سليمان يوسف يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 1179 - 2005 / 4 / 26 - 10:22
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
سوريا الواقعة بين مطرقة الأزمة اللبنانية وسندان الحالة العراقية، تواجه في هذه الأيام ضغوط إقليمية و دولية كبيرة، تهدد أمنها واستقرارها السياسي والاقتصادي، جعلت تمر ذكرى التاسعة والخمسين لاستقلالها السياسي، عن المستعمرين الفرنسيين، الذي يصادف في السابع عشر من نيسان،هذا العام على الشعب السوري، بخلاف السنوات السابقة، حيث اختفت المهرجانات الخطابية والمسيرات الجماهيرية التي كانت تعم المدن والبلدات السورية والتي كان ينظمها ويقيمها حزب البعث الحاكم بهذه المناسبة، كما في كل المناسبات، ليتحدث عن منجزات ثورته الانقلابية وعن حالة الاستقرار السياسي الذي تنعم به سوريا في ظل حكمه. لهذا، يتسارع السوريون، ومنذ أشهر، الى وسائل الإعلام والفضائيات لمتابعة تطورات الوضع اللبناني والحالة العراقية لما لهما من تأثيرات مباشرة على الوضع السوري.
في السابق، وكما هو معروف، كانت المسيرات الشعبية والوطنية، بالمناسبات وبدون مناسبات، من اختصاص وحق حزب البعث الحاكم وحده دون غيره من الأحزاب السورية، لكن هذا العام، و بينما الرفاق البعثيين، منشغلين بانتخاباتهم التحضيرية لمؤتمرهم القطري العاشر والمقرر عقده في حزيران القادم- وقد يكون الأخير في تاريخ (البعث) كحزب حاكم- شهدت بعض المدن السورية، وعلى غير عادتها، مسيرات واحتفالات متميزة بعيد الجلاء نظمتها قوى سياسية أخرى. ففي مدينة القامشلي، في أقصى الشمال الشرقي على الحدود العراقية التركية، التي وقعت فيها أحداث عنف دموية في آذار 2004، نظمت، بتاريخ 16من نيسان الجاري، مسيرة شعبية وطنية، دعت اليها ( اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين)رفع فيها العلم الوطني والعلم الأحمر الشيوعي وغابت عنها صور رئيس الجمهورية بشار الأسد، وقد شارك فيها العديد من القوى والأحزاب السياسية، الآشورية والكردية وشخصيات وطنية وهيئات مدنية من مختلف الطيف القومي والاجتماعي والسياسي في المدينة، التي تتميز بتنوع سكانها، حيث يعيش فيها خليط من العرب والآشوريين( سريان/كلدان) والأكراد والأرمن و اليزيديين.
تأتي أهمية هذه المسيرة، بالرغم من تواضعها ومحدودية المشاركة فيها، من أهمية وطبيعة المرحلة الحساسة التي تمر بها سوريا من جهة أولى ، ومن الدلالات السياسية للشعارات والهتافات التي رفعت فيها من جهة ثانية، من هذه الشعارات: ((...لا للفتنة نعم للوحدة الوطنية..... أبناء الجزيرة، عرباً وكرداً وآشوريين وأرمن أخوة في التاريخ والمصير.... لا للتهديدات الخارجية ضد بلادنا....الآن.... الآن وليس غداً يجب البدء بالإصلاح الوطني الشامل....الإسراع في حل مشكلة الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة ضرورة وطنية وديمقراطية... إزالة الأحكام العرفية..... محاربة الفساد ضرورة وطنية... لا للغلاء. سوريين... سوريين، عرب أكراد آشوريين، بدنا وحدة وطنية من القامشلي للجولان ... بدنا نحكي على المكشوف.. فساد ورشوة ما بدنا نشوف ... صار بدنا قانون أحزاب ...عز وكرامة عيشة هنية للأجيال.... سوريين سوريين، عرب أكراد وآشوريين ....)). فهذه الشعارات والخطابات تبدو جديدة وغير مألوفة في الشارع السوري، لذلك فهي جديرة بالتوقف عندها. فمنذ استلام حزب البعث السلطة في آذار 1963 لأول مرة تشهد الشوارع السورية، مثل هذه المسيرة الغير بعثية، ومن دون أن ترفع فيها صور رئيس البلاد، ومن غير أن يجبر الناس على المشاركة فيها وحمل أعلام حزب (البعث العربي الاشتراكي)(قائد الدولة والمجتمع) وعلى ترديد شعاراته وخطاباته الثورية، من غير أن يهدد بالطرد من الوظائف أو النقل الى المنافي الداخلية، كل من يرفض أو يعترض على ذلك، كما كان يعمل ، في السابق، الرفاق البعثيين المحصنين بالشرعية الثورية الانقلابية والمدججين بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية.
