أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سميح القاسم - الى أين نحن ذاهبون؟ (عرض حال)















المزيد.....


الى أين نحن ذاهبون؟ (عرض حال)


سميح القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4172 - 2013 / 8 / 2 - 08:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أنا ذاهبٌ إليَّ.. (2)


الى أين نحن ذاهبون؟ (عرض حال)

نحن نذكر الجرّة والإبريق، نذكر الزير والطاسة، نذكر النبعة البرية والسبيل الوقفي. يحاول الأبناء ان يتذكروا شيئا منها. أما الأحفاد فلا جدوى في اختبارهم.
ولتكن لنا عبرة في القانون، إنه يمسك بتلابيب البشر ويشدّهم نحو الاتجاه الذي يراه صحيحا، ويرفع بعض الناس أيديهم اعتراضا واحتجاجا، فهل يعيد القانون حساباته؟ إنه يركب رأسه، على الغالب، فيقع الصِّدام وتعرض الفجيعة ملامحها القاسية.
وثمة عبرة أخرى في الطقس. أسمعهم يقولون: طقس هذه الأيام أخْوَت. يعقّب أحدهم: بل إنها المحنة. إن الله يمتحن خلقه الجانحين نحو الشرّ. الطقس عاقل جدا. نحن الخوثان، ولا ريب.
مهلا، مهلا. للحديث الواحد أكثر من بقيّة. وللمفردة الواحدة أكثر من معنى. والقول الفصل شُبهة قابلة للنقض. ألم يقولوا "إن البيِّنة على من ادعى"؟.
وهي لحظة تأمُّل قبل هروب اللحظة. قبل المفاجأة بقليل. قبل الانزياح الكونيّ الهائل عن مسار الوقت ونظام الزمن. لحظةٌ لا تردّد فيها ولا انتظار. لا جواب ولا سؤال. ولا عتمة ولا ضوء. لا تشبه لحظة أخرى ولا تشبه شيئا آخر، ولا أقول إنها تشبه نفسها لأنها فريدة وعصيّة على التوأمة.
إذًًا، فهي لحظة تأمُّل في المختزن وفي غير المتوقع. في المعلوم وفي المجهول، خارج السيطرة ولا يشملها نطاق الحساب والمراجعة وإعادة النظر. تُسفر عن هاجسٍ ما. تتفتّقُ عن خاطرة ما، أو تذهبُ هباء منثورا.
أتكون ورطة ذهنيّة؟ هل تتحول إلى كومة خيطان متشابكة، بلا رأس خيط، بلا بداية وبلا دليل؟
تحلُّ على فورة الليلك نعمةُ الوضوح. يظهر الخط الفاصل بين الخيط الأبيض وزميله الأسود. وتنتهي المهمة بيُسر جميلٍ وبسلاسةٍ مدهشة.
لا بأس في أن نتراجع قليلا نحو مملكة الحبق؟ حيث الطفولة المنتعشة الى حين والمنكمشة إلى حين، بما تقتضيه ظروف الحياة وصروفها المربكة.
حبق في أصُص الفخّار (لم يكن البلاستيك مألوفا).. حبقٌ في صفائح معدنية كانت أوعية لحفظ السمن وسواه من الأطعمة المعلّبة. حبقٌ على الشبابيك وفي المتاح من مساحات التراب حول المنزل. إنما يظلُّ حبقا بكل عبقه وخضرته المعافاة ودماثة أخلاقه المشهود لها، عند ربات المنازل وعند الناس جميعا.
قد نعثر على استثناء عند شخص ما يرى تناقضا بين الحبق والحداثة. هذا شأنه. وهذا حُمقُه. وهذه سطحيّة أفكاره وضحالة أحاسيسه. ويظلُّ الحبق رفيق الطفولة الغضّة وزميل الفرح العفوي وشقيق الألفة الإنسانية، ومن خُضرته المنعشة تبدأ حداثة الحلم.
ولتكن الزهور أيضا، وليكن الورد. وليكن الورد الأحمر، على وجه الخصوص، بكلّ رونقه وأبَّهته وبهائه وصفائه.
