أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - انتخابات على الهوية...أم الدروس غير المنتظرة للديمقراطية ؟















المزيد.....


انتخابات على الهوية...أم الدروس غير المنتظرة للديمقراطية ؟


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3526 - 2011 / 10 / 25 - 15:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


زلزال انتخابي ضرب الطبقة السياسية في تونس... إذ تحوّلت حركة إسلامية إلى مارد انتخابي يحصد الأصوات، ليس فقط لنفسه، بل لحلفائه أكانوا أعضاء سابقين فيه أم أعضاء موضوعيين في أفقه السياسي. وكلّ ذلك أمام دهشة غير مسبوقة للحداثيين والعلمانيين واليساريين، أو من كانوا يتسمّون بهذا الأسماء التي أزاحها الناخب التونسي الجديد جانباً وتلفّت عنها إلى جهة سياسية أخرى، موازية، مسكوت عنها، مغضوب عليها، ضالة، إرهابية،...الخ؛ ممّا كان يقوله المعجم القديم الذي رسم ملامحه الحاكم الأمني وبنى عليه دولته الشكلية لفترة طويلة. ولكن هل فعلا ما تمّ هو انتخابات على الهوية أم دروس غير منتظرة للديمقراطية ؟
ثمّة بالفعل مدعاة للدهشة، ولكن ليس من نتائج الانتخابات فقط، بل ربما من الإفراط المحموم في تقدير الحاجة إلى الديمقراطية أو في قدرة الطبقة السياسية على إدارتها بشكل محترف أو في تملّك الشعوب نفسها بمختلف أطيافها للتحلي الصارم بشروطها. وكانت أوّل أمارة على مرض ديمقراطي جدّا قد أصاب الشعب ما بعد الثورة هو انفجار فكرة الحزب وظهور فقاقيع حزبية تكاد تكون شخصية في كل ركن من الفضاء العمومي. كأنّ الشعب لم يثر إلاّ من أجل التحزّب أو بناء صناعة ثقيلة في إنتاج الأحزاب والمتحزّبين.
هذه الفوضى الحزبية كانت تخفي خطرا أكثر شدة: أنّ الشعب لم يعد له، بعد سقوط دولة الحزب الواحد، بوصلة سياسية توجّهه نحو مصيره الحقيقي للحرية، ذلك المصير الذي مات الشهداء من أجل أن يصبح ممكنا تاريخيا. فالثورة قامت بدورها، نعني تهيئة شروط الإمكان التاريخية لتغيير القبلة والمصير، وما عدا ذلك فهو شأن آخر. غير أنّه من أعلى نقطة في الثورة سقطت الحياة السياسية في الإسفاف الحزبي لطبقة سياسية مهترئة ومترددة وغرّة في أنحاء كثيرة. وخاصة أنّها ناجمة عن إرادة وراثة للحاكم الهووي للدولة الأمنية، أكثر منها ناتجة عن تجربة سياسية سابقة محترفة. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الطبقة السياسية الحداثية قد عاشت تفتّتا كبيرا بسبب أنّها أنهكت نفسها في النقاش حول دعوى المحاسبة والعدالة الانتقالية وحلّ الحزب الحاكم سابقا وخاصة تحويل ذلك النقاش إلى ما يشبه محاكم التفتيش حول شروط وملابسات إقصاء الفئة المثقفة التي كانت قريبة من مراكز القرار في الدولة، فالنتيجة هي عزل الشعب التونسي عن غطائه الأخلاقي والثقافي والسياسي السابق وتركه لقمة سائغة أمام أيّ استيلاء سياسي جديد.
