أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - تعليقات مؤقتة على مستقبل -العقل العربي-. في ذكرى الجابري















المزيد.....


تعليقات مؤقتة على مستقبل -العقل العربي-. في ذكرى الجابري


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3669 - 2012 / 3 / 16 - 19:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"إنّ أيّ رأي في الموضوع سيظلّ، ويجب أن يبقى، قابلا للتعديل والتغيير، ما دامت معلوماتنا عن تراثنا ناقصة في أكثر من مجال، وما دامت مناهجنا في البحث لا تلتزم بالشروط العلمية كاملة نظرا لحاجتنا ’’المتواصلة’’ إلى تأكيد الذات أمام التحديات التي تواجهنا من كل ناحية.."
نقد العقل العربي، 1 (1984: 48)
"عسى أن نكون قد وفقنا فعلاً إلى ’’بدء النظر’’ في بنية هذا العقل الذي طال سكوته عن نفسه"
نقد العقل العربي، 2 (1986 : 10)


بعد كلّ أنواع الخصومة والردّ والانتقاد والمماحكة والمزايدة التي تعرّضت لها أعمال الفقيد محمد عابد الجابري منذ أن ظهر كتاب "تكوين العقل العربي" سنة 1981 بوصفه الجزء الأول من مشروع نقد العقل العربي، والذي توالت أجزاؤه الثلاثة اللاحقة في السنوات 1986 عن "بنية العقل العربي" و1990 عن العقل السياسي العربي"وأخيرا 2001 عن "العقل الأخلاقي العربي"،- يبدو أنّه قد آن الأوان لإخضاع تلك الأعمال إلى نقاش فلسفي مبدئيّ لا يهدف لا إلى دحضها (فهيغل علّمنا أنّه لا وجود للدحض في سيرورة المفهوم) ولا إلى الدفاع عنها (من أجل أنّ حرفة الدفاع أو "الأبولوجيا" عن الأفكار المقرّرة هي أقرب إلى الخصومة اللاهوتية أو الحزبية منها إلى المناظرة الفلسفية الحرة). ونقصد بذلك أنّه علينا أن نميّز منذ البداية بين نقاشات "العقل المستنير" تحت لافتة "المثقّف" ونقاشات الباحث في القضايا الفلسفية تحت عنوان "الفيلسوف". ولنسأل دونما مواربة: هل كان الجابري فيلسوفا أم مجرّد مثقّف يعمل تحت لافتة العقل المستنير ؟ العقل المستنير الذي يخوض معارك ثقافية ولكنّه لا يفكّر أو لا يتفلسف، يعني لا ينتج إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة. ولقد مرّ العقل المستنير عندنا بأطوار عدّة بحسب المسائل التي خاض فيها من قبيل "النهضة" و"الإصلاح" و"التقدم" و"التطوّر" و"المعاصرة" و"الوحدة" و"التراث" و"الأصالة" و"الهوية" و"العلمانية"...وهي كلّها مواصلة متنكرة للمناظرة الكلامية القديمة بين العقل والنقل. يبدو أنّ قدر التفكير الحر، البكر، الذي لا يخدم أيّة قضية جاهزة سلفا ولا يدافع عن أيّ أفق روحي مقرّر سلفا، هو موقف وجودي ونظري ومعياري لا يزال ممنوعا أو محكوما عليه بأن يعمل تحت عناوين أدبية أو جمالية هامشية.
