أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامح سلامة - الإلحاد يتحدى _أ_















المزيد.....



الإلحاد يتحدى _أ_


سامح سلامة

الحوار المتمدن-العدد: 3678 - 2012 / 3 / 25 - 21:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1. هذا الكتاب قائم على تطوير سلسلة من المقالات تم نشرها فى موقع الحوار المتمدن فى يونيو 2009 تحت عنوان جذور الإلحاد، وقد رأيت نشرها فى كتاب إلكترونى حيث لا يمكن نشرها كمطبوعة ورقية فى العالم العربى، وعند اعداد الكتاب تمت اعادة صياغة ما ورد فى المقالات وتدقيقها، و إحداث تعديلات بالفقرات وترتيبها، و إضافة فقرات جديدة، تتضمن فحوى بعض تعليقات القراء الهامة مع إعادة صياغتها، وبعض تعليقاتى على بعض تعليقات القراء، وختاما فهذه النسخة الثالثة التى رأيت تغيير اسمها إلى "الإلحاد يتحدى" هى الأكثر تنقيحا، ومن ثم فعلى القارئ الذى أنزل نسخة سابقة باسم جذور الإلحاد أن ينزل هذه النسخة لتتم الفائدة.
2. هذا الكتاب يتطلب شجاعة من القارئ المؤمن بالغيبيات، و لا أن يتوقف عن قراءته حتى يستكمله للنهاية، وعدم الهروب من التحدى الذى يطرحه الكاتب عليه، لأنه ببساطة يعصف بقوة بكل أسس الإيمان بالغيبيات، وهو أمر قد لا يحبه بعض القراء الذين يخافون من هز يقينهم وإيمانهم، ويخشون مخالفتهم للمجتمع الذى ينتمون إليه ودفئه، ويخافون تغيير قناعتهم الراسخة كخوفهم من الجنون، ويخشون الاستماع جيدا لمن يخالفونهم الرأى كخشيتهم من الموت، و الكتاب يفند أسباب إيمان المؤمن بالغيبيات، ويصف له العلاج الشافى من الإيمان بها، وللمؤمن بالغيبيات الحق فى أن يرفض العلاج إن شاء، ويظل مطمئنا لعقيدته الغيبية، و للمؤمن بالغيبيات الحق فى الظن أن ما يراه من رأى سليم معافى من العيب، وما عقيدته إلا قمة الصحة، وأننا على خطأ ونحن الذين فى حاجة للعلاج، إلا أن هذا واقعيا لن ينفى عنه الخطأ، فخيرا له إذن أن يواجه الحقيقة بدلا من أن يدفن رأسه فى الرمال.
3. يتطلب هذا الكتاب أن تقرأه بتأمل و تركيز نظرا لأنه مكتوب بكثافة، المقصود بها تحقيق الايجاز وعدم الإطالة على القارئ، و فى نفس الوقت الالمام الوافي بالموضوع فى نفس الوقت، وبرغم ذلك فهو كتاب سهل لا غموض فيه من حيث المعانى، وسلس لا صعوبة فيه من حيث اللغة، و إن كانت صعوبته تكمن فى عدم الاستفاضة فى الشرح والأمثلة، و هو أمر يمكن تعويضه بالبحث فى الإنترنت، لكل من هو جاد فى رغبته فى المعرفة.
4. قبل أن تقرأ هذا الكتاب عليك التجرد إلا من الرغبة الصادقة فى الحقيقة، وبلا أحكام مسبقة وبلا تسرع فى الحكم، وعليك أن تعلم أن الجهل ليس عيبا فكلنا نجهل أشياء ونعلم أشياء، جهلاء وعلماء فى نفس الوقت بمعنى ما، ولكن العيب كل العيب فى التعالى بالجهل، واعتباره ميزة، وفى الإصرار على الجهل، و فى التكاسل عن المعرفة، و فى عدم البحث الجاد عن الحقيقة، وفى الركون للسائد من الآراء مهما كانت خطأ، وفى التعالم على من هم أعلم منا، و فى خيانة الأمانة العلمية إرضاءا لأى رغبة أو خوفا من أحد، و فى الجبن عن معرفة الحقيقة أو تزييفها ترضية لعواطفنا، و فى عدم مواجهة التخلف، بل والدفاع عنه، و فى الدفاع عن عبوديتنا بدلا من أن نسعى للتحرر منها، ومن هنا فعلينا أن نتساءل لأن بداية أى علم أسئلة تبحث عن إجابة، و علينا أن نبحث بتجرد عن الإجابة دون أحكام مسبقة، ولكن علينا أن لا نستسهل الإجابة أبدا، وألا نتعسف فى رؤيتنا، فلنبحث عن الحقيقة بأمانة واحترام لأنفسنا قبل الآخرين، لا بمنطق الدفاع عن يقيننا الزائف وتأكيده، و استسهال الاطمئنان إليه، ولكن بمنطق فحصه من جديد لعلنا نكون مخطئين.
5. فى هذا الكتاب يتم نقد الفكر الدينى الذى يقوم على أساسه أى دين، و لا يقصد من هذا الكتاب نقد الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها من الأديان إلا ضمنيا وعلى نحو غير مباشر، و لن يتم التورط فى مثل هذه الطريقة، و من ثم سوف يتم نقد كل الأديان مرة واحدة، و ذلك لاكتشاف أن نقد دين بعينه بعيدا عن نقد الأديان الأخرى، يستفيد منه أنصار الدين المنافس، و لأنه لا جدوى من أن نخرج الناس من خرافة لندخلهم فى خرافة أخرى، فالأفضل إذن أن ننقد الدين من جذوره لا من أنواعه.
6. ربما فى بدايات الاقتناع بعدم وجود الغيبيات تشعر بالخوف، لأنك ترى القطيع البشرى من حولك يخافها، ولأنك ربيت منذ طفولتك على أن تخافها بشده، وهذه جريمة يرتكبها بحقنا أهلنا ومربونا، لأنهم عاجزين أن يغرسوا فينا حسن الأخلاق والسلوك بدون استخدامها لإرهابنا وترويضنا، وبالطبع فهذا ليس بذنبهم فهكذا تمت تربيتهم وترويضهم مثلما ربوك و روضوك، و أن هذه الطريقة الضارة فى التربية هى من أسباب بقاء الإيمان بالغيبيات، برغم كل هذا التقدم العلمى الذى يفندها، كما أن الإيمان الدينى لا يقوم على الاقتناع بقدر ما يقوم على الإرهاب بالعقاب الإلهى، والوعد بالثواب الإلهى، فمن منا لا يخاف من عقاب لا قبل له به، ومن منا لا يطمع فى جنة عرضها السماوات والأرض.