ثمة شوكٌ هناك. وهناك العبرة. تريد وردًا، فلتتعامل مع الشوك أيضا. ولا بأس، فهذه هي سنّة الحياة، وهذه هي سنّة الله في خلقه لو كانوا يعقلون.
هل قلتُ شيئا عن السنابل؟ لا. ليس الآن. لم تقُل شيئا عن السنابل، هنا، والآن. وخُلاصة القول هي أن الناس، باستثناء ندرةٍ منهم، لا يعرفون السنابل. بمعنى أنهم لم يشاهدوها عن كثب. لم يتحقّقوا من تفاصيلها. لم يلمسوها.لم يمرروا راحاتهم عليها باتجاهين متناقضين وبإحساسين متناقضين. النعومة المفرطة والخشونة المفرطة. لم يشمّوا رائحتها، لم يتتبّعوا تغيُّر لونها من الخضرة الداكنة إلى الصفرة الذهبية. لم يتتبّعوا مراحل نموّها ومدى ارتفاع قاماتها. ثم إن قلّة من الناس يعرفون الطحين.
إنهم يعرفون الخبز بأصنافه الجاهزة والمعروضة للبيع. ويعرفون أنواع الكعك العديدة في معارض الحلويات الأنيقة. قد يعرف البعض خبز الصاج. الخبز الرقيق. لكنني أشك في أنهم تعرّفوا الى مكوّناته ومقاديره وطرائق إعداده ومراحل عجنه وخبزه.
وما دمنا في معرض الحديث عن السنابل، فلا بدّ لي من تذكُّر تلك الطرفة، عن قامة عيدان القمح ومقدار طولها وقصرها وعبرة نموّها.
ذات يوم ذهب فلاّح يركاوي ليتفقّد سنابله في "مارس" يملكه من سهل مرّان، فاكتشف أن القمح في مارِسِه (قطعة أرضه)، أقصر قامة من القمح في الموارس المجاورة. دُهش الرجل، لكنه خرج من دهشته مخاطبا مارِسه على الطريقة اليركاوية الشهيرة بخفّة دمها: "أنا أتدبَّر أمري بدونك يا حضرة المارِس المحترم، لكن قل لي بحياة أبيك، شو عينك من عيون الموارِس الأخرى؟".
سنابل القمح ومواسم الحصاد، تستدعي فصل الصيف وسماءَه الصافية ونجومه الزاهية..
وتحضر على الفور طرفة غير يركاوية هذه المرة:
أبو علي وزوجته أمينة مستلقيان للنوم على سطح البيت تجنبا لحرارة الصيف داخل المنزل. يرى أبو علي قطعان النجوم الهائلة في السماء، فيهمس لزوجته متحسّرا ومتمنيا في آن: وِلِك يا أمينة، كيف لو كان عندنا قطيع ماعز بعدّ هذه النجوم؟ردّت ببساطة عفوية: من غير شرّ يا أبو علي، فمن سيكنّس تحت هذا العدد من الماعز؟ ردّ غاضبا: أنتِ بالطبع، أنتِ ستكنّسين تحتها.ردّت محتجّة: لا. أنا لا أكنّس تحتها، ريتها تتبرعز. أنا مش ناقصني شغل بيت. واحتدّ غضب أبي علي، فانهال على زوجته أمينة ضربا.. صرختْ من الوجع، فهرع الجيران لاستبيان الأمر.ماذا حدث يا جماعة؟ ما هذه الطوشة الليلية؟ ماذا أصابكما؟
قال أبو علي وهو ما زال يغلي غضبا: إسألوها هي، لأنها لا تريد التكنيس تحت شلعة الماعز..
ودهش الجيران، لكنهم لم يجدوا بُدًّا من مصارحته: ماذا أصابك يا بو علي؟ ما هذا الذي تقوله؟ على حدّ علمنا فأنت لا تملك عنزة واحدة!
وانتبه أبو علي لغلطته، وصالح زوجته أمينة، لكنها أصرّت وأقسمت على أنها لن تكنّس تحت الماعز الذي بعدّ النجوم!
