رياح التغيير التي تهب على عالمنا العربي اليوم ولو تحت قعقعة السلاح وأزيز الطائرات وشعارات النظام الدولي الجديد أو محاربة الإرهاب وغيرها من الشعارات والأطر التي تستلزمها الإستراتيجيات الدولية المتصارعة للسيطرة على عالم لم يزل في طور التشكيل ، لاتنفي الحقيقة العربية العارية بضرورة التغيير والإنطلاق من عالم الجمود القاتل نحو عوالم جديدة أساسها وعمادها التلاؤم مع الواقع المعاش ، وفهم حقيقة الأوضاع الدولية والإقليمية والتعايش مع الثقافة الكونية السائدة وفق منطق المشاركة الواعية الحرة لا منطق التابع والمتبوع ! وذلك بطبيعة الحال أمر له علاقة بتحرير الإرادة وبقدر هائل من الإنفتاح والتعاطي مع الحرية المسؤولة وقيمها التي لاتقبل التجزأة .
فلقد مرت بالعالم العربي تجارب صعبة وشرسه كان بعضها مسرفا في مأساؤيته ومغرقا في سوداويته وضمن الظروف التي أفرزتها الهزيمة القومية الكبرى في الخامس من يونيو / حزيران عام 1967 والتي كانت إشارة واضحة لهزيمة وتراجع المشروع السياسي المبني على الشعارات العنترية والبرنامج الشمولي وإهمال الديمقراطية وحرية التعبير ومنع المواطن من المشاركة السياسية ولو عبر توفير الحرية لإبداء الرأي فقط لاغير! ، فجاءت الهزيمة العسكرية والحضارية أيضا تعبيرا أمينا عن حالة الكبت والقمع الشمولي فالحرية والنصر من سمات المجتمعات الحرة الخالية من أي شكل من أشكال العبودية وتكميم الأفواه التي أضحت ولعقود طويلة للأسف (سنة عربية متبعة)!... فبعد تلك الكارثة القومية دخلت المجتمعات العربية في طور جديد هو طور (الإنقلابية) لتصحيح الأوضاع و(الرد على الهزيمة القومية)! ولكن المشكلة أن أداة التغيير هي نفسها أداة الهزيمة! فتغيير الأشخاص لم يتبعه تغيير في السلوكيات ولا المناهج ، كما أن سوق الشعارات قد أزداد رنينها بربط الأوطان ومصائرها بالأنظمة الحاكمة التي أسبغت على نفسها تسمية (التقدمية) تمييزا لها عن أية أفكار مخالفة ليبدء بذلك فعلا وقولا مشروع تجزئة الأوطان وتدمير كل مقومات الإبداع الحر وبناء مجتمعات الشمولية المهزومة من الداخل دائما وأبدا! وكان ذلك أيضا جزءا من حالة الإستقطاب الدولية وتأثرا بالتيارات السائدة فيه ووجود ماكان يسمى ب (المعسكر الإشتراكي)! والذي كان الملاذ الآمن لأنظمة القهر العربية للإحتماء من مطالبات التغيير الديمقراطي وهي على أية حال متطلبات ليست صعبة ولاعصية على التنفيذ .. فكل ماتتطلبه هو تراجع الحاكم عن (ألوهيته) والإقرار بأن هنالك عقول أخرى تفكر ، ومن أن هنالك آراء مخلصة أيضا.. ولكن قد أسمعت لو ناديت حيا؟.
لقد مرت بالعالم العربي تجارب كبيرة وخطيرة كانت حالات الإستفادة من تجاربها ودروسها منعدمة تقريبا إلا في حالات نادرة إستطاع بعضها الإفلات من أسر الماضي وجراحه ، فيما إستمر البعض الآخر في المكابرة ومعاكسة رياح التغيير وحقائق العصر ومناهضة كل الضرورات الإستراتيجية كتعبير أخير عن خيارات ولدت ميتة!.