ويبدو لي أنّ جيل الجابري، أي جيل "قرّاء التراث"، لم يستطع رغم محاولاته الصادقة، أن يتحرّر من مهمات "العقل المستنير" في ثقافة العرب المعاصرين، كما تمّ تشكيله منذ عصر الروّاد في القرن التاسع عشر. لقد ظلّ يعمل تحت نداء سؤال الرواد عن "تقدّم" الغرب و"تخلّفـــنا" نحن (إشارة إلى العرب المعاصرين كما يتمثّلون أنفسنا، أي بوصفهم ورثاء أساسيين لنحن العرب كما تشكّلت في الجاهلية والإسلام الكلاسيكي بكل أطيافه) . وهذه "النحن" لازالت تعمل في أساس كلّ محاولات قراءة التراث، والتي بلغت مع الجابري هالتها العليا والأخيرة. وهذا يعني أنّ قراءة التراث لم تكن أبدا عملا فلسفيا، أي لم تكن أبدا عملا نظريا كونيا أو يحق له أن يدّعي الكونية أو قابلا للكوننة. إنّه يبدو عملا "ثقافيا" نبيلا ولكن محلّيا. وعلينا أن نسأل: إلى أيّ مدى يمكن للمتفلسف أن يتماهى مع مهنة المثقف (المنافح عن قضايا أمّته) ؟ وإلى أيّ حدّ يحق له أن يعتمد على "العقل المستنير" في طرح ومعالجة المهمّات النظرية أو المعيارية للعقل الفلسفي بعامة ؟
إنّ ما يثير القلق في كلّ أعمال الجابري هو قراره المنهجي الصريح بأن يضع كلّ كتاباته تحت لافتة "نقد العقل العربي". ومن الواضح أنّ مصدر القلق ليس عبارة "نقد العقل" بل وعيه الصريح بصعوبة الافتراض بأنّ ثمّة "عقلا عربيا" له مقوّمات لا نجدها في "العقل اليوناني" أو في "العقل الألماني" مثلا... وبيت القصيد هو بلا ريب طبيعة التصوّر الذي ينبغي على المتفلسف أن يصرّفه ما بين الفلسفة والقومية. كيف يمكن أن نتفلسف بشكل كلّي (ولا فلسفة إلاّ بالكلي) تحت لافتة قومية أي جزئية وخاصة بشعب ما وثقافة ما وعصر ما ؟ - ثمّة طبعا نظريات ومقاربات فلسفية كثيرة ومتنوعة في معالجة الصعوبة النظرية التي تثيرها العلاقة ما بين الكلي والجزئي أو بين العام والخاص أو بين المشترك والفردي أو بين الهووي والشخصي (أرسطو، كنط، هيغل، نيتشه، هيدغر، فتغنشتاين، الفلسفة التحليلية، فلاسفة الاختلاف، الجماعويون، فلسفة التواصل...).
لكنّ تصوّر الجابري للـ"العقل العربي" لا يهتم كثيرا بهذه التقاليد الفلسفية في إثارة مشكلة العلاقة بين الكلي الفلسفي والخصوصي الثقافي إلاّ بشكل عرضي. بل يمكن أن نعتبر أنّ الهمّ النقدي الذي وجّه كلّ ما نشره الجابري هو يمنع أصلا من طرح السؤال الفلسفي الصحيح حول جدارة وصلاحية القيام بمشروع قراءة تراثية ذات توقيع قومي صريح (قارن: نحن والتراث) تنجز "نقد العقل العربي" في حقبته الكلاسيكية، أي كجملة من المنظومات المعرفية والسياسية والأخلاقية المغلقة على نفسها والمنقطعة عن تاريخ العلوم والسياسة والقيم في العالم الوسيط والحديث. كيف يمكن الجمع جمعا فلسفيا كلّيا بين مفهوميْ "العقل" و"التراث" ؟ فإنّ التقليد الفلسفي الذي طوّر مقولة "التراث" (هيدغر، غادمير،..) لم يفعل ذلك إلاّ في شكل من التحرّر الوجودي والتأويلي من ربقة التقليد "العقلاني" الذي سيطر على مشروع فلسفة الأنا الحديثة من خلال برنامج الأنوار.
