أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..















المزيد.....


شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 3967 - 2013 / 1 / 9 - 03:58
المحور: الادب والفن
    


شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..
جاسم المطير
شملني شيءٌ كثيرٌ من السرور حالما أطللتُ على الملف الخاص المعد بالذكرى الثامنة والأربعين لرحيل الشاعر بدر شاكر السياب. أُعد الملف بأقلام ٍ فضيةٍ متألقةٍ من قبل بعض مثقفي ومحبي (جريدة طريق الشعب) الذين هم من محبي قيثارة الشاعر وعشاق أوسمته في حداثة الشعر العربي ومن العارفين بثمار ما فعل من ألق الشعر. كان الملف محاولة ،جادة، واعية، للتذكير بمؤسس جمهورية الشعر الحر والنافخ ببوق تجديده. ساهم فيها كل من محرر الصفحة الثقافية بالجريدة بإضاءة افتتاحية ومقداد مسعود وكريم جخيور(قصيدة) والشاعر ريسان الخزعلي (قصيدة) و حسام السراي والشاعر هادي الحسيني (مقالة) وجابر خليفة جابر بمقالة أيضا، وبعض الذكريات كتبها عبد الإله عبد القادر. حقق الملف هدفه في إبقاء ذكرى هذا الشاعر الفذ في قلب الأمواج الأدبية المتعاقبة في بلادنا لكي ينال ما يستحق من موقع ومكانة في قلوب الأجيال الجديدة الشابة ولكي يبقى شعره ماكثا ً في أعماق محبيه من بقايا مجايليه و موغلا في غمار كفاح الأجيال الجديدة من الشعراء ومن قراء الشعر المعاصر، خاصة وأن بلادنا تمر الآن في مرتفعات صعبة من المشاكل المتنوعة العائقة أمام تقدم الأدب والشعر والثقافة عموما.
جعلني مقال الأخ عبد الإله عبد القادر بالذات في قلب ذكرياتي عن أحد أصدقاء الشاعر الذي كان دائم الانشغال به وبشعره في ذاك الزمان المصاحب لوثبة كانون عام 48 ولإضراب عمال ميناء البصرة وعمال شركة نفط البصرة كما جعلني هذا المقال اطل أيضا من جديد على بعض ذكرياتي عن شاعر ذهب وحيدا إلى غربته وإلى رقاده الأخير من دون أن يشمله رحاب الضياء الشعري كما يستحق إلا بعد استقراره في مقبرة الحسن البصري . وكان الشاعر قد قال في إحدى رسائله إلى صديقه السيد جليل بعد سفره إلى عبادان: لا تتوقع عودتي بعد سفري.
هذا الشاعر بدر شاكر السياب ظل متحلقاً في فكر صديقه لا يستبدله إلا بتقطيبة بائسة حين يرد أسمه أو يقرأ عنه مقالة . أما صديق الشاعر فلم تتحسسه، بعدُ، أصابع المولعين بالكتابة عن الشاعر إلا بندرة لا تذكر. اسم هذا الصديق سيد جليل سيد إبراهيم فخر الدين. ليس شاعرا ولا ناقدا ولا صحفيا. لكنه كان محاورا هادئاً ، مالكاً كلاماً رصيناً وقدرة على الإقناع لا يدلّ على أنه عطاراً. ذات يوم حضرتُ نقاشاً هادئاً بين الصديقين حول بعض مواقف الشيخ محمد عبده من الأدب والفن ومن دور (الشعر) خصوصاً في إذكاء المبادئ الوطنية بين أبناء الشعب المصري ، ومن دور (الفن) وضرورة تشجيعه وأعطى مثلا عن قيام الشيخ محمد عبده بدعم مواهب الموسيقيين المصريين . لا أتذكر الآن تفاصيل النقاش لكنني أتذكر خلاصته أن (السيد) اطل بحب كبير على ذكر اسم الشيخ محمد عبده بينما الشاعر السياب لم يكن متحمسا للشيخ عبده بقدر حماس صديقه. أحسست بوقته أنني أقف بجانب (السيد) وليس بجانب (السياب) رغم أنني لم أساهم بأي كلمة في هذا النقاش .
