أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - ميثم الجنابي - فلسفة الثقافة البديلة في العراق -3 من 4















المزيد.....


فلسفة الثقافة البديلة في العراق -3 من 4


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1173 - 2005 / 4 / 20 - 12:05
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


شكلت الأخلاق وما تزال المعيار الذي لازم ويلازم كل الأحكام التي ترمي إلى تأسيس ما يمكنه أن يكون مصدرا له مرجعيته بالنسبة للعقل والضمير الفردي والاجتماعي. وهو الأمر الذي عادة ما يعطي للأخلاق صفة المركزية الروحية بالنسبة للتقييم العملي والسلوكي للفرد والجماعة والأمة والدولة. وهو حكم له أسسه الواقعية والفعلية. فالأخلاق هي ليس فقط مصدر الإلهام الروحي للعمل، بل ومقياسه الواقعي ومعيار الحقيقي. وليس مصادفة أن تتخذ الأخلاق مظهر المقياس العام لمعرفة مستوى ارتقاء الأمم والحضارات. بحيث تحولت إلى مرآة ترى فيها الأمم حقيقة ذاتها ومستوى اقترابها أو ابتعادها عن المثال الأعلى. بل يمكن الجزم بان تاريخ الأمم والحضارات هو من حيث الجوهر تعبير عن مستوى ارتقاء وجودها الروحي ووعيها الذاتي. وهو موقف له ما يبرره من الناحية العقلية والعملية وذلك لما للأخلاق من قيمة لا يمكن للوعي الذاتي الإنساني أن يتبلور ويتطور ويؤثر بدونها.
فالأخلاق هي المؤشر الروحي العميق على حسن السلوك أو قبحه، أي انها المعيار الظاهر والباطن على حقيقة الأفعال. وبما أن كل ما في الكون فعل، من هنا يمكننا القول، بان لكل فعل معياره الأخلاقي. وبالتالي فان للثقافة معاييرها الأخلاقية أيضا. وليس هناك من معيار أخلاقي للثقافة أعلى وأكبر من تحول الأخلاق نفسها إلى مرجعية علمية وعملية للثقافة. وقد يكون من الصعب حصر ماهية المرجعية الأخلاقية للثقافة في قواعد عمل ثابتة لا تقبل التغير، الا انها ممكنة من الناحية المجردة والعملية ضمن المبدأ العام القائل بضرورة الإبداع حسب معايير الحق الأخلاقي. وهي معايير متبدلة ومتغيرة الا انها ثابتة من حيث موقفها المتجرد في الدفاع عن الحقوق العامة والخاصة بما يتناسب مع القانون والمصالح الوطنية العليا. وفي ظروف العراق الحالية لا يعني ذلك سوى العمل من اجل تأسيس وبناء الدولة الشرعية ومؤسساتها وكذلك النظام الديمقراطي والمجتمع المدني.
ذلك يعني أن المرجعية الأخلاقية في ظروف العراق الحالية ينبغي أن تكون مرجعية عملية سياسية اجتماعية تهدف إلى توسيع نطاق ومضمون الدفاع الشامل عن حقوق الإنسان الشاملة. وهي مهمة نقدية ورفيعة المستوى في نفس الوقت، بوصفها مواجهة مستمرة مع النفس أولا وقبل كل شئ، من اجل تحريرها من قيود الالتزام الضيق بالمصالح الضيقة مهما كان نطاقها حزبي أو جهوي أو قومي أو طائفي أو قبلي أو عائلي. بمعنى التحرر من مختلف أشكال وقيود البنية التقليدية.
