أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي غشام - ما وراء شط العرب















المزيد.....

ما وراء شط العرب


علي غشام

الحوار المتمدن-العدد: 3775 - 2012 / 7 / 1 - 00:08
المحور: الادب والفن
    


ما وراء شط العرب
في تلك الساعات التي اجبرت فيها على الاقتلاع من جذور مدينتي الغافية على اصوات قنابل الحروب على مدى اكثر من عشر سنين وتحديدا في عام 1991 وأنا احاول الوصول الى ذلك الخط الوهمي المسمى بالحدود حينما اشتعلت الارض تحت اقدامنا وضاقت السماء بآفاقها لم افكر حينها سوى بالوصول للحدود للنجاة بنفسي انا ومن معي في ذلك الوقت .
عندما وصلت الى الضفة الغربية لشط العرب ابتلت روحي بعبق الشط وألفتْ نفسي واستقرت لحفيف سعف النخيل الكثيف وهو يستعد لمشواره مع حمله الأصفر الذهبي ، لان الصيف كان على الابواب لم يكن شهر مارس بخيلاً حينها بقطرات مطره الكثيفة التي بللت الارض ..
اخذ الجدل الذي دار بيننا حول خلو الممر بين بساتين النخيل المؤدي الى مرسى قوارب الصيد الصغيرة محتداً انا وأصدقائي الخمسة واستقر حال تفكيرنا على ان يستطلع احدنا الطريق الى ضفة النهر كان سكون مشوب بأصوات المدفعية البعيدة التي تدك مدن وأحياء البصرة في تلك الساعات الحاسمة من تاريخ وطن يبكي ابناءه .
تلقانا ذلك الشاب بسؤاله عن هويتنا بإلحاح مخلوط بحذر شديد وبعد محاورة قلقه امن جانبنا واتفقنا على العبور للضفة الاخرى واستقررنا بقلب القارب الصغير جميعنا واندفع بنا صاحبه على هدأة الخوف النافر من عيوننا ووحشة الغربة التي تنتظرنا وكأننا ننتظر ان يصدر حكما علينا من محكمة ما ، كانت اعيننا تحكي قصصا وحكايات لثلاثة ليالي خلت بين جوع ورعب وموت .
ما ان بلغنا منتصف النهر وتحديداً في اعمق نقطة هناك تسابق معنا الرصاص ليسبق قاربنا الصغير وحركة مجاديف صاحبه الذي اخذ يتلفظ بالسباب على الرامين من الضفة التي تركناها هاربين باتجاه الشرق الى الارض الموعودة والتي حُمّلَتْ بأكثر الاكاذيب عن الجنان والحواري وانهار اللبن والخمر الذي عتق لنا من سنين حرب الثمان المنصرمة وسقوه لنا بكؤوسهم المسمومة والتي خزنت لديهم منذ اكثر من ألف وأربعمائة عام خلت لتجتَّر عقولنا هزائمهم وبنفس الكأس المسموم والمحمل بأحقاد كتب الحديث وفتن آخر الزمان الذي ينتهي بمخلص على مقاس ما كتبوا وحضروا ودبَّروا ..!
عندما اقتربنا من تلك الضفة الحلم يرافقنا حينها رصاصات طائشة على غير هدى تسري لتنال من احدنا وفشلت من الوصول الى هدفها بأعجوبة وذهول .!
ما إن وصلنا ضفة النهر الاخرى حتى عاد الدم يتدفق بعنف في عروقنا لهول ما رأينا وسمعنا من ادوات الموت وأصواتها التي لم تغب عن بالي اكثر من عشرين سنة ولحد الآن اصوات تأبى الاندثار وشخوص غابت وبقيت شاخصة حاضرة في مخيلتي وذاكرتي التي لها طبع الحديد .
همّ اصحابي بالسير السريع وراء نخل (التنومة) الكثيف والذي تناثرت داخل بساتينه حيوانات اليفة ليس لها مأوى او راع كانت ترعى باطمئنان حرية فقد خلت الارض لها ورفعت اسوار البساتين من وجهها ، تناهى الى سمعي صوت انين انسان كأني اسمعه بعيدا عني بين تلك البيوت المترامية مع بساتينها وحيواناتها والفتها وهي تتكئ على جدرانها الطينية التي حفرت قطرات المطر فيها اخاديد تنتهي الى اسفلها مشكلة جداول صغيرة عشوائية وكأنها اثار جروح قديمة . كان الصوت مبهماً ينم عن وجع حاد وألم أزلي ، وما زاد المشهد غربة وحزن هو وشوك الشمس على الأفول وراء الضفة الاخرى للنهر وهي تترك بقايا خيوطها على وجه الماء المترقرق مصحوبا بنقيق الضفادع وصفير الصراصير مخلوطاً بأزيز الرصاص البعيد الذي يحصد ارواح اخرى او ربما يتركها في عوق تكافح من اجل البقاء لعلها تُترَك تحلم بأمان وسط ذلك الموت المجاني وبالجملة على ارض لم ترتوي بعد من تلك الدماء التي سقتها طيلة الثمان سنيين العجاف تاركة نساء الجنود يحلمنَّ بدفء لياليهنَّ وسط برد افرشتهن و وحدتهنَّ وسط غرائز مشتتة وعواطف محجورة ومرهونة بسبعة ايام فقط من النعيم المؤقت حين عودة الفحول المتعطشة لليالي الانس البشري تلك الفحول المكسورة كرامتها من رئيس عرفاء الوحدة او جندي في حضيرة الاستخبارات يتلو عليهم بشجاعة مشكوك فيها بطولاته الوهمية في حب قائده المختبئ وراء رجولة جنود لا يحملون عناوين احيانا غير قطعة لحم متفحمة ملفوفة بعلم او ربما يد وشم عليها – اعزّ الناس أمي – اخي فلان – كرهت الحياة او حتى (بسطال) ممزق لا توجد فيه اي بقايا قدم لآدمي ..!
