أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - قصاص قصة قصيرة حمادي بلخشين















المزيد.....


قصاص قصة قصيرة حمادي بلخشين


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 3929 - 2012 / 12 / 2 - 13:08
المحور: الادب والفن
    


قصاص

ـــ 1 ــ


حين أفقت في ذاك الصّباح الصيفيّ المشرق، كان أمامي أربعة خيارات: الأول، حضور حفل زفاف صديقي ثم المبيت في القيروان، والثاني، حضور حفل ختان بن أختي و المبيت في العاصمة، و الثالث الذهاب مع صديقتي سلوى الي الحمامات و المبيت في إحدى نزلها، أمّا الخيار الرّابع، فالبقاء في بنزرت بعد التوجه الي الميناء والإشراف على إنزال بضائع بملايين الدينارات ثم شحنها من مغرب الشمس الى ساعة متأخرة من الليل. أما الخيار الخامس الذي قرره القدر، فلم يكن يخطر لي على بال.. فلو سألتني ذلك الصّباح عن خيار خامس لأجبتك ضاحكا:" ثلاجة الموتى!"، لأن الموت الذي كان سيحول بيني و بين خياراتي الأربعة، كان أقرب الى تصوّري من المبيت في السّجن!

كنت ممزقا بين تلك الخيارات الأربع.. كان من الصّعب عليّ عدم مشاركة صديقي فرحة العمر، كما مستهجنا ترك شقيقتي الكبرى التي ربّتني بعد فقدان والدتي، وهي تحتفل بختان إبنها الوحيد، استهجنت ذلك رغم لؤم زوجها و كراهيته الشديدة لي، بعد أن كشفت لأبي عن تلاعبه بأموال شركتنا.. كما عزّ عليّ ايضا التفريط في وصال صديقتي سلوى خصوصا وقد تخلّفت من أجلى عن اللحاق بأبويها في فرنسا كي نمضي وقتا سعيدا معا، كما كان صوت والدي ــ الشديد الثقة بي ــ وهو يوصيني بضرورة الإشراف على استقبال البضائع،( خصوصا بعد تأثر شركتنا بسرقات صهري) يضعّف اللجوء الي الخيارات السّابقة، لأجل ذلك ركنت إلى الخيار الأخير مرغما، بعد أن قدّرت أن من سأكلفه بالمهمة نيابة عني ليس أهلا للثقة.

كنت متجها نحو الحمّام حين رن هاتفي الجوال، فرحت كثيرا بصوت بن عمتي حامد الذي كان من المفروض أن يسافر فجر ذلك اليوم الي دبي رفقة أبيه لعقد صفقة العمر كما سمّاها.. حالما أعلمني بن عمتي حامد ان الصفقة قد ألغيت، اقترحت عليه تعويضي في المهمة التي أوكلت إليّ من قبل أبي.. حين إستطال بن عمتي تلك المهمة، أخبرته بأنني سأصل رحمي و أشارك أختي التي هي بمثابة أمي فرحتها.
لما كان بن عمتي شديد التدين( طالما نصحني بطاعة أبي و صلة رحمي) فقد قبل عرضي .. حين أغلقت الهاتف الجوال، كان خيار زيارة أختي هو الأرجح، فصديقي سوف يعذرني دون شك عن عدم مشاركته فرحة العمر حين يعلم أن والدي (الذي يعاني ضغطا مرتفعا) قد يدفع حياته ثمنا لتهاوني في انزال البضائع و شحنها. أما صديقتي سلوى، فقد كان هاتف بن عمتي حامد، كفيل بان يسكت صوت الشهوة في عقلي الى حين، خصوصا و قد حذرني من صحبتها كثيرا" يا أخي لو لم يخفك عذاب الله و ناره، فخف الإيدز وعاره.. فالبنت سائبة " هكذا كان ينصحني دائما.

وأنا أحلق ذقني أعدت النظر في خيار صديقتي سلمى، بعد أن اقنعت نفسي بان شقيقتي ستعذرني حتما اذا علمت ان سبب تخلّفي كان انشغالي بمهمتي في الميناء.أما حين وصلني صوت المطرب عدنان الشوّاشي وهو يردّد :" إسمع كلام أهل الغرام" فقد أصبح قراري جازما ونهائيا ، لأجل ذلك صحت قائلا :" سمعنا و أطعنا"!