إذ لا يعني الروح الأخلاقي في الثقافة سوى الروح الساعي من اجل ترسيخ قيم العدالة الشاملة والحرية الاجتماعية. وهو المقصود بمضمون تحول الروح الأخلاقي إلى مرجعية عملية سياسية اجتماعية. إذ لا يعقل تخلي الثقافة من مهمة بناء الأخلاق العقلانية والعملية، بوصفها أحد الأركان الجوهرية بالنسبة للثقافة الوطنية والقومية. بل هي أحد المكونات الأساسية لفكرة الدولة بشكل عام والدولة الشرعية بشكل خاص. وهي أخلاق لا تفقد قيمتها حتى في ظل ومجرى انحلال الأبعاد التقليدية في الدولة الحديثة. على العكس انها سوف تتلون بمعايير ومقاييس الوحدة الاجتماعية الأوسع. وهي مهمة مستقبلية يستحيل بلوغها دون تحقيقها الملموس في ظروف العراق الحالية. أما صيغتها الملموسة (العقلانية والعملية والسياسية) فتقوم في توسيع نطاق الدفاع عن حقوق الإنسان العراقي. وهي مهمة وطنية واجتماعية بقدر واحد. ولا يمكن تحقيقها دون أخلاقية وطنية تستجيب لمضمونها الشامل. ذلك يعني أن الأولية فيها ينبغي أن تعطى للعام (الوطني) على الجزئي (القومي والجهوي والمذهبي والقومي والديني)، بسبب مرور العراق الآن بمرحلة إعادة بناء هويته الوطنية.
تشكل الهوية الوطنية الثقافية في ظروف العراق الحالية، الجامع لكل مكوناته الأخرى. وبالتالي عليها يتوقف المضمون الواقعي لحقوق الإنسان العراقي. انطلاقا من أن أخلاقية الوحدة الوطنية هي الوحيدة القادرة على كفالة الأمن الاجتماعي العام وبالتالي توفير الشروط الضرورية لبناء مؤسسات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهو الثالوث الوحيد القادر على ضمان تطبيق فعلي ومتجانس للحقوق بشكل عام وحقوق الإنسان العراقي بشكل خاص. وهذا بدوره قابل للتحقيق في ظل التجذير الثقافي للروح الأخلاقي. بمعنى العمل الدائم على إخضاع كل انحراف ممكن عن مقوماته إلى نقد شديد، بوصفه أسلوب بناء الثقافة الحرة.
إذ ليست الثقافة الحرة في ظروف العراق الحالية سوى الثقافة المتحررة من مختلف قيود الالتزام الضيق - الحزبي والجهوي والقومي والطائفي والقبلي والعائلي وغيره من الأشكال التقليدية المعرقلة للحرية والتحرر الاجتماعي. كل ذلك يحصر مهمة الثقافة بالنسبة لترسيخ الروح الأخلاقي، بوصفه أحد أركانها، في ضرورة إتمام تأسيسه الذاتي في الرؤية والمواقف الساعية إلى تجذير قيم العدالة الشاملة والتحرر في كافة نواحي الحياة ومستوياتها المختلفة.
وبما أن هذه المواقف والرؤية هي مساع عملية سياسية، من هنا ضرورة ارتباطها الدائم والوثيق بقضايا الوجود الاجتماعي الكبرى للعراق المعاصر. وهو ارتباط يفترض بالضرورة التحرر من قيود الالتزام الضيق القومي والجهوي والمذهبي والقومي والديني وما شابه ذلك. إذ لا يمكن، على سبيل المثال، تحقيق الوحدة الوطنية بدون تأسيس أخلاق الروح الوطنية وغرسها في البنية المادية والمعنوية للمجتمع بكافة مكوناته والدولة ومؤسساتها. وهي مهمة يستحيل تنفيذها دون تحويلها إلى مرجعية سياسية اجتماعية. وهذه بدورها غير قابلة للتنفيذ دون تجذير قيم العدالة والحرية. وهي قيم لا يمكن تجزئتها أو إعلاء أي من الالتزامات الضيقة المشار إليها أعلاه، عليها.