لقد قامت الثورة، دون أيّ قيادة ثورية واحدة وانقلابية ومهيمنة، من أجل استرداد حقوق اجتماعية وسياسية مسلوبة. ولم تقم لأسباب هووية إلاّ عرضا. ولذلك كان لليساريين والنقابيين فيها دور كبير. لكنّ ما وقع بعد الثورة هو تحويل الشعب إلى غنيمة انتخابية بلا أيّ غطاء مدني أو أخلاقي حقيقي. أصبح كلّ الثوار فجأة مجرد أعضاء في الكتائب الانتخابية الهادفة إلى الاستيلاء على نتائج الثورة. لكنّ ذلك قد جرّ الجميع إلى معركة قذرة: وراثة مكان الحاكم الهووي.
لكنّ وراثة مكان الحاكم الهووي لا تتمّ أبدا إلا بشكل هووي. وهذا ما وقع مع انتخابات المجلس التأسيسي: شعب منهك سياسيا وأخلاقيا، يخرج للتوّ من أتون حكم دكتاتوري بلغ إلى عبادة الشخصية كان يعوّل على تجريد الطبقة المتعلمة والمثقفة التي أنتجتها دولة الاستقلال من أظافرها واحدا واحدا، لغة وقيماً وإيماناً وتجربةً وشرعيّةً ومؤسسةً...الخ. حتى لا تزيحه عن السلطة أبدا. وكان له ما أراد: فقد أنتج جيلا متعلّما ولكن بلا أيّ ثقافة، وأنتج مثقّفين ولكن بلا أيّ نوع من الاستقلال الفكري، وبنى دولة ولكن بلا أيّ نوع من حرية المصير، وخاصة صنع شرائح واسعة النطاق من المهمّشين، ولكن المستعدين لاعتناق أيّ نوع من الكرامة. هذا النوع من الشعب كيف يمكنه أن ينتخب ؟ ومن يمكنه أن ينتخب ؟
كان رهان العلمانيين والحداثيين على هذا الشعب الخارج للتوّ من سجن الحاكم الهووي رهانا خاسرا أو على الأقلّ مفرطا في الاستبشار بإمكانيات الديمقراطية، هذه التقنية السياسية التي تتجاوز طبيعتها مجرّد التصويت الحر الذي لا يتعرض للتزوير. كان ثمّة خطأ في تقدير فكرة الحرية التي انجرت عن الثورة: أجل، لقد تحرّرت كل شرائح الشعب، لكنّها لم تتحرّر بنفس المعنى. لقد أعطى كل طرف معنى خاصا لحريته، وحوّلها إلى أداة مشاركة في الانتخابات. وهذا طبيعي. لكنّ الأمر غير الطبيعي هو مطالبة الشعب بانتخاب قائمات لم يجد فيها إلاّ نسخا مكرّرة من القيم المدنية والسياسية التي كان الحاكم الهووي يتشدّق بها. شعر الناس بأنّ شيئا يعيد نفسه، وثمة مهزلة سياسية تُحاك ضدّه.
المعضلة هي: إذا كان الحاكم الهووي قد سرق قيم الحداثة ومعاني الحياة المدنية والعلمانية الحديثة وحوّلها إلى شعارات شخصية أو أمنية أو حزبية، فكيف يمكن للتحديثيين أو للعلمانيين أن يقنعوا الشعب الذي ثار على الحاكم الهووي أن يثق في برامجهم أو أن يعيد الاطمئنان للصلاحية الأخلاقية والسياسية والروحية لتلك القيم والمعاني ؟
لقد فشلت الحداثة في أفق شعوبنا، ليس لأنّها قائمة على تصوّرات خاطئة للحياة الإنسانية، وليس لأنّ شعوبنا غير مؤهلة للديمقراطية أو غير مستسيغة في قرارها الروحي لتجربة العلمانية، بل فقط لأنّ الحاكم الهووي الذي استولى على دولة الاستقلال، قد استعمل قيم الحداثة لتركيع تلك الشعوب والهيمنة عليها باسم التخويف النسقي من بعبع الأصولية أو السلفية. هذه شعوب وقعت خيانتها لمدة طويلة من طرف حكّام هوويين حوّلوا الدولة إلى حزب وحوّلوا الحزب إلى زنزانة سياسية وأخلاقية واسعة النطاق، حيث يُحشر الناس جيلا بعد جيل ويتمّ تجريدهم من أيّ قدرة رمزية على الاعتراف الكبير بقدرتهم على المشاركة في الحياة السياسية لبلادهم أو حتى الاعتراف الصغير بذواتهم أو بهوياتهم الخاصة أو بنماذج العيش التي يرتضونها لأنفسهم. إنّ الدكتاتور قد حوّل الدولة إلى هوية حزبية واحدية ومغلقة ومطلقة، حيث يكون الآخر فيها جحيما، مهما كان اسمه أو لونه أو معتقده.