وأنا أهمّ بالجلوس الي طاولة الأكل، أقبلت علي الخادمة، أخبرتني بكثير من الإرتباك، أن شرطيا يطلبني، عقد الخوف لساني حتى أعجزني عن الكلام، خطر ببالي أن مكروها قد أصاب والدي المسافر، قبل ان أتمكن من سؤالها عما يريده الشرطي، رأيت ثلاثة رجال يتقدمون نحوي قبل ان يخبرونني بأنهم يريدون استجوابي لمدة لا تزيد عن ربع ساعة، ثم يعيدونني شاكرين لأتناول فطوري مع إعتذاراتهم للإزعاج.

حين وصلنا الي مكتب المحقق بسجن برج الرومي و بمجرد تأكد الأخير من هويتي وجه لي صفعة قوية أعقبتها شتيمة بذيئة كان وقعها على نفسي أشد بكثير من الصّـفعة. قبل أن يأمر شخصا مديد القامة قاسي الملامح عرفت فيه وجها مألوفا ذكّرني به حين سمعته يقول :
ــ رامبو، ألق هذا الكلب في الزنزانة واحد و أربعين.
ثم هو ينظر الي بحقد عظيم:
ـــ الي حين أتفرغ إليه!



ــ 2 ـــ


ساقني السجان رامبو بغظلة نحو زنزانة مكفهرة، ما ان وقف أمام بابها حتي هرع السجناء نحونا، دفعني إليهم وهو يقول:
ــ هاكم يا أولاد الزانية غنيمة لم تحلموا بها قط!

ما أن أوصدت علي الزنزانة حتى التف السجناء حولي، و شرعوا يتحرّشون بي، كانت حداثة سنّي وملامحي الرقيقة ثم صلاحيتهم المطلقة في ارتكاب الفواحش بتحريض من إدارة السّجن التي ترى ــ و كما علمت فيما بعد ـ في اغتصاب المعارضين السياسيّين أسوأ إهانة من شأنها كسر خاطرهم و إشاعة الإحباط في نفوسهم، خير ما يحثهم عن المنكر حتى أن أعظمهم جثة قد بادر فورا الى إسقاطي أرضا، ثم الجثوم فوقي فيما كان آخر يجتهد في تجريدي من سروالي وكأننا في غابة، الى أن بلغنا صوت يقول" أتركوه".. حين التفت الى زواية الزنزانة التي انبعث منها ذلك الصوت، رأيت شابا يجلس على فراشه، كان يفرك عينيه حين صاح ثانية "قلت لكم أتركوه"، داهمتني خيبة أمل شديدة حين عاينت نحافة الشاب و ضآلة جسمه، ثم قارنتها بكثرة الأشقياء حولي و متانة بنيانهم.. حين لم يستجيبوا له، نهض من مكانه و توجه نحونا، ما كاد يصل إلينا حتى أحاط به الأشقياء من كل جانب، لم يحتج منقذي الى أكثر من خمس ركلات خاطفات كي يسقط الواحد تلو الآخر.. فيما كانوا ينسحبون منهزمين الى زاويتهم، كان الشابّ يأخذ بيدي الى مضجعه.. حدث كل ذلك بسرعة، وكأنني كنت أتابع فيلما هنديا مثيرا!

رغم زوال الخطر، فقد ظللت مصعوقا من هول ما لقيت، و من تخيّل ما كنت سألقاه، حتى أن لساني قد عجز عن التلفظ بكلمة شكر واحدة قبل يوم كامل ظل جسمي يرتجف خلالها و أسناني تصطك والكوابيس تتابع عليّ في يقظتي و منامي.

كان سميح الجبالي بمثابة ملاك رحمة قد أرسله الله إليّ لينقذ حياتي من فساد لا يصلح و كسر لا يجبر، و سرداب مظلم لن أغادره قبل ان تغادر روحي جسدي، فلو وقع اغتصابي في تلك الليلة، لعشت مدمّر الرّوح، مظلم النفس، مكسور الخاطر ما سعيت على وجه البسيطة، لأجل ذلك، عقدت العزم على الوقوف بجانب منقذي و بذل كل ما في وسعي لمساعدته و تفريج كربته و لو ببذل آخر مليم أملكه، و آخر قطرة دم في شراييني، إعترافا مني بالمساعدة الحيويّة التي خلصت جسدي من عدوان فاحش، و أنقذت روحي من دمار شامل وهاوية سحيقة كنت على وشك التردّي فيها.