كان كنط قد طرح سؤالا على غاية من الدلالة بالنسبة إلى موضوعنا هنا، وذلك في آخر استهلال قسم "الجدلية المتعالية"، من كتابه الكبير نقد العقل المحض، قائلا: "هل يمكن أن نعزل العقل ؟" – كان قصد كنط، عندئذ، هو التنبيه إلى أنّ العقل مصدر لمبادئ لا يستمدها لا من الحواس ولا من الذهن، ولكنه لا يستطيع الدخول في علاقة مباشرة مع الموضوعات. ولذلك فالحل حسب كنط هو أن نعامل العقل بوصفه ملكة ثانوية لا تنتج "المعرفة" (حول المحسوس) لكنّها تساعد على "التفكير" في ما وراء الحس (مسائل الإله والنفس والعالم والحرية...). لقد وقع في حقيقة الأمر إفراغ العقل من وظيفته المعرفية وتحويله إلى شرطي تأمّلي لحماية ملكة المعرفة من نفسها، أي من الانزلاق في إنتاج معارف عن مسائل تتخطى التجربة الممكنة حيث يعمل الذهن العلمي. ولذلك ميّز كنط بين فائدة سالبة لعملية نقد العقل المحض : "ألاّ نجازف باستعمال العقل التأمّلي ما وراء التجربة الممكنة"؛ وفائدة موجبة هي " التوسيع العملي للعقل المحض": أي اعتبار الأخلاق مجالا لمعالجة المعضلات التي فشل العقل النظري في حلّها بشكل علمي(وجملة أنواع الفشل التي وقعت فيها الفلسفة التقليدية هي الميتافيزيقا).
كيف ننزّل مشروع الجابري "نقد العقل العربي" ؟ هل يمكن التمييز فيه بين فائدة سالبة: مثلا عدم المجازفة في استعمال "العقل العربي" خارج عالم الحس التاريخي الخاص بحقبة الإسلام الكلاسيكي ؟ وفائدة موجبة: مثلا التوسيع العملي لمبادئه النظرية التي فشلت في مستوى المعرفة العلمية (براديغم العلوم القديم ) ولكنها يمكن أن تساعدنا على مستوى المشاكل الأخلاقية ؟
ما يثير القلق قبل كل شيء هو الفرق بين مزاجي كنط والجابري عند الفراغ من كتابيهما "نقد العقل المحض" و"نقد العقل العربي": ففي حين يبدو كنط وقد خرج من عملية تأبين واسعة للميتافيزيقا وذلك بوضع حدّ لكل مزاعم العقل النظري حول إمكانية حلّ علمي لمشاكل الفلسفة التقليدية (وجود الإله، خلود النفس، الحرية،...)، نرى إلى الجابري كيف يقدّم عمله بوصفه فتحا إيبستيمولوجيا مظفّرا حول "نظم المعرفة في الثقافة العربية". ثمّة غموض يخيّم على مصطلح "نقد العقل" تحت قلم الرجلين.
ولذلك ثمّة مشكل واحد سوف نكتفي بإثارته ألا وهو : أيّة وجاهة للتوقيع القومي على دراسة فلسفية للعقل تدّعي أنّه عقل "تراثي" مكوَّن بشكل مخصوص ويمكن عزله في مركّب هووي من الخصائص والحقب تجعل منه بالمناسبة "عقلا عربيا" قحّاً ؟
- لابدّ من الاعتراف بطرافة الحديث عن "عقل عربي" (وهو اختراع قلده غير الجابري بعبارة "عقل إسلامي" و"عقل مشرقي" و"عقل مغربي" وربما "عقل مصري" الخ...). لكنّ الطرافة الشكلية والمصطنعة (أي التي لا تنبع من استشكال فلسفي وميتافيزيقي جذري) لا تغني ولا تسمن من جوع هنا: حيث تكبر التطبيقات ويصغر الحدس الأصلي للمغامرة العقلية للفيلسوف.