وحين تخرج الشعوب من الجحيم، فلا يجدر بأحد أن يطالبها بانتخاب نفس القيم التي كانت تُركَّع بها داخل الجحيم. على الحداثيين والعلمانيين أن يفهموا أنّهم، بشكل أو بآخر، وأرادوا ذلك أم لم يريدوا، قد ظهروا في مظهر الجزء الذي لا يتجزّأ من منظومة الحاكم الهووي الذي أسقطته الثورة. وعلى هذا الأساس هم قد عوقبوا بشكل عفوي وواسع النطاق.
نعم، تمت الانتخابات على الهوية، وليس على المصالح والوعود الانتخابية السياسية. ما حدث خال أو يكاد يكون خاليا من العمل السياسي بالمعنى الدقيق. لنقرّ صراحة بأنّ شعوبنا ليست في حالة سياسية صحية تسمح لها بالدخول في مجرّد حسابات انتخابية هادئة بناء على المصالح الليبرالية البحتة. شعوب تعاني من رواسب الدكتاتورية العميقة التي فشلت في تحقيق التنمية والديمقراطية معاً، لا يمكن لأحد أن يطالبها بإجراء انتخابات بناءً على برامج حزبية ضيقة، يكون الحكم عليها تقنيا ولوجيسطيقيا وإداريا بحتا، حسب مصالح حيوية ومدنية صرفة. هذا النوع من الانتخابات، انتخابات المصلحة المدنية البحتة كما في الغرب عامة ، أو حتى انتخابات الترف، كما في البلاد الإسكندنافية، لن يتمّ قريبا في بلداننا. وهذا هو الخطأ الانتخابي الذي أسقط الحداثيين والعلمانيين لدينا.
ولذلك فما يثير التساؤل حقا ليس سقوط الحداثيين، لأنّ نقد الحداثة أو محاكمتها أو العمل على تجاوز قيمها هي مسألة فلسفية وأخلاقية وسياسية عالمية ولا تخصّ الإسلاميين، بل حدوث الانهيار الثاني للتيارات اليسارية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية من قبل. لقد فشل اليسار مرة أخرى في إقناع الناخب لدينا وحمله على الإيمان بقضيته الاجتماعية الصرفة. الخبز ليس شعارا مناسبا لترضية شعوب تطلب أكثر من ذلك، تطلب الاعتراف بذاتها. لقد حدث طلاق مفاجئ بين الخبز والكرامة. أمّا الحرية فيبدو أنّها تاهت في الطريق مع الحداثيين. هذا يعني أنّ المطالب الحيوية للشعوب ليست بالضرورة مطالب اجتماعية تتعلق بالفقر والبطالة. فلو كان هذا صحيحا لكان اليسار قد تصدّر القوائم الانتخابية. لكنّ ما حصل هو شيء آخر.
