أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - بورتريه ل ( ع . ف )















المزيد.....

بورتريه ل ( ع . ف )


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4146 - 2013 / 7 / 7 - 00:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عام 1960 كان بداية تعارفنا . عرّفنى عليه صديقى وجارى (أ . م) الذى ترجع علاقته مع (ع . ف) إلى أيام الدراسة فى إحدى مدارس الصنايع الإعدادية. أنا و ( أ. م ) من سكان حى العباسية ، بينما (ع . ف) من سكان شبرا ، ومع ذلك لم ينقطع اللقاء لعدة سنوات . جمعنا نحن الثلاثة حب القراءة (مع صديق رابع اسمه (ج . س) سيأتى ذكره فى بورتريه مستقل . كانت أعمارنا متقاربة. وكنا تحت سن العشرين .
فى عام 1962 تم تجنيد (أ . م) الذى كان من سوء حظه الدفع به (مع غيره من جنودنا) إلى اليمن فى حرب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، التى حلتْ محل الإنجليز بعد الحرب العالمية الثانية. ودخل (ج . س) كلية الزراعة وبدأتْ لقاءاته تقل تدريجيًا .
توطدتْ العلاقة بينى وبين (ع . ف) فكنا نتقابل كل يوم جمعة. فى أسبوع أذهب إلى بيت أسرته فى شبرا ، وفى الأسبوع التالى يزورنى فى بيت أسرتى فى العباسة. استمر ذاك الوضع لعدة سنوات : لقاء البيت يستغرق حوالى نصف ساعة ثم نخرج . نجلس على مقهى ثم نتمشى ، وكنا نفضـّـل المشى على الجلوس فى المقهى .
فى تلك السنوات كنا نتقاسم فى شراء مجلات المسرح والفكر المعاصر والتراث الإنسانى إلخ ونتبادل القراءة . بينما كان كل منا يحرص على اقتناء نسخة خاصة به من الكتب مثل سلسلة عالم المسرح والمسرح العالمى وسلسة (أعلام العرب) وسلسلة الألف كتاب (الأول) إلخ وبعد أنْ عرفنا الطريق إلى (المسرح القومى) صار ذاك المكان ولعنا كلما عَرَضَ مسرحية لتوفيق الحكيم ، نعمان عاشور، ميخائل رومان، محمود دياب، الفريد فرج والمسرحيات العالمية. وكانت متعتنا ونحن نقصد (عن عمد) سور الأزبكية القديم بجوار المسرح القومى . سور الأزبكية أحد أشهر معالم ميدان العتبة ، وأخذ شهرته من باعة الكتب ، ورغم أنّ أغلبهم أميون إلاّ أنهم يتميّزون ب (حس تجارى) يدل على المهارة والذكاء ، فكانوا يتساهلون فى ( الفصال ) مع بعض الكتب ، ولكنهم يتشدّدون مع بعضها الآخر، فكنا نفاجأ بالبائع يحسم المناقشة قائلا (( دا سارتر يا أستاذ )) أو (( دا شكسبير يا أستاذ )) وصحيح أنّ دخلى ودخل (ع . ف) كان ضئيلا ولكن من الصحيح أيضًا أنّ أسعار الكتب فى سور الأزبكية كان مغريُا جدًا بالنسبة للسعر الأصلى للكتاب ، خاصة أنّ تجار تلك المرحلة لم يبتلوا بآفة كشط السعر كما يفعل التجار اللاحقون .
فى تلك السنوات – كما أتذكر جيدًا – كنتُ أنا و(ع . ف) نتناقش فى الكتب التى نقرأها ، سواء فى المسرح أو الرواية أو التاريخ أو الفلسفة. نتفق ونختلف ولكن يجمعنا حب المعرفة. وكان انطباعى أنّ (ع . ف) عقلانى إلى أقصى درجة. وكانت أكثر قراءاته فى الفلسفة. وشديد الإعجاب بكل من هيدجر وسارتر ونيتشه وشوبنهاور. وبجانب ذلك كان يهتم بمتابعة أخبار السياسة المحلية والعالمية. وكنتُ أنبهر بتعليقاته وتحليلاته. وتملكنى انطباع ( حتى وأنا أكتب الآن بعد مرور أكثر من أربعين عامًا على تعارفنا ) أنه سيبرع فى التحليل السياسى . وعندما تعديتُ الخامسة والعشرين كانت لى تجارب فى كتابة القصة والمقال ، فأعرض ما أكتبه عليه لأسمع رأيه. فكان ينتقد ويعترض بحماسة. وعندما يُعجب يكون بنفس الحماسة. ولأنه لم يكتب حرفـًا طوال سنوات صداقتنا ، سألته أكثر من مرة ((إمتا ح تكتب ؟ ويا ترا ناوى تكتب فى أى مجال ؟)) فكان يلوى شفتيه ويرد برد واحد لم يتغير (( لسه بدرى علا الكتابه ))