ــ 3 ـــ

بعد يومين من حجزي، ساقني رامبو الى التحقيق، كنت أنتفض رعبا مما كان ينتظرني هناك حين فوجئت بالمحقق وهو يستقبلني بالأحضان.. قدم لي سيجارة فيما كان يأمر رامبو بإحضار قهوتين، إعتذر لي عما لحقني من إساءة.
ــ نحن آسفون مجددا، كان مجرد خلط في الأسماء، الحمد لله ( وهو يضحك) انني لم أجد وقتا كي أتفرغ إليك قبل أن تظهر براءتك.
سألته بلهفة:
ــ هل يعني هذا انه يمكنني الانصراف؟
ابتسم المحقق ثم قال:
ــ المسألة ليست بهذه البساطة، فهناك إجراءات لا بدّ أن تتخذ، و جهات عليا لا بد أن تحاط علما.
ثم وهو يشعل لي سيجارتي:
ـــ على العموم، أنت ضيف مكرّم ما بقيت هنا.
ثم وهو يقول لرامبو الذي كان يضع القهوتين على طاولة أمام مكتبه :
ــ جهّز الغرفة 11 بشكل يليق بضيف مبجّل .
سألني المحقق كم تحتاج قهوتي من قطعة سكر، قام بوضعها بنفسه، قدم لي القهوة وهو يقول:
ــ على كل حال إقامتك بيننا لن تتجاوز بضعة ايام .. لنقل عشرة ايام على أقصى تقدير.



ــ 4 ـــ


ظل المحقق يتردد على غرفتي كي يخفف عني وطأة السّجن، علمت منه أن والدي قد إتصل شخصيا بنائب وزير الداخلية الذي تربطه به صداقة فتدخل الأخير لصالحي، لأجل ذلك لم تدهشني شدّة تزلف المحقق، و سعيه الى إرضائي و التخفيف عني، حتى أنه كان يدعوني الى مكتبه ليلاعبني السكرابل، و يشاركني متابعة احدى مقابلات فريقي المفضل، حتى انه نظر ذات مرة الى السرير الإضافي الذي كان يحتل جانبا من غرفتي الأنيقة ثم عرض علي جلب فتاة تؤنس وحدتي!
قلت له شاكرا:
ــ لا أريد فتاة، لكنني أريد ردّ بعض الجميل لشابّ أنقذني من إغتصاب محقق. فهل بالإمكان نقله إلى هنا؟
حين تأكد المحقق من هويّة الشاب ونوع التهمة التي سجن بسببها، ابتسم لي وهو يشير الى نافذة تفتح مباشرة على الشارع:
ــ بل في إمكاني نقله الى هناك، إكراما لك، و للسيد الوالد!