فمن الفخاخ الخبيثة (وبشكل لا يخلو من البراءة أحيانا) التي تُنصب أمام خطى الفيلسوف وهو في طريقه إلى نفسه الكونية، دعوته لأن يصبح "مثقّفا" أو يؤدي "دور" المثقف. فإذا به ينقلب إلى خادم خطابي لقضايا لا يؤمن بها من منطلق إشكاليته الكونية، نعني لا تؤمن بها الفلسفة والفلاسفة إلاّ عرضا. وإنّ أفضل مثال على هذه الوضعية السيّئة والمؤلمة للمتفلسف بعامة هو تحوّل المشتغلين بالفلسفة عندنا إلى "قرّاء تراث" رسميين أو محترفين. و"التراث" (أو ما يُقدَّم على أنّه كذلك) هو القطار الذي يوهمك بأنّه آت من بعيد والحال أنّه يقف على الحدود القصوى من علاقتنا بمصادر أنفسنا القديمة. لقد ضاع جيل من أحبّاء الفلسفة في قراءة نصوص غير فلسفية أو لم تنتجها عقول الفلاسفة ولم تكن لتهتمّ بها إلاّ بشكل خارجي أو حضاري فحسب. وإنّ علينا أن نسأل لماذا ؟ أيّ نقص في عدّتنا الفكرية جعلنا نعوّض التفلسف بقراءة "المصادر" – وهي بالفعل مصادر أنفسنا القديمة- ولكن باعتبارها النسخة الوحيدة والأصلية من عقولنا "غير الحديثة" إلاّ صورة أو مظهرا ؟
أن يلبس الفلاسفة جبة "القرّاء" (بكل ما في هذه التسمية من بعد إنجازي في معجم الملة) الذين يعاملون إمكانية التفكير وحرية التعبير عنها نفسها بوصفه مسألة تراثية وأن يقبلوا بدور "المثقف" الحديث (بكل ما في هذه الوظيفة من تشغيل خطابي غامض ومن استهلاك منظّم لمهنة التفكير خارج حدود الفلسفة) هما موقفان مترابطان بشكل مريب. والجابري ذهب شأوا بعيدا في محاولة الجمع بين الوظيفتين.
لكنّ ما وقع هو تحويل وجهة الفلسفة خارج مطالبها الخاصة وصارت القضايا التراثية القديمة والهموم الثقافية الراهنة هي المؤشّر على صلاحية التفكير أو على طرافة المفكَّر فيه. والحال أنّ النتيجة الكبيرة لهذا التوجّه هي بكل بساطة الامتناع العام عن التفلسف بما هو كذلك، أي الامتناع عن التفكير الكوني والاكتفاء بدور الحارس "النقدي" لنوع معيّن من قراءة مدوّناتنا الكلاسيكية بوصفها مردودة إلى صيغة "التراث"، أي الإرث النظري والمعياري الذي يمكننا وينبغي أن نؤرخ من خلاله لأنفسنا إلى حدّ الآن. لكنّ تحويل الفلسفة إلى قراءة للتراث هو في واقع الأمر نهج مرتبط بفشل فلسفي عميق هو العجز عن التفلسف الحيّ بما هو كذلك.
كلّ قراءات التراث إنّما كانت تأجيلا سيّئا لإمكانية الاشتباك الميتافيزيقي (أي الذي يطال الأسس والمبادئ القبلية لتفكيرنا ومشاكلنا الإنسانية كأعضاء في جماعة كونية مفكّرة أو مناقشة) مع مصادر أنفسنا القديمة كما مع الأقدار النظرية والمعيارية غير المسبوقة التي فرضتها الأزمنة الحديثة على جميع البشر. لم يبدأ المتفلسف المعاصر عندنا في الاضطلاع بأسئلة الفلاسفة في كل عصر. فليس له بعدُ أيّ رأي خاص في مسائل التفكير الفلسفي الأساسية: ما هي الكينونة بالنسبة إليه ؟ كيف يتأوّل مسائل "الإله" أو"الإنسانية" أو"الحقيقة" أو"العقل" نفسه...؟ (إذ أنّ كلام الجابري عن معنى مصطلح "العقل" جاء مدرسيا بشكل مخجل)...كيف يفهم النفس البشرية اليوم ؟ هل أرّخ لنفسه الحيوانية بشكل كوني مناسب ؟ بأيّ وجه يطرح قضية تدبير وجوده في العالم ؟ هل له استشكال خاص لماهية التقنية أو لماهية الدولة ؟ أو لمستقبل الديمقراطية ؟ هل له تأويل كوني مبتكر لماهية القيم والمعايير ؟ ما هو مصير النوع البشري أو ظاهرة الحياة في رأيه ؟ كيف يؤسس أو ينقد أو يفكّك سلالم القيم التي اشتق منها تصوّره لنفسه إلى حدّ الآن ؟ كيف يطرح مشكل "الهوية" : هل يقبل الذهاب نحو ربطها بالجنسانية ؟ أو بالجنس أو الجندر ؟ هل يملك القدرة على الانتقال من دور المعرّف بأفكار الغرب والناشر لها والمستصلح لها إلى دور المفكّر الكوني الخلاق للوحات قيم جديدة للحيوان البشري بعامة ؟...