حيث ينبت القصب والعلّيق تكون مياه جوفية. وحيث ينبت الفرح تكون دموع جوفية. أعرف ذلك جيدا. أعرفه بالتجربة التي تصبح نظرية. وحين تكون معتما فإنني أرى النور الكبير في قلبك. وحين تغدو مضيئا، فإنني أبصر العتمة المكدّسة على روحك. هذه الثنائية الأزلية تكرّر ذاتها، الآن. وربما إلى الأبد.
ويحضر بكامل عظمته شجرٌ يتكاثر شجرا، ويصير مطرا. ويصير مائدة وجدارا ويصير ورقا للكتابة. وللزينة أيضا نصيبها في شجر نحبُّه ونذبحه بلا رحمة.
وتقول الريح للنار غير ما يقوله الماء. لا بدّ من اكتمال التجانس واكتمال التناقض حتى يتحقّق المعنى. ويقوم التناقض والتجانس بين المعنى والمعنى لتقوم الحقيقة مؤديةً واجبها على أكمل وجه.
ثم إنه لا مزيد إلا لمستزيد. ذلك أن الاكتفاء يلغي الزيادة بمثل ما يلغي النقصان. وقد لا يكون الاكتفاء نعمة بالضرورة، لأن الحاجة الملحّة تظل له بالمرصاد.
تحضر الآن ثنائية الجمال والقبح. وتحضر مسؤولية المقاييس ومفاهيم النسبية والشروط التي تظلّ مرحليّة، لأنها تظلّ نسبيّة إلى ما لا نهاية، قُدُما على النهج العتيق وحواريه الثوابت والمتغيّرات.
كيف يكتمل النصاب في هذه الفوضى العارمة؟ كيف تستتبّ الأمور على وجه من وجوه الرضا؟ كيف نختصر الوقت، إذا كان قد بقي لدينا وقت للاختصار؟ أسئلة لا بدّ منها، لأجل إجابات خفرة، مترددة، متلجلجة مخارج الصوت والألسنة؟ ومع ذلك فهي أسئلة ملحّة لا تعرف التسامح والغفران.
في الساحة مواطنون لديهم إضافات لا يُستخفُّ بها. عيونهم مغرورقة بالدمع وثيابهم ناصعة البياض. عادوا من طقوسهم الدينية بيقين تزعزع قليلا، لأن تضرّعاتهم ظلت أقلّ كثيرا من أوهامهم.
ويثير الأحزان أولئك الجنود المؤتمرون بمشيئة قائدهم الهلاميّ الرخو والهشّ والقابل للإنكسار إزاء نسمة حريّة واحدة.
يتغنّى ابن جدتي لأبي بخبز الطابون، مغموسا بالزيت الجديد والزعتر الجديد، بجوار الموقد الموغل في القدم. ويتهاوى ابن جدّتي لأمِّي على الطراحة المستكينة قرب الداخون الهائج. ثم يُقبل الأهل والصحب والجيران للإصغاء الوقور في حضرة الغراموفون الأول في القرية الأولى.
"ثمة شيءٌ عطِنٌ في مملكة الدنمارك..." كان هذا صحيحا. وكان هذا قديما. مملكة الدنمارك في أفضل أحوالها اليوم. أما مملكتي أنا. مملكة الأعراب، فهي العطن الفاجع في ما تبقى لي من زمن.
وتنتظرني سيارة الأجرة، التاكسي، لأنني فقدت القدرة على القيادة بعد حادث الطرق المروّع الذي ضعضع جسدي وأعاد ترتيب قدراتي، حتى ان قصيدتي تتمرد عليّ أحيانا، وتواجهني بصلفٍ استبداديّ لا يطاق: أنا سأقود الآن! ولأنني أحبها حبا غير مشروط، فأجدني في بيت طاعتها منصاعا لإرادتها: اذهبي حيث تشائين وسأكون معك دائما. قودي يا حبيبتي، فالشعراء بأيدي القصائد كما الأعمار بيد الله!
وأسمح لي بأن أقول لك. بصيغة المتكلم وبصيغة المخاطب في آن: اذا شئت ألا تكون خيباتك كثيرة، فلا تصدّق كثيرا مما يقال لك. ولا تعبأ بالأيمان المغلظة فأنت في زمن المراوغين الدجّالين، المندسّين بكثافة مروّعة بين الوجوه والمكنونات.