ــ 5 ــ


ظللت ملازما سميح الجبالي ثمانية أيام علمت خلالها بقصته التي كانت آية في الدلالة على ما تكنّه بعض النفوس البشرية من نذالة، و ما تضمّه جنباتها من خسّة و وحشية تعفّ عنها ضواري السّباع وجوارح الطير.
" كنت بصدد المشاركة في تشييد غرفة إضافيّة في خلفيّة فيلا مترامية الأطراف كانت تحرسها أرملة في غياب مالكيها الذين يقيمون في فرنسا، كانت سيدة متينة البنيان، في الثالثة و الأربعين من العمر، عليها مسحة جمال لم تستطع قسوة الأيام الحدّ من تأثيرها على محبّي الجمال وأصحاب القلوب الشاعرية. كان لتلك السيدة ولد اسمه عز الدين في الرابعة و العشرين من العمر، يشتغل في دكان لتصليح الدراجات، و كان على قدر عظيم من حسن الخلق ووفرة الأدب، أما علاقته بأمّه فقد كانت حميمة الي أقصى حدّ، فقد كان يقبلها ويلاطفها في مجيئه حتى كأنه قد قدم من سفر طويل، كما كان يضمّها إليه في رواحه، حتى كأنه مقدم على غيبة تطول. كما كانت بدورها تلهج بذكره، و تشيد بخصاله حتى تكاد تسبح بحمده. وقد روت لي ذات مرّة، أنها وضعته بعد شهر واحد من مصرع والده في حادث سير، فقررت تكريس حياتها من أجله، رافضة الزواج ثانية، مخافة أن تبتلى بلئيم يسوم وحيدها القهر على مرارة اليتم.. لأجل ذلك كان جزع تلك الأم عظيما لفقد ذلك الشاب الرائع!
سألته :
ــ هل مات ولدها؟
نكس سميح الجبالي رأسه ثم رفعه وهو يقول:
ــ أجل، لقد أذاقها الدهر ثانية مرارة الكأس التي تجرعتها قبل أربع و عشرين سنة، فقد صرع الولد في سن أبيه و في حادث سير أيضا.
حين لمس تأثري أضاف:
ـــ المؤلم في القضية، أن مقتل الشاب قد حدث بعد عذاب طويل، و بطريقة لئيمة، و الأفظع من كل ذلك أن قاتليه قد سرّحوا بعد ايام قليلة و بطريقة أشد لؤما، ممّا ضاعف ألم الأم التي إجتمع عليها ألم الفقد، و طريقة القتل البطيئة، و مرارة الإحساس بالظلم و الغبن.
حين سألت رفيق سجني عن كيفية قتل الفتى أجابني بحسرة شديدة:


ــ في غروب شمس ليلة شتوية، كان الفتى عز الدين يقود دراجته النارية في طريق رجوعه الي بيته ببلدة "منزل جميل" حين صدمته سيّارة كانت في طريقها الي ملهى ليليّ بمدينة بنزرت.. لم تكن الإصابة في مقتل، لكن الفتي كان ينزف بغزارة حين ترجّل السائق الطائش صحبة رفيقيه، لا لإسعاف الفتى، بل لإزاحة دراجته النارية التي التحمت بالسيارة، ثم جرّ الجسد النازف ثم مواراته في خندق بجانب الطريق!
صحت من فوري:
ــ اللعنة، لم يرحموا الفتى ولم يدعوا غيره يرحمه!
قال صاحبي بتأثر كبير:
ــ نعم، وقد تجلت نذالتهم كأوضح ما يكون، حين قفلوا راجعين من بنزرت في الثالثة ليلا، بعد سهرة صاخبة فمروا بالضحية دون أن تستفيق ضمائرهم فيسعفونه، أو على الأقل يخرجونه من ذلك الخندق لعل غيرهم يلمحه فيسعفه.
سالته:
ــ إذن، لقد مات الفتى هناك؟
ــ كلاّ، لقد لقد ظل المسكين ينزف من السادسة مساء الى حدود الخامسة فجرا، قبل أن يكتشفه مزارع كان يقود عربته على المسلك الموازي للطريق المعبّد، ولكن الشاب المسكين لفظ أنفاسه الأخيرة بعد ساعة واحدة من نقله الي مستشفى بنزرت.
تنهد مخاطبي ثم أضاف:
ـــ كان من المفروض أن تسجل تلك الجريمة ضدّ مجهول، لولا عثور المزارع علي محفظة بجانب الضحية. كانت تلك المحفظة تضم بطاقة هوية سقطت من احد الجناة أثناء نقله للضحية، أو معالجة الدراجة النارية.. حين تم استجواب صاحب الهوية، إعترف بأن صديقه شوقي منصور( شقيق راقصة شهيرة لها علاقات مشبوهة بمسؤولين في أعلى هرم السلطة، و قيل برئيس الجمهورية نفسه) كان يقود سيارة شقيقته بشكل استعراضيّ متهوّر، حين صدم الفتى عز الدين الذي كان يسير في اتجاه معاكس لكنه صحيح.
أرسل سميح الجبالي زفرة حارّة ثم أضاف:
ــ رغم توفر الأدلة ضد الجناة، فقد وقع تسريحهم دون عقاب، بعد أن تم تهديد المزارع بنسبة الجريمة إليه لو تلفظ بكلمة واحدة!