فهذه المسيرة، بشكلها ومضمونها، شكلت تحول مهم في تاريخ المسيرات السورية، فهي كسرت التقليد السائد في الشارع السوري وتجاوزات تلك الشعارات البعثية والقومية التقليدية،الرنانة و الرومانسية،التي سئمها الشعب السوري، من غير أن يتحقق شيء منها، إذ لم نسمع أحد يردد: (( بعثية هيه.... هيه، من المحيط الهادري الى الخليج الثائري، وحدة... حرية... اشتراكية.... عروبة ... عروبة ... عروبة، بالدم بالروح نفديك يا.......، الى الأبد... الى الأبد يا .....)) إذ اختفت هذه الشعارات، المثيرة للمشاعر والمخدرة للعقول، لتحل مكانها شعارات وخطابات أخرى مختلفة عنها، مع تحفظنا على بعضها، لكن بعموميتها جاءت، منسجمة مع الواقع وقريبة أكثر من نبض الشارع السوري. إذ لأول مرة، ومنذ عقود طويلة نسمع ، في الشارع، من ينادي ويطالب علناً بمحاربة الفساد وبالديمقراطية وبقانون الأحزاب وتحسين المعيشة ويقول: ((لا للنهب ولا للأحكام العرفية)) من غير أن تعترضهم وتعتدي عليهم رجالات الأمن والمخابرات وحراس البعث الحاكم. وقياساً على المسيرات البعثة السابقة، كانت هذه المسيرة المتواضعة، أشبه بتظاهرة احتجاجية على استمرار الأحكام العرفية وعلى الوضع السياسي والاقتصادي القائم، وعلى حالة الفساد المتفشية في المجتمع السوري، أكثر من كونها مسيرة احتفالية بيوم الاستقلال، حيث أفصحت شعارات وخطابات المتظاهرين ، عن هشاشة (الوحدة الوطنية) التي مازال الكثير من البعثيين، وغير البعثيين، يتغنى بها و يعتبرها من أهم الإنجازات السياسية التي حققها حكم البعث، لكن أن نرى و نسمع، بعد قرابة ستة عقود على الاستقلال الوطني لسوريا- منها أكثر من أربعة عقود تحت حكم البعث- الجماهير السورية وهي تردد في الشوارع: (( لا للفتنة... نعم للوحدة الوطنية... البدء بالإصلاح الوطني الشامل...)) لهو الدليل، على ضعف الاندماج في العلاقة الوطنية بين مختلف المكونات، الاثنية والدينية والمذهبية والثقافية والسياسية، التي يتكون منه المجتمع السوري، فمن دون شك، هذه الشعارات تعبر/ تعكس عن وجود خوف وقلق لدى السوريين من حدوث انتكاسات أمنية جديدة، مع استمرار حالة الاحتقان السياسية والاجتماعي في المجتمع السوري، ومراهنة السلطة على الاجراءات الأمنية وحدها، في معالجة ومقاربة قضايا ومشاكل السوريين، وابتعادها عن الحلول السليمة والخطوات الديمقراطية المطلوبة لتخفيف هذه الاحتقانات.
هل ستكون هذه المسيرة (القامشلية)- نسبة لمدينة القامشلي- بداية، لمسيرات وطنية أخرى أكثر حرية وديمقراطية وصراحة في الشعارات والهتافات يشهدها الشارع السوري ، تنظمها أحزاب سياسية سورية، عربية و آشورية و كردية، في المستقبل القريب وفي مناسبة وطنية أخرى؟ وهل دخل الشعب السوري، في عيد الاستقلال التاسع والخمسين، مرحلة الجمهورية الجديدة المستقلة عن حكم البعث . سألنا هذا السؤال لبعض المشاركين في هذه المسيرة أغلبهم شكك بحصول مثل هذا التطور في سوريا على المدى المنظور، وربط بعضهم بين هذه المسيرة، وبين الظروف والأوضاع الخارجية الصعبة المحيطة بسوريا من جهة، وبرضا السلطة السياسية على هذا (الفصيل الشيوعي) - المنشق الخامس عن الحزب (الشيوعي السوري) الأم، بقيادة (العائلة) التاريخية (البكداشية) الخالدة المتربعة على كرسي الزعامة منذ تأسيس الحزب عام 1924- المنضوي في الجبهة الوطنية التي يقودها حزب البعث، من جهة أخرى.
لا شك،انتقادنا لحزب البعث الحاكم ووقوفنا الى جانب هذه (المسيرة الشيوعية) لا يعني ولا يعكس مطلقاُ موقفاً سياسياً مؤيداً للحزب الشيوعي السوري في توجهاته السياسية أو أنه البديل المناسب لحزب البعث. فالشيوعيين، كالرفاق البعثيين، ما زالوا، أسيري أيديولوجيتهم الشمولية وعقليتهم الإقصائية وفرض إرادتهم على الآخرين، متمسكين بأعلامهم الحمراء( رمز الإرهاب الثوري) التي اختفت عن سماء موسكو (معقل الشيوعية) بسقوط (الاتحاد السوفيتي). ومازالت أميركا، القوية وسيدة العالم، بالنسبة لهم عدوهم التاريخي وعدوة الشعوب، لذلك فهم مصرين على محاربتها وإلحاق الهزيمة بها، من خلال ذات المفاهيم والشعارات القديمة والإيديولوجية المهزومة، فقد كانت حناجرهم تصدح، في هذه المسيرة، ببعض الهتافات الهزيلة(( بدنا نحكي عل المكشوف...أميركا ما بدنا نشوف... شيلوا... شيلوا... السفارات... ما بدنا اتفاقات)) هكذا الرفاق الشيوعيين قد تجاوزوا في شعاراتهم وطروحاتهم القومية كثيراً شركائهم البعثيين بالحكم، فهم ضد كل أشكال الوجود الأمريكي في المنطقة، وضد أي اتفاقيات سلام تحل مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي المزمن والذي أنهك شعوب المنطقة، مادياً وسياسياً، حيث بحجة هذا الصراع تهدر مليارات الدولارات وتفرض قوانين الطوارئ والأحكام العرفية وتقمع الحريات.
سليمان يوسف يوسف... كاتب سوري آشوري...
#سليمان_يوسف_يوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