7. الخوف أساسا هو أحد عوامل نشوء الاعتقاد الغيبى، والتغلب عليه يكون بالمعرفة العلمية التى سوف تؤدى بك للتخلص من وهم آخر مسيطر على البشر بسبب غرورهم وعشقهم العميق لذواتهم، وظنهم أن لهم مكانة هامة ومركزية فى الوجود، و عدم قبولهم حقيقة نهايتهم بالموت، من ثم فإن ذواتهم الشخصية لابد و أن تكون خالدة، ونظرا لأهميتهم المركزية فى الكون، فإن من خلق الكون يمكن أن يهتم بعبادتهم وطقوسهم أو اقتناعهم بوجوده من عدمه، فى حين أن تلك الذات المرتبطة بالجسد التى يسمونها الروح، ليست شيئا غيبيا مستقلا عن الجسد المادى، بل هى محصلة ملايين التفاعلات الكيميائية بين مليارات الجزئيات الكيميائية فى جسدك، و سوف تفنى تلك الذات أو الروح، وتتوقف عن العمل عند الموت، وتتلاشى مع الجسد.
8. من هنا أنا لا أخاف إلا مما يستحق الخوف بالفعل، هذا الشر الموجود فى الطبيعة والبيئة من حولى، والشر النابع من البشر من حولى، وكليهما يمكن تلافيهما بقدر ما يمكن بالحرص، وليس الجبن بالطبع، وبالمساهمة قدر المستطاع فى أن تكون البيئة الاجتماعية والطبيعية من حولى، والمجتمع البشرى الذى أعيش فيه أكثر آمانا للبشر. على كل حال، فالدين أوجده الجهل والخوف والعجز، وكلما انكمشت مساحات هذا الثالوث بفضل الفتوحات العلمية، والتحكم أكثر في فهم الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان بطريقة عقلانية، كلما انكمشت مساحات الدين والتدين.
9. من المثير للدهشة حقا هو أن البشر وعبر أكثر من مئة ألف عام على الأقل، صنع خيالهم عشرات الأنواع من الكائنات الغيبية، ومئات الألوف من أفرادها، آلهة وأشباح وأرواح وعفاريت وجن وشياطين وملائكة، و أعطوا لكل منها أسماءها ومواصفاتها وشخصياتها ورموزها، ونسبوا إليها قصص وأساطير وقدرات ونصوص، وفسروا بها كل ما يحدث لهم، وأمامهم، من ظواهر الطبيعة والحياة، حيث افترضوا فيها بلا أدنى دليل أن لها القدرة على التأثير على أحوالهم، وأحوال الطبيعة، و صنعوا لمثل تلك الكائنات الغيبية، تماثيل وصور ونصب ورموز ومعابد وهياكل وأضرحة وتعاويذ وأيقونات، أما الأكثر خيالا وتجريدا منهم فقد نزهوا تلك الكائنات عن النحت والرسم والتجسيد والتشبيه الذى وصفوه بالوثنية تحقيرا له، واكتفوا برسمها فى كلمات وجمل لا تقبل التشبيه والتجسيد، وكأنما هناك فرق بين الصنم المعبود و الكلمة المعبودة، أو بين الوثن المقدس والفكرة المقدسة، من حيث كونهما من صنع البشر، و هذه الكائنات سواء أكانت مجسدة فى صنم أم منزهة عن التجسيد فى كلمة، فليس أمامنا سوى أن نعرضها للفحص و الاختبار بالحواس والتجربة، لنعرف مدى قدراتها الخارقة التى نظنها فيها من عدمها.
10. لم يكتف البشر بصنع الكائنات الغيبية، والأساطير التى تدور حولها، ولكن خيالهم جعلهم يقدسون كائنات حية سواء من البشر أو الحيوانات أو النباتات، فضلا عن كائنات غير حية، وصلوا بها لمرتبة الألوهية والقداسة، وزعموا أن لها معجزات وقدرات، سواء وجدوها فى الطبيعة كبعض الأحجار والأشجار والكواكب، أو صنعوها هم بأنفسهم من مواد الطبيعة بالنحت والرسم، و كذلك قدسوا وألهوا أماكن على الأرض كالأنهار والجبال والبحيرات، ومعابد وأضرحة، ومظاهر مختلفة للطبيعة كالسحاب والمطر، مكررين حولها ما فعلوه بالكائنات الغيبية التى صنعها خيالهم من عبادة وطقوس الخ.
11. قدم البشر عبر تاريخهم إلى كل هذه الكائنات الخيالية، والمقدسات المادية حية وغير حية، مجسدة أو منزهة، قرابين و أضاحى ونذور وأدعية وصلوات وطقوس وعبادات مختلفة، وقتلوا وعذبوا وحاربوا من أجلها، و تم قتلهم وتعذيبهم ومحاربتهم من أجلها، و هم يظنون أنها تهتم بأمرهم، و تستجيب لهم، وتشعر بهم، و تقدر ما يقدمون لها من تضحيات. على حساب تلبية احتياجاتهم المادية المختلفة من طعام و شراب وخلافه، والمعنوية من حرية و سعادة الخ، برغم أنها وعبر كل التاريخ البشرى، لم ولن ولا يمكن اثبات أنها حققت أى رغبة، أو لبت أى دعاء، أو حققت أى من الوعود والمعجزات التى ينسبها لها رجال الدين، إلا ما قد يحدث نادرا و بالمصادفة، و يتوهم المؤمنون بها أنه صادر منها، متجاهلين الكم الغالب من ما لم يلب من أدعية، و الكم الغالب من ما لم يتحقق من رغبات ووعود ومعجزات.