كان من المفروض أيضا أن يتم الأمر سرّا، غير أن المزارع لم يستطع إسكات صوت ضميره، فهرع الى الأم الثكلى ( لست أدري لماذا وأي فائدة كانت يرجوها من وراء ذلك الجهد العبثيّ) وروى لها كل شيء، ممّا ضاعف لوعة تلك الأمّ وأجج نارها.. ومما زاد ألم الأم و ضاعف جزعها أن الخندق الذي ألقي فيه فلذة كبدها و قرّة عينها و معقد آمالها، لم يكن يبعد عن الفيلا التي تحرسها، أكثر من ربع ساعة سيرا على الأقدام!
قلت له مقاطعا:
ــ يعني انه قد كان في إمكان تلك الأم إنقاذ وحيدها لو علمت بمصرعه!
ــ أحل، لأجل ذلك كانت كثيرا ما تردد أمامي وهي تنتحب بمرارة تقطع القلب"... كيف كنت جالسة، ثم نائمة في حين كان عز الدين يموت ببطء! فلو المسافة التي بيني و بينه نارا ملتهبة لخضتها، ولو كانت مزروعة شوكا و عوسجا لزحفت فوقها حتى أدركه أو أموت دونه"... كان كلامها يمزق الفؤاد، و يذيب الصخر.. كنت أعلم ان تلك المرأة تلامس تخوم الجنون، و أنها لن تلبث الا قليلا حتى تتردي فيها، كما علمت منها تصميمها على قتل الفتي الطائش انتقاما لولدها مهما كلفها الثمن، حتى أنني رأيتها ترابط أمام منزل كبير الجناة، و حين سحبتها من هناك، تبين لي انها كانت مسلحة بمدية كبيرة.. لأجل ذلك قررت إعفاءها من تلك المهمة التي سوف تكلفها حياتها.
سألت صاحب سجني متعجبا:
ــ كيف؟
ــ بتصفيتي الأشقياء الثلاثة معا!
حين قرأ الدهشة على وجهي سالني قائلا:
ــ اخبرني بالله عليك، لم نسارع الى قتل العقارب و الحيات فور رؤيتها، أليس لأنها ضارّة؟ ثم ألم تتفق قوانين الأرض و شرائع الأرض على أن النفس بالنفس!
ـــ....
ـــ وقد شجعني على ذلك القرار ما سمعته من إمام مسجد مفصول، قد شهد دفن الفتى، ثم أعلن بكل شجاعة و أمام الجميع، بان قتل الجناة الثلاثة عبادة، وأن الفاروق عمر قد أعدم ثمانية أشخاص اشتركوا في قتل نفس واحدة.
سكت صديقي ثم أضاف:
ــ حتى لا أرفع من مكانتي لديك، و حتى لا أضع نفسي في مصاف الأبطال و المنقذين، لا بدّ لي أن أعلمك بأنّ التخلص من حياتي بأي شكل من الأشكال، كان عاملا هامّا من العوامل التي حملتني على تنفيذ ما أعتزمت عليه.
سألت الفتي باستغراب شديد:
ــ مالذي كان ينقصك و أنت شاب مكتمل العافية و...
قاطعني قائلا:
ــ ما عساك تصنع بالعافية و أنت فارغ الجيب محطم الفؤاد...
ـــ....
ـــ كنت أيضا ضحيّة نظام جائر حرمني من شغل يتلاءم مع تحصيلي العلميّ، لأن تشغيل الأقارب بدل أصحاب الكفاءات و انتداب البنات و السيدات الجميلات للاستفادة من خدماتهن الجنسية قد حال بيني وبين الاستفادة من شهادتي الجامعية، مما دفع بي الى القيام بأشق الأعمال، حتى أحفظ ماء وجهي من ذل السؤال. كما ضاعف كراهيتي للحياة و يأسي من خيريّة الإنسان، فقداني الفتاة التي أحببت و زواجها بطالب ساقط تمكن بعد وسائط مشبوهة من نيل وظيفة لا يستحقها بعد يأس فتاتي من تحسّن وضعيّ الاجتماعي... كل تلك العوامل حملتني على التفكير في وضع حدّ لحياتي، خصوصا و أن الفترة التي تعرفت فيها على الأرملة وولدها قد مثلت قمة يأسي و ذروة إنهياري، وحين حدث ما حدث من أمر الأرملة وولدها، قلت في نفسي" ما دمت قد عزمت على مغادرة الحياة، فلتكن الرحلة جماعيّة، فحرام أن تخلف وراءك ثلاث عقارب سامّة ستسبب آلاما مجانية لضحايا آخرين".