إنّ الشعوب قد انتخبت على الهوية لأنّها قدّرت بعد إسقاط الدولة الأمنية أنّّ مشاكلها الحقيقية أي الحيوية ليست مجرّد مشاكل مادية أو اقتصادية، بل مشاكل هووية تتعلق بحرية المصير. ولكن أليست الدولة /الأمة الحديثة هي التي اخترعت مفهوم الهوية وكانت أوّل من استعمله بشكل مفرط للسيطرة على الشخص البشري وتحويله إلى أداة طيعة لدولته الأمنية ؟. أجل. لكنّ الإسلاميين لم يأتوا من السماء، بل هم أبناء الدولة الأمة الحديثة وإن كانوا يعترضون عليها باسم أجهزةِ شرعيةٍ تنتمي إلى منظومة دينية أو غير حديثة. ما فعله الإسلاميون هو تنشيط طبقة هووية أسبق في شخصية الشعب، هذا الشعب المؤهّل تماما للاطمئنان النفسي والوجداني لهذا النوع من التنشيط الهووي المضاد للحداثوية أو للعلمانية، وذلك بسبب ما عاناه من ويلات الحاكم الهووي الحداثوي هو أيضا بلا حداثة.
إنّ الإسلاميين قد استولوا على حالة هووية مهزوزة وطوّعوها لصالح انتخابات تراهن على حياة غير حديثة، لكنّهم لم يخترعوا حالة سياسيّة أو مدنية جديدة حقا. فالذين انتخبوهم لم ينتخبوا القيم غير الحديثة، أو أحكام الشريعة أو دعوى الخلافة أو بنية الحكم الرعوي، الخ... بل فقط الحالة الأخلاقية التي يثيرها الصوت الإسلامي في الساحة العمومية ما بعد الثورة، حالة الانتماء الكبير إلى مصادر أنفسنا، المعطل منذ مدة وحالة الكبرياء التاريخية للشعوب التي تضرّرت كثيرا. لقد انتصروا أخلاقيا، وهذا رهان كبير، وليس مجرد وعد انتخابي، كما حصل مع الحداثيين.
ولذلك ينبغي للمنصف أن يهنّئ الإسلاميين على ما أنجزوه في تونس من فتح أخلاقي في الفضاء العمومي والشرعي، ولكن ليس لأسباب تتعلق بالاعتراف بهم كلاعبين سياسيين يمكن الثقة ببرامجهم المدنية أو بقدرتهم الصارمة على بناء ديمقراطية تشاركية قادرة على التوفّر على الشروط العالمية لدول المستقبل. بل فقط لأنّهم فهموا نفسية الشعب الذي دعوه إلى انتخابهم وعالجوا جرحه الهووي ما بعد الدكتاتورية ووفّروا له أجهزة اعتراف ذاتي بنفسه، كان يحتاجها بعد عهود طويلة من المهانة السياسية والفشل التنموي والنفاق الديمقراطي.
طبعا، لا نعني بذلك أنّ انتخابات تونس الجديدة هي قد خلت تماما من أيّ مشاكل أو تعطيلات أو توجيه مسبق لأصوات الناخبين. لكنّ شيئا واحدا هو مؤكد الآن: أنّها ليست انتخابات مزورة. ثمة زور ولكن ليس ثمة تزوير. وعلينا أن نقرّ أنّ هذه أوّل انتخابات لم يتوقف مصيرها على ما في الصناديق، كما هو الحال من قبل، بل على إرادة الناخب نفسه. وإذا كان قد تمّ تزييف فهو بالتأكيد ليس تزييف صناديق الاقتراع أو أوراق الانتخاب، بل تزييف شخصية الناخبين أنفسهم. لن نتحدث عن المال السياسي أو شراء الأصوات أو الاستثمار في الأحياء والشرائع الفقيرة أو استجلاب فئات عمريّة غرّة أو متقدّمة في السن، أو استغلال التهم العقدية أو توظيف المساجد وكل آليات الحياة الدينية،...الخ..فهذه مسائل صحيحة في جانب منها ولكن ينبغي تركها للمؤسسة القضائية إذا كانت خطيرة حقا. لكنّ ما يجدر بنا أن نشير إليه هو الشخص التونسي نفسه: من هو الآن ؟ وكيف وقع العمل على رأيه واختياره لممثّله في المجلس التأسيسي ؟