12. فى الوقت الذى كان البشر فيه لم يزالوا فى طور جمع الثمار والجذور والصيد، حيث كانوا لا ينقسمون لطبقات، و لا يعرفون الملكية الخاصة، و لا يخضعون سوى لأعراف وتقاليد وعادات عشائرهم، ظهر من بين هؤلاء البشر أول من عرفوا على أيديهم الاستغلال والقهر قبل أن يمارسه عليهم ملاك الثروة والتجار والمرابيين و العسكر والملوك، الذين لم يظهروا إلا فى مراحل أكثر تطورا من التاريخ البشرى، عندما عرف البشر الزراعة التقليدية، فقد كان المستغل والقاهر الأول لإخوانه من البشر ليس هو مالك العبيد أو الاقطاعى أو الرأسمالى أو الحاكم السياسى والإدارى والعسكرى، بل كان هو الكاهن أو الساحر أو العراف أو النبى الذى أدعى قدرته على التواصل مع أى من تلك الكائنات الغيبية والتأثير عليها، ومقابل أكاذيبه التى صدقوها، و هلاوسه التى قدسوها، تم إعفاءه من العمل المنتج والمفيد للعشيرة، وتكفل أفراد العشيرة المنتجين لكل الثروة، بمتطلبات حياته المختلفة، وليس ذلك فحسب، بل تم منحه مكانة ونفوذ واحترام و تقديس حيا وميتا يفوق غيره من أبناء العشيرة فى مقابل ما يبيعه لهم من أوهام، و هو فى ذلك أسوء من أى محتال أو دجال يستغل بلاهة بعض البشر وأطماعهم، ليعيش على حسابهم، وهو أسوء بما لا يقاس من مالك العبيد أو الاقطاعى أو الرأسمالى أو الحاكم السياسى والإدارى والعسكرى، فهؤلاء رغم استغلالهم وقهرهم للعبيد والفلاحين والحرفيين والمهنيين والعمال، وعيشهم على حسابهم، إلا أنهم يمارسون وظيفة ضرورية اجتماعيا، فهم على الأقل يوفرون الحماية والأمن و فرص العمل واحتياجات الحياة لمن يمارسون عليهم التسلط والاستغلال، أما ما يقدمه رجل الدين للمؤمنين به، فهو مجرد وهم يخدر الناس يمكنهم الاستغناء عنه، و رجل الدين بهذا المخدر الذى يبيعه لهم يجعلهم أكثر قابلية للاستغلال والقهر والبؤس لصالح الحكام و الرأسماليين والإقطاعيين وملاك العبيد.
13. استمر هذا الوضع وتطور وتعقد بتطور و تعقد المجتمع البشرى، فسار الكاهن والساحر والعراف والنبى فى العشيرة، مؤسسات دينية عملاقة كالفاتيكان والأزهر فى المجتمع الحديث، تستثمر الملايين فى إنتاج وإعادة إنتاج الوهم وبيعه للبشر، لتضمن أرباحا بالمليارات، وبذلك تفوق غيرها من المؤسسات التجارية الأخرى، بالإضافة لتسلطها عبر هذا الوهم على البشر، وتقييد حرياتهم، مستغلة غفلة بعض البشر، وبلاهة بعضهم، وجهل بعضهم، وأمراض بعضهم النفسية والعقلية، فضلا عن احترامها غير المبرر، والخوف من انتقادها، ونفاق الجماهير التى تقدسها.
14. بعد تطور المجتمع البشرى، تطورت عقائد البشر لديانات أكثر تنظيما، و من ثم ظهرت فئة رجال الدين الفلاسفة التى حاولت أن تجعل تلك الخرافات والأساطير والمعتقدات البدائية أكثر عقلانية، دفاعا عن بقاء المؤسسات الدينية المنظمة، ولصالح المستفيدين من بقاءها سواء أكانوا من رجال الدين أو رجال الدولة أو ملاك الثروة، لأنه مع تطور العقل البشرى، ما أصبح البشر يبلعون تلك السذاجة البدائية بسهولة، فكان لابد من استخدام ألوان من المنطق المعوج، لتستمر العقائد قوية فى عقول المؤمنين بها، ويستمر استغلالهم وخضوعهم لرجال الدين والنخب الحاكمة والسائدة.
15. فى العصور الوسطى حيث سادت النظرة الدينية للعالم والحياة، فى العالمين المسيحي والإسلامى، ما كان هناك من عمل لفلاسفة الدين وأساطين الكلام هؤلاء، سوى الدفاع عن المنقول الخرافى عبر استخدام المنطق العقلى، الذى استفادوا فيه من قواعد المنطق التى نشأت فى اليونان قبل ألفى عام، وخصوصا السفسطائيين من هؤلاء الفلاسفة، الذين كان لديهم القدرة على الإقناع بالقضية ونقيضها فى نفس الوقت، واشتعلت صراعات فى العالم المسيحى بين أنصار الطبيعة الواحدة للمسيح، وأنصار المسيح ذى الطبيعتين، وبين أنصار المشيئة الواحدة للمسيح وأنصار المشيئتين للمسيح، وفى العالم الإسلامى اشتعلت الصراعات بين من يأخذون بمسئولية الإنسان عن أفعاله، وبين من لا يرون ذلك، وبين من ينزهون الله عن أى تشبيه أو تجسيد، ومن يجسدونه ويشبهونه بخلقه. و بين من يرون الأخذ بظاهر النص القرآنى و من يأخذون بتأويله، وبين من يرون أسبقية العقل على النص القرآنى و من ثم تحكيم العقل على النص، وبين الآخذين بالعكس من ذلك أى تحكيم النص القرآنى على العقل، وبين من اتخذوا موقفا وسطا هؤلاء القائلين باستخدام العقل فى خدمة النص القرآنى.الخ، وفى كل تلك الصراعات، سالت بحور من الحبر والدم، وتراصت جبال من الجماجم والجثث. لم تشف مريضا أو تطعم جائع أو تستر عارى أو تحرر عبدا.
16. لم تعد المسألة مجرد أن البلاهة البشرية أهدرت معظم ثرواتها وجهودها ليبتلعها السحرة والكهنة والعرافون والدجالون وغيرهم من أنواع رجال الدين، بلا فائدة تذكر على غالبية الناس، و ولم تقتصر المسألة على أن ما انفقه البشر على رجال الدين و المعابد والأديرة والمقابر انتزع مما كان يجب انفاقه على اشباع احتياجاتهم الحيوية، إذ لم تكتف تلك المؤسسات والمنتفعين منها بذلك، بل اندلعت الحروب، و ارتكبت المذابح، وعذب البشر واضطهدوا وقتلوا بعضهم البعض، بسبب اختلافاتهم حول تلك القضايا الغيبية الفارغة، فى حين لم يقدم أحدهم دليل مقبول علميا على صحة دعواه، و لم يثبت أحد مدى الفائدة من مناقشة مثل تلك القضايا لباقى البشر.