اقتربت من مكمن ذلك الصوت دون ان يلتفت الي رفاقي فكلهم مضوا على عجل نحو الشرق وهم يحثون خطاهم بمسافات كبيرة ويستعجلوني ان الحق بعد ان أشرت اليهم ان اسبقوني وسألحق بكم اقتربت من ذلك الصوت الذي يصدر من احد الابواب المشرعة والتي تصدر صريرا خفيفا او بالأحرى شبه باب لأنه عبارة عن قطعة (تنك)علقت بالجدار الطيني من جانب واحد بسلك معدني كان هو السبب بذلك الصرير المثير للغربة داخل الروح وقت الغروب ، دخلت فوجدت شابا في عقده الثاني من عمره وجسمه ينضح دماً وقيحاً واستحال لونه الى اسود بعد ان عرفت انه يعاني من داء الجرب الذي كان في مراحله المتقدمة ويوشك ان يقضي عليه عن قريب ، اعتراني ذهول مما رأيت لأول مرة في حياتي وكأنني امام اختبار لإنسانيتي التي لم تمت رغم احاطتي بأدوات الموت اليومي المقنن في بلد لم تفارقه ازلية البكاء والحزن منذ قرون خلَت ..!
- ما بك ..سألته مستفهماً
- تركوني وهربوا على امل ان اموت نافقاً كالحيوانات ..!
- من همَ
- اهلي بعد ان ملوّا مني واستثقلوا ان يصحبوني معهم .!
صغرت الدنيا بكبرها وثقلها بعيني وشعرت بضيق حدّ الموت ..كان شعوراً مأساوياً لم أمر به من قبل كنت على وشك ان انفجر باكيا بوجه ذلك المسكين ولكني سيطرت على مشاعري تحت ضغط المشهد الذي هزّ كياني واخرج ما بداخلي من غضب ورغبة بالانتقام من كل شيء ..بل راودني شعور غريب حينما فكرت بحرق البيوت التي حولي كلها ..اردت ان اكسر شيئاً حتى ارتاح او انفس عن غضبي فتكومت اسئلة مبعثرة في راسي تبحث عن إجابات ..
- أمن المعقول ما يحدث ..لهذه الدرجة يصل الانسان بأنانيته ؟؟
- أي وحش يكمن في داخلنا ؟
- اي استخفاف بالانسانية هذا ؟
- اي جنون هذا ؟
لم افكر حينها إلاّ بشيء واحد فقط هو ان ألتقي اهله او أعرف أحد منهم لكي افرغ جامّ غضبي به بعد ان رأيت هذا المنظر لم اكن حينها ادمت التدخين ولكني رغبت في سيجارة بشدّة لعلي انفث مع دخانها بقايا روحي التعبة او انفس عن همٍّ اثقل عقلي وقلبي فتذكرت علبة السجائر والكبريت التي ابقاها صديقي المدمن عليها عندي لا ادري لماذا ..؟
اشعلت سيجارتي ولم اطفئها لحد الآن ..!
- طيب .. ماذا تريدني ان افعل لك وأنت في هذا الحال .؟
- اولاً انقلني الى الجانب الثاني من الدار ففي النهار تلسعني الشمس فتهتاج جروحي.
- ثانياً عليك ان تأتيني بطعام وماء وتبقيه الى جنبي وتواصل طريقك بعدها ..!
حملته تحت توجعاته وألمه ، فمن أين أمسكه يتألم بشدة وينزّ جسمه سوائل صفراء ودماء وقيحاً لم اعرها اي اهتمام ، نجحت بعد جهد في ان اجعله مستقراً بمكان منبسط قرب احد نخيلات البيت الريفي الكبير .. وسألته مستعلماً .؟
- اين هو الطعام .؟
- في تلك الغرفه تجد تمراً وفي الجانب الاخر في ظل شجرة السدر هناك تجد كوزاً لعله احتفظ بمائه هذا كل شيء وانا ممتن لك..!
ولجت تلك الغرفة ورأيت صندوقاً خشبيا من تلك الصناديق التي تستخدم لاحتواء التمر في وقت جني ذلك الثمر الطيب وعرجت على الكوز فوجدت في قعره ماءاً قليلاً يكفيه لليلة واحدة .
تركته وفي قلبي غصة لم تغادرني وألماً أبى أن يفارقني طيلة هذه السنين حتى بعد ان تحسس كتفي بعد سبعة اشهر كف حنون برفق وأنا في حال غير الذي كان مستغرقا بأحلام اليقظة في الوصول الى اوربا سائلني..
- اولست فلان .؟
- نعم..!
- ألا تعرفني .؟
- لا لم يحصل لي الشرف بذلك
كان شاباً وسيما ذو هيئة انيقة وملابس نظيفة باسم الوجه ، مريح المعاني ، يألفه الناظر ويؤمن جانبه لأنه يحمل سيماء الصوفيين قال لي وهو يبتسم ابتسامته الخفيفة واللذيذة .