كان السيد جليل يملك معلومات ثقافية واسعة أحاط بها واستجمعها من قراءاته الشخصية فقد أحب، كما كان يقول لي، الاستمرار على الاجتهاد في مدرسة الكتب المنزلية أكثر من مدرسة الثانوية لأن الكتاب المقروء ذاتيا كان يوهج أشياء كثيرة بينما كتاب المدرسة ليس فيه غير خشونة العلاقة مع مديرها ومدرسيها. هكذا ظل تلميذاً لا يحب المدرسة ولا أحلامها رغم ذكائه. لذلك سرعان ما ترك الدراسة ليعمل مع والده في متجره، لكنه ظل مستقلا عنه في تدينه وتشدده في العبادة رغم أنه ظل متمسكا بسماحة الدين محافظا على قدسيتها. حين تحدث عن مصاعب المدرسة وهوانها ردّ عليه السياب: سيأتي يوم، يا جليل، تغير رأيك فيه عندما يصبح ابنك مهندسا أو ابنتك طبيبة في المستقبل .
أول مرة تعرفتُ عليه هي نفس المرة التي شاهدت فيها بدر شاكر السياب يلقي قصيدته عن الحسين الشهيد في قاعة الطلبة بثانوية العشار عام 1949 على ما أتذكر . بقيت طيلة فترة علاقتي به أراه مختلفا كل الاختلاف في بعض صفاته عن صديقه . كان السيد شاباً مرحا، ودوداً، خفيف الظل، وفياً، يتذكر كل أصدقائه ويواصل الاتصال بهم‏ ويسأل عن أحوالهم باستمرار ، بينما السياب كان متجهم الوجه ، كئيباً ، كأنه يعاني من مرض مزمن ، حتى أنه لا يضحك إلا نادرا حين يستمع إلى نكات صديقه.
كان (السيد) يملك دكانا صغيرا جدا ربما لا تزيد مساحته عن ثلاثة أمتار مربعة لبيع مواد وبضائع العطارين بالمفرد ، منشغلا ، أثناء وجوده داخله، بالبحث في المحطات الإذاعية عن سماع أغنية من أغاني أم كلثوم التي كان يتابع أخبارها ، أولا بأول، كما كان عاشقاً لصوت محمد عبد الوهاب وموسيقاه. كنت أتردد عليه كل يوم تقريباً حينما كنت أعمل محاسباً عند تاجر كبير من مستوردي المواد البقولية والعطارية من الهند وسيلان وبعض الدول الأفريقية. كنت وسيطا لتسهيل بيع التاجر لبعض المواد الى السيد جليل بالآجل مما عمّق من صداقتي به ومن إكثار ترددي على دكانه لتزويده بما يحتاجه من المواد التجارية وبعض المنشورات الحزبية الشيوعية في آن واحد.. كما كان يزودني هو أيضاً ببعض الكتب الأدبية. هذا الدكان الصغير يقابله دكان كبير بما لا يقل عن 60 مترا مربعا عائد إلى تاجر سامرائي يديره في اغلب الأحيان ابنه هاشم الذي رسم أبوه له طريقا منذ شبابه ليكون تاجرا - لكنه صار شيوعيا - ثم ترك التجارة ليكون مقاولاً في أعمال البناء وهو من المقاولين الكبار في البصرة – لكنه ظل يساريا ً- ما امتلك ناصية الشعر وحبه كما هو حال صاحبه السيد جليل .
كنت أمرّ على دكان هاشم أولاً للسلام عليه ومن ثم المرور على السيد جليل وتحيته أيضاً. كان منشغلا طوال وقته من الثامنة صباحا حتى السادسة مساء في بيع بعض المواد العطارية فتحه له والده التاجر المعروف بتدينه في منطقة العشار حيث يرأس موكبا حسينيا معروفا عنوانه (موكب فخر الدين) مقرّه في (حسينية فخر الدين) التي حاضر فيها بعض السنين القارئ الحسيني الشهير الشيخ أحمد الوائلي حيث يتوافد عليه في المناسبات العاشورية كل عام عدد غير قليل من رجال الدين والتجار والعمال والكسبة من رواد هذه المناسبات. كان فخر الدين معروفا بالاتجار بالمواد المستوردة من بلاد عديدة عبر البواخر الأسبوعية القادمة الى ميناء المعقل مسوقا لهما في سوق التجار وكان الكثير من التجار الصغار في مدن القرنة والزبير والفاو وأبي الخصيب وغيرها يحبون التعامل معه لأنهم بذلك يضمنون سلامة تعاملهم من دون غش، وقد اكتسب أبنه جليل هذه الصفة عن أبيه فصار أمام أهالي العشار أنه موثوق لا يغش أحداً.