لم تسمح لي الظروف بسماع بقية قصة الأرملة وولدها، فقد وقع تسريحي قبل انقضاء أسبوع واحد عن توقيفي الظالم.. قبل مغادرة سميح الجبالي، وعدته بخلاص قريب. كنت واثقا من نجاح مهمتي، ثقتي من فساد أجهزة الدولة وهوان المواطن عليها.


ـــ 6ـــ


حين رويت لإبن عمتي حامد كل ما حدث لي مع سميح الجبالي،
( و كالعادة) مشفوعا بما وعد الله به من جزيل الثواب لمن فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، قال لي متعجبا" هذا والله بطل قومي يجب أن يكرّم، ثم ان للرجل دينا في عنقك!"
قلت له:
ــ سأحول هذا الدين الي عنقك أنت، لأنك أقدر مني بما لديك من صلات على فك المعضلات!

لم يحتج الأمر لغير أسبوعين، تمكن بعدها سميح الجبالي من مغادرة سجنه.. بدأت الحكاية حين إتصلنا بمحام شهير في قدرته على تحقيق المعجزات لقاء أجر مرتفع ..حين حدثناه عن قضية سميح الجبالي، قال لنا دون تورية " إذا لم تتعلق القضية بالسياسة و أمن الدولة، فلا تفكرا بمسألة تسريح المتهم من عدمها، فهي من تحصيل الحاصل !"... كنا نعلم ذلك، فقد أخبرنا مدير مكتبه أن بإمكان الأستاذ تقديم ما يثبت براءة جنكيز خان، وعفة بيل كلينتن، و طهارة مايكل جكسن، المهمّ أن تؤدوا له حقه كاملا (ثم بصوت خافت)..." ثم حقوق من سيدفع لهم! "

حال استقرار الشيك الممضي على مكتبه الأنيق، قال لنا المحامي: "الذي حدث هو الآتي ( ثم توجه بالخطاب الي ابن عمتي حامد) لقد قمت بانتداب موكلنا المظلوم سميح الجبالي للعمل بشركتك حسب ما تدلّ عليه أوراق مكتب التشغيل، و حسب شهادة زملائه...
حين عاين دهشتنا سارع قائلا:
ــ لا تشغل بالك بالشهود، فهم جاهزون منذ مدة!
ثم وهو يتوجه بالحديث الي ابن عمتي حامد:
ــ الذي حدث أيضا، أن موكّلي سميح الجبالي قد أعتدى عليك بالعنف الشديد، قبل يومين من مقتل الفتيان الثلاثة، و ذلك حين أهنته أمام جمع غفير من العمّال بسبب سرقة ثبت فيما بعد انه لم يرتكبها، مما سبّب لك أضرارا بدنية موثقة بشهادة طبية، وقد تقدمت ضده بشكوى موثـقة هي أيضا بمحضر شرطة حرّر بالــمناسبة، وقــد قـبض على المعتدي قبل تمكنه من مغادرة الشركة، و ظل رهين الايقاف لمدة أسبوع بشهادة مدير الأمن في المنطقة. ثم أطلق سراحه بكفالة في انتظار المحاكمة.. لكنه إختفى حين حكم عليه غيابيا بشهرين سجنا، و غرامة مالية، قبل أن يقبض عليه ظلما و عدوانا بتهمة قتل الفتيان الثلاثة!
انتفض المحامي واقفا و هو يقول باسما :
ــ أيها الفتيان العزيزان، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان!
وقد تم الأمر وفق السيناريو الذي وضعه المحامي اعتمادا على الفساد الإداري الذي كان سائدا في السنوات العشر الأخير من حكم بورقيبة، الدكتاتور الهرم الذي أصابه الخرف ممّا تسبب في إنفلات أمني وصل الي حدّ مغادرة أحد أكثر السجناء التونسيين شغبا و أشدهم إجراما سجنه أثناء فترة عقوبته، و مشاركته في إستجواب تلفزي على الهواء، مما لفت نظر آمر السجن الذي صدم بصورة السجين على الشاشة!... ذلك ما كان يحدث في نهاية العهد القديم، أما في عهد خليفته الرّهيب، فلا يستطيع حتى المواطن البريء مغادرة سجنه ولو بعد إنقضاء مدة عقوبته!