تميّز(ع . ف) بروح ساخرة أو عقل ساخر( لا أعرف أى التعبيريْن الأصوب ) فكان يسخر من أقرب الناس إليه كما يسخر من الأغراب . وكان له تعبير لا أنساه عندما كنا نمر أمام المساجد وقت صلاة الجمعة ، فكان يقول (( تفتكر إحنا ممكن نتقدم طول ما فيه ملايين رافعين مؤخراتهم للسما ؟ )) وعندما كنتُ أعترض على كلماته كان يُفحمنى قائلا (( لما إنت بتعترض علا كلامى ما بتروح ش تعمل زيهم ليه ؟ )) فكنتُ أبلع سخطى ولا أعرف بماذا أرد عليه. وأتذكر أنه حكى لى عن والده (شاويش فى مرفق المطافى) الذى كان إفطاره – غالبًا – فته ولحمه ورز. وأسأله (طيب والغدا ؟) فيُبدّل فى وضع الكلمات ليقول ((رز ولحمه وفته)) وعندما لاحظتُ أنّ موضع كلمة (اللحمه) فى المنتصف ولا تتغيّر قال ((اللحمه هىّ الأساس والأساس ما بيتغيرش)) وكنتُ لا أعرف مقدار الصدق من المبالغة عندما قال لى أنّ كمية اللحمة نصف كيلو أو فرخة أو نصف بطة. ولكننى بدأتُ أميل إلى تصديقه عندما رأيتُ والده . مارد فى شكل إنسان ، سواء فى الطول الفارع أو الحجم الضخم . ووصف لى صديقى (القبقاب الخشبى) الأثرى الذى يرتديه والده ، وشكوى السكان وخوفهم من تصدع البيت أثناء حركته بالقبقاب . ورغم تجهم الأب (الظاهر) إلاّ أنه كان ساخرًا مثل ابنه ، فكان يسخر من ((الناس الهبل اللى بتضيّع فلوسها علا الكتب)) ولكنه كان كريمًا فأصرّ أكثر من مرة على أنْ أشاركه (الفته واللحمه والرز)) وبالرغم من أنّ الأب كان ماردًا فى الطول ، فإنّ صديقى كان قصيرًا ولكنه ورث حجمه الضخم .
فى نهاية الستينيات تزوج صديقى (ع . ف) وقبل موعد الزفاف بأسبوع فوجئتُ به يعرض علىّ التنازل عن (كل) الكتب فى مكتبته. كان صريحًا فاعترف لى أنّ التخلص من الكتب أحد شروط العروسة الأساسية. وأنه شرط لا تراجع عنه. وعندما رفضتُ عرضه قال إنه سيتفق مع أحد تجار الكتب فى سور الأزبكية على شراء المكتبة كلها . وحاول إغرائى بأننى ( الأوْلى ) بهذه الكتب وهى (هدية) منه لى ، وأننى سأندم فيما بعد وأنه لا يطلب منى أى مقابل مادى . وعندما أصررتُ على الرفض نفذ ما قال . وكما جاءتْ معظم الكتب من سور الأزبكية ، عادتْ من جديد إلى سور الكتب العظيم .
استمر اللقاء الأسبوعى لمدة عام تقريبًا بعد زواجه.
فى أوائل السبعينيات أصدرتْ فصائل اليسار المصرى من الأحزاب الشيوعية (السرية) المطبوعات التى توزع سرًا لفضح الرئيس السادات ، الذى كان يُماطل فى استرداد سيناء . كما تم اعتقال العمال الشيوعيين المُشاركين فى الحركة الوطنية والمُطالبين بضرورة الحرب ضد إسرائيل لتحرير كامل التراب الوطنى ، وفى نفس الوقت كانوا يُدافعون عن الطبقة العاملة.
كان صديقى (ع . ف) يعمل بالاعدادية الصناعية فى إحدى شركات القطاع العام . عرضتُ عليه توزيع بعض مطبوعات فصائل اليسار. تصوّرتُ أنه سيُرحّب بالعرض ، إلاّ أنه فاجأنى بالرفض القاطع ، ثم الدخول فى حالة تدين تـُعلن عن نفسها بكل أشكال السلوك والطقوس ، وعندما ذكـّرته بسخريته من طقس الصلاة ومنظر المُفترشين الأرض أمام المساجد أيام الجُمع ، لوى شفتيه وقال أنه كان فى ((جاهلية عصرية)) فى الأسبوع التالى مباشرة لم يحضر فى موعد اللقاء . زرته فى بيت الزوجية. اعتذر بشكل مهذب عن اللقاء الأسبوعى ، فكان ذاك الاعتذار التمهيد للمقاطعة النهائية.
