سليمان يوسف يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 934 - 2004 / 8 / 23 - 11:58
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
بالرغم من كثرة المآسي والمحن التي حلت بالمسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، بفعل الحروب الطويلة بين الامبراطوريات المتنافسة على حكم هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم القديم والسيطرة عليها،حافظ مسيحيون المشرق على وجودهم وحضورهم المتميز. لكن مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وفي ظل التحولات السياسية والثقافية والدينة والاقتصادية الاجتماعية التي فرضها على شعوب المنطقة، بدأ ينحسر الوجود المسيحي شيئاً فشيئاً، حتى تلاشى من مناطق عديدة في الشرق، (الشمال الأفريقي)، و(الخليج العربي) وفي (تركيا)-التي تضم مناطق واسعة من أرمينيا وبلاد ما بين النهرين وسوريا،كانت تشكل مركز الثقل المسيحي في الشرق،خاصة (انطاكيا السريانية) السورية، كانت عاصمة (العالم المسيحي) القديم- كادت أن تنقرض المسيحية منها، بسبب ما ارتكبته السلطة العثمانية، في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،من مجازر جماعية ، و ممارسة أبشع سياسية تطهير عرقي عرفها التاريخ البشري بحق مسيحيي السلطنة، وكانوا بمعظمهم من الأرمن والسريان(الآشوريين) .ولا تتجاوز نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط اليوم 10% من نسبة السكان ، معظمهم في مصر ودول بلاد الشام والعراق.وفي فلسطين، مهد المسيحية، لا تتجاوز نسبتهم 3% من نسبة سكان العرب المسلمين، في سوريا كانت نسبة المسيحيين في بداية عهد الاستقلال 35% أما اليوم هي بحدود10%، والخط البياني لعدد المسيحيين في الشرق العربي الإسلامي هو في هبوط مستمر بسبب نزيف الهجرة وعمليات التهجير.وفي ظل استمرار توتر الأوضاع الأمنية في أكثر من دولة مشرقية، بات وضع مسيحيي الشرق مرشح لمزيد من التدهور والتردي.
أمام هذه التحولات الدراماتيكية في واقع وأحوال مسيحيي المشرق، هل سيكون مصير (المسيحية) في
هذا الشرق،الذي منه انتشرت في كل أنحاء العالم، كمصير (اليهودية)، الانحسار ثم الانقراض...؟. طبعاً من الخطأ النظر الى وجود إسرائيل (الدولة العبرية) على أنها امتداد وتواصل تاريخي طبيعي، لأتباع (الديانة اليهودية) التي ظهرت في فلسطين، وإنما هو في حقيقته وجود سياسي لكيان قومي عبري مصطنع، نشأ بفعل قوى وعوامل خارجية، في ظروف كاد أن يتلاشى الوجود اليهودي من فلسطين.
لقد ايقظت تفجيرات (الكنائس) في كل من بغداد والموصل، يوم الأحد 1-8-2004 أثناء صلاة القداس الإلهي، والتي دفعت بالآلاف من المسيحيين العراقيين لمغادرة وطنهم العراق.الذاكرة التاريخية الحزينة والأليمة جداً لـ(مسيحيي) الشرق الأوسط عامة، ولمسيحيي العراق خاصة، حيث جاءت هذه التفجيرات في شهر آب، شهر المذابح والمجازر الجماعية التي نفذها الجيش العراقي، بحق المسيحيين العراقيين في (سيميل) وباقي القرى الآشورية/ السريانية/ الكلدانية، في سهل نينوى، في الثلاثينات من القرن الماضي اثناء سحقه انتفاضة الآشوريين المطالبين بحقوقهم القومية والوطنية داخل الدولة العراقية.كما أن تفجير الكنائس العراقية، أعاد طرح قضية (الوجود المسيحي) في دول المشرق العربي الإسلامي، للبحث والنقاش من جديد، من قبل العديد من الكتاب والباحثين، ووسائل الإعلام العالمية والاقليمية، فقد نشرت جريدة (النهار) مقالاً للأستاذ:(جهاد الزين)، في ثلاث أجزاء 10و11و12آب، ألقت الضوء على ((الديمغرافية المسيحية)) المتأزمة في الشرق، وقد ربط الكاتب أزمة الأقليات المسيحية بالواقع المأزوم للأكثرية المسلمة والمخنوقة، كما أكد على أهمية تعزيز الوجود المسيحي في المنطقة وازدهاره، لحماية هذا الوجود من الانقراض، واعتبره واحدة من بين أهم ثلاث(قضايا فوق سياسية) يجب أن تتصدر استراتيجية الإصلاح في دول المنطقة. كذلك كتب: د. سيار الجميل، في جريدة (ايلاف) الالكترونية مقالاً بعنوان(( لنقرع الأجراس في الدفاع عن وجود المسيحيين العراقيين ومصيرهم))، وقد حذر في مقاله من المشاريع الدينية الإسلامية المرعبة التي تطرحها التنظيمات الأصولية الإسلامية، ونبه الى مخاطر هذه المشاريع على مسيحيي العراق الذين هم مكون أساسي واصيل من مكونات المجتمع العراقي.