- تعال معي وستعرف ..؟
ادخلني الى دار بسيطة ونظيفة في ضواحي مدينة مشهد والابتسامة لا تفارق محياه وعبارات التهليل والترحيب ، كان الرجل كريماً مضيافاً لدرجة كبيرة كان هناك هاجسا كبيراً لدي منان الرجل يمكن ان يكون من جيراننا او اقاربنا ..ولكن كنت اعرفه لو هو كذلك..؟
- والآن هل عرفتني ..؟
- اعذرني يا اخي فلقد عجزت عن تذكر وجهك رغم ذاكرتي القوية جدا..
- انا ذلك الرجل الاجرب الذي استوقفك صوتي..
قالها وابتسامته بدأت تتسع بالتدريج وكأنه يزف الي خبراً وينتظر وقعه على نفسي ، وفعلاً كان الامر مذهلاً لحد الأطناب عن الكلام تاركاً لدموعي تترجم ما يجول في عقلي ويحاول لساني جاهدا اخراج عبارات الفرح العارم ..
- كيف يحدث هذا .؟
- انني كنت يائساً من شفائي يا صديقي ..
- هناك من جائني وانقذني وجاء بي الى هنا وبدات مسيرة شفائي هذا كل ما بالأمر..!
لم تتوقف عيناي من انهمار دموعها وسط فرح لم اشهده منذ ان تركت مدينتي ، تلك هي المعجزة التي حدثت وانا لم اعرف لحد الان كيف حدث ما حدث وسط ذلك الموت الذي كانت مدينتي تزدحم شوارعها به وغفت تلك الليالي الهوجاء ايام المحنة تلك على قصص من هذا النوع وكأنها من قصص ألف ليلة وليلة .........
علي غشام





#علي_غشام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هلوسة العودة
- سحر
- الفصل الأخير
- واقع المرأة المظلم
- أنتِ
- لأجلكِ
- لم يكن وصلُك إلاَّ حُلماً...
- أمي وأشياء أخرى
- عتب
- الافتراس
- كان هناك
- اقتصاد العراق..الى اين؟؟
- التدخل الاجنبي الثقافي في العراق
- قصة قصيرة
- أمنية


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي غشام - ما وراء شط العرب