17. المؤمنون بالغيبيات يستبسلون فى رفض نظرية التطور، ويغمضون أعينهم عن الحقيقة كأنما بذلك يخفونها، ويصرخون فينا كالأطفال لعلنا نصدقهم بأنها نظرية غير صحيحة، و يسبون التطوريين بشتائم أقلها الغباء، ويصل بهم الأمر إلى حد وصف علماء الطبيعة بالجهالة، وينسبون التطور لمؤامرة يهودية على العالم أحيانا، فى حين أن نظرية التطور حقيقة علمية مؤكدة، استنزفت جهود علماء الطبيعة الحقيقيين لا رجال الدين الزائفين، لأكثر من قرن ونصف ليقدموا براهين قاطعة على صحتها، من الحفريات وعلاقتها بطبقات الأرض، و تطور الأجنة فى الأرحام، و المورثات فى الخلية الحية، والبقايا الأثرية فى الكائنات الحية، ورصد هؤلاء العلماء الحسى الملموس لعملية التطور، وهى تجرى فعلا فى عالم النباتات والحيوانات قصيرة العمر، واستخدامهم للنظرية عمليا فى الزراعة والطب.
18. المنطق الصحيح هو أن الأشياء تتطور من الأبسط إلى الأعقد، ومن الأدنى إلى الأرقى، و أن المنطق الصحيح نفسه بصرف النظر عن صحة البرهنة العلمية على التطور فى الكائنات الحية من عدمها، يؤكد ضرورة أن الكائنات الحية وغير الحية لا يمكن أن توجد على هذا المستوى من التعقيد فجأة من عدم، و بلا مقدمات، فمن المنطقى أن الجسيمات الأولية الأبسط تكونت بترابط الجسيمات الأولية الأعقد، وهذه بدورها بترابطها كونت الذرات التى كونت بترابطها الجزيئات، وهذه بدورها كونت الأجسام غير الحية و الخلايا الحية وحيدة الخلية، وتكونت الكائنات الحية متعددة الخلايا الحية من الكائنات الحية وحيدة الخلايا، و الكائنات الحية متعددة الخلايا الحية بدورها أخذت تتطور وتتعقد عبر مئات الملايين من السنين من الأبسط إلى الأعقد، و من الأدنى إلى الأرقى، أما الاعتقاد أن تتواجد الكائنات الحية بكل تعقيداتها، و أن يتواجد الكون كله بكل تعقيده، فجأة بمجرد نطق إله غامض ومجهول كلمة "كن"، فكان الكون بكل ما فيه من كائنات، شأنه شأن فكرة أنه وجد هكذا مصادفة، فكليهما اعتقادان ساذجان مستحيلان منطقيا وعلميا.
19. من الغرابة حقا أن رافضى نظرية التطور هؤلاء يصدقون عن يقين صلب أن كل تلك المخلوقات الحية قد تم صنعها على هيئة تماثيل من طين، ونفخ فيها أحد الكائنات الغيبية من روحه فسارت كائنات حية، وأنها ظهرت هكذا بهيئتها المعقدة فورا من العدم، بفضل قدرة كائن غيبى لا يمكن لنا أن ندركه على أى نحو يمكن أن يثبت وجوده أو ينفيه، و فضلا عن ذلك فلم يشاهده أحدا وهو يخلقها على هذا النحو، و لا يوجد أى دليل على أنه فعل هذا الفعل. و لا يوجد ما يدل على أن هذه الكائنات وجدت بهذه الطريقة، ويقتصر مصدر إيمانهم اليقينى على مجرد قصة وردت فى نص يقدسونه، و يؤمنون أنه موحى به من قبل الله لأحد أنبيائه، دون أى دليل مؤكد على صحة وجود الله نفسه، و لا على صدور النص المقدس منه، ولا على وجود الرسول الذى أبلغنا هذا النص، إلا أن مؤسسات مثل الأسرة والمدرسة والإعلام والدولة فضلا عن مؤسسات الدين، مازالت تقدم لهم تلك النصوص المقدسة بكل ما فيها من الحكايات، وكأنها الحقيقة العلمية المؤكدة، بعد أن زرعت فى عقول الناس أن خرافات الدين أقوى من حقائق العلم، وأنها الأجدر بالإتباع والتصديق، مثلما غرزت فيهم أيضا كراهية العلم و العلماء، وتقديس الخرافة ورجال الدين.
20. التطور لا يتم لكل الكائنات الحية كما لو كان قدرا مكتوبا عليها، بل لضرورات التكيف مع البيئة وبالطفرات الوراثية، فهناك كائنات لم تتطور منذ ملايين السنين و مازالت تحيا على الأرض، لأنها مازالت متكيفة مع ظروف الطبيعة التى تعيشها، فالكائنات التى تنقرض هى التى لم يحدث لها طفرات وراثية تجعلها قادرة على التكيف مع ظروف الطبيعة المتغيرة، وأما التى أمكنها أن تنجوا من الانقراض فهى ما حدثت لها طفرات وراثية جعلتها قادرة على التكيف مع ظروف الطبيعة المتغيرة، فما هو الدافع الذى يدفع الإنسان العاقل الحديث للتطور بعد خمسة وعشرين ألف عام على ظهوره، ربما سوف يحدث هذا مستقبلا عندما تتغير الظروف الطبيعية من حوله، وعندها إما أن يتطور فيتكيف معها أو ينقرض.