ومن الممكن أن نتخذ من قضية الفيدرالية نموذجا لكشف مستوى النضج الفعلي فيما يتعلق بأخلاق الوطنية العراقية. فهي قضية سياسية من حث الجوهر، وبالتالي ينبغي أن تخدم تعميق وترسيخ الفكرة السياسية في التعامل مع الأحداث بما يخدم المصالح الوطنية الكبرى للعراق في الظرف الراهن. ولا يعني ذلك سوى ضرورة العمل من اجل ترسيخ تقاليد وقيم الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. بينما نرى التيار القومي الكردي يحرف الأبعاد السياسية لقضية الفيدرالية صوب الأبعاد القومية الضيقة. حيث تتحول الفيدرالية إلى مسألة "ضم" منطقة عراقية إلى "منطقة كردية". أي أننا نرى في هذه المواقف شرخا عميقا في الوعي القومي الكردي بين الوطنية العراقية والقضية القومية (الكردية)، مع انها ليست الوحيدة وليست المركزية أيضا. إضافة إلى تجاهل معنى التاريخ والوطنية والجغرافيا السياسية والثقافة، التي تقول بان أراضي العراق هي أراضي وادي الرافدين. ومن ثم فان الانتشار الجغرافي للأقوام في بعض مناطقه لا يعني ملكيتها "القومية". بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ما يمكن دعوته بنفسية الغنيمة السائدة في ذهنية وأيديولوجية الحركات القومية الكردية في العراق، التي تجعل من مهمة الفكرة الفيدرالية في وضع العراق الجريح، وسيلة "لانتزاع" الغنيمة، عوضا عن المساهمة في بناء لحمته الوطنية. لاسيما وانه الطريق الأفضل لبناء الدولة الشرعية، ومن ثم الأكثر واقعية وعقلانية لحل المسائل القومية ككل. وذلك لان نفسية، أو بصورة أدق، أخلاقية الغنيمة والربح السريع لا تفعل في نهاية المطاف الا على تخريب فكرة الشرعية والديمقراطية والمدنية مع ما يترتب على ذلك من تدمير شديد لفكرة الحق والعدالة. أما في مجال الدولة والتاريخ فهي أخلاق مدمرة للغاية بالنسبة للقوى التي لا تفهم حقائق التاريخ العراقي. وهو أمر يدل على انها أخلاق نابعة أساسا من ضعف أو غياب الرؤية الوطنية العراقية عندها. كل ذلك يفترض ارتقاء الحركات القومية الكردية إلى مصاف الحركات الوطنية العراقية وتجذير أخلاقية الاستعراق فيها. لاسيما وأنها أخلاق (وطنية) لا تتعارض مع القومية الثقافية.
والشيء نفسه يمكن قوله عن الحركات السياسية العربية القومية منها والإسلامية والشيوعية، مع فارق المبدأ والغاية. بمعنى أن اختلاف المواقف وابتعادها عن حقيقة الفكرة الوطنية العراقية يؤدي بها بالضرورة إلى الانحدار صوب تخريب إمكانية العمران الديمقراطي للدولة الشرعية والمجتمع المدني. فالحركات القومية العربية لم ترتق في اغلبها إلى مستوى الرؤية القومية الثقافية. بمعنى انها لم تضع أولية الحق والشرعية والديمقراطية في مقدمات فكرتها عن الدولة الحديثة، التي تضمن لجميع القوميات حقوقا متكاملة في الشرعية والعدالة. بينما تتجاهل الحركات الإسلامية في الأغلب تحليل ودراسة القضايا القومية بمعايير الرؤية السياسية. أي انها في الأغلب تكمل مواقف الرؤية القومية الضيقة (الكردية والعربية) بهذا الصدد. كما انها لم ترتق إلى مصاف الرؤية السياسية الوطنية العقلانية في الموقف من التجزئة المفتعلة لعروبتها إلى مذاهب لا قيمة لها بحد ذاته من وجهة نظر الشرع والشريعة ومبادئ الإسلام الكبرى . أما الحركة الشيوعية العراقية فإنها تلتقي بشقيها القومي (الكردي) والاممي (العربي). وهو خلاف يعكس في الواقع سطحية الفكرة الشيوعية بشكل عام وتحزبها الأيديولوجي للقضية الكردية في العراق بشكل خاص. فالحزب الشيوعي الكردي (العراقي) هو حزب قومي كردي لا علاقة له بالفكرة الشيوعية بمعناها العراقي، أي أن الأبعاد الوطنية العراقية فيه هي أبعاد هلامية. بينما لم يكن الحزب الشيوعي العراقي الناطق بالعربية في غضون العقود الثلاثة الأخيرة اكثر من داعية للقضية الكردية والفيدرالية! أي انه كان في الواقع الجهاز التابع للحزب الشيوعي الكردي (فرع العراق!). وهو أمر تجلى بصورة بائسة في موقفه من الأحداث الأخيرة في كركوك. لقد كان موقفه مائعا ومتخاذلا في طرح فكرة الفيدرالية. فعوضا عن إدانة القوى التي تفتعل الفتنة السياسية والقومية، نراه يؤيد الاتجاه الضيق في الحركة القومية الكردية. وعوضا عن النظر إلى الفيدرالية، باعتبارها الصيغة السياسية المثلى في أوضاع العراق الحالية لأجل بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي، نراه يجعلها شعارا دعائيا لنفسية الغنيمة.