هذه أسئلة فلسفية عادية (من عهد عاد) ينبغي أن تؤدي إلى طرح خاص لمسائل نظرية ومعيارية شائكة اليوم من قبيل العدل والخير والهوية والشخص والذات والجماعة والغيرية والاعتراف والتواصل أو من قبيل الموت الرحيم وزرع الأعضاء وبيعها أو تعديل الطبيعة الإنسانية وتحوير خارطة الجينوم،...الخ.
قد تبدو هذه الأسئلة مجرّدة أو أبدية أو تقليدية... لكنّ الفلسفة، مهما كان معجمها الاصطلاحي جديدا، إنّما ليس لها "موضوع" (أي كائن طبيعي أو تاريخي محدد أو معطى بلا رجعة): إنّها فقط فن طرح ومعالجة الأسئلة الأخيرة والجذرية حول معنى وطريقة تدبير وجود النوع الإنساني في المحيط المدني للعالم الوحيد الذي نعرفه: عالم الأرض.
متى يصبح لنا رأي فلسفي أي كوني في هذه المسائل من دون أن نشعر أنّنا حظيرة أخلاقية يجب حمايتها بقرّاء أو نقاد التراث ؟ - إنّ مصادر أنفسنا القديمة تؤهّلنا لهذه المهمة بشكل هائل. فلماذا نحن عن هذه المهمة قاعدون ؟ من يستطيع أن يزعم من بين قرّاء التراث (وليس الجابري وحده) أنّه قد مشى مشيا كونيا على هذه الطريق الملكية للمفهوم الفلسفي بما هو كذلك ؟
إنّ القصد هو أنّ قراءة التراث مثلها مثل دور المثقف أو الانتماء الثقافي أو الحزبي أو العقدي...هي مواقف غير فلسفية وخارجة أصلا عن مطالب المفهوم المفكّر بشكل كوني. والمطلوب ليس الانتصاب في برج عاجيّ خارج التاريخ بل فقط عدم الخلط بين الفلسفة واللافلسفة، أي بين التشريع الروحي للنوع الإنساني وبين الدفاع الثقافي والهووي عن نموذج عيش معيّن أو عن لعبة لغوية نجحت لدى شعب معيّن ويجب تأبيدها أو فرضها على بقية الإنسانية.
يبدو أنّ قضايانا "السياسية" (على نبلها وعدالتها) قد كلّفتنا غاليا على المستوى الميتافيزيقي أو الوجودي : نعني حرمان عقولنا المعاصرة من أخذ المبادرة الميتافيزيقية حول أنفسنا "الجديدة" بكل اقتدار وأحقية. وصار محكوما علينا، نحن المشتغلين بالفلسفة (مثل الجابري)، بأن نختار بين أمرين أحلاهما مرّ: إمّا الانكماش في صورة "الأستاذ" (الوظيف الحكومي للدولة الأمنية اليومية الحديثة دون حداثة سياسية)، الذي يدرّس "الفلسفة" (فنّ الكلي وإدارة شؤون العقل البشري بإطلاق) لجيل مسدود الأفق الوجودي والسياسي وليس له من حلّ أخلاقي سوى استعمال "الهوية" ضدّ "ذاته" الجديدة، وهو المعنى الأخير للأصوليات التي أخذت تخرج كالفطر في فضاءات هووية بلا حرية بل حتى بلا أيّ قدرة على احتمالها. وإمّا قبول التجنيد الإجباري في "دور" قارئ التراث أو المثقّف، أي في الدفاع عن "قضايا الأمة" (مهما كانت أسماؤها ومهما كان نبلها وإيماننا بها) ماضيا وحاضرا. وهو تجنيد إجباري لأنّه لا يشتمل على أيّ حقّ ميتافيزيقي كلي في إقامة استشكال فلسفي جذري للمقولات والمصادر العميقة التي تأسست عليها "قضايا الأمة" أو نوع معيّن أو مهيمن من الفهم أو التأويل لها (دون أن نقصد أيّ تجديف أخلاقي عليها).