21. الإيمان البشرى العميق بتلك الكائنات الغيبية ، والأساطير والنصوص التى تروى عنها، و الذى يصل إلى حد التعصب والقتل والاستشهاد دفاعا عنها ومن أجلها، يثير الدهشة فعلا لأن كل هذه الكائنات الغيبية كائنات غاية فى الغموض، فضلا عن كونها غير مرئية أو محسوسة بأى وسيلة، و لم تغادر جماجم البشر يوما لتصبح حقيقة ملموسة يمكن أن نختبرها علميا، فهى كما يعرفها المؤمنون بها، كائنات "لا مادية"، فإن كانت كائنات مادية إذن فهى ليست كائنات غيبية، ومن ثم فلن يوجد بيننا وبينهم خلاف، و لكن لكون هذه الكائنات لا مادية فهى لا تشبه شيء من أشياء الطبيعة التى نعرفها أو يمكن أن نعرفها، و التى نملك القدرة على قياسها ورصدها، وإخضاعها للتجارب العلمية المنضبطة، لأننا لا يمكن أن ندركها سواء بحواسنا أو بأجهزتنا العلمية، و لا يمكن أن ندرك تأثيرها على كائنات الطبيعة المادية المختلفة، على النحو الذى يفرضه منهج العلم، و الإنسان مكون من مادة، و لا يمكن بحواسه وامتدادها من أجهزة علمية، أن يدرك إلا كل ما هو مادى، و لما كان كل ما يحيطه من أشياء وكائنات مكونة من مادة، فلا منطق سليم فى أن يؤمن هذا الإنسان الذى يصف نفسه عن غرور بالعاقل، أن هناك شيء ما "لا مادى"، و هو لم يصادف فى حياته إلا ما هو مادى، فمن أين له إذن هذا اليقين بوجود ما هو لا مادى دون أن يعرف حتى كيفيه هذا الكائن "اللا مادى"؟، والذى يعنى أنه ليس مكونا من ذرات العناصر الكيميائية المعروفة مثل الكربون والأكسجين، و لا من الجسيمات الأولية التى تكونها كالبروتونات والإلكترونات، و لا من جسيمات الطاقة التى تسبب حركة جسيمات الكتلة كالفوتونات، و لا من جسيمات الكتلة كالنيوترونات، ولا مركبات تلك الذرات من الجزيئات العضوية وغير العضوية من أحماض وقلويات وأملاح، التى تشكل كل الكون المعروف لدينا بكل ما فيه.
22. الكائنات الغيبية إذن أشياء غير مادية مثلها مثل الأفكار والخيالات والصور، فإذا كانت كذلك، فكيف للأفكار والخيالات والصور أن توجد مجردة و منفصلة عن المادة المكتوبة والمرسومة عليها، سواء أكانت هذه المادة ورق أو مخ بشرى أو حجر أو أسطوانة مدمجة أو قرص صلب، و كيف للبشر أن يصدقوا بأن الأفكار والصور والأخيلة يمكن أن توجد بدون مخ بشرى يصنعها ويحملها فى خلاياه وأنسجته فى كلمات وجمل مكتوبة بجزيئات كيميائية، ويسجلها فى أوراق أو غيرها من وسائل التسجيل، و كيف للأفكار والأخيلة والصور أن تسبق المادة فى الوجود، وكيف لها أن تخلقها أو أن تؤثر فيها، و من أين للأفكار والصور والأخيلة تلك القوة والتأثير على المادة، وهى لا كتلة لها و لا طاقة، و هى لا سائلة و لا صلبة و لا غازية، وهى لا طول لها و لا عرض و لا ارتفاع، و لا لون لها و لا طعم و لا رائحة، فكيف يمكنها أن تحرك الأشياء من حولنا فضلا عن أن تخلقها من عدم، وكيف لهم أن يتصوروا امكانية خلق المادة من عدم؟.
23. كل شيء قابل للقياس، وما هو غير قابل للقياس فهو لا شيء، والكائنات الغيبية غير قابلة للقياس، إذن فهى لا شيء، فكيف يمكن لمن يدعى لنفسه العقل أن يؤمن فى نفس الوقت بوجود شيء هو في حقيقته لا شيء، و ما هو إلا خيال وفكرة وصورة فى الذهن البشرى، شأنه شأن كل شخصيات الروايات الأدبية، و لا فرق هنا بين الآلهة والملائكة والشياطين و الأرواح والأشباح، و لا فرق هنا بين رع و زيوس والله وبراهما، و لا بين الغول والعنقاء وإبليس.
24. يتوهم البشر المؤمنين بالغيبيات، و جود مادى ملموس لتلك الكائنات أحيانا، يرونه ويسمعونه، أو يتوهمون أن لها تأثير مادى محسوس أحيانا أخرى من تحريك للأشياء والتأثير فيها، وما هذه الأوهام إلا نتيجة نشاط كهروكيميائي فى أمخاخهم مثلها مثل الأحلام، و ما هذا الوجود وذاك التأثير إلا هلوسة وضلالات سمعية وبصرية، تحدث لهم فى النوم أو فى اليقظة، فيظنون أنها حقيقة. وتتزايد لديهم تلك الأنشطة الكهروكيميائية فى المخ نتيجة عدة عوامل تؤثر منفردة أو تتداخل مجتمعة، منها الأمراض النفسية والعقلية والعصبية المختلفة، و الحالات الشديدة من الجوع و العطش والخوف والقلق، وتناول الخمور والمخدرات، وبعض الأدوية المؤثرة نفسيا وعقليا، وممارسة الرقص السريع مع التعرض لسماع الموسيقى العنيفة أو الرتيبة لفترات طويلة، والتأمل الطويل مع ممارسة التنفس العميق المنتظم لفترة طويلة، و الممارسة المكثفة للطقوس الدينية المختلفة، والتفسير الخطأ لما يرونه ظواهر طبيعة كالسراب، و بعض حالات الصرع، وعند الإصابة بهستريا جماعية أو فردية، والخضوع للإيحاء والخداع البصرى والسمعى، و تلك الهلوسة والضلالات الحسية ما هى إلا تجارب ذاتية فردية لا تنبأ عن أى حقيقة ما، وما هى إلا مجرد نشاط كهروكيميائى فى المخ البشرى، الذى من الممكن أن يحدث للأفراد والجماعات، ملحدين أو مؤمنين، بشرط أن يكون لديهم القابلية للإيحاء و الحساسية المفرطة، وأن يتميزوا بالخيال الواسع، مع توافر إرادة الاعتقاد لديهم بصحة تلك الهلوسة.
25. الكلام عن الوجود الروحى غير المادي منفصلا ومستقلا عن المخ البشرى الذى ينتجه ويحمله، هو الكلام عن العدم و اللاشيء. فكل تلك الكائنات الغيبية التى أبدعها المخ البشرى، ما هى إلا أشياء وهمية لا وجود لها خارج المخ البشرى، لأنها لا تخضع لنطاق المادة و لا قوانينها، ولن يمكنا فى يوم من الأيام إدراكها بحواسنا،لأنه ليس لديها من الخواص ما يؤثر على الحواس من صوت ولون وحجم ورائحة وطعم وحرارة، بعكس ما لا نعرفه حتى الآن من أسرار الوجود المادى نظرا لقصور وسائلنا وحواسنا، إلا إن امكانية إدراكها مستقبلا بتطور قدراتنا على المعرفة، ينفى عنها صفة الغيبية.