كل ذلك يشير إلى الدور الكبير والهائل الذي ينبغي أن تلعبه الثقافة البديلة في غرس ما أسميته بالروح الأخلاقي، ليس فقط في نقدها الجريء لكل المواقف والأفكار الصادرة عن أي طرف كان ومهما كانت نيته، في حال مخالفتها لمضمون بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، بل وبتقويمها بالشكل الذي يخدم فكرة الحق والعدالة الفعلية للجميع. فهي العملية الوحيدة القادرة على كنس مخلفات التوتاليتارية وتفتيت بؤر التخلف الاجتماعي وتشذيب وتهذيب الثقافة الديمقراطية في النشاط السياسي.
وهي مهمة لا يمكن للثقافة أن تؤديها على اكمل وجه دون استكمال الوجه الآخر للروح الأخلاقي، أي الوجه الجمالي. إذ ليست ثقافة الروح الأخلاقي في الواقع سوى الوجه الآخر لثقافة الروح الجمالي. كما أن ثقافة الروح الجمالي هي الوجه الآخر لثقافة الروح الأخلاقي. فكلاهما ينطلقان من الوجدان ويتكاملان فيه ومعه. ولا يعني ذلك سوى انهما كلاهما وجهان لحقيقية واحدة، هي المعاناة الفعلية من اجل تحقيق القيم الأخلاقية والذوق الجمالي. وهي عملية وجدانية من حيث المبدأ والغاية. من هنا قيمتها الدائمة بالنسبة للروح الفردي والاجتماعي بشكل عام والإبداعي بشكل خاص. إذ ليس هناك من إبداع حقيقي يخلو من أبعاد جمالية. من هنا مهمة الثقافة في توسيع وترسيخ روح الجمال الحقيقي في مختلف ميادين الحياة. وليس المقصود هنا بروح الجمال سوى "النسبة المثلى" والضرورية لتكامل الإبداع والثقافة في الدولة والمجتمع.
وليس المقصود بالنسبة المثلى هنا سوى المبدأ المجرد والعام عن ضرورة الاجتهاد الدائم في إيجاد الصيغ المعقولة والواقعية للتكامل في كافة نواحي الوجود الاجتماعي. وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نرسم بصورة ناجزة و"أبدية" مداها المحدود بين الموقف الأخلاقي والجمالي، الا أن إدراك ضرورة الوحدة المتلازمة بينهما هو بحد ذاته المقدمة الأولى لتحقيقها. بمعنى المقدمة الأولى لتمثلها في الإبداع الثقافي بشكل عام والفني والأدبي بشكل خاص، واستمرارهما في المواقف الواقعية والعقلانية من الإشكاليات الكبرى التي تواجه تطور الدولة والمجتمع. وهي "نسب مثلى" يتحدد مستوى إدراكها وتحقيقها في إبداع الجميل في كل مكونات الحياة. ولا يعني إبداع الجميل هنا سوى الإبداع الدائم للنسب المثلىـ أي الإبداع الدائم للتكامل. فالجميل هو المتكامل. والمتكامل هو وحدة، والوحدة هي تجانس،والتجانس هو حركة دائمة. وهي الدورة التي ينبغي أن تتغلغل في صلب الرؤية الثقافية للدولة والمجتمع ورجال العلم والفكر والأدب والفن. فالتكامل في الإبداع هو إبداع الجميل، والتكامل في الثقافة هو تثقيف الجمال، والتكامل في المجتمع هو تطهيره الدائم من مظاهر القبح والقبيح فيه، والتكامل في الدولة هو ترقية مظاهر الجمال في الإبداع والثقافة والمجتمع.