يبدو أنّ هذا الناخب لم يفكّر في أيّ مصلحة انتخابية بالمعنى التقليدي، بل في هوية الدستور الذي سيبني عليه نمط اعترافه بنفسه في المستقبل. ولكن لأنّ التونسي الحالي، وذلك على خلاف ما نظنّ، ليس تونسيّا واحدا، بل جملة من الأنماط الأخلاقية التي تتنافس، لكنّها تعود مع الأسف إلى طبيعة علاقتها مع منظومة الاستبداد السابقة، ونعني بالتحديد مدى انتفاعها بالتنمية ومدى مشاركتها في الصيغة الأمنية التي كانت سائدة من الدولة اللبرالية الحديثة. هنا نرى أنّ اليسار والحداثيين والعلمانيين لم يفهموا أنّهم ليس فقط جزء من الدولة السابقة بل أنّهم قلّة أخلاقية وبشرية، بالمقارنة مع الحشد الهائل من الفئات التي كانت مهمشة. ومن الطبيعي جدّا أن تخسر القلة الانتخابات التي تنتخب فيها الكثرات المنافسة. لكن مع التذكير بأمرين: من جهة أنّ الذين صوّتوا للإسلاميين ليسوا كثرة "إسلاموية" مناضلة ومنضوية تحت لواء حزب يدعو إلى تطبيق الشريعة بالمعنى الدقيق، بل كثرة سائبة وغاضبة ومجروحة هوويا وربما جائعة، وجدت في انتخاب الإسلاميين فائدة عاجلة أو طريقة ناجعة ومؤلمة لمعاقبة كل فترة الحاكم الهووي، وقد وجدتها ممثّلة في قوائم الحداثيين والعلمانيين بوصفهم بوجه ما من بقايا الحزب الحاكم السابق. ومن جهة، أنّ من شاركوا "بكثافة" من الشعب التونسي في الانتخابات ليسوا هم الشعب التونسي كله، بل فقط المرسّمون في قائمات الانتخاب، رغم محاولة استكمالها لاحقا. وهذا يعني أنّ كلّ العملية الانتخابية تدور ربما حول الجزء المهتم بالشأن العام وليس بكل التونسيين بما هم كذلك....تلك التي كانت تسمى سابقا الأغلبية الصامتة، فهل تكلمت حقا ؟ أم صوّتت دون أن تقول كلمتها ؟ ...الخ.
لا يتعلق الأمر بتبرير الفشل السياسي. فما وقع ليس فشلا سياسيا للحداثيين، بل فقط فشلا انتخابيا لقلة اجتماعية تتمتّع بتعليم حديث (صار تهمة) يؤهلها لحياة حديثة وكانت تنتفع بجزء معين من نتائج التنمية، وتمّت معاقبتها انتخابيا بسبب ذلك. لكنّ هذا هو بيت القصيد: إنّ انتصار الإسلاميين هو انتصار انتخابي وليس نصرا سياسيا حقيقيا. فما قالوه عن برامجهم لا ينطوي فعلا على اجتهاد غير مسبوق أو كوني في شأن الإسلام السياسي. بل هو في شطر كبير منه استعمال جيّد للكثرة المحرومة والمهمشة من أجل معاقبة القلة المنتفعة سابقا. ولذلك فإنّ كتابة الدستور سوف تفضح الجميع: إمّا أنّ الإسلاميين لن يمسّوا بالنموذج المجتمعي والقانوني للشعب التونسي، ومن ثمّ يؤكّدوا الطفرة المدنية في تاريخ تونس السياسي ويعمّقوها في صلب القيم الإسلامية، وإمّا أنّهم سوف يجرّوننا إلى مغامرة خلافوية أو شريعوية أو إسلامويّة لا تُحمد عقباها. ولن يكون الخاسر عندئذ الحداثيين فقط، بل الحياة السياسية نفسها، ونعني بالتحديد القضاء على إمكانية الديمقراطية بما هي كذلك، وربما لوقت طويل. لأنّ الاستيلاء على المجلس التأسيسي شيء، والنجاح في كتابة دستور يمنع الاستبداد هو شيء آخر.
