سوسن شاكر مجيد
(Sawsan Shakir Majeed)
الحوار المتمدن-العدد: 3693 - 2012 / 4 / 9 - 18:25
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
الضوضاء وتاثيرها على الحالة الفسيولوجية والنفسية والاداء للأفراد
يعد الضوضاء من الملامح الرئيسة للحياة فى العصر الحديث ، بل لقد أصبحت جزءاً من الحياة نفسها وأصبحت سببا عاما للشكوى فى المجتمع سواء فى البيت أو فى العمل ، أو فى المدن المزدحمة وفى المصانع ، فإن إنسان العصر الحديث يعانى ما يسمى بالتلوث الضوضائى noise pollution .
وان هناك ثلاثة محكات تستخدم فى دراسة ومقارنة وقياس ظروف العمل وهى الحالة الفسيولوجية ، الأداء ، الحالة النفسية للعاملين . ولو طبقنا هذه المحكات الثلاثة على موضوع الضوضاء ، فإننا سوف نجد بالنسبة للمحك الأول - وهو الحالة الفسيولوجية - أنها قد نالت الكثير من الاهتمام من جانب المهتمين بموضوع الضوضاء ، فلقد درست وحددت مستويات معينة من الضوضاء وجد أنها تشكل تهديداً مباشراً على الأذنين وعلى قدرتنا على السمع ، كما أشارت الدراسات فضلا عن تعرض الفرد للضوضاء من مستوى معين يؤدى إلى تقلص أوردته الدموية وإلى تغير فى دقات القلب واتساع وتمدد فى حدقتى العينين ، ولذلك فلقد افترض أن التعرض للضوضاء العالية يمكن أن يؤدى إلى الارتفاع فى ضغط الدم وربما يؤدى إلى أمراض قلبية ، كما ثبت أن التعرض للضوضاء المرتفعة يؤدى إلى توتر فى عضلات الجسم.
أما بالنسبة للمحك الثانى- وهو الأداء - فإنه يفترض ولوجود الآثار الفسيولوجية للضوضاء ، أن الضوضاء يمكن أن تقلل من الكفاية الانتاجية فى العمل ، وإن كانت الدلائل العملية ونتائج البحوث التى عالجت تأثير الضوضاء على الإنتاج لا تزال متعارضة .
وبالنسبة لتأثير الضوضاء على الحالة النفسية للعاملين المعرضين لها ، فلقد جاء هذا الموضوع فى مؤخرة الموضوعات التى اهتم بها العاملون فى مجال علم النفس المهنى، على الرغم من أن العديد من العاملين فى المجال قد أشاروا إلى أن الضوضاء يمكن أن تؤثر فى صحتنا النفسية وخاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون تحت وطأة ضغوط نفسية ، والذين يمكن أن تحولهم الضوضاء إلى مرضى نفسيين. ويشير الباحث ماك كورمك إلى أن تأثير الضوضاء لا يتوقف على الحالة الفسيولوجية للعاملين وعلى أدائهم فقط ، بل يتسع ليشمل نواحى أخرى نفسية مثل : الاحساس بالمضايقة، الانزعاج، فالضوضاء تعتبر مصدرا لمضايقة الإنسان وتعتبر أيضا عاملا مشوشا لعملية التواصل بين الأفراد .
والواقع أن الضوضاء تعتبر مشكلة مهنية تهدد الصحة النفسية للعاملين ، وإذا كانت الضوضاء شديدة للدرجة التى تجعل من تبادل الحديث بين الأشخاص أمراً مستحيلاً، فإن الأشخاص المعرضين لها ثمانى ساعات فى اليوم وست أيام فى الأسبوع ربما يتعرضون للكثير من الأضرار.