ربما آن الأوان للاعتراف (وإنْ بشكل منهجي فحسب) أنّ المتفلسف قد ظلّ يجد إلى اليوم كثيرا من الحرج في طرح بعض الأسئلة العميقة عن مصادر ذاته (أي ما تسمّى بشكل زجري أو أمني "ثوابت الأمة"). إن أنّ الشعور بأنّ "قضايانا" القومية أو الإسلامية العامة هي قضايا "عادلة"- أي تتعرض إلى جرح نرجسي وخطر أخلاقي وتاريخي غير مسبوق- هو أيضا (على نبله) قد انقلب إلى عائق معرفي للدخول في نقد جذري وداخلي لمصادر أنفسنا أو في كتابة تاريخ حقيقي لها. لا يزال المتفلسف مطالبا دوما بالتحلي بقدر معيّن من "المسؤولية" الأخلاقية حول "أمّته" أو مصادر انتمائه العميق. ولذلك علينا أن "يؤجّل" دوما معاركه الميتافيزيقية، أي الحرة والجذرية، معها. نحن نرجو أن يكون ذلك وضعا مؤقتا. وهو مؤقت بقدر ما نفلح في الوعي به والتأريخ المناسب له واستشكال نتائجه العميقة على مستقبل العقل الحرّ في أفق العرب أو المسلمين المعاصرين أو الآتين.
من المؤسف (فلسفيا) أنّ الجابري قد اختار بسرعة ومنذ وقت مبكّر (منذ رسالة الدكتوراه عن ابن خلدون) أن يعوّض الفلسفة البحتة بقراءة التراث. وأن يخرج من زمرة الفلاسفة بعامة إلى زمرة "قرّاء التراث" العربي الإسلامي دون غيره. لا يتعلق الأمر بالاختصاص بل بأفق التفكير. إذ كيف يمكن احتراف "قراءة التراث" دون الدخول في نقاش جوهري مع الفلسفة التأويلية المعاصرة (هيدغر، غامدير، ريكور،...) ؟ ثمّ إلى أيّ مدى كان مبرّرا (من ناحية فلسفية) تعويض الآلة التأويلية بآلة إيبستيمولوجية ؟
يبدو لنا أنّ المشكل ليس بريئا: لقد ظلّ الجابري "يرضي" قارئه "المنتمي" (إلى تراث بعينه ولكن أيضا إلى جيل بعينه) رغم كل حداثة الآلة الإيبستيمولوجية التي يستعملها في "نقد العقل العربي". ولا يجد الجابري أيّ حرج في أن يصرّح بأنّه "متحيّز" إلى قضايا "أمّته"، سواء منها المتعلق بقراءة "التراث" (العربي الإسلامي السني الكلاسيكي) أو ذاك المتعلق بالبقاء في أفق "جيله" (الحليف الثقافي للدولة /الأمة المستنيرة). ومن المهمّ أن نعلّق على اهتمام الجابري الأخير بتفسير القرآن. كيف وصل مثقف يساري (لم تخل مسيرته من إمكانية التكفير) إلى الإقدام على مهمّة لاهوتية من هذا النوع ؟ هل ثمة منعرج لاهوتي في كتابات الجابري ربما قاده إلى "نقد العقل الديني العربي" ولكن تحت عنوان متنكّر وأقلّ حدّة، كما فعل كنط من قبل في كتاب الدين في حدود مجرد العقل ؟ هل كان ما يحرّك الجابري إلى تفسير القرآن قصد "فلسفي" من هذا النوع ؟