غير أن هذا التكامل ممكن في ظل الوجدان الحقيقي للجميل والجمال. وهو أمر يفترض معاناة إشكالياته الواقعية في الحياة. تذلك لارتباطه بفكرة التكامل نفسها، انطلاقا من أن الجمال والجميل هو تكامل متجانس لنسبه المكونة. ومن ثم يستحيل بناء منظومة للرؤية الجمالية قادرة على الفعل في ميدان الثقافة وتهذيبها الدائم دون إرساء أسس التكامل في الفرد والمجتمع والدولة والثقافة. وهي سلسلة يتشكل من حلقاتها بنية الروح الجمالي أو منظومة الذوق الجمالي. فعندما نأخذ من قضية تكامل الفرد وصنع شخصيته، باعتبارها إحدى القضايا الجوهرية لفلسفة الجمال في العراق وذلك لأهميتها العملية القصوى بالنسبة لترسيخ وتوسيع مدى الرؤية الجمالية في الثقافة العراقية البديلة، فان المنطلق العقلاني لتناولها يستلزم وضعها ضمن حدودها الواقعية. وهي حدود وثيقة الارتباط بكيفية ومستوى إدراك طبيعة الإشكاليات المتراكمة تاريخيا بأثر الفعل التخريبي للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على الفرد والمجتمع والثقافة والدولة.
فمن مفارقات التوتاليتارية وجرائمها في الوقت نفسه هو حشرها العنيف للأفراد في أسراب وقطعان. ومن ثم محاصرتها الفرد بجماعة القطيع وإرغامه على "التفكير" والقول وإعلان الولاء والرفض والتأييد والمدح والذم والحركة والسكون والابتسام والبكاء والفرح والحزن بطريقة متشابهة وخالية في الوقت نفسه من الوجدان الصادق. مما يجعل من الجماعية أسلوبا لقتل روح الجماعة ونثر الفردية إلى ذرات متشردة وهاربة وعدائية. مما يؤدي بالضرورة إلى نزع فردية المرء وسحقها التدريجي، بينما تشكل هي من الناحية الوجودية المقدمة الضرورية للفعل الحر وبالتالي للإبداع وصنع الجميل. إذ لا يعني نزع فردية المرء سوى نزع مقومات الذوق الجمالي. وذلك لان الجمال تنوع وحركة حرة، أي تلقائية متناسقة في معاناة الوجود وإشكالياته. ول يمكن تحقيق ذلك دون فردية المرء.
فالفردية هي ليس فقط أحد المصادر الكبرى للجمال، بل ومصدره الأكبر. ففيها فقط ومن خلالها يمكن أن تتحقق فردانية المعاناة وأصالتها. وذلك لان إبداع الجميل هو معاناة فردية وتعبير فرداني. بينما يشكل انتزاعها و"صهرها" في كتلة هلامية متشابهة يعني إلغاء خصوصيتها، بينما الجميل هو تميز واختصاص.
لقد ألغت التوتاليتارية المقدمة الضرورية للإبداع الفردي، وأتمته بدكتاتورية الهامشية الاجتماعية وراديكاليتها السياسية المتخلفة. مما أدى إلى انتشار وغلبة الهمجية، وبالتالي تفتيت التراكم التاريخي للقيم الأخلاق والذوق الجمالي. إذ أدت سياسة الهامشية الاجتماعية والراديكالية السياسة الهمجية إلى تخريب كل القيم الأخلاقية المتراكمة تاريخا في العقل والضمير العراقيين، وقلبت الأوزان الداخلية للاعتدال بصورة لا مثيل لها في التاريخ الحديث، بحيث أفسدت الجميع على كافة المستويات. وهي المقدمة الفجة لخراب الذوق الجمالي.
إذ جرى اختزال الذوق الجمالي إلى معيار العبودية الخالصة لمزاج الهامشية ودكتاتوريتها. بحيث جرى وضعها في هرم تافه معياره الحزب ولا حزب غير تكريت، ولا تكريت غير صدام ولا صدام غير الهامشية. وهو هرم صنع على مثاله آلية سخّفت الذوق الجمالي، وجعلت من الثقافة ككل خادما وضيعا لا يعرف غير "إعلان الولاء"! وهو ولاء لا تراكم فيه، إذ لا تمايز فيه ولا تميز ولا تخصص ولا اختصاص. بينما الذوق الجمالي هو تراكم وتميز واختصاص. وليس مصادفة أن تتحول الثقافة في العراق التوتاليتاري إلى أداة لسحق التراكم والاختصاص. وهي حالة يمكن ملاحظة آثارها الحالية في العراق، عندما يتحول الشرطي إلى وزير ثقافة، والعريف إلى وزير للعلم، وسائق الدرجة الهوائية إلى وزير للصناعات العسكرية، وبائع الثلج إلى نائبا لرئيس الدولة، والبلطجي الفاشل في دراسته إلى رئيس جمهورية!