كلما تذكرتُ صديقى (الذى كان) يلح علىّ سؤالان : الأول لماذا رفضتُ عرضه بالتنازل لى عن مكتبته ، خاصة وكان بها مجلد (الوجود والعدم) لجان بول سارتر، ومعظم مؤلفات نيتشه وهيدجر وشوينهاور، وكتب التراجم عنهم، وكذا الأعمال الكاملة لشكسبير ومجلدة تجليدًا فاخرًا ؟ هل هى مثاليتى المُفرطة التى صوّرتْ لى قبول عرضه كأننى أقتطع جزءًا من لحم صديقى ؟ وبعد مرور أكثر من أربعين عامًا على ذاك المشهد أسأل نفسى : هل كنتُ على صواب عندما رفضتُ عرضه؟ أم كان علىّ قبول ذاك العرض ، خاصة وأنه أصرّ على تذكيرى بأنّ تاجر الكتب سيحصل عليها ((بتراب الفلوس)) ؟ ولو تكرّر المشهد – بعد كل تلك السنوات – ماذا سيكون رد فعلى ؟ هل سيكون مختلفـًا ؟ وكيف يكون الاختلاف وأنا لم أتخلص من مثاليتى المفرطة ؟ ذاك هو السؤال الأول الذى تخلقت منه عدة أسئلة لا أجد لها إجابة.
أما السؤال الثانى الذى يُلح علىّ فهو : لماذا رفض صديقى (الذى كان) توزيع مطبوعات فصائل اليسار على عمال الشركة التى يعمل بها ؟ وهل لهذا الرفض علاقة بمظاهر تدينه المُفاجىء الذى اعتمد فيه على إبراز السلوك العلنى والطقوسى؟ وكيف وهو من العمال يرفض مساندة مطالب الطبقة العاملة الاقتصادية للارتفاع بمستواهم المعيشى؟ وكيف وهو الذى كان يُجاهر أمامى بإدانة إحتلال إسرائيل لسيناء بعد هزيمة بؤونة/ يونيو67يرفض توزيع المطبوع المُندّد بالإحتلال ويُطالب باسترداد سيناء ؟ تلك الأسئلة مربوطة برباط واحد : كيف لمن قرأ الأدب العالمى والفلسفة تنتهى حياته إلى الاختباء فى كهف التدين ؟ وبغض النظر عما إذا كان شكليًا وسطحيًا ومظهريًا أم عكس ذلك ؟ وكيف لإنسان أحبّ الأدب العالمى والفلسفة والتاريخ وقرأ بنهم ومتعة ، ومع ذلك لم يكتب حرفـًا فى أى مجال؟ وهل تفريطه فى كل كتبه بسبب شرط العروسة ؟ أم أنّ شرطها التقى مع تركيبته النفسية والعقلية ؟ وكيف لإنسان عقلانى يتحوّل إلى كائن مطيع كأى دابة على الأرض؟ وكيف للساخر والناقد المُعترض على الواقع يستسلم ويتقوقع داخل أضيق جحور ذاك الواقع؟ وهل السبب / الأسباب تكمن فى طبيعة النفس البشرية التى تـُفرّق بين إنسان وإنسان ؟ بين إنسان يرفض التكلس والعفن والتكيف والقبح ، فيتمرّد لتغيير الواقع إلى الأفضل والأرقى ، وإنسان لا يشعر بالقبح فيتشكل به ويصير جزءًا منه. السؤال الثانى تخلقتْ منه عدة أسئلة لا أزعم أنى أجد إجابة عليها ، وإنْ كنتُ أعتقد أنّ صياغتى للأسئلة تتضمن (مفاتيح) للإجابة. كما أعتقد أنّ حالة (ع . ف) تدخل فى باب علم النفس أكثر من أى علم آخر.
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيسى حفيد حور- إم - حب
- الحداثة والإسلام نقيضان لا يلتقيان
- نص عبرى / حداثى
- اعتذار للأستاذ أحمد الخميسى
- الحضارة المصرية وأصل الموسيقى
- العلاقة بين الآثار والسياحة
- أحمد الخميسى يفتح كنوز أوراقه الروسية
- وعد بالفور بالمصرى
- العرق والدين آفتان للتعصب
- أحادية الفكر
- التنفس بالقصبة الهوائية العبرية
- الأصل المصرى لقصة سندريلا
- علم الآثار والأيديولوجيا العروبية / الإسلامية
- دراما حياة ومأساة فيلسوفة مصرية
- مغزى مصطلح ( إسرائيليات )
- توضيح وشكر
- شكر للأستاذ Jugrtha
- حصان طرواده والأربعين حرامى
- الدين والفلسفة : علاقة إتساق أم تعارض ؟
- التعصب العنصرى والخصوصية الثقافية


المزيد.....




- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...
- إيهود أولمرت: إيران -هُزمت- ولا حاجة للرد عليها
- يهود أفريقيا وإعادة تشكيل المواقف نحو إسرائيل
- إيهود باراك يعلق على الهجوم الإيراني على إسرائيل وتوقيت الرد ...
- الراهب المسيحي كعدي يكشف عن سر محبة المسيحيين لآل البيت(ع) ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - بورتريه ل ( ع . ف )