ولا تنسَ أن العين، هي الأخرى، معرّضة للخديعة. حشد من الأقنعة المتقنة، تضيع فيه الوجوه الحقيقية، بملامحها وبقسماتها الأصيلة.



وأما بعد، فلإسفنجتك رأيها وموقفها الذي أعرفه. انها تمتص ما يدور حولها وتستوعبُ ما يقال ولا يقال، لتصوغ معادلتها العادلة بين الدم والدموع والعرق.
قيل أن المتكلّم هو المخاطب. تتداخل الصيغ وتتشابك الألوان، كما في البريّة، بعيدا عن الحدائق المصمّمة بدقة هندسية صارمة. يتقهقهر المألوف، ولن يكون الظلم والقهر والاستبداد مألوفا. سيظلّ خروجا على القانون الإنساني وتحديا لمجريات الطبيعة البشرية في مختلف عصورها وتصوّراتها وهواجسها وأحلامها. ولن يكون الشرّ من المسلّمات المصحوبة دائما بالإذعان وبالتخلّي.
تلتزم السنابل والزهور وتعرف واجباتها المتحضّرة، في منأى عن البدائية الشرسة ومضاعفاتها وإسقاطاتها المخزية.
وحتى تكون القصائد جديرة بأسمائها فلا بدّ لها من مؤاخاة السنابل والزهور.
واضحٌ هو الكلام، أليس كذلك أيها السيّد الغموض؟ احمل إذًا ضبابك المشبوه وارحل الى حيث شئت خارج دائرتي...
ويظلّ من حقّ الوهم أن يحاور الصورة، لكنه يظلّ عاجزا عن تنفيذها. هنا الصورة. وهنا الهلام. وهنا الحدّ الفاصل بين الجسد والظلّ. نذهب إلى النظرية ونصرُّ على قصورها ومحدودية أبعادها خارج التطبيق. إذًا يُنصب الميزان بكفّتيه، وبالمعاينة والملامسة نتابع رجحان كفة على أختها، مع الرغبة الجامحة في التوازن المثير للدهشة الراضية.
وإذا تفاءَل الحزن فإن الخلاص يبدو قريبا ويغدو قريبا، فما من عقدةٍ تظلّ عصيّة على الحل، وما من حلمٍ يدّعي الاستحالة أو تدّعيه.
ومن هنا ننطلق مرة أخرى في ما ظلّ لنا من زمن وما ظلّ لنا من مسافة.. تفضلّي أيتها السنبلة.. اقبلي أيتها الوردة.. انضجي أيتها التفاحة.. واقترب اقترب أيها النجم الذي يتوهم نفسه بعيدا وبعيدا جدا..
دوخة مفاجئة. أنت في الطريق إلى مقهاك المفضّل في شارع الأنبياء الحيفاويّ. تدنو من أحد أعمدة المنعطف وتسند جسدك إليه محاولا التقليل من شأن هذه الدوخة. لعلّه الإرهاق. لعلّها السجائر. لعلّه الحزن. لكن الله أعدّ لك هذا العمود لتستند إليه. يواصل المارّة تجاوزك دون أي اهتمام. لا أحد يسأل عما ألمّ بك. ولو سألوك فلن تعرف بماذا تجيب. بعض أصدقائك هم من الأطباء وقد يسعفونك في وقت لاحق. بعد انتهاء هذه الدوخة المفاجئة. لو شاهدتك والدتك على هذه الحال لأجبرتك على دخول المستشفى فورا ودون أي إبطاء. سيحاول والدك تهدئة روعها لكنها ستصرّ وستجد نفسك ممدودا بين الأجهزة والأسلاك على سرير المستشفى القريب.
تتلاشى الدوخة. تحسّ بأنك استعدت عافيتك وتوازنك وتواصل السير الى مقهاك القريب. انه على أية حال أفضل من المستشفى القريب.
ترتاح على كُمّك فراشة مهذّبة. أما الطائرة الحربية الشرسة فتخترق زرقة سمائك الخائفة بسرعة الصوت. معجبون حمقى يحاولون تتبّع هديرها. من المجهول إلى المجهول. قطعا. الطائرة الحربية هي شهوة قايين الحادّة الطائشة.