ووجدت هذه الظاهرة انعكاسها العام في كل مظاهر الحياة، بحيث ترى الأستاذ الجامعي عاطلا عن العمل، والمعلم سائقا، والنجار فراشا، والفراش مديرا للمدرسة، وبائع اللحم ضابطا عسكريا. وهي قائمة مثيرة في تفاصيلها الواقعية، الا انها تشير بمجموعها إلى اضمحلال فكرة وأهمية الاختصاص، مع ما يترتب على ذلك من انحطاط في المعارف والمهنة. أما حصيلة ذلك فهو اضمحلال الذوق الجمالي. وفي حال تأمل الواقع كما هو في الظروف الحالية، فإننا نستطيع القول، بأنه لا أذواق في العراق حاليا على الإطلاق! إذ لا نظافة في الحياة، وانعدام شبه تام للنظام في الحركة والسير والمعاملة. فحيثما تنظر لا ترى غير الخراب والأطلال والشحوب والألوان الكالحة.
وهي مظاهر تشير إلى الانهيار الفعلي للذوق الجمالي، والذي بدوره ليس سوى المظهر الصارخ لانهيار القيم الأخلاقية. وفي الحصيلة ما هو الا المظهر القبيح لانهيار الهوية الشخصية وفردانيتها. وهذه بدورها ليست الا الصيغة الأكثر ابتزازا لانهيار الكينونة الاجتماعية والهوية الوطنية. وهو الأمر الذي يعطي لتأسيس فكرة ضرورة تكامل الفرد أهميته القصوى بالنسبة لثقافة الروح الجمالي وما يترتب على ذلك من إعادة بناء سلسلة تكاملها في الإبداع والثقافة والمجتمع والدولة. وذلك لان صنع الشخصية الحرة والفردانية هو ضمانة صنع الأنا المبدعة وبالتالي إبداع الجميل. لان الجميل إبداع والإبداع جميل. وليس مصادفة أن تقرن العربية البديع بالإبداع، لان جذرهما واحد وغايتهما واحدة.
وهي غاية يستحيل بلوغها دون ثقافة التكامل في الإبداع، بوصفها أسلوب صنع الجميل، وبالتالي أسلوب التكامل في الثقافة نفسها. فهو الحلقة المكملة لثقافة الروح الجمالي. فتكامل الثقافة هو أسلوب تثقيف الجمال والجميل في العلم والعمل. ولا يعني تثقيف الجمال في الوجود والوعي الاجتماعيين سوى تحويله إلى مرجعية الإبداع الحقيقي. والإبداع الحقيقي هو جميل بالضرورة، بل انه التعبير الأصدق عن الجميل والجمال. وهو تعبير متنوع لا متناه في الأشكال والصور يمكن تربيته في حب الجمال في الأرض الواسعة والبيت الفسيح والعيش الرفيع والصدر الرحيب وفي سواد العينين وصباحة الوجه وحلاوة العينين وظرف اللسان ورشاقة القد ورباطة الجأش والجرأة والبطولة والبسالة والشجاعة والجود والكرم كما يمكن رؤيته في إدانة أو تذليل مضاداتها القبيحة.
بعبارة أخرى، ليس تثقيف الجمال سوى تأسيس مبدأ محبته في كل شئ وكره القبيح في جميع مظاهره. لان الجميل هو أيضا مصدر حب الحياة والعمل، فهو يطلق اللسان ويحسّن الكلام ويقوي الجنان ويوسع العينين ويحدّ الرؤية ويربط الجأش، بل ويعطي حتى للمغامرة أبعادا وجدانية رفيعة المستوى. وهو الأمر الذي يجعل من الروح الجمالي مرجعية من مرجعيات تكامل المجتمع. ومن ثم بناء المجتمع المدني. إذ لا مدنية بدون جمال ولا مجتمع مدني بدون احترام للجميل وإبداعه الدائم. وفي أوضاع العراق الحالية تلعب فكرة الجميل بأبعادها الاجتماعية المدنية دور حساسا في استعادة المضمون الثقافي للفكرة الوطنية. فالهوية العراقية هي وحدة للتنوع القومي والثقافي، وأنها تتمثل مكوناته التاريخية المتنوعة في الحقيقة القائلة بان الهوية العراقية هي هوية تاريخية ثقافية. وبالتالي فان استعادتها الفعلية السليمة تفترض البحث الدائم عن الجميل في مكوناتها ككل. أما الجميل فيها فهو قدرتها على التجدد والتنوع. كما انها العملية القادرة على تذليل مخلفات وآلية إنتاج القبح الاجتماعي.