هذا التاجر الأب اشترى الدكان الصغير لابنه الذي كان يعلن دائما انه لا يحب الدراسة رغم شدة ذكائه لأنه مولع منذ أول شبابه بتخمة معدته بالزحلاوي والمستكي، لا يفارق تناولهما إلا بمناسبتين الأولى شهر رمضان والثانية في شهر محرم حيث يغمر نفسه ووقته كليا بشيئين تعويضيين: الأول مراقبة مباراة كرة القدم التي تجري على ساحة ثانوية العشار معجباً باللاعبين كريم علاوي في فريق الميناء وبيرسي في فريق شركة النفط . الثاني مواصلة القراءة في الدكان والبيت ليقضي وقته من دون زحلاوي. كان يكرر دائما أن المدرسة ليست شرطا للثقافة وبإمكانه أن يكون مثقفا بجهده الخاص وبانكبابه على القراءة ثم يأتي مثلا قديماً عن الجاحظ فلم يكن قد دخل المدرسة أو الجامعة كما يأتي مثلا حديثاً عن عباس محمود العقاد الذي صار مثقفا عربيا مشهورا وهو لم يكمل الدراسة حتى في المدرسة الابتدائية لذلك فقد كان السيد جليل منكبا في دكانه وبيته على قراءة الصحف والمجلات اللبنانية والمصرية والعراقية . كان مولعا بشراء المجلات العراقية الساخرة خاصة قرندل. لكنه كان شديد الاهتمام بـ(الخبز الثقافي) السري كما يسمي المنشورات والكتب وجريدة القاعدة التي يزوده بها عبد الوهاب طاهر صديقه الذي يسكن في رقعة قريبة من بيت فخر الدين. أتذكر اليوم الذي اعتلى فيه يوسف سلمان يوسف أعواد المشنقة ظل (السيد) يحدّق بعينين دامعتين بوجه صديقه الرياضي عبد الله رشيد وهو يقول له مؤاسيا: البقية في حياتك. هكذا هي الحياة فيها ايجابيات وسلبيات.


حين ينزل السياب الى العشار عند مجيئه إليها من بغداد أو من أبي الخصيب فأن مروره الأول يكون حتماً على دكان صديقه السيد جليل يحمل بيده، بصورة دائمة، مجموعة قليلة من الكتب والصحف ويكثر الحديث عن أسماء لامعة في تلك الآونة مثل اينشتاين وبابلو نيرودا ودارون و بيكاسو وقد أهداني ذات يوم كتابا عنوانه ( كليلة ودمنة) كان قد أكمل قراءته سيد جليل وقد طلب مني إعادته خلال شهر وقد أعدته فعلا ذات يوم خلال مجيئه من بغداد ماراً على دكان سيد جليل وأنا لم اقرأ منه غير بضع صفحات لأنه لم يعجبني. أتذكر قوله لي عندما علم عن عدم إعجابي بهذا الكتاب قال لي : (لكي تعرف الحياة جيدا عليك أن تعرف عن أشيائها الكثيرة سواء أعجبتك أو لم تعجبك) .. وقد صار هذا القول مولـّداً لكثير ٍ من الأقوال الأخرى لدى السيد جليل الذي كان يكرر ، مازحاً، أقوالاً مثل : لكي تعرف الأدوية عليك أن تعرف كل شيء عن الأعشاب التي يبيعها سيد جليل .. لكي تعرف السياسة عليك أن تعرف الكثير عن جعفر البدر وكامل الجادرجي .. ولكي تعرف كرة القدم عليك أن تعرف مناولات كريم علاوي .. ولكي تعرف فنون السينما عليك مشاهدة كل فلم بطله محمود المليجي وغير ذلك من الأقوال ، حتى انه كان يكرر القول أن كل مريض لا يستنغني عن العطار سيد جليل الذي يقدم له الدواء ويبقى الشفاء بيد الله . كان السياب يبتسم بسماع هذه الأقوال .
كان السياب يحب مخاطبة الشمس والقمر والأزهار والمياه والشناشيل والوطن والسحب والمطر. هذه الأشياء تجري في دمه ولسانه وقلمه على العكس من سيد جليل الذي كان يخاطب الرجال عن الهيل وورد لسان الثور والفلفل الأسود والبابونج وعرق القراح وعن علاج عرق النسا . كما يخاطب النساء المراجعات عن العقم وعن ضياع أزواجهن في حب أخريات فيكتب لهن دعاء أو حجاب أو ما شابه. لكنهما ظلا صديقين يحب احدهما الآخر رغم التباين في سمات وثقافة كل منهما. كان سيد جليل يسخر من نفسه لأنه كان يعي تماما أن الصداقة بين اثنين لا تقوم إلا على توافق الرأي والهواية بينهما.. كان يسخر من هذه الصداقة في بعض الأحيان ويفاخر بها لأنه كان من محبي الشعر ومن محبي شاعر كان اسمه يسطع في كل مجلس ثقافي أو أدبي . كان يجد في كثير من كلامهما المتبادل شيئا مشتركا عن المرأة والحب وعن سفينة نوح وعن الشعر وعن منشورات الحزب الشيوعي وعن المنطق وعن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وعن القاتل والقتيل وحفار القبور.