القايينيون الكثر في هذا الدهر القاسي الفظ المظلم يتخذون الطائرة الحربية تميمة لهم. الأمن؟ عن أي أمن يهذرون؟ وفي أي غيٍّ يعمهون؟ تميمتهم تحرق سنبلتهم وتسحق أمنهم الحقيقي. الغفلة. الجهلة. الهمج. السفلة. خلاياهم ضوضاء وملامحهم تلويث للبيئة.
تطير الفراشة المهذّبة الجميلة النظيفة عن كمّك الوديع. ذاهبة إلى وردتها الجديدة الطازجة كقلب صبيّة تستعجل الحبّ لتتأكد من وجودها. في وجودٍ يستدعي شيئا من الحذر، بمثل ما يستدعي كثيرا من الجرأة والأمل والتفاؤل.
نعود من ثمّ الى الأسطرلاب والبوصلة والفرجار، لنعترف بوجود أشخاص آخرين بيننا ومعنا ولنا. يفكّرون ويجتهدون ويبدعون. هذا جميل جدا وراقٍ جدا. فلنصفّق لمنجزاتهم العظيمة ولنقتسم معهم الحلم ورغيف الخبز والتفاحة. إنهم ناس رائعون. قد لا تكون طيبتهم أقلّ من طيبتنا. وقد لا يكون شرُّهم أكثر من شرّنا. إنهم هنا. ولا يحقّ لأحد تجاهل وجودهم وجهودهم. هكذا كنا وهكذا ينبغي ان نكون، منفتحين على دنيا تعجّ بخلائقها وبطرائقها.. برحابها وبمضائقها.. بلحظات الحرج وبإضاءات الفرج. هكذا ينبغي أن نكون حتى نكون كما ينبغي أن نكون.
ونعود من ثمّ إلى الحرف. حرفنا. مصباح المعرفة ومفتاح الجمال. فيه، في هذا الحرف، وُلدنا ووُجدنا وابتأسنا وسعدنا ونهضنا وقعدنا وارتحلنا وعُدنا ووُعدنا أزلا الى أبد ووالدا إلى ولد وروحا إلى جسد إلى روحٍ في جسد.
على نار هادئة يستطيع المرء أن يعدّ طعامه وقهوته أو شايه. أما النار الحامية الوطيس السعير الجحيم جهنّم الحمراء فلا تعمل حسابا للمعايير ولا تعيد النظر لأجل المقادير ولا تحترم الذائقة. تُحرق وتُرمّد وتلغي فحسب. وللمرء من ثمّ أن يتدبّر أمره وأن يتلمّس مخرجه، لو صحّ ان هناك ما يمكن أن يكون مخرجا.
والصوتُ صنوُ النار. للكلمات الهادئة جريُها وللعواطف الرقيقة همسُها. وللمعنى القويّ هديره وللقول الصاخب إيقاعُه. وإلا فسينقلب الصوتُ ورطة يشقّ الخروج منها ويعسُرُ فيها، أصلا، عثور المرء على مخرج. ولا حيدة في جهنّم. وهكذا، فلا حيدة في الصوت.
أما المناطق المائعة الباهتة الضائعة فمفازات ولا فوز، وأجمات وأكمات تتعثر فيها خُطى الكلمات وتشتبك النيران بالأصوات فيذوب الرصاص وتنغلق مسارب الخلاص..
وأنت تؤمن بالله. لا كما يؤمن به محترفو الإيمان. إيمانك علميٌّ معرفيٌّ وليس موضة أو تسليما للموروث ووضعا للرأس بين الرؤوس.
ثمة نظرية علمية تقول إنه لا شيء يأتي من لا شيء. إذًا فلكلّ شيءٍ مكوّنات أصلية وخالق أصليّ. الورقة التي تكتب عليها هي من صنع صانع. وفنجان قهوتك من صنع صانع. وساعة يدك من صنع صانع. وجوربك من صنع صانع. فكيف يكون وكيف يصحّ أن الطبيعة خلقت نفسها وأن الكون هو نتاج تطوّر ذاتي؟
لا بدّ من وجود خالقٍ للوجود. يسألونك: ومن خلق الخالق؟ فتجيب بهدوءٍ وبساطة: لا أعلم. الخالق الذي أومن به لا تدركه المدارك البشرية. إنه خالق لا نهائي ولا محدود ولا يحيط به عقل. هذا الخالق المطلق الصفات والعصيّ على الوصف هو من نسميه الله دون أن ندرك المسمّى.