26. المؤمنون بالغيبيات ينطلقون فى فهمهم للواقع والحقيقة من المثل والأفكار والصور والخيال، و يستندون على الافتراضات العقلية المسبقة، ويؤمنون بأن البرهان العقلى أهم و أقوى من حقائق الواقع، ولكن الحقيقة لا يمكن أن يدركها البشر إلا من الواقع المادى الملموس نفسه، وكل ما لا يتفق و حقائق هذا الواقع المادى يمكن اعتباره مجرد أفكار غير مثبتة.
27. الواقع أن المعطى الرئيسى للعقل والحواس البشريين، هو المادة باعتبارها كل ما هو مستقل عن وعينا و لا ندركه إلا بحواسنا، و التى لا يوجد من بين كائناتها المختلفة ما هو مطلق ولانهائى وكامل وثابت، والتى لا تتوقف كائناتها عن الحركة و التطور والتغير، والترابط والتفكك، والتأثير المتبادل فيما بينها، و التى لا تكف عن التشكل والصيرورة والتفكك، فيما لا نهاية له من كائنات مادية، هكذا هى منذ الأزل، وهكذا سوف تكون إلى الأبد، يحركها ما هو كامن فيها من قوى مادية، دون حاجة لمن يحركها أو يسبب وجودها أو يخلقها من عدم، أو يعقلنها من خارجها، و ما القوانين العلمية إلا مجرد وصف بشرى لسلوكها النابع من ضرورات كامنة فيها لم يفرضها عليها أحد، ولم توضع القوانين لها، لا من قبل العلماء، و لا من قبل قوى غيبية لكى تسير عليها، أما طاقتها المادية فهى القوى الكامنة وراء وجودها وحركتها.
28. يستند المؤمنون بالغيبيات دائما على معجزات يقسمون أنهم شهدوها بأنفسهم، وهم فى ذلك على يقين من صحة ما شهدوه دون أن يشكوا لحظة فيما إذا كان ما شهدوه، ربما يكون نتيجة هلوسة حسية أصابتهم لسبب ما، سواء عرفوا السبب أم لا، أو ربما قد تعرضوا لخداع حواس لسبب ما فى الطبيعة لم يفهموه على النحو الصحيح، مثل السراب الذى يظهر فى الصحراء، أو ربما يكونوا قد تعرضوا لخدعة من دجال أراد أن يثبت لهم قدراته على الاتصال بالغيب، وبهذه المناسبة فقد قرأت فى كتاب علمى مبسط أسمه الفيزياء المسلية فى سياق شرح المؤلف لحقيقة علمية عن كيف كان كهنة مصر القديمة يحتالون على المصريين القدماء، ويستولوا على أموالهم لصالح المعبد، باستخدام تلك الحقيقة العلمية، والكهنة الذين كانوا يعلمون تلك الحقيقة، و يخفونها فى نفس الوقت عن الناس، يستخدمونها فى نفس الوقت للاحتيال على المؤمنين الذين يصدقون أكاذيب الكهنة بأن المعجزة حدثت بفضل طقوسهم الدينية، وأنها حدثت بفضل صلتهم بأحد آلهتهم "رع أو أمون أو بتاح"، و بالطبع فهذا لا يعنى أن أى من تلك المعجزات تحتم وجود وتأثير فعلى ل "رع أو أمون أو بتاح"، ولا يعنى بالقياس إلى ذلك، أن معجزة ما يمكن أن تثبت وجود الله عند المسلمين أو رب المسيحيين، أو براهما لدى الهندوس، أو أهورا مزدا لدى الزرادشت، أو وحش الاسباجيتى الطائر لدى الباستافارى، فالمعجزة فى حالة حدوثها، لا تثبت إلا أن هناك شيئا ما لا نفهمه، وربما توصلنا لتفسيره فيما بعد أو بقليل من التدقيق العلمى.
29. يمتلئ التراث الإنسانى فى كل الثقافات و الحضارات والشعوب، بدائية ومتحضرة، ولدى كل المؤمنين بالأديان والمعتقدات المختلفة، بأخبار المعجزات و الكرامات التى نسبوها إلى الأولياء والقديسين و الأنبياء والرسل ورجال الدين، أو تأكيدهم لحدوثها لدى ممارستهم لطقوس معينة، من صلاة ودعاء وصيام وحج ونذور وغيرها، ويصدق الناس مثل تلك الأخبار التى انتقلت إليهم دون تدقيق وتمحيص، برغم أنه لا دليل على حدوث المعجزات فعلا، بالنسبة لمن عاش منهم بعيدا عن المكان الذي حدثت فيه المعجزة, أو عاش فى فترة أخرى من الزمن, فما هى إلا أخبار منقولة تناقلت بين الناس شفاهة وكتابة, وما هى إلا تجارب فردية وذاتية محدودة غير قابلة للتكرار.
30. البشر غالبا ليسوا مصادر جيدة لنقل الأخبار، فهم ينقلوا غالبا ما يسمعوه دون تدقيق فى مدى صحته، وكأنه حقيقة مؤكدة، وهم غالبا ما يكذبون أو يبالغون تعظيما أو تصغيرا فى وصفهم لما حدث، و هم غالبا ما ينتقون ما هو الأكثر إثارة فيما سمعوه لينقلوه للناس، أو ينتقون ما يؤكد رغباتهم وعقائدهم و يتفق مع مصالحهم دون غيره من الأخبار، وهم غالبا ما يضيفون تفصيلات من عندهم، ويغفلون عن تفصيلات أخرى، عمدا أو إهمالا أو نسيانا، و هم غالبا ما يشوهون ما ينقلوه من أحاديث وأخبار، إما نسيانا أو كذبا أو خلطا مقصود أو غير مقصود ما بين الحقيقة والكذب، ومن ثم فتواتر الأخبار والأحاديث والحكايات، وتناقلها بين الناس عبر الأجيال، ليس دليلا كافيا على صحة التراث البشرى، ودقته قبل القرون الخمسة الماضية. بل كذبه وزيفه فى الحقيقة، طالما أننا ننقل ما نسمع جيلا وراء جيل، دون تمحيص وتوثيق للروايات، مما يسمح مع مرور الزمن بتحريف كامل للمنقول الأصلى فى حالة صحته، ولنعلم أن البشر هم أقرب غالبا للكذب والخلط بين الواقع والخيال وعدم الدقة فى النقل والرواية، لأن الحقيقة ليست هدف معظم الناس فى الغالب الأعم عندما يؤمنون و يحكون ويتحدثون ويكتبون، بل يكون هدفهم أحيانا تحقيق الهوى والمصلحة، واثبات معتقداتهم، و ما يدفعهم للحديث غالبا يكون الطمع والخوف وحب الظهور وادعاء العلم والبطولة وغيرها من الدوافع.