اذن ما المقصود بالضوضاء واختلافها عن الصوت؟
لابد من التفرقة اولا منذ البداية مابين كلمتى صوت sound وضوضاء noise فالمقصود بالصوت هو ما ينتج من تغيرات فى ضغط الهواء وتلتقطه الأذنان. ومن الصفات الفيزيقية للصوت الصفتان الآتيتان : الذبذبة frequency والشدة intensity . ويقابل هاتين الصفتين من الناحية النفسية اصطلاحاً : الذروة pitch والضوضاء أو الضجيج loudness / noise ويعبر عن الذبذبة بعدد اللفات فى الثانية (CPS) ويعبر عن شدة الصوت ويتم قياسها بواسطة الديسيبل decible (dB) وهو عبارة عن قياس لوغاريتمى . فكلمة ضوضاء إذن ما هى إلا مفهوم نفسى يشير إلى صوت غير مرغوب فيه أو غير محبب وغير محتمل، ويستتبع ذلك أن الضوضاء تحدث للأذنين المستعدتين لاعتبارها كذلك ، فإن الصوت المرتفع جداً قد يعتبره البعض شيئاً مقبولاً ، بينما يرى البعض الآخر صوتا رقيقاً مصدرا للضوضاء.
والواقع أن الضوضاء لا تتساوى فيما يمكن أن تحدثه من ضيق أو ازعاج وذلك لأن تأثير الضوضاء يعتمد على عدة عوامل، من بينها : صفات الضوضاء ذاتها. ومن أهم صفات الضوضاء ، طريقة حدوثها ، بمعنى إما أن تكون مستمرة ثابتة متصلة أو أن تكون متقطعة ؛ فإن الضوضاء المتقطعة أو غير المنتظمة تعتبر أكثر إقلاقاً من تلك الضوضاء المتصلة أو الثابتة وذلك لأن الإنسان قادر على أن يتكيف مع النوع الأخير. والصفة الثانية للضوضاء والتى تحدد مقدار ماتحدثه من مضايقة أو إقلاق للإنسان ، هى صفة الألفة familiarity ، ثم الصفة الثالثة ، صفة الذبذبة ، والصفة الرابعة ، مدى أهمية الضوضاء للعمل .
فلقد أوضحت الدراسات بالنسبة لصفة الألفة أن الأصوات الغريبة وغير المألوفة تعتبر أكثر اقلاقا من الأصوات المألوفة . كذلك أشارت الدراسات بالنسبة لصفة الذبذبة ، أن كلا من التذبذبات المرتفعة والمنخفضة جداً يعتبران أكثر اقلاقا ومصدرا لأكبر قدر من الضيق بالمقارنة بالتذبذبات المتوسطة. أما بالنسبة لصفة مدى أهمية الضوضاء للعمل ، فلقد دلت نتائج بعض الدراسات على أن الضوضاء ، تبدو أقل اقلاقا إذا ماكانت تشكل جزءاً ضرورياً لعمل الفرد المتعرض لها .
وبالإضافة إلى الدور الذى تلعبه الصفات المختلفة للضوضاء فى تحديد مدى ازعاجها للإنسان المعرض لها ، فإن هناك عوامل أخرى عديدة لا تقل أهمية تؤثر فى التفسير الذى يخلعه الإنسان على ما يتعرض له من ضوضاء . ومن أهم هذه العوامل نجد العوامل المتصلة بالعامل نفسه المعرض لها أو ما تسمى بالعوامل النفسية ، وتعتبر اتجاهات الفرد ومعتقداته التى يعتنقها عن الضوضاء ومصادرها من أهم هذه العوامل .
ويزداد دور العوامل النفسية ، أو ما يطلق عليه المحك الذاتى subjective criterion اكثر وضوحاً فى قيام الفرد بعمل ما وذلك عندما نلاحظ أن القيام بأى عمل يكون مصحوباً فى العادة ببعض ردود الأفعال الذاتية أو النفسية لهذا العمل، ومن بين ردود الأفعال هذه نجد : الشعور بالملل ، التعب النفسى ، التوتر أو الضغط النفسى .
ويفسر ظهور العوامل النفسية فى إدراك الضوضاء على أساس أن مشاعر الضيق التى يشعر بها الفرد نتيجة تعرضه للضوضاء تعتبر نوعاً مخففا من أنواع الشعور بالغضب . وبناء على النظرية المعرفية فى المشاعر والوجدانات cognitive theory of emotion أن الغضب يحدث عندما يعتقد الناس أنهم قد أصيبوا بأضرار ، وأن هذه الأضرار كان من الصعب عليهم تفاديها وأنهم لا يستحقونها.