لا شك أن قضية معاناة واضطهاد (مسيحيي المشرق)، لم تعد (قضية سياسية) بالمعنى التقليدي للكلمة، لأنها لا ترتبط بشكل مباشر بطبيعة الأنظمة الحاكمة، وهم لا يشكلون تهديداً أمنياً أو سياسياً لأوطانهم، إذ لا يؤلف (المسيحيين) كتلة سياسية واحدة متجانسة- كما هو الحال بالنسبة للمجموعات الإثنية والقومية- فليس للمسيحيين مشروعاً سياسياً معيناً،لا على المستوى الإقليمي ولا المحلي، ككيان (قومي مسيحي)، طبعاً لا يعني وجود مثل هذا المشروع انه ممكن التحقيق.لكن، من دون شك، أن قضية(مسيحي المشرق)، هي من أكثر قضايا المنطقة تعقيداً وإشكالية، ، لأنها ترتبط بشكل أكثر بتركيبة وبنية مجتمعات المنطقة وبالموروث الثقافي والاجتماعي والديني لشعوبها، أنها ملتصقة بالأيديولوجيات (اللا مساواة)، (الدينية والسياسية والقومية) السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية وهي ايديولوجيات تستند بمعظمها الى، نظاماً سياسياً ودينياً واجتماعياً، أقامه الإسلام، يقلل من شأن غير المسلمين وينتقص من حقوقهم المدنية والوطنية.إن قضية (مسيحيي الشرق)، هي قضية أخلاقية ثقافية، أكثر مما هي (سياسية)، فهي تطرح اشكالية(التعايش) بين (الدين الإسلامي) و الأديان الأخرى.فهناك خشية حقيقة من أن يكون مصير مسيحيي المنطقة، تحت ذريعة التواطؤ والتعاطف مع الغرب، كمصير اليهود، الذين تهموا بالتواطؤ مع الحركة الصهيونية ، حيث كان يترجم غضب الجماهير الإسلامية اثناء الحروب العربية الإسرائيلية الى احتجاجات شعبية معادية لليهود، وقد تسبب،النزاع العربي الإسرائيلي، في اخلاء المنطقة من اليهود. ويبدو أن المشهد ذاته بدأ يتكرر مع ما تبقى من (مسيحي المشرق)،فقد بدأت الحملة الأمريكية البريطانية، تلقي بظلالها على العلاقة بين الأقليات المسيحية والأكثرية المسلمة في المنطقة، وبدأت تنقلب ردة فعل التيارات الإسلامية المتطرفة، على الحرب الأمريكية في العراق، ضد مسيحيي العراق أنفسهم الذين هم عراقيين قبل أن يكونوا أي شيء آخر، لكن، لهذه التنظيمات الإسلامية، رأي آخر، فهم(المسيحيين) كل مسيحيي العالم، أذناب لأمريكا و للغرب المسيحي وامتداداً له، لذا يجب التخلص منهم. ولأجل زج أكبر عدد ممكن من مسلمي العالم في هذه المعركة بدأت التنظيمات الإسلامية بحملة تضليل إعلامية كبيرة- تدعمها وتناصرها الكثير من وسائل الإعلام والأحزاب والمؤسسات،العربية والإسلامية- تصور الحملة الأمريكية، في العراق على أنها، حرب صليبية جديدة، يشنها الغرب المسيحي على الإسلام والمسلمين.