31. فى القرون الخمسة الماضية فقط امتلك البشر كجماعات من الامكانيات المادية ما جعلهم أكثر قدرة على التوثيق، والتأكد من صحة الأخبار والروايات أو كذبها، كالطباعة والتصوير والأرشفة، كما تطورت علوم الأثار والاجتماع و الإناسة والتأريخ، و قواعد البحث العلمى، وأصول الكتابة العلمية المحكمة، ولكن هذا لا يعنى اختفاء كل ما أشرنا إليه، وإنما التقليل من مخاطره والوقاية منه فحسب، بمعنى أن هناك إمكانية أعلى فى التدقيق العلمى لكشف الأكاذيب و معرفة الحقائق.
32. أن كل الديانات تدعي المعجزات لرجالها وطقوسها ومعبوداتها و رموزها الدينية بلا استثناء, فهل علينا تصديقها كلها؟ برغم كل ما بينها من تناقضات،وبرغم أنها لا تسمح بهذا، هل علينا أن نؤمن بالله الإسلامى، والرب المسيحى، ويهوه اليهودى، وببراهما الهندوسى، و أهورا مزدا الزرادشتى، وبكل الآلهة الأخرى، قديما وحديثا، أم أن من الصواب عقليا أن ننكرهم جميعا.
33. ما هو الأكثر ترجيحا فى حالة حدوث المعجزة؟, أن يكون هناك تفسير طبيعي لما حدث فعلا إن كان قد حدث، أم أن تكون المعجزة فعلا قد خرقت قوانين الطبيعة؟، ومن ثم فالتفسير يكمن فيما وراءها أى فى الغيبيات، مما يعنى أن كل الكائنات الغيبية موجودة ومؤثرة فى الطبيعة على قدر المساواة، وهو ما لا يمكن أن يعقله عاقل، أم أن الإجابة الصحيحة تكون لدى العلم الطبيعى الذى يدعم التفسير المادى للوجود، والذى تسرى قوانينه فى كل الأحوال بتواتر لا مجال للشك فيه، ويمكن أن نتحقق من نتائجه جميعا بصرف النظر عن العقيدة التى ننتمى إليها، فالعلم الطبيعى يكشف عبر منهجه الأسرار التى كان البشر ينسبونها دائما للغيبيات، وهى رحلة قد لا تنتهى لسد كل فراغات المعرفة التى يستند عليها المؤمنون بالغيبيات.
34. السر فى استخدام المعجزة لإثبات الغيبيات، أنه طالما وجد بشر قابلين بسهولة للإيحاء، ولديهم إرادة الاعتقاد بالغيبيات، من جهة وطالما وجد من جهة أخرى نصابون ودجالون يرغبون فى السيطرة على هؤلاء البلهاء، والعيش على حسابهم، فإن أسهل الطرق لذلك هو إظهار الإعجاز فيما يدعون، أو القيام بمعجزة، كمعجزات الكهنة والحواة، فهم بذلك يقنعون مؤيديهم وخصومهم أن ما يدعوه يتجاوز إمكانيات البشر وعلمهم، ويدعم دعوتهم بينهم، ويكسب لهم المؤيدين، لذلك فالأديان والطوائف كلها تستخدم المعجزات للبرهنة على صحة هذه الأديان.. والمثير للدهشة، والذى يؤكد الخلل العميق فى عقول وطرق تفكير المتدينين عموما، هو ما لهذه المعجزات من قدرة إقناع هائلة على المؤمنين بهذه الأديان، التى يسلمون بها كمسلمات غير قابلة للنقاش، ولكن هذه القدرة الهائلة على التصديق الساذج للمعجزات تتحول لفطنة عندما يتعلق الأمر بالأديان الأخرى.
35. المؤمنون بالغيبيات يصدقون بسهولة كل ما ينسب لرموزهم ومعبوداتهم وطقوسهم وكتبهم المقدسة من معجزات، فى حين عندما يتعلق الأمر بكتب ورموز وطقوس ومعبودات الأديان الأخرى، فإن الغشاوة التى تعيق تفكيرهم السليم تنزاح بسهولة، وتجد عقولهم تعمل فجأة، وبكل ألمعية و ذكاء يحسدون عليه، لإثبات تهافت وسذاجة وسخافة مثل تلك المعجزات، وعدم إمكانية حدوثها، فهم يصدقون بسهولة انتقال أفراد ما لأديانهم بعد معاينة معجزات منسوبة لدينهم، فى حين يشككون فى ارتداد أفراد من دينهم للدين الآخر بعد معاينته لمعجزة منسوبة للدين الآخر، وينسبون هذه الردة لأسباب أخرى، و تجدهم و يا للهول غالبا ما يكونوا أكثر ذكاء وعقلانية عند نقدهم للدين الآخر، فى حين يكونون فى قمة غباءهم و لا عقلانيتهم عندما يدافعون عن دينهم. فهم على الأغلب عندما يتم نقد دينهم سوف يبحثون عن "الخدعة"، أو عن "الصدفة"، أو عن "التبرير العلمي"، أو أي شيء آخر يحبط ذلك الزعم الذى يهز قناعتهم وإيمانهم الغيبى، وفي أفضل الأحوال قد يبقى لديهم شعور بالدهشة من أشياء لم يستطيعوا تفسيرها تزلزل هذا الإيمان.
36. هناك تيار واسع يستند فى إثباته للغيبيات و وجود العالم الروحانى اللا مادى على الظواهر الطبيعية غير المفهومة التي يمكن وصفها بالمعجزات (مثل تحريك الأشياء عن بعد، أو توارد الخواطر). ولكن الدراسات العلمية الجادة لم تثبت أصلا وجود هذه الظواهر التى يدعيها أصحابها لأنفسهم، والتى هى غالبا وليدة المصادفة، أو وليدة نوع من الحيل والخداع البصرى، الذى ما كان له أن يصمد تحت شروط تجريبية دقيقة، أي تحت المراقبة العلمية المنضبطة.
