طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 3922 - 2012 / 11 / 25 - 23:19
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
في طقوس عاشوراء في العراق تخرج الملايين الى الشوارع كل عام, يلطمون ويسفكون دمائهم.ان الدماء التي تسفك في هذه المناسبة لا تشكل اعترافا بالذنب بسبب خذلان الحسين من قبل اجدادهم, كما يريدون اقناعنا, وكأن امورا كهذه خاضعة لقوانين الوراثة. بالعكس انها تشكل, يمكن القول, تكريسا لتقمص دور الضحية السلبي. فكيف ستغيير هذه الشعائر الواقع البائس على الارض, حتى لو امتلأت مياه دجلة او الفرات بالدماء؟
اذا كان الحسين رجلا ثوريا مضادا لفساد وظلم يزيد, كما تروى القصة مرارا برتوش مختلفة, فان المواكب الحسينية مضادة للمشروع الحسيني المعادي للظلم والفساد. انها تكريس لنهج السلبية والترقب, كنهج اجدادهم اثناء مقتل الحسين. وبالتالي فهذه الشعائر تخذل الحسين من جديد وتنتصر للظلم والفساد والموبقات التي يجسدها يزيد برأيهم. ان هذه الشعائر تشكل في الواقع انتصارا جديدا ليزيد على الحسين, وليس العكس كما يدعي منظمي ومشاركي مواكب عاشوراء.
انهم, بسبب شعورهم بالعجز والضعف وعدم القدرة سابقا والآن, يوجهون سهام غضبهم الى ابدانهم العاجزة ويعاقبوها باللطم والتطبير. ولكنهم يستطيعون, ان ارادوا, ان يستخدموا ابدانهم, ليس كهدفا لغضب عاجز, بل كأداة فعالة لمعالجة اسباب تهميشهم وعجزهم. فعندما يشرعوا في ذلك ويوجهوا سهام غضبهم على مسببيه في حياتهم الآن, ستنتفي الحاجة الى ايذاء الجسد وسفك دمه, لانهم عندئذ قد تصالحوا مع اجسادهم واكشتفوا قدرة الجسد على التغيير وضرورة احترامه.
توفر المواكب لمنظميها المال والجاه, وهذا امر لا علاقة ابدا باصلاح الحال, بل بادامته. الشخص المتوازن نفسيا والسعيد يحترم جسمه ولا يتعامل معه بمازوخية منقطعة النظير وبسادية مع الاخرين. فالسادية والمازوخية تؤمان لا ينفصلان. فكيف نتوقع من لا يحترم جسده ان يحترم جسد الآخر؟ ان المازوخية والسادية هما سماتي الشخصية التسلطية التي, كما يقول المحلل النفسي الماركسي اريك فروم, ساهمت في وصول الفاشية والنازية في اوربا في القرن الماضي, كاحقر الايديولوجيات المعادية للجسد والمدمرة له.
ايضا, توفر المواكب وسيلة للهروب من الحرية والمسؤولية الفردية في تغيير الواقع. ولكن الهروب من الواقع بحد ذاته لايوفر متعة نفسية للشخص. ولذلك يستخدم الافراد في هذه الطقوس, وحتى خارجها, افكارا وسلوكيات محددة لتجنب الاثار السلبية نفسيا الناتجة عن التهرب عن تحمل المسؤولية و الهروب من الحرية, وهي:
١- التسلطية: يعتبر فروم ان السمات التسلطية, كما ذكر اعلاه, تحتوي عادة على عنصر سادي وعنصر مازوخي معا. تحاول الشخصية التسلطية السيطرة على الآخرين في محاولة لفرض نوع من النظام على العالم، وأنها ترغب أيضا في السيطرة على بعض القوة المتفوقة التي قد تأتي في هيئة شخص أو فكرة مجردة.
٢- التدميرية: على الرغم من التشابه هنا مع السادية، فروم يقول إن السادي يرغب في السيطرة على شيء ما, اما السمات المدمرة فترغب في تدمير شيء لا يمكن أن تضعه تحت سيطرتها.
٣. التوافقية: تحصل هذه العملية عندما يقوم الاشخاص بدون وعي بإدماج المعتقدات المعيارية وعمليات التفكير للمجتمع وخبراتهم عنها واعتبارها ملكا لهم. وهذا يسمح لهم تجنب التفكير الحر الحقيقي، الذي من المرجح أن يثير القلق لديهم في حين انهم يجهدون دوما تفاديه. وهذا موضوع عالجته ايضا في مقالات سابقة بشئ من التفصيل.
الطامة الكبرى ان الشعائر تعطي شعورا زائفا, فرديا او جماعيا, بالانتصار والنشوة لمن يؤذي نفسه باللطم وضرب الجسم بالزناجيل او ما شابه, وهي نفس المشاعر الناتجة عن تناول مخدر المورفين, ولكن المورفين في هذه الحالة هو من انتاج الجسم والمسمى علميا -اندورفين-. ولكن ليس فقط ان المورفين ومعادله الداخلي الاندورفين غير قادران قيد انملة على احقاق العدل بحق ظلم تاريخي محتمل او واقعي حاليا, بل ان المخدر, الخارحي او الداخلي, لا بد ان يهلك الجسد. فاضرار الخارجي, المورفين, معروفة. اما الداخلي, الاندورفين, فان شروط انتاجه هنا هي سفك الدماء وانهاك الجسم في طقوس لا تهدف الى التغيير, بل بادامة واعادة انتاج الانسان الضحية والسلبي. غني عن الذكر ان شخصا كهذا غير مؤهل لاحداث تغيير ايجابي او ثوري, لان جل ما يبغية هو الحصول على الاندورفين ليعيش لحظات, ولو قصيرة, مشاعر النشوة والاقتدار, لكي تساعده لربما في احتمال تعاسة الحياة وبؤسها في اغلب الاوقات.
كما ان الحاجة الى الاندورفين لا تتوقف عند انتهاء الطقوس. فهي تصبح أدمانا, ولا بد ان تستمر الى ما بعد فترة ممارسة الطقوس. وبالتالي تستمر الحاجة الى ممارسة العنف بحق النفس والآخر باشكال اخرى حتى خارج فترة الطقوس.
ان شعورا بالافتخار والنشوة توفره مؤقتا كرنفالات ريو دي جانيرو للمشاركين ايضا كل عام, كما يذكر كاتب اروغواي الشهير ادواردو غاليانو. ولكن طقوس الكرنفالات لا تؤذي الجسد ولا تقدس الدم, بل انها تشكل احتفالا بجماليات الجسد وانتصارا لتألقه وبقدرته على الاستمتاع بدون اذى للنفس او ألآخرين. وبالتالي تساهم في احترام النفس والآخرين بما يتتفق وشرائع حقوق الانسان.
لا بد ان تؤول الطقوس المؤذية للنفس والآخرين الى الضمور وحتى الاختفاء عندما تتوفر دولة مدنية تحترم الانسان وتصون حقوقه, اي عكس ما موجود حاليا.
Eduardo Galeano: desprecio como destino. Urguay.1940
Erick Fromm, Escape from Freedom. UK. 1941
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