هل تشكل الحالة العراقية الراهنة، ظاهرة طارئة عابرة واستثنائية في حياة مسيحيي الشرق...؟ هذا ما نتمناه. لكن المشهد العراقي يمكن له أن يتكرر في هذه الدول، لأنها دول مأزومة،وهي تحمل في بنية نظامها السياسي،الاقتصادي،الاجتماعي،الثقافي، معظم عوامل الانهيار والسقوط، إما بفعل عوامل داخلية أو تحت الضغوطات الخارجية،كما حصل للعراق، عندها لن يكون حال مسيحيي هذه الدول أفضل من حال مسيحيي العراق، خاصة في ظل تراجع وانحسار القوى الليبرالية الديمقراطية والحركات التقدمية العلمانية في المنطقة، وتصاعد وتنامي الحركات الأصولية الإسلامية المتشددة التي تطرح العودة الى الدولة الإسلامية. ولا أظن أنه سيغير من واقع المسيحيين في المنطقة، انخراط العديد من النخب المسيحية في الأحزاب الوطنية والحركات الديمقراطية، في دول المنطقة وتبوء بعضهم مناصب قيادية في هذه الدول، لأن الشعور العام السائد في الشارع العربي والإسلامي هو شعور ديني اسلامي من النوع المتعصب والمتطرف، حتى داخل الكثير من الأوساط والنخب السياسية ذات التوجهات القومية، في السلطة والمعارضة. لبنان كان ينظر له على أنه أكثر الدول استقراراً وديمقراطية في المنطقة ومثالاً للتعايش الإسلامي المسيحي، عاش تحت وطأة حرب أهلية مدمرة، امتدت سبعة عشر عاماً،- لم تنته أسبابها وآثارها بعد- بمجرد حصول تغيير ديمغرافي لصالح المسلمين وشعورهم بامكانية تغيير طبيعة النظام اللبناني القائم.
إن الحفاظ على المسيحيين وحماية وجودهم في دول المشرق الإسلامي، يرتبط أولاً: بوجود رغبة وإرادة اسلامية حقيقة، ببقاء مسيحيي الشرق بينهم، دون قيد أو شرط. ثانياً: وضع برامج تثقيفية، ومناهج تربوية وتعليمية وطنية شاملة، تنشر ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية، مناهج تعمل على تغيير نظرة الإنسان المسلم الى الانسان المسيحي، من نظرة غريب الى نظرة شريك له في الدنيا والآخرة، نظرة تنطلق من أن أحداً لم يختار دينه وانما هكذا وجد نفسه.ثالثاً: بوجود أنظمة سياسية واجتماعية ديمقراطية علمانية، تفصل الدين عن السياسة، تعيد الإسلام الى المسجد، مثلما اعيدت المسيحية الى الكنيسة في الغرب.أنظمة تجسد مفهوم الدولة الوطنية، وتشعر المسيحيين بانهم اعضاء حقيقيين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة بالتساوي مع باقي فئات المجتمع دون تمييز أو تفضيل.
بلا شك هذه معادلة صعبة التحقيق في المجتمعات الاسلامية- على الأقل على المدى المنظور- لأن نظرة وفلسفة الإسلام الى الكون والإنسان، تختلف عن نظرة وفلسفة المسيحية.لهذا نجد ان هجرة غالبية المسيحيين هي باتجاه الجغرافيان الى اميركا والغرب الديمقراطي، حيث الحريات وفرص العمل والديمقراطية، أما هجرة غالبية المسلمين هي باتجاه التاريخ والعودة الى الماضي وصولاً الى الدولة الإسلامية الأولى.
كلمة أخيرة:
إن تلاشي المسيحيين من دول المشرق العربي الإسلامي، يعني انسداد أفق الحوار المسيحي الاسلامي، وتراجع حوار الحضارات لصالح صدام الثقافات.
#سليمان_يوسف_يوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