37. تطبق نفس اللعبة لخداع جمهور المؤمنين، والمستعدين للإيمان، فى إثبات الإعجاز العلمى لنصوص الكتب المقدسة لشتى الأديان، برغم كل مخالفات نصوص كل تلك الكتب الواضحة لكل ذى عينين وعقل لحقائق العلم النهائية، والأمر ليس كما هو شائع فى المنطقة الإسلامية، يقتصر على القرآن والسنة فحسب، بل أن هناك من اليهود من يؤكدون اعجاز العهد القديم، وهناك مسيحيين يثبتون اعجاز العهد الجديد، ولم يترك الهندوس الفرصة، فتراهم ينسبون إعجازا علميا لنصوص الفيدا و الأوبانشيد، والبوذيون يربطون بين عقيدتهم الأصلية وحقائق العلم الحديث، مما يؤكد لو صدقناهم جميعا أن كل هذه الكتب ذات مصادر غيبية لا بشرية، وإن مصدر كل تلك الكتب هو كائن غيبى واحد، إلا أنه فيما يبدو مصاب بمرض تعدد الشخصيات، يظهر مرة باعتباره الله، ومرة أخرى باعتباره براهما وهذا احتمال، أما الاحتمال الآخر فهو أن كل من الله ويهوا وبراهما وأهورا مزدا موجودون جميعا بجوار بعضهم البعض، وقد أرسل كلا منهم رسالته الخاصة لمن يحب من البشر، وعبر رسل اختارهم بنفسه لحمل رسالته، و إلى حيث يسكنون، فيبدو أن الله يحب سكان الشرق الأوسط لسبب ما، ويفضلهم عن سواهم من البشر، وقد أرسل إليهم العديد من الكتب المتناقضة، وسلاسل طويلة من الأنبياء والرسل، أما براهما فقد اقتصر حبه وتفضيله على سكان الهند وما حولها، أما أهور مازدا فقد أحب الفرس واصطفى لهم زرادشت، وعلى ما يبدو فإن بين كل هؤلاء الآلهة تنافس، فكل منهم ينكر وجود الآخرين فى نصوصه المقدسة، وبما أن احتمال وجودهم جميعا بجوار بعضهم البعض لا يعقل، فالاحتمال الأدق أنهم جميعا غير موجودين إلا فى عقول المؤمنين بهم، و إن الاستنتاج الأكثر موضوعية هو أن مصدر الخدعة فى اثبات الإعجاز العلمى للكتب المقدسة، هو تلاعب باللغة وعواطف الناس القابلة لتصديق ما يثبت عقائدهم، والتعامى عن ما يفندها من خرافات لا تتفق وحقائق العلم فى نفس النص المقدس، مثلما يثبت الساحر معجزته بخداع بصر من يروا أعاجيبه، وهؤلاء الدجالون من أدعياء الإعجاز العلمى للكتب المقدسة، يعتمدون على لوى معانى الكلمات والنصوص، وتأويلها لتتناسب مع حقائق العلم..و يعتمدون جميعا على أساليب "إذهال" خطابية وإنشائية، مثلما هى حيل الحواة والسحرة، تلوي عنق النص لتفسيره بما يتوافق وهوى القائل والمتلقى. فغالبا ما نرى آية بسيطة، فى كتاب مقدس ما، مفهومة كما هي بلا غموض، و بلا حاجة لشرح أو تفسير أو تأويل، يقوم الاعجازي بتفسيرها وشرحها وتأويلها عبر صفحات من المعلومات العلمية الحديثة، والذى يذكرها بعدم دقة غالبا، بدون أن يوضح ما علاقة تلك المعلومات بمحتوى الآية، و منطوقها الواضح الدلالة الذى لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل.
38. البرهان القاطع على تهافت البراهين العقلية التى يرددها المؤمنون بالغيبيات لإثبات معتقداتهم، هو قانون حفظ وبقاء المادة الذى ينص على أن الكتلة و الطاقة، وهما الشكلان اللذان تتواجد عليهما المادة، لا تستحدثان ولا تفنيان و لا تخلقان من عدم، ولكن كل منهما يمكن أن يتغير من حالة إلى أخرى، فتتحول الكتلة إلى طاقة، والطاقة إلى كتلة، أى أنهما خاصيتان متبادلتان. والسؤال كم من البشر وصل لعلمهم هذه الحقيقة المؤكدة، ومازالوا يؤمنون بالغيبيات مبررين ذلك بلزومية خلق المادة من عدم، و ضرورة أن هناك سبب أول غيبى لوجودها، و بديهية أن يكون هناك محرك أول لها ؟ والإجابة هى ملايين البشر من شتى المستويات التعليمية، مما يشى بأن الإيمان بالغيبيات، لن تحسمه المجادلات، فإرادة الاعتقاد قادرة على تطويع العقل البشرى للإيمان بالأعاجيب، والدفاع عنها وتبريرها بشتى الطرق. مما يدل على أن الإيمان الدينى هو وليد عيوب فى التفكير لا تتعارض مع ذكاء الإنسان وعلمه أحيانا، بسبب ضعف بعض قدرات العقل، و ما يصيبه من بقاع عمياء بلا بصيرة، أو بسبب محدودية الفهم و العلم، أو أمراض هذا العقل، أو أغراض الإنسان أو مصالحه.



#سامح_سلامة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور الإلحاد(12) الكتب المقدسة
- جذور الإلحاد(11) الدين والصراع الاجتماعى
- جذور الإلحاد(9) المصمم الذكى
- جذور الإلحاد(9) و هم الذات
- جذور الإلحاد(8) صفات الخالق الغامضة
- جذور الإلحاد(6) المعرفة الإنسانية والغيبيات
- جذور الإلحاد(7) خصائص للفكر الغيبى
- جذور الإلحاد(5) المعجزات والإعجاز
- جذور الإلحاد(4) ردود على التعليقات
- جذور الإلحاد(3) غموض و لا منطقية الغيبيات
- جذور الإلحاد(2) تناقضات فكرة اللة
- جذور الإلحاد (1)حجج وحجج مضادة


المزيد.....




- رئيسي: تقاعس قادة بعض الدول الإسلامية تجاه فلسطين مؤسف
- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامح سلامة - الإلحاد يتحدى _أ_