ومن المثير حقا أنّه، لأوّل مرة، تنحصر الوعود ما بعد الانتخابية للفائز في قائمة من التطمينات على مكاسب متحققة سلفا، مثل الحفاظ على حقوق المرأة أو النموذج المجتمعي،...الخ. ولأوّل مرة يقع التركيز على قضايا هووية كانت سابقا من تحصيل الحال. ولأوّل مرة يخاف التونسي الحضري على نموذج العيش الذي اعتاد عليه. ولأوّل مرة يقلق التونسي الحرّ على مصير عقله وحرية تفكيره وآداب جسده. ولأوّل مرة تخشى المرأة على حقوقها ومكاسبها سواء على صعيد الأسرة أو على صعيد الحياة العامة أو الشغل أو القضاء، الخ...
بيد أنّه حين تنحصر تصريحات الفائز في الطمأنة والتهدئة والتخفيف والتسكين ودواعي الالتزام الأخلاقي، الخ...فهذا يعني أنّ المنتصر نفسه يشعر أنّ انتصابه في الفضاء العمومي والسياسي الرسمي للشعب التونسي هو نفسه مثير للغرابة أو للقلق أو للحرج أو للدهشة أو للخوف،...إنّه انتصار "شرعي"، لكنّه "ليس مشروعا" بمعنى ما أو لم يصبح مشروعا بعد. إنّ فئات لم تشارك من قبل في صنع القرار أو في الانتفاع بالتنمية أو في نموذج العيش قد وجدت نفسها الآن، بسبب كثرتها فحسب، تمتلك زمام المبادرة بوسائل شرعية لاقتراح تصوّرها لمصير الحرية في بلادنا. صحيح أنّها تتوفّر على المرجعية الإسلامية. لكنّ هذا هو بيت الداء: فلا يعرف التونسي من تجارب صعود الإسلاميين إلى الحكم في بلدان العالم عامة إلاّ ما يخيفه. وهو لا يعرف إلاّ القليل عمّا يطمئنه. والسؤال هو: إلى أيّ حدّ يمكن للإسلاميين في تونس أن ينجحوا، ليس في تطبيق الشريعة، لأنّ هذا سيدمّر انتصارهم، بل في اختراع "إسلامي مدني" حقيقي قادر على الحياة الحرة، وليس على تكميم الأفواه وتقييد الأجساد باسم هذه الفتوى أو تلك ؟ ....
هل يعني ذلك أنّ تونس قد أصبحت منذ الآن مرشّحة لخوض معارك تنوير جذري في الساحات العامة بين الإسلاميين والعلمانيين ؟ حول قطع اليد أو رجم الزانية ؟ مثلا. لا يجدر بأيّ منصف أن يواصل طرح المسائل بهذه الطريقة الباعثة على إفزاع الناس ونشر ثقافة اليأس السياسي وبثّ أسباب الفتنة في المجتمع المدني. طبعا، معارك التنوير لن تتوقف. لكنّ تحديات الديمقراطية صارت تدعونا إلى نقاش من نوع آخر. ينبغي الكفّ عن أيّ معارك إيديولوجية مع الإسلاميين كأنّهم عدوّ أجنبي أو آخر لاهوتي أو مرض سياسي لا دواء له. فالمعارك الإيديولوجية، حتى ولو كانت معارك تنويرية، هي معارك عقدية صرفة. إنّ الإلحاد موقف ديني في الصميم. وليس علامة على تحرّر أو تنوّر عقلي أو أخلاقي حقيقي. فمن يعتقد أنّ معنى حياته لا يستقيم أو أنّ مشاركته للحياة العمومية لن تتمّ إلاّ بعد الكفر بالإله التوحيدي هو مخطئ. ولا فرق بينه وبين السلفي العدمي الذي لا يرى من حلّ لمشاكلنا السياسية إلاّ إلغاء الحياة السياسية نفسها وفرض خلافة سماوية على الناس.