وفضلا عن كلّ الملاحظات السابقة، فإنّ ثمّة توقيتا سيّئا في ظهور أعمال الجابري حول "العقل العربي" (وهو أمر ينطبق تمام المطابقة على كل الفكر السياسي القومي العربي المعاصر، كما ينطبق بنفس القدر على الحركات الإسلامية ولكن بمعنى آخر) : أنّه في الوقت الذي كان فيه العالم يفترض أنّه بعد الحرب العالمية الثانية قد تخلّص من شبح القوميات في كل الميادين، ودخل عصرا "عالميا" جديدا ذا صبغة حقوقية بحتة، نرى أنّ العرب ومنهم الجابري وكلّ دولة قومية في العالم غير الغربي لم يجدوا من وسيلة أخرى لتنفيذ خطة تحرر وطني على جميع الأصعدة (ومنها التحرر الفلسفي للذات الإنسانية) سوى استعادة التوقيع القومي والعمل تحت رايته. في الوقت الذي استغنت فيه الفلسفة عن أيّ توقيع قومي (وهو تقليد يعود إلى الرومانسية الألمانية ووجد هالته العليا لدى هيدغر) نجد أنّ قرّاء التراث العرب وخاصة الجابري قد جعل من "التراث العربي" سقفا للعقل "البشري" فينا دون أيّ تبرير حقيقي.
ينبغي أن نخوض هنا في قيمة التوقيع القومي والذي لا تخلو منه أيّة ثقافة. فالمشكل هو: كيف يمكن للفلسفة أن تضع خطة قراءة لتراث شعب بعينه وتعتبرها خطة إيبستيمولوجية لإنجاز "نقد العقل" الذي قامت عليه تلك الثقافة، ولكن بخاصة مع الحرص على معاملة ذلك العقل بوصفه جهازا نظريا وعمليا قابلا للعزل التاريخي عن بقية سيرورة الميتافيزيقا والعلوم التي قادت إلى الأزمنة الحديثة ؟
ما هو مصير التنوير العربي المعاصر ؟
يرتبط الجابري بحركة التنوير العربي المعاصر ارتباطا وثيقا. ممّا يعني أنّ محاكمة فكره أو تقويم أعماله إنّما هو على وتيرة واحدة مع محاكمة أو تقويم حركة التنوير في أفق ثقافتنا المعاصرة. هذا التنوير الذي حرّكه أسئلة من قبيل: "لماذا تقدّم الغرب وتأخّرنا ؟" أو "من نحن ؟" في هذا العصر الغربي أو "كيف ننهض ؟".. وهي أسئلة على وجاهتها لا علاقة لها بالتفكير الفلسفي. إذ كلّ أسئلة محلّية لا تساعد على إنتاج أيّ موقف فكري كوني: أي قادر على المشاركة في التشريع الوجودي والأخلاقي والمدني للإنسانية الحالية.
ما يقلق حقّا في مشروع الجابري هو أنّه أنتج "فلسفة" فقيرة من حيث التفكير في المستقبل. فهو يكتفي غالب الأحيان "بالانحياز" إلى أفق الانتظار أو الرأي المأمول من قبل شريحة من المثقفين "التقدّميين" (وليس فقط من المثقفين) ممّن عاصروا الجابري وارتبطوا مثله بالدولة/ الأمة الناشئة أي دولة الاستقلال والوعود العريضة ولكن المؤجلة دائما بالتنمية والديمقراطية. وهو مطالب مثل غيره من "المثقفين" بمحاولة الجلوس على ربوة النقد المريحة، أي تثبيت مكاسب الحداثة السياسية دون الدخول في اشتباك كلي مع الأفكار الميتافيزيقية الأساسية للتراث (أي الله والعالم والنفس). والذريعة "الإيبستيمولوجية" كافية هنا. بل هو انتهى في آخر العمر إلى "العودة إلى الروح" العميقة لهذا التراث والتجرّؤ على تقديم "تفسير" للقرآن دون أيّ احتياطات تأويلية أو فلسفية تُذكر.