ــ 7 ــ


ذات مساء صيفي رق فيه الجوّ، و عذب فيه السّهر، وطاب فيه السّمر، حين سألت صهري سميح الجبالي (الذي أصبح أيضا نجم العائلة و موضع ثقة أبي) عن كيفية تنفيذه القصاص في الجناة الثلاثة، قال لي ملوّحا بيده، كأنه يدفع عنه ذكرى كريهة:
ــ دعنا من الماضي المؤلم، و لننعم بالحاضر الزّاهر.
حين ألححت عليه في الطلب، إعتدل في جلسته ثم قال شاردا:
ــ ذات مساء ليلة شتوية، تسوّرت على الجناة الثلاثة الفيلا الفخمة التي اتخذوها وكرا لهم، بعد أن تسلحت بثلاثة حبال و شريط لاصق.. حين فتح لي الباب كان هيّنا عليّ السيطرة عليهم.
قلت معلّقا:
ــ دون شكّ!
ــ بعد أن سددتأفواههم بالشريط اللاّصق، حبست أثنين منهم في إحدى الغرف، ثم أمرت أقواهم بمساعدتي على نقل كرسيّ دوّار من الحجم الكبير وضعناه معا قرب المسبح الفارغ.. حين فرغنا من ذلك، أمرت الفتى بمساعدتي على نقل السّيارة التي صدمت عز الدين الى حافة المسبح، ثم دفعناها معا الى وسطه.. بعد ذلك، سقت الجناة الثلاثة الى المسبح، بطحت الأول و الثاني على أرضيته، ثم ربطتهما في مقدمة السيارة، أما شقيق الراقصة فأجلسته على ركبتيه ثم شددت وثاقه الى السيّارة، حين فرغت من ذلك، فتحت منافذ المياه الباردة.
سألت سميح الجبالي:
ــ هل كان عملك وليد خطة مسبقة أم تصرفت تلقائيا؟
تناول سميح الجبالي رشفة من عصير البرتقال، أعاد كوبه ثم قال:
ــ كان إغراقهم مخططا له، اما كيفيته فقد كانت وليدة لحظة رأيت فيها السّيارة ثم الكرسي الدوّار.. حين لاحظت تأثر الجناة من برودة الماء قلت لهم و أنا أستقر على الكرسي الدوّار :
ــ هكذا كان عز الدين يشعر حين تركتموه يكابد ليلة شتاء قارسة!
قلت لصهري الرّهيب متعجبا:
ــ لم أكن أتصور أنك بمثل هاته القسوة.
قال لي مبتسما:
ــ و أنا ايضا، لم أتصوّر انك بمثل هذه الرّقة البالغة.. فالجزاء يا سيدي من جنس العمل!
بعد ذلك مضى يقول:
ــ بعد ساعة واحدة و حين غادرت غرفتي الدافئة، وجدت المياه المتدفقة قد غمرت الجانيين المبطوحين مما ضاعف هلع الثالث ومحاولة التخلص من وثاقه، خصوصا بعد تأكده من هلاك صاحبيه... حين وصل الماء الي صدره أغلقت الأضواء الكاشفة، سحبت الكرسي الدوّار الى الوراء، أدرت ظهره ناحية المسبح، ثم غادرت المكان متوجها نحو بيت الأم الثكلى التي سبق أن قابلتها قبل يومين من تنفيذ خطتي، و وعدتها بالبحث لها عن شقة رخيصة الثمن، بعد أن أشعرت بوجوب مغادرة الفيلا التي كانت تحرسها.. حين فتحت لي الباب، أعلمتها بأنني قد عثرت على شقة مناسبة و عليها مرافقتي لمعاينتها... فور وصولنا الى مكان القصاص، أجلست الأمّ الثكلى على الكرسيّ الدوار، تلوت عليها قول الحق تعالى(( و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) " ثم بادرتها قائلا "تذكري حين ترين مشهدا قد يصدمك، مدى الأذى الذي لقيه عز الدين الذي قتل بدم بارد، ثم مدى الحزن الذي غشيك كأمّ حرمت من فلذة كبدها، و من قصاص عادل يريحها".. حين شعرت بأن الأم الثكلى مازالت أكثر ما تكون حرقة لمقتل ولدها، و أشدّ ما تكون رغبة في إلحاق القصاص بقاتليه، إستويت واقفا، أدرت الكرسي الدوّار نحو المسبح، دفعته الى الأمام..
صحت بسميح الجبالي جذلا:
ــ يجب أن يصنع من عملك حلقة إضافية من روبن وود
ثم اضفت مستدركا:
ــ على أن تكون ممنوعة على من سنهم دون الثامنة عشر!
استمر صهري يقول:
ــ بعد ذلك، فتحت الأضواء التي كشفت عن الجناة الذين لقوا حتفهم.
سألت سميح الجبالي:
ــ كيف كان موقف الأم؟
أجابني وهو يتمطىّ:
ــ لم تكن تملك قلبا كالذي بين جنبيك... فحين عاينت الجناة، همّت بالزغردة، لولا مسارعتي الى سدّ فمها.
اضاف وهو يتناول كأس عصير البرتقال:
ـــ لقد كانت إمراة قويّة الشكيمة!