إنّ أقرب ما يمكن اقتراحه اليوم هو القبول بدروس الديمقراطية، حتى ولو تمّت على الهوية، وذلك لسببين كبيرين: أوّلا، لأنّ الديمقراطية هي الإطار القانوني الوحيد الذي يمكن أن يحفظ لأيّ كان حقوقه الشخصية المدنية ككائن مفرد وحر وإرادي وعاقل، وقادر على حياة أخلاقية ومدنية مشتركة. وهذا أفضل بضاعة قانونية وسياسية للعصر. ومن يجتهد خارج هذا الإطار لا يفعل سوى تدمير إمكانية العيش معا المدني المتاحة اليوم لشعوبنا. وثانيا، أنّ الديمقراطية ليست غريبة تماما عن مجتمعات "الجماعة" التي ننتمي إليها: بل أكاد أقول هي اختراع توحيدي، أي قائم على فكرة أنّنا نؤلف "شعبا" وأنّ العيش معا ينبغي أن يؤدي إلى تكوين "جماعة" أخلاقية واسعة، ومن ثمّ أنّ "العدل" هو مفتاح أيّ نقاش بين أعضاء هذه الجماعة.
ليس المشكل فيما هو "جماعي" بل فيما هو "هووي". فالديمقراطية لا هوية لها. بل يمكنها أن تستعمل أيّ عوامل أخرى من أجل أن تنجح في إقناع الشعوب بجدواها السياسية وقدرتها على بناء جماعة أخلاقية ومدنية يطيب العيش في كنفها.
من أجل ذلك فإنّ رهان "الإسلام المدني" الذي يمكن ويجدر بالإسلاميين أن يشتغلوا على أساسياته القانونية والاجتماعية، قبل فرضه سياسيا من خلال أيّ انتخابات،- فالانتخابات عمل تقني وليس عملا سياسيا حقا،- هو رهان يتعلق بتأمين المشاركة المدنية لجميع القوى الاجتماعية والمدنية الموجودة مهما كان حجمها، فهو أقرب إلى تقوى الديمقراطية، أي إلى السلوك المدني القادر على اختراع المشترك الإنساني وحمايته وتأمينه للآخرين المشاركين لنا في المجتمع مهما كان لونهم أو معتقدهم. بل ربما يكون على الإسلاميين أن يؤمّنوا هذا المطلب وأن يلتزموا به قبل غيرهم من الشرائح السياسية، وذلك لأنّهم هم الوحيدون الذين ما فتئوا يعوّلون على القناعات الدينية والأخلاقية في اختيار البرامج السياسية.
لقد حوّلوا الاعتبارات الدينية إلى اعتبارات هووية. وهذا بحدّ ذاته يفترض في سرّه مراجعة خطيرة جدّا لمعنى الدين أو لدلالة العقيدة. فالدين ليس هوية ولا ينبغي له. إنّه قبول حرّ بوجود مجال للرجاء يتجاوز الحياة الأرضية ويقوم على الإيمان بالتعالي. وهذا لا علاقة له بالهوية كجملة من الثوابت الثقافية التي تشكّل وعي الناس بأنفسهم في حدود نوع معيّن من العالم المعيش.