أما بالنسبة لأهم الدراسات حول الآثار النفسية للضوضاء على العاملين المعرضين لها ، فأن ابرز الدراسات هي:
قام بالدراسة الأولى بجوركمان و ريلاندر Bjorkman & Rylander,1980, P. وتحدد هدف الدراسة فى القياس المعملى للازعاج annoyance الناتج عن مصادر مختلفة للضوضاء مع توضيح الفروق الفردية فى تقييمات الأفراد الذاتية للضوضاء . وتكونت مجموعة المفحوصين من 40 طالباً من كلية الطب (20 ذكور ، 20 إناث ) بمتوسط سن مقداره 25 عاماً و 5 أشهر . وتضمنت أدوات الدراسة شرائط تسجيل مسجل عليها أصوات لأربعة مصادر للضوضاء ( لوريات نقل ضخمة ، طائرات ، عربات نقل خفيفة شبيهة بالموتوسيكل ، قطار ) ، كما تضمنت الأدوات استبيانات Questionnaires . كان مستوى الضوضاء فى خلفية حجرة التجربة 36 dB(A) ، بينما تراوحت ذروة الضوضاء الناتجة من مرور أى من المركبات الأربع السابقة ما بين 70 dB(A) و80 dB(A) ، ومن بين نتائج الدراسة ، أن المفحوصين الذين أوضحوا فى استجاباتهم على الاستبيان أن بيئتهم المنزلية هادئة ولا تتسم بالضوضاء ، كانوا أقل انزعاجاً خلال التجربة من هؤلاء الذين أوضحوا فى استجاباتهم للاستبيان أن بيئتهم المنزلية مزعجة . كما أظهرت النتائج أن هناك معامل ارتباط دالاً إحصائياً بين درجة الانزعاج العام وبين مدى الانزعاج الذى شعر به الفرد فى التجربة . ولقد رأى الباحثان أن الاختلافات الفردية فى تقييم مصادر الضوضاء ربما ترجع إلى : كمية المعلومات المتاحة عن الضوضاء ، الاتجاهات نحو مصدر الضوضاء ، التعرض السابق للضوضاء ، احتمال التعود habituation على الضوضاء . كما أشار الباحثان إلى أن الحساسية الزائدة للضوضاء وعدم المقدرة على التعود عليها ربما يمثلان عاملين من العوامل التى تصف الأفراد المستهدفين للاضطرابات العقلية ، وإذا تأكد ذلك ، فإن هذا يمكن أن يكون على قدر عالٍ من الفائدة الإكلينيكية وذلك بالتعرف على هؤلاء ذوى الحساسية الزائدة للضوضاء للحيلولة دون تعرضهم للاضطرابات العقلية .