وتختلف مع محترفي الإيمان في كثير من الأمور المنسوبة لله لكن إيمانك أنت يظل راسخا ويظل علميا ويظل قويا وجميلا إلى يومك الأخير.
لا يقتصد الطبيب النحفاويّ الشاب في معاملتك معاملة حسنة وبشكل إنساني استثنائي، لأنه أصرّ على أن يرى فيك مريضا استثنائيا. كانت تلك المرة الأولى التي تزور فيها عيادته الخاصة، لكنه استقبلك استقبال الأصدقاء القدامى. وليس فقط لأنه طبيب جيد، بل لأنه إنسان جيد أيضا فقد أصرّ على توجهك فورا الى المستشفى لإجراء فحوصات إضافية تؤمنها أجهزة المستشفى الطبية التي لا تتوفر في أية عيادة خاصة.
وتدخل باب غرفة الطوارئ برفقة زوجتك وأبنائك والتقرير الطبي الذي أعدّه الطبيب النحفاوي الطيب والشهم. وغرفة الطوارئ في أيّ مستشفى، وفي كل مستشفى، هي عالم فريد قائم بذاته.
يقودك الممرّض الروسيّ بين صفّين من القواطع القماشية ويُدخلك الى قاطع يتوسطه سرير وتحيط به الستائر.
تتمدّد على السرير منتظرا الطبيب الذي سيكشف عليك ويبتّ في أمرك.. إلى أن يحضر الطبيب تعمل على استكشاف ما يحيط بك. غرفة الطوارئ هي غرفة استقبال وهي محطة تشخيص وتوزيع على الأقسام المختصة. وهي غرفة تصنيف الأمراض – لا المرضى. بيد ان لفظة "الطوارئ" تحمل شحنة خاصة من القلق والمهابة والاستعجال. ومن هنا وقع عليها الخيار دون سواها من الأسماء التي قد تكون أكثر دقة.
وفي غرفة الطوارئ جوٌّ ضاغطٌ مكتظٌ بالحَيرة والترقّب واللهفة. وفيها تسارع لخفقان القلب واحتباس الأنفاس وإحصاء لكل حرف من كلمات الطبيب بعد ما يجريه من فحوص وما يستعمله من أجهزة. وفي غرفة الطوارئ يتأرجح الناس بين الأمل واليأس واليأس والأمل. وأكثر من ذلك، ففي غرفة الطوارئ تظهر لك، ولو للحظات، وجوه رجال ونساء وصغار وكبار بتعابير شديدة الوضوح تحمل الخوف والوجع والشك والضيق وعدم التصديق أحيانا. وقد تفاجأ بوجوه أشخاص تعرفهم، من بلدتك أو من مكان آخر، قريب أو بعيد، فتسأل وتُسأل وتجيب وتُجاب. البعض يتمتمون بكلمات مكثّفة مقتضبة، كأنما يحاولون التملّص من حرج السؤال، أو كأنهم لا يعرفون تماما ماذا أصابهم. اما الآخرون، فلا يكتفون بالقول الحمدلله، مجرد وعكة، لعلّه خير، العلم عند الله، بل يستغلون الفرصة للشرح وللإطناب في تفسير وضعهم الصحيّ، حتى لكأنهم هم الأطباء وهم العارفون ببواطن الأمور.
ويُذهلك أولئك الذين يكفّون فجأة عن الأنين والعنين والأخأخة والتنهد والتأفف، وينقضّون عليك بالإسهاب في توصيف حالهم وأسماء الأمراض والأدوية والأطباء والمستشفيات وصناديق المرضى والممرضين والممرضات والعيادات والأجهزة.
تشعر بشيء من الضّجر جرّاء هذا الاسترسال المملّ، ولا ينقذك أحد سوى الطبيب الذي يحمل إليك نتائج فحصه الأخير للضغط والبول والدم وصور الأشعة والتحاليل والمقارنات.