الشارع الثاني المتفرع من سوق المغايز بالعشار ينقسم طوله الى قسمين: القسم الأول يضم دكاكين الصفارين والقسم الثاني يضم العطارين والبقالين . على بعد أمتار من يمين دكان سيد جليل يقع دكان مطعم باجة مشهور لصاحبه (بكَميرزا) وهو رجل إيراني مقيم في البصرة منذ عام 1910 وبجانب الدكان يسكن الشخصية الشعبية (إبراهيم كردي) وهو من (أشقياء) البصرة عـُرف عنه في مدينة العشار أنه ينصر الضعفاء وتهابه الشرطة ، بل كان جواله مع صحبه في الشوارع والأسواق يسعد الفقراء ويثير أعصاب شرطة الحكومة . كلاهما الباجه جي ميرزا والشقاوة إبراهيم من أصدقاء سيد جليل تعرّف عليهما بدر شاكر السياب أيضا . شاهدتُ بدراً لمرتين أو ثلاثة يتناول الباجة في الدكان كما رأيتُ إبراهيم ذات مرة يوصل بدراً إلى (المسناية) على شط العشار ليذهب بواسطة (الماطور) أي بالزورق النهري إلى مدينة أبي الخصيب عبر نهر شط العرب . لم يكن إبراهيم يعرف شيئا عن الشعر والشعراء ولا يعرف شيئا عن بدر غير صداقته للسيد جليل.
كان الناس العراقيون ومنهم أهل البصرة قد خرجوا لتوهم من الضغوط العصبية الشديدة والحياة القاسية الناتجة من الحرب العالمية الثانية وعن نتائج الاحتلال البريطاني الثاني لمدينة البصرة وعن الدماء التي سالت أثناء وثبة كانون. كانت علاقة الشباب مع بعضهم في تلك الفترة لا تخلو من أحاديث عن كل هذه الموضوعات وقد وجد سيد جليل هذا التنوع من العلاقات ممكناً وفريداً بين الشباب الواعي المتنور ، بل أن هذا التنوع استولى عليه وعلى محطات صداقته خاصة وأن عربة علاقته المسائية تنقله الى لقاءات مع عدد من حملة الفكر التقدمي آنذاك ، مثل محمد هادي الاسدي وهاشم الحكيم وعبود علي وغيرهم وقد توطدت علاقته مع عبد الوهاب طاهر الطالب المفصول من الكلية العسكرية بسبب نشاطه الشيوعي، كان قد أعجب به (السيد) مثلما أعجب به (الشاعر) في اللقاء الأول الذي تم بينهما في دكان العطار مما جعله لا يحس بالضياع فيما بعد عندما وجد وحدته في الكويت لا تنأى عنه إلا بالسكن ضيفاً عزيزاً في دار المغترب عبد الوهاب طاهر بتلك المدينة القاحلة يوم ذاك.
أهم نتائج العلاقة بين الصديقين بدر شاكر السياب وسيد جليل هي مجموعة رسائل ولدت جميعها من بعض فترات الغربة التي ذاق مرارتها السياب خاصة أثناء وجوده في الكويت أو في فترة سفرته الى إيران كما أن بعض الأوراق القصيرة قد تخصبت بقلم السياب أثناء فترة وجوده في بغداد. أتذكر أن عدد الرسائل التي جمعها (السيد) لا تقل عن 30 رسالة ولكي لا أكون مبالغا فأنني أحدد هذا الرقم ،حسب، كان قد اقرأني عددا منها. أتذكر ، الآن، أن إحداها كانت مرسلة من عبادان وأخرى كانت من الكويت حين كان يعيش فيها داخل بيت الشيوعييْن عبد الوهاب طاهر وعباس سكران وكان الكلام فيها يتدفق بالتتابع في توجيه المديح والرضا عن موقف الشيوعي عبد الوهاب طاهر ، الذي رعاه رعاية أخوية فائقة. إحدى تلك الرسائل كانت تصف سكون عبد الوهاب طاهر بأنها من الصفات التي أحبها أثناء وجوده في البيت الشيوعي في الكويت بينما كان ينتقد وجود ثالثهما في المسكن وما سماه ثرثرة عباس سكران التي تزعجه حتى ولو كانت لدقائق وقد اطلع عباس سكران على رأي السياب فيه في هذه الرسالة حيث قرأها في الملف المحفوظ عند السيد كما أخبرني عباس بنفسه بعد رحيل السياب .