وقام بالدراسة الثانية جلاس و سنجر (Glass & Singer) وتحدد هدف الدراسة فى بحث الآثار الفسيولوجية والأدائية والنفسية للضوضاء. وقد شُكلت مجموعتان متكافئتان من المفحوصين ، الأولى تجريبية والثانية ضابطة ، وطلب من أفراد المجموعة التجريبية أن يقوموا بأداء أنواع متعددة من الواجبات فى موقف تصدر فيه ضوضاء متقطعة
بقوة 108 dB . كانت هذه الضوضاء عبارة عن أصوات فردين يتحدثون اللغة الأسبانية وفرد ثالث يتحدث باللغة الإنجليزية ، بالإضافة إلى أصوات صادرة من جهاز للنسج وآلة حاسبة وأخرى كاتبة ، وقد استخدم نوعان من الإجراءات فى تقديم الضوضاء ، الأول : تقديم الضوضاء فى صورة متقطعة ثابتة، والثانى : تقديم الضوضاء فى صورة متقطعة عشوائية . كما استخدمت إجراءات إضافية منها : ظهور ضوء منذر يقوم بتنبيه المفحوصين بقدوم الضوضاء ، اخبار المفحوصين أنه بإمكانهم إيقاف الضوضاء لو قاموا بالضغط على مفتاح معين . وقد تم قياس استجابات الجهاز العصبى المستقل للمفحوصين خلال التجربة بواسطة GSR ، كما تم دراسة تقلصات الأوعية الدموية للأصابع ، وقياس درجة توتر العضلات . وقد أوضحت نتائج الدراسة أن الظروف المختلفة للضوضاء - المتوقعة ، غير المتوقعة ، والضوضاء المدركة من جانب المفحوصين بإمكانية ضبطها - أحدثت توترا كاستجابة أولية يفوق مقدار التوتر الذى وجد لدى مجموعة المفحوصين الذين لم يتعرضوا للضوضاء ، كما أظهرت النتائج ، أنه بغض النظر عن نوع الضوضاء التى تعرض لها المفحوصون ، فإن رد فعلهم للضوضاء انخفض مع تكرار تقديمها لمستوى قارب ظروف اللاضوضاء تقريباً ، أى أن المفحوصين قد تكيفوا لمصدر التوتر بغض النظر عن نوع الضوضاء التى تعرضوا لها . وأوضحت النتائج أيضاً أنه فى بداية صدور الضوضاء ، كانت استجابة التوتر للضوضاء غير المتوقعة أقوى من استجابة التوتر لكل من الضوضاء المتوقعة والضوضاء المدركة على أنها من الممكن التحكم فيها .
وقام بالدراسة الثالثة جلاس و سنجر (Glass, & Singer) وتحدد الهدف منها فى بحث الآثار السلوكية الناتجة عن الضوضاء بعد توقفها behavioral after effects . تم تعريض المفحوصين لنوبات من الضوضاء ، وبعد انتهاء آخر نوبة ضوضاء ، تم اعطاؤهم واجبات إضافية لأدائها . كان أحد هذه الواجبات يرمى إلى قياس تحمل الإحباط ، وتضمن هذا الواجب قيام المفحوصين بمحاولة حل سلسلة من الألغاز puzzles ،
ومن ضمن ألغاز السلسلة اثنان غير قابلين للحل، وكان المتغير التابع فى هذا الجزء من التجربة هو : عدد المحاولات التى يحاولها المفحوصون فى حل اللغزين الذين ليس لهما حل. وكان الواجب الثانى فى الدراسة هو أن يقوم المفحوصون بعملية قراءة للتصحيح proof-reading ، وحيث كان عليهم أن يقرءوا ويضعوا خطوطاً تحت الكلمات الخاطئة فى ورقة منسوخة بالآلة الكاتبة . وأظهرت نتائج الدراسة أن الأداء الذى يلى التعرض للضوضاء غير المتوقعة ، والتى ليس بإمكان المفحوصين التحكم فيها أو إيقافها قد تأثر تأثيرا سلبياً، كما انخفضت قدرة المفحوصين على تحمل الإحباط ، وكذلك كفاءة عملية القراءة للتصحيح. وأشارت النتائج أيضاً إلى أن المفحوصين الذين أدركوا أنه ليس لديهم سيطرة على الضوضاء، بل عليهم التعرض لها ، قد قدروا الضوضاء بأنها أكثر إثارة للضيق والقلق وذلك بمقارنتهم بالمفحوصين الذين سمح لهم بالسيطرة والتحكم فى الضوضاء .
ومن هذا العرض نخلص إلى أن نتائج العديد من الدراسات قد أشارت إلى أن التعرض للضوضاء يؤدى إلى آثار سلبية وضارة على الإنسان ، إلا أن ما يلاحظ على نتائج الدراسات هو : أنه وإن كانت هذه النتائج قد اتفقت وبشكل قاطع على الآثار الضارة للضوضاء على الناحية الفسيولوجية وخاصة فقدان السمع ، إلا أن هذه النتائج لم تكن حاسمة فيما يتعلق بالتأثير الضار للضوضاء على الأداء وعلى الحالة النفسية .
#سوسن_شاكر_مجيد (هاشتاغ)
Sawsan_Shakir_Majeed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