في حين انهمك سميح الجبالي في تقشير تفاحة، كنت أتأمل ذلك المنقذ الشهم الذي تخلف عن عصره بقرون عديدة.. لم أسأله عن كيفية القبض عليه، كنت أعلم أنه قد سلم نفسه إلى البوليس، بعد أن ألصقت تهمة قتل الجناة بحارس الفيلا الذي كانت له مصلحة في تصفيتهم بعد إغتصابهم أبنته القاصر قبل شهر واحد من الواقعة!
قال لي سميح الجبالي وهو يقدم لي نصــف تفــاحة مقـــشرة بعناية شديدة:
ـــ لقد كان عزائى ولا يزال، أن الأم المسكينة قد صلح أمرها، و أستقرت حالها، و أسترجعت راحة بالها و سكينة روحها، بعد ان حلّ القصاص العادل بالجناة.
ثم وهو يبتسم:
ــ فقد ارتفعت معنوياتها و عادت اليها رغبتها في الحياة كأشدّ ما يكون، الى حدّ لم تتردّد فيه عن الزواج ثانية!. وقد اخبرتني حين اصطدمت بها آخر مرة لقيتها فيها، انها حامل بعز الدين الثاني!



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيء من نفاق كهنة السوء. قصة بالمناسبة
- دخول الكفار النار هل هو حتميّ؟ قصة بالمناسبة
- حزم قصة قصيرة حمادي بلخشين
- نجاح. قصة قصيرة حمادي بلخشين
- مسيرة قصة قصيرة حمادي بلخشين
- حريق قصة قصيرة حمادي بلخشين
- عنت قصة قصيرة
- شيء من نذالة قادة حماس قصة بالمناسبة
- محرقستان قصة قصيرة
- حسن البنا هل غيّر فكرته قبيل مصرعه؟
- حسن البنا: موتة استعراضيّة لبطل من ورق
- حسن البنا هل جاء على قدر، أم كان صنيعة بريطانية.
- حسن البنا في الميزان: صفر من خمسة!
- حسن البنا ومصطفى كمال أتاتورك مقارنة بين أداتين.
- حسن البنا : سقوط بلا حدود 2/2
- حسن البنا: سقوط بلا حدود 1/2
- حسن البنا و خياره الإخوانيّ الخاسر قديما و حديثا
- حسن البنا: جعجعة بلا طحين.
- حسن البنّا كان صنما إخوانيّا و مهرّجا سلفيّا 26
- حسن البنّا كان صنما إخوانيّا و مهرّجا سلفيّا 25


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - قصاص قصة قصيرة حمادي بلخشين