فقد تركت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية إرثا شنيعا أمام المجتمع المدني. إذ كانت في حصيلتها الممارسة القاسية للتجزئة ومسخ الشخصية وإلغاء الفرديةـ أي أسلوب تجفيف الروح الجمالي. بينما يفترض تذليل هذه الآلية إعادة بناء تكامل الفرد ودمجه في المجتمع المدني وإحياء فرديته من اجل تثوير إبداعه المتميز للجميل. وذلك لان تكامل فرديته بوصفه شخصية مبدعة هو أسلوب توسيع وتعميق روح الجمالي.
ومن هذه الحصيلة العامة تتراكم مكونات ما ادعوه بتكامل الدولة. فالدولة الحقيقية هي التي يتكامل فيها الفرد والمجتمع والثقافة في كل واحد بوصفه تعبيرا نموذجيا عن الوحدة المتنوعة. إذ ليس تكامل الدولة في الواقع سوى أسلوب ترقية مظاهر الجمال في الإبداع والثقافة والمجتمع.
مما سبق يتضح بان التكامل في بنية الروح الجمالي يفترض ضرورة بناء منظومة للذوق الجمالي هي منظومة النسب المثلى، عبر تحويلها إلى مرجعية في بناء تكامل الإبداع والثقافة والمجتمع والدولة. وتوسيع مداها بالشكل الذي يشمل مكونات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والمجتمع والدولة، ثم العمل على تجسيدها في رؤية نقدية للآفاق والأنفس. أما تحقيق هذه المرجعية في الإبداع، فانه يفترض تجسيدها النسبي ضمن الصراع الواقعي الدائر حول الإشكاليات الكبرى لوجود الدولة والمجتمع والفرد وتمثلها في وجدان صادق عبر التنقية الدائمة لفكرة الإخلاص. بمعنى البقاء الدائم ضمن قيم التنقية الدائمة للروح الإنساني في وحدة مكوناته الأخلاقية والجمالية، أو ما كانت تدعوه الثقافة العربية الإسلامية بعبارة الجمال والجلال.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة الثقافة البديلة في العراق 2 من 4
- فلسفة الثقافة البديلة في العراق - 1 من 4
- فلسفة الثقافة البديلة والمثقفين في العراق
- هل العراق بحاجة إلى قضية كردية؟
- العمران الديمقراطي في العراق (4-4) فلسفة الثقافة البديلة
- العمران الديمقراطي في العراق (3-4) المجتمع المدني ومهمات بنا ...
- انتخاب الطالباني: مساومة تاريخية أم خيانة اجتماعية للقيادات ...
- العمران الديمقراطي في العراق (2-4) الدولة الشرعية - البحث عن ...
- العمران الديمقراطي في العراق (1-4) التوتاليتارية والدكتاتوري ...
- الإصلاح والثورة في العراق – البحث عن توازن واقعي
- الراديكالية العراقية - التيار الصدري وآفاقة المسدودة - الحلق ...
- الراديكالية الشيعية المعاصرة وآفاق البدائل السياسية في العرا ...
- الاعلام العربي وإشكالية الأمن والأمان والحرية والاستبداد في ...
- الراديكالية والرؤية المأزومة في العراق – 2-4
- الرؤية السياسية - لا الرؤية الحزبية
- الراديكالية العراقية - الطريق المسدود 1-4
- المرجعيات الثقافية لفكرة الإصلاح في العراق
- الصحافة العربية المرئية والمسموعة وظاهرة الصحّاف والتصحيف
- المغزى التاريخي للانتخابات العراقية الاخيرة
- الصورة والمعنى في الصراع العربي – اليهودي


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - ميثم الجنابي - فلسفة الثقافة البديلة في العراق -3 من 4