وتكاد أن تكون الصورة سوريالية ونحن نتابع المشهد السياسي العربي والذي فاق وبمراحل أبعد التصورات السوريالية تطرفا وجنوحا؟ فمع نهاية الستينيات عاش العالم العربي أوضاعا إنقلابية أي قيام أنظمة إنقلابية بشرت المواطنين العرب بالمن والسلوى وبتحقيق الديمقراطية والقضاء على أسباب الهزيمة القومية والإنطلاق بالمشروع الحضاري العربي الشامل الذي سيعيد المجد العربي التليد وسيحرر الأرض من البحر إلى النهر ... وكلام ووعود كثيرة لاتتسع لها الذاكرة ولاحيز المقال ، وكانت الحالة كذلك في العراق وسوريا والسودان وليبيا والصومال ..إلخ ، كما شعرت الأنظمة المحافظة بالخطر من تلكم التوجهات والشعارات التي وجدت أرضية لها بين القطاعات الشبابية المتحفزة لبناء عالم أفضل ولو عبر الوعود التي لن تكلف مطلقيها شيئا على أية حال !.
في العراق تحديدا إبتدأ المشروع التغييري في السابع عشر من تموز / يوليو عام 1968 تحت يافطات براقة وشعارات جذابة وبيانات منمقة وبليغة توحي للبعيد بإيجابيات وآمال وطموحات .. بينما الحقيقة كانت مطمورة تحت رنين الشعارات ، فلقد إبتدأ التغيير فعلا ولكن من خلال السراديب والأقبية وغرف التعذيب وأفتتح الكرنفال التغييري من خلال بوابات ( قصر النهاية ) الأسطوري الذي كان يمثل خلاصة الجهد لتغيير المجتمع عبر سياسات القمع والتصفية للخصوم وبناء دولة الحديد والنار وإقامة الستار الحديدي العربي ! لقد كان ذلك القصر الذي شهد نهاية الأسرة الهاشمية الحاكمة في العراق صبيحة الرابع عشر من تموز / يوليو 1958 الساخنة بداية المشروع (النهضوي) لنظام القمع العربي الجديد؟ وكان مصنعا (ديمقراطيا) للتعذيب حيث إحتضنت سراديبه كل ألوان الطيف المجتعي والسياسي العراقي من اليمين وحتى اليسار من القوميين وحتى البعثيين المخالفين من السنة والشيعة والأكراد والآشوريين والتركمان وكل مكونات المجتمع العراقي التي تتأهب اليوم لممارسة إستحقاقات حلم التغيير ، وأستمر هذا الرمز التغييري يمارس سياساته التغييرية طيلة خمسة أعوام قبل أن يعلن النظام عن هدم القصر وإعدام القائمين عليه!!! عام 1973 ولكن لتفتتح قصور أخرى ومعامل تعذيب متطورة تؤشر على تجذر المشروع التغييري والذي أودى بالعراق لما نراه اليوم؟
في الجانب القصي الغربي من العالم العربي كانت هنالك تجربة أخرى وقصة أخرى ونتائج مختلفة أخرى ، ففي المغرب تلك البقعة القصية من العالم العربي كانت الصورة السياسية منذ بواكير فجر الإستقلال عام 1956 بعد حصيلة كفاحية شرسة متوترة مع تصاعد مؤشرات الصراع بين الأحزاب الوطنية والقصر للسيطرة على القرار والسلطة في ظل تصاعد التدخلات الخارجية والمؤثرات الناجمة عن الحرب الباردة وإشتعال نار الثورة الجزائرية التي قربت بشكل حاد بين المشرق والمغرب العربي وكانت تراكمات الصراع بين مختلف التيارات تتنامى لتشكل إستمرارية متوترة في بلد يصارع مختلف التيارات من أجل التعبير عن الإستقلالية وإعادة البناء الإجتماعي والتخلص من عهود طويلة من (السيبة ) والفوضى ، ولم تكن المغرب بطبيعة الحال بعيدة عن الدعايات الثورية التي إستعرت في المشرق ولاكان بعيدا عن ممارساتها وإن إختلفت الصورة وتباين الفرقاء ، فكانت مرحلة الستينيات بمثابة مرحلة صراع بنيوية حادة ودخلت السبعينيات ليستقبل المغاربة سنواتها الأولى بأبشع محاولتي إنقلاب عسكري تمتا على التوالي في تموز /يوليو 1971 في قصر الصخيرات المغربي وحادث الطائرة الملكية في آب / أغسطس 1972 والتي قادتها نفس الجهة التي نفذت الإنقلاب الأول أي المجموعة العسكرية المترسبة من بقايا جيش الحماية الفرنسي والتي كان يمثلها رجل المغرب القوي وقتذاك الجنرال محمد أوفقير! وهاتان المحاولتان وما تبعهما من توابع هزتا الوضع والتفكير الإستراتيجي في المغرب فكان الرد السلطوي عبر إجراءات تنفيذية وعقابية قاسية لاتتلائم والسماحة المغربية المعهودة فجنحت الأمور صوب الإجراءات الوقائية والتي تعني ترجمتها تجاوزات مريعة لحقوق الإنسان قام بها من يفترض أنهم يحمون الدولة والمجتمع فأقيم معتقل ( تازمامارت ) الصحراوي الرهيب الذي كان قبرا جماعيا مريعا للجماعات الإنقلابية ولكنه للحقيقة والتاريخ لايشابه من بعيد أو قريب قصور النهاية في العراق رغم بشاعته ووحشيته إذ أن جميع النزلاء كانوا ممن تورط في المحاولتين الإنقلابيتين ولم يكن قبرا جماعيا للمعارضة المغربية التي كانت ناشطة وفي حالة حوار معلن مع القصر كما كانت في حالة تحدي أيضا ، وبعد المتغيرات العالمية التي أعقبت حرب الخليج وهدوء الوضع الداخلي في المغرب وتقليص الفجوة بين أطراف الصراع الدولة والأحزاب لم يأل صاحب القرار المغربي جهدا في تصحيح الحالة وإسدال الستار على كل التجاوزات وإعترفت الدولة في مبادرة فريدة عربيا بمسؤوليتها الأخلاقية والقانونية عن كل التجاوزات مقرة مبدأ التعويض للمتضررين ثم ملأت المكتبات المغربية وصفحات الصحف بالعربية والفرنسية بمذكرات الناجين من ذلك المعتقل الرهيب وأبرزها مذكرات السيد محمد الرايس التي كانت مريعة ومعبرة عن عمق المأساة وصيغت بلغة شفافة تخلو من الحقد وتحاول أن تسمو على الجراح القاتلة ، وبرغم كل درجات وصور الصراع إستطاع العاهل الراحل الحسن الثاني وبذكاء سياسي وعقلية تكتيكية نادرة أن يجنب المغرب تبعات سياسات الحقد والإنتقام لينجح نجاحا مبهرا في تهيئة المغرب لدخول تحديات القرن الحادي والعشرين وليسلم الأمانة لمن خلفه وهو الملك محمد السادس وحيث يعيش المغرب اليوم حقبة البناء الدستوري والتقدم العلمي والمشاركة الشعبية في صنع القرار وإدارة إنتخابات شفافة تتيح لكل المغاربة المشاركة في نسج خيوط تجربتهم السياسية الخاصة دون نسيان الماضي بكل تفاصيله ورموزه وآلامه وإخفاقاته وليأخذ المغاربة عهدا إجتماعيا شاملا بعدم العودة لتازمامارت ! وعدم الرجوع لسياسات القتل والتصفية وإذابة الخصوم بالآسيد ... لقد كانت أيام مرة وتجربة مريرة ولكن الإبداع يكمن في كون كل ذلك قد تحول لتاريخ وشاهد حي على المأساة حيث حسم المغاربة أمرهم بإتباع طريق الديمقراطية الحصين والكفيل بإدارة عجلة التقدم في عالم لايرحم وأوضاع دولية لاتحتمل التأجيل والتسويف والمماطلة ، فكان الخيار المغربي إستراتيجيا وفاعلا ... فهل ستهب رياح المغرب هذه المرة نحو المشرق لتساهم في تعبيد ماخربه أصحاب الشعارات الرنانة الذين يحصدون اليوم نتائج مازرعت أياديهم؟