ كلِّ فعل نُصبَ على إتباع ضمير المفعول المتصل بالفعل، ولا أجدُ غضاضةً في ذلك؛ ألأكثر أهميّةً هو أنّ الاسم في كلِّ حالة منصوبٌ لا مرفوع. في المثال الأخير نرى فعلَيْن مضارعَين مجزومين بلا الناهية، ولم ينصب أيٌّ منهما مفعولاً بعدَه. لكنّك لا تحتاج إلى إعمال الفكر لتدركَ أنّ كلمة "الْيَتيمَ" المنصوبة هي مفعول مقدَّم لتقهر، وكلمة "السائِلَ" هي مفعول مقدَّم لتَنْهَرْ.


أخيراً، فلْننظرْ إلى هذه الأمثلة الأربعة:

10. يَدَكَ والنّارَ

11. إيّاكَ وَالْكَذِبَ

12. أَلْقاهُ في الْيَمِّ مَكْتوفاً وَقالَ لَهُ // إيّاكَ إيّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْماءِ.

13. أَلْحَقَّ ألْحَقَّ

هذه الأمثلة هي تراكيب تحذير وإغراء شائعة. واضحٌ أنّنا أردنا أنْ نقولَ في المثال العاشر [باعِدْ يَدَكَ وَاحْذَرِ النارَ]، وفي المثال الحادي عشر [باعِدْ إيّاكَ (نَفْسَكَ) وَاحْذَرِ الْكَذِبَ]، فالكلمتان في كلِّ مثال منصوبتان على المفعولية لفعل محذوف. وفي بيت الشعر [باعِدْ إياكَ وَاحْذَرِ الابتلالَ بالماء]، وقد عُبِّرَ فيه عن المصدر بأنْ والفعل المضارع، فجملة "أنْ تَبْتَلَّ" في محل نصب على المفعولية. أمّا المثال الأخير فهو إغراء لقول الحقّ على شكل [إلْزَمْ الْحَقَّ]، والحقّ الثانية توكيد للأولى. فكلمات [يَدَكَ، النّارَ، الْكَذِبَ، ألْحَقَّ] منصوبة بفعلِ فعلٍ محذوف. أمّا كلمة "إيّاكَ" فهي ضمير نصب منفصل في محلّ نصب مفعول به، والكاف حرف خطاب. و [إيّا] هو ضمير النصب (لا الرّفع) المنفصل الوحيد، ويُصرَّف مع جميع ضمائر النصب والجر ليشير إلى صاحب الضمير، فنقول: [إيّايَ، إيّاكَ، إيّاهُ، إيّاكُم...]. واضح أنّ هذا الضمير يُستعمَل للتحذير مع المخاطب فقط، ونستعمله للتوكيد [رَأَيْتُ الرَّجُلَ إيّاهُ في السّوقِ مَرَّتَيْن] و [إيّاكَ أَعْني] وللمصاحبة أو المعيّة [ذَهَبْتُ وصديقي إلى المكتبة وَدَرَسْتُ وإيّاهُ أَشْعارَ الأَعْشى] في جميع الحالات. وواضح أيضاً أنّنا لا نستعمل "إيّا" في حالة الرفع، فلا نقول [جاءَ الرَّجُلُ إيّاهُ إلى السّوقِ]، بل علينا أن نقولَ [جاءَ الرَّجُلُ نَفْسُهُ إلى السّوق]. وهذا يذكِّرني بما حدث بين إمامَي النّحو، سيبويه والكسائي:

يُروى أن سيبَوَيهِ بلغه يوماً أنّ الكسائي يقول: [ظننتُ أَنَّ لَسْعةَ الْعَقْرَبِ أَشَدُّ إيلاماً مِنْ لَسْعةِ الزُّنبور فَإذا هِيَ إيّاها]. اعترض سيبويهِ على جملة الكسائي لأنّه استعمل "إياها" في محلّ رفع، وقال: "كان عليه أنْ يقولَ [فَإذا هِيَ هِي]". وكان الكسائي ذا منزلة عالية عند الرشيد، وكان مدرِّساً لولدَيه، الأمين والمأمون. لذا حذَّر بعضُهم سيبويهِ من مخالفة الكسائي الرأيَ ونصحوه بأنْ يوافقَ معه لئلاّ يُغضِبَ الرشّيد، فقال سيبويهِ: "حسناً، كما يقولُ الكِسائي"، رافضاً حتّى أن يلفظَ ما يعتبره خطأً.


وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، وموضوعها: "مواضيع نحوية أخرى يجب إلغاء تدريسها".



#شوقي_إبراهيم_قسيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعلّموا العربية وعلّموها للنّاس - ألحلقة الثالثة عشرة (13): ...
- أبو العلاء المعرّي (973 – 1058)
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الثانية عشرة (12): ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الحادية عشرة (11) - ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة العاشرة (10) - ألمع ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة التاسعة (9) - ألمبن ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس – ألحلقة الثامنة (8) - ألحا ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة السابعة (7) - ردود ...
- تعلَّموا العربية وعلِّموها النّاس – ألحلقة السادسة (6) - أئم ...
- تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الخامسة (5) - تشكي ...
- تعلَّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الرّابعة (4): ألهم ...
- تعلَّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الثالثة (3)
- تعلَّموا العربية وعلِّموها للناس - ألحلقة الثانية (2): في ال ...
- تعلَّموا العربيّة وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الأولى (1)
- تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الأولى (1)


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - شوقي إبراهيم قسيس - تعلموا العربية وعلموها للناس - ألحلقة الرابعة عشرة (14): في المنصوبات