كما أنّهم دعوا الناخبين إلى حماية المعتقد بواسطة الانتخابات، والحال أنّ الخطر على الدين هو مجرد فزّاعة سلفية تشبه فزّاعة التخويف من الإسلاميين التي كان يستعملها الحاكم الأمني ضدّهم. فالدين في بلادنا يأوي إلى ركن مكين، وليس ما يدعو إلى افتراء بطولة وهمية في الذود عنه ضد "الكفار". لأنّ صناعة التكفير هي آخر ما يحتاج إليه شعب حرّ علّم الشعوب الأخرى كيف تثور ضد أنظمة الاستبداد. لا أحد بإمكانه أن يكفّر حرّا. لأنّ الحرّ بطبعه يقف ما وراء الإيمان والكفر. ومن يقف دون ذلك الصعيد من الحرية الموجبة لأنفسنا، هو لا حق له في أيّ نوع من الحرية. بل هو حيوان عبودي غير مؤهل لأيّ عمل مدني. وأكاد أقول غير مؤهل لأيّ نوع من الدين. فالدين ليس كرامة صوفية لا تُمنح إلاّ لخاصة الخاصة. بل هو عمل أخلاقي محض، بشري مدني وحر ومسئول على تقنية الرجاء التي تخصنا. وبما أنّه لا أحد يحقّ له أن يدخل دينا جديدا على أفق أنفسنا الحالية، فلا خوف إذن من أي استعمال عمومي للدين يخدم نقاشنا حول دروس الديمقراطية. إلاّ أنّه علينا أن نتعلّم منذ الآن كيف نفصل بين الدين وبين الهواجس الهووية. فالدين يجمع الناس إلى أفق الرجاء الكبير المشترك منذ آلاف السنين بين التوحيديين، وهذا جزء عميق من مصادر أنفسنا، ولا أحد يمكنه أن يغيّر مصادر نفسه كما يريد، - في حين أنّ النعرات الهووية لا تفعل غير التفريق بين الناس وتحويل الرجاء إلى أداة ابتزاز روحي للجموع التي قد يمكن حملها على اليأس من وعود الحداثيين في تحقيق الحياة الكريمة، لكن لا أحد بإمكانه أن يحتفظ بثقتها في وعوده الانتخابية لوقت طويل. ربما كان اختيار الهوية على الخبز أو على الحرية مرحلة لابد منها في مسار الديمقراطية. لكنّ الحياة السياسية والمدنية الحرة حقا ليست مجرد هواجس هووية. بل تفترض أن ننجح فعلا في تحقيق كرامة المصير وحرية المصير التاريخي للشعوب، بوصفها كيانات للعيش معا في بيئة أخلاقية تحفظ مستقبل أطفالها على الأرض، وليس مجرّد مزرعة للآخرة. فإنّ الإسلام الذي تحوّل إلى فزّاعة سياسية ليس حكرا على أحد. وليس ملكية خاصة للسلفيين ولا للأحزاب الدينية. إنّه ثروة أخلاقية واسعة النطاق للأجيال، تنتظر دوما من يترجمها في نموذج عيش مدني حر ومشترك بين الناس كافة. وهذا أمر لا نرى أنّ الإسلاميين أو السلفيين أقدر من غيرهم أو أصلح من غيرهم في القيام به... إذ أنّ الحداثة نفسها قد نجمت عن علمنة تاريخية ومدنية طويلة المدى للقيم المسيحية.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مصير الحاكم الهووي
- الإساءة إلى الذات الإلهية
- في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه
- بيوغرافيا البؤس
- بيان الشهداء قصيد
- هوية الثورة (1)
- الثورة والهوية أو الحيوي قبل الهووي
- الثورة والهوية
- قصائد إلى الياسمين المحرَّم
- قصيدة الأرض
- قصيد القيامة أو نشيد الإله الأخير
- شفة تحمرّ من خزف ونار
- سارتر -كان معلّمي-
- الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-
- نثر في حديقة نفسي ، بعد ألف سنة مما تعدون


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - انتخابات على الهوية...أم الدروس غير المنتظرة للديمقراطية ؟