وذلك ما يقودنا دون ريب إلى مثل هذا السؤال: هل فشل الجابري إذن ؟ - لقد كان الجابري مثقفا ناجحا وقارئا للتراث مجدّدا ومستنيرا. لكنّ هذه الميزات لا تغيّر شيئا من طبيعة الموقف الذي يعاني منه المشتغل بالفلسفة في أفق العرب المعاصرين: من قبيل غياب نصوص تأسيسية حديثة وعدم القدرة على خوض نقاش كوني مع خطة الحداثة ومصادرها ونتائجها دونما تعكّز مهين على دائرة معارف إسلامية تنتمي إلى العصر الوسيط، وإن كنّا نقول ذلك بمرارة خاصة، يشعر بها كلّ من وجدوا أنفسهم مدعوين للتفكير النقدي والحر في أفق هذه الثقافة.
هل الشرط هو الإقدام على تجديد جذري للأفق الروحي للإسلام بعامة ؟ أم القيام بتجاوز جريء لفكرة "الأمة" نفسها ؟ أو تحويل معنى "العروبة" إلى فضاء مدني للانتماء المشترك إلى أنفسنا الجديدة بشكل ما بعد قومي تماما ؟ أم في ابتكار أفق مستقبليّ للعيش معاً داخل نادي الإنسانية الحرة يقع فيما أبعد من كلّ خصوماتنا المريرة عن التقابل الباتولوجي بين الهوية والحرية ؟ ولكن عندئذ : ما حاجتنا إلى قرّاء التراث ؟ أو إلى مثقّفي الدول القومية ؟ أو إلى نقاد الدول الدينية ؟ - يومئذ فقط قد يمكن لبومة مينارفا أن تأخذ في الطيران...

........



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في براءة الفلسفة وصلاح منتحليها
- كل أغنيات الوطن جميلة...ولكن أين الدولة ؟
- حواسّ جديدة لعشتار - قصيد
- نيتشه وتأويلية الاقتدار ...تمارين في الثورة
- مقاطع من سيرة إله قديم...عاد من السفر
- فلانتينا....بكلّ أعياد الوطن
- وجه الجامعة...من وراء نقاب
- براقع العقل
- صلاة الجوع
- انتخابات على الهوية...أم الدروس غير المنتظرة للديمقراطية ؟
- في مصير الحاكم الهووي
- الإساءة إلى الذات الإلهية
- في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه
- بيوغرافيا البؤس
- بيان الشهداء قصيد
- هوية الثورة (1)
- الثورة والهوية أو الحيوي قبل الهووي
- الثورة والهوية
- قصائد إلى الياسمين المحرَّم
- قصيدة الأرض


المزيد.....




- مصدر لـCNN: مدير CIA يعود إلى القاهرة بعد عقد اجتماعات مع مس ...
- إسرائيل تهاجم وزيرا إسبانيا حذر من الإبادة الجماعية في فلسطي ...
- تكريما لهما.. موكب أمام منزلي محاربين قديمين في الحرب الوطني ...
- بريطانيا تقرر طرد الملحق العسكر الروسي رداً على -الأنشطة الخ ...
- في يوم تحتفل فيه فرنسا بيوم النصر.. الجزائر تطالب بالعدالة ع ...
- معارك في شرق رفح تزامناً مع إعادة فتح إسرائيل معبر كرم أبو س ...
- لماذا لجأت إدارة بايدن لخيار تعليق شحنات أسلحة لإسرائيل؟
- بوتين يشيد بقدرة الاتحاد الأوراسي على مجابهة العقوبات الغربي ...
- كشف من خلاله تفاصيل مهمة.. قناة عبرية تنشر تسجيلا صوتيا لرئي ...
- معلمة الرئيس الروسي تحكي عن بوتين خلال سنوات دراسته


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - تعليقات مؤقتة على مستقبل -العقل العربي-. في ذكرى الجابري