أنت مستلقٍ على ظهرك. سرير المستشفى ليس سريرا حقيقيا. ليس سريرا عاديا. إنه سرير مستشفى بكل ما يعنيه التعبير. وأنت لا تمارس خيار الراحة هناك. مغلوب على أمرك، لكنك تفكّر في الطرق، الطرق الكثيرة التي مشيت عليها لغرض أو لآخر. والطريق التي تتساءَل عما اذا كنتَ راغبا في السير عليها او أنك تؤثر الابتعاد عنها وتجاهلها مدى ما تبقّى لك من حياة.
قالوا ان كلّ الطرق تؤدي إلى روما، وأنت تصرُّ على أن كل الطرق تؤدي إلى الرامة. ولماذا الرامة؟ لأنها بلدك المتبقية لك من بين جميع البلدان. ولا يجوز لأحد إنكار الحقيقة. حقيقتك هي اختيارك الحرّ للرامة، لتكون بلدك ومستقرَّكَ وعنوانك الأخير على سطح الأرض. وكل الطرق تؤدي الى الرامة لأنك مستمتعٌ بهذا الجناس الرشيق والعذب بين "روما" و"رامة".. ولا بأس في ذلك. لعبة الجناس والطباق قائمة في كل وجوه البشر والكون والطبيعة والحياة والموت، وأنت تعشق هذه اللعبة..
للطرق أسماء، تعرف منها بعضا وتجهل بعضا. وللأسماء طرق. مداخل. منعطفات. مفترقات ومخارج. وباستثناء طريق الآلام (فيا دي لاروزا) الذي "تعرف أن يفضي الى الجلجلة (الجلجثة)، فسيعسُر عليك في بداية طريق جديد عليك، أن تعرف مؤدّاه ومخرجه. الى أين يفضي هذا الطريق؟ كيف لك أن تعلم وأنت تلجه للمرة الأولى في حياتك؟ وللأسماء طرق. هذا صواب على السطح لكنه غير مضمون العواقب. الأسم "جميل"، أو "سعيد" أو "أيمن" أو "نبيل".. هذه الأسماء لها هي الأخرى طرقها، لكنها لا تفضي بالضرورة إلى "الجمال" او "السعادة" او "اليُمن" او "النبل". اذًا فاعلم يا ابن آدم، أيّدك الله بروح منه، ان خطوتك الأولى ليست كفيلة بمحطتك الأخيرة ومستقرّك الأخير. للطرق أسماء. وللأسماء طرق. وخير البداية ليس محصّنا من شرّ النهاية. أما من حيث النوايا فقد تقول هذا هو طريقي وأبدا على هذا الطريق. والله المستعان. ولك ان تذكر الحكمة الصينية القائلة بأن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة... (يتبع)



#سميح_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الى أين نحن ذاهبون (3)
- إلى أين نحن ذاهبون (2)
- الى أين نحنُ ذاهبون؟
- الحقَّ الحقَّ أقولُ لَكُم
- لم أدرِّب نفسي، بعد..
- النظام يريد إسقاط الشعب!
- مكنسة هوفر.. ومكنسة بلاّن، ايضا!
- تعالي لنرسم معاً قوس قزح


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- سلمان رشدي يكشف لـCNN عن منام رآه قبل مه ...
- -أهل واحة الضباب-..ما حكاية سكان هذه المحمية المنعزلة بمصر؟ ...
- يخت فائق غائص..شركة تطمح لبناء مخبأ الأحلام لأصحاب المليارات ...
- سيناريو المستقبل: 61 مليار دولار لدفن الجيش الأوكراني
- سيف المنشطات مسلط على عنق الصين
- أوكرانيا تخسر جيلا كاملا بلا رجعة
- البابا: السلام عبر التفاوض أفضل من حرب بلا نهاية
- قيادي في -حماس- يعرب عن استعداد الحركة للتخلي عن السلاح بشرو ...
- ترامب يتقدم على بايدن في الولايات الحاسمة
- رجل صيني مشلول يتمكن من كتابة الحروف الهيروغليفية باستخدام غ ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سميح القاسم - الى أين نحن ذاهبون؟ (عرض حال)