أخبرني (السيد) في إحدى لقاءاتي به في أوائل السبعينات أنه كان قد عاتب السياب على مقالاته التي نشرها في جريدة الحرية البغدادية يهاجم فيها الحزب الشيوعي . أخبرني أنه قال لبدر : أنك قسوت على الشيوعيين وعلى حزبهم . فأجابني بالقول: نعم أعرف ذلك ، بل أنني قسوت على القراء وعلى نفسي أيضا .. هكذا هي الحياة لا تخلو من مرارة .
كان سيد جليل حريصا اشد الحرص على حفظ مجموعة الرسائل لاعتقاده بأهميتها في تاريخ حياة بدر شاكر السياب. اعتقد أن كل رسالة من رسائله جميعها كانت مكتوبة بصفحة واحدة أو اقل غير أنني شاهدت إحداها مكتوبة بثلاث أو أربع وحين أعلمني في أواخر سبعينات القرن الماضي الصحفي الصديق ماجد صالح السامرائي عن نيته في طبع ما تجمع لديه من رسائل السياب في كتاب خاص اقترحت عليه ضرورة الاتصال بالسيد جليل السيد إبراهيم لإقناعه بإضافتها الى ما لديه لطبعها أيضا، ويبدو أن السامرائي لم يطرق هذا الباب فجاء كتابه المنشور في التسعينات عن رسائل السياب من دون اكتماله بتلك المجموعة المهمة الغافية في أدراج مكتبة (السيد) في بيته .
أتمنى الآن من كل قلبي أن يسعى كل صديق في البصرة وراء المختفي في كل إبداع سيـّابي وأن يبذل جهدا مع (السيد) إنْ كان على قيد الحياة أو مع عائلته إنْ كان قد رحل عنها للبحث عن الرسائل المكنونة في مكان ما ليفتح أبواب الضياء أمامها.
كثير من الصمت ما زال يهمي حول حياة (السياب) في تلك الفترة المتشابكة سياسياً واجتماعياً تحتاج الى الكثير من الدراسات والمتابعات فقد ظل السياب طيلة حياته يرتجف من الألم والمرض والعوز والظلم لم يستطع هذا الارتجاف قهر شعره ومواهبه العظيمة. وقد ظل شعره منذ رحيله المفجع حتى الآن يجول بين أيدي دور النشر العراقية والعربية من دون أن تحرك قدرات المحبين له أية حقوق مادية لكي تساهم في علو صوت الدراسات الأكاديمية العميقة عن تأثير شعره على مستقبل الشعر العراقي، ومن دون أن تعلو أصوات او ذكريات أصدقائه ومعارفه في ميادين النشر خصوصاً ، حيث ما زال الظلم الفادح واقعاً على دواوينه ، رغم أن نجوما أجنبية – غير عربية – قد نبضت بالحق عن أناشيده الشعرية الرائعة والمجيدة. اليوم ، أيضاً قرأت تصريحا ً لمخرج سينمائي عراقي (جودي الكناني) مكلف بانتاج فلم سينمائي عن حياة بدر شاكر السياب لعرضه في احتفالات بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013 لكنه يشكو أيضاً من قلة التخصيصات المالية التي قدمتها له وزارة ثقافة دولة نفطية عظمى. يذكرني هذا التصريح عن قدر الشعر السيابي بضياعه في سهول الاهمال وتهافت حقوقه التي لا تقدر بثمن ، أنه ذات يوم من أيام عام 1980 أطل علي في مكتبي بـ(عمارة فاطمة) في الباب الشرقي صهر السياب الأستاذ فؤاد عبد الجليل يشكو لي من دأب إحدى دور النشر اللبنانية (دار العودة – بيروت) حيث مديرها صديق لي. ملخص الشكوى أن هذه الدار تطير بمجاميع من دواوين بدر شاكر السياب، تطبع وتوزع وتبيع، من دون أي حساب، مما أحرق حقوق التأليف والنشر في نار زرقاء وقد كانت وزارة الاعلام في تلك الأيام تقف موقف عدم التدخل في هذا الشأن رغم الجهود والمساعي التي بذلها مع المسئولين في الوزارة لإنصاف حق السياب . بذلتُ مساع ٍ حميدة ، من تلك اللحظة، في الوساطة والضغط على دار العودة لوقف التجاوز على حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بطباعة دواوين بدر شاكر السياب ودفع مستحقاتها لعائلة الشاعر الراحل. غير أن أجنحة المساعي المباشرة لم تحلـّق إلا بمبلغ زهيد قدره ( 500دولارا ) - إذا لم تخن ذاكرتي- اعترفتْ به الدار رغم يقيني أن حقوق الشاعر كانت استحقاقاتها أضعاف مضاعفة لهذا المبلغ تجعل الرقم المعترف به ظامئاً إلى الحق والعدل بعد موت داعية الحق، الشاعر الغريب في حياته وموته عن دنيا الحق . حتى وزارة الإعلام العراقية في منتصف ثمانينات القرن الماضي طبعت قصائد السياب بصوته على شريط كاسيت بخمسة آلاف نسخة ، لكنها لم تلتزم بدفع حقوق النشر ، حرصاً على الأقل لحقوق ( الملكية الفكرية) فقد كانت حقوق النشر جامدة أو ميتة بمنظار الوزارة ، أيضاً ، في تلك الآونة.
ها هنا أقول، مرة أخرى، أن الضياء الأزرق لابدّ أن يهبط على تاريخ وذكريات شاعر شحذ عميق روحه وحدّ قلمه في محادثة جيكور والفرانين وعيون العراقيين، بزرع جميع أنواع الشجيرات الخضراء حول تمثاله على شط العرب وهو شيء فاز به بعد انطوائه على نفسه حزيناً، ومن ثم لاقى حتفه غريباً عن وجه شناشيل البصرة وعن اقمار شط العرب.
استميح القراء عذرا لأذكر لهم أن يوما من أيام أواخرخمسينات القرن الماضي يعيش في ذاكرتي حتى الان تناولنا فيه وجبة غداء ( كباب وتكة ) في نفس الزواية التي شـُيد عليها تمثال بدر شاكر السياب كان قد دعانا إليها السيد جليل السيد ابراهيم - قبل ان ينزل السياب الى زورق بخاري نقله ، على زبد مائي أبيض، الى جيكور.

بمناسبة احتفالات بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013 أتمنى لو يفكر الادباء والشعراء أن يطرقوا باب الدولة وأن يضغطوا على وزارة الثقافة لكي يتحقق تشييد متحف خاص يضم جميع ما له علاقة بتاريخ الشاعر وشعره وجميع ما انتجه فكره وما انتجه غيره عنه وعن دربه وعن ليمون حزنه وعن همسات طيور بساتين جيكور في قصائده. بهذا المتحف – المكتبة يمكن استعادة خزانة بدر شاكر السياب الى قلوب اهل البصرة وزوارها والمجتمعين في مهرجاناتها الادبية - السنوية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 1 – 1 - 2013
عن جريدة طريق الشعب عدد يوم 9 - 1 - 2013



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان ..!
- طبائع الفساد و الفاسدين
- أجمل ما في بلادنا حرية اللصوص..!
- تأبط شراً ..ّ وتأبطوا شراً .. !
- الأحلام والديمقراطية
- تمثلات الاستبداد والتوليتاريا في روايات جورج أورويل
- عن نظرية : خلي بالك من زوزو..!
- الله والديمقراطية
- هذا الفيلم لا يسيء إلا لمنتجيه..
- دولت رئيس الوزراء يعتذر لاتحاد الأدباء ..!
- يا اتحاد الأدباء: لقد وسِّد الحال لأهل الظلام فارتقبوا الساع ...
- مرة أخرى أمام القاضي السيد مدحت المحمود..
- الديمقراطية والطغيان
- الحاكم الظالم لا يخشى شعبا لا ينتفض..!
- عن الذي يضرط مرتين : واحدة قبل الأكل والثانية بعد الأكل ..! ...
- دجاجة نوري المالكي تبيض بيضة جديدة ..!
- المأساة العراقية مستمرة من دون بوسة غادة عبد الرزاق..!
- المتشائم يرى بغداد نصفها مظلم ونصفها زبالة ..!
- وزير التعليم العالي ينطلق في الحميس كالريح اليبيس..!
- الشباب العراقي والديمقراطية


المزيد.....




- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..