أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه















المزيد.....

في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3500 - 2011 / 9 / 28 - 13:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ترجمة: د. فتحي المسكيني

1
لقد بدأ تمرّد العبيد في الأخلاق بهذا الأمر، ألا وهو أنّ الاضطغان نفسه قد صار خلاّقا وولّد قيماً: الاضطغان الذي يحرّك ذلك النوع من الكائنات التي حُرمت من ردّ الفعل الحقيقيّ، ردّ الفعل الذي يكون فعلا، والتي لا تجد من عزاء إلاّ في ثأر خياليّ. وفي حين أنّ كلّ أخلاق نبيلة إنّما تنبثق من قول-نعم لنفسها بشكل منتصِر، تبدأ أخلاق العبيد بقول لا لـ"خارج ما"، لـ"آخر ما"، لـضرب من "عدم-النفس" : وهذه الـ"لا" هي فعلها الخلاّق. هذا الانقلاب في النظرة الواضعة للقيم – هذا التوجّه الضروري نحو الخارج بدلا من التلفّت نحو الذات- إنّما يدخل تحديدا في صلب الضغينة: إذ كي تنشأ إنّما تحتاج أخلاق العبيد دائمًا وأوّلاً إلى عالم مضادّ وعالم خارجي، و متى تكلّمنا بشكل فسيولوجيّ، هي تحتاج عموما إلى مثيرات خارجية لكي تفعل – إنّ فعلها هو بالأساس ردّة فعل. وإنّ العكس هو ما يحدث عندما يتعلق الأمر بطريقة النبلاء في التقويم: هي تفعل وتنمو عفواً، وهي لا تبحث عن ضديدها إلاّ من أجل أن تقول لنفسها نَعَمْ أكثر عرفانا وأكثر ابتهاجا، - وليس مفهومها السالب من جنس "الوضيع" و"العامّي"و"اللئيم"،إلاّ وهو صدى باهت ومتأخّر النشأة بالنظر إلى مفهومها الأساس، الموجب، المتشرّب في أعماقه حياةً وشغفاً، "نحن النبلاء، نحن الأخيار، نحن أصحاب الجمال، نحن السعداء !" فإذا ما نَبَا نمطُ التقويم النبيل عن نفسه وتعدّى الواقع، فإنّ ذلك يحدث بإزاء دائرة ليست بمعروفة لديه كفايةً، بلى ضدّ دائرة هو يمنع نفسه منعاً وينفر نفورًا من معرفتها حقّ المعرفة: وفي بعض حالاته هو يجهل الدائرة التي يحتقرها، دائرة الرجل العامّي والشعب الوضيع؛ وعلى المرء، من جهة أخرى، أن يأخذ في الاعتبار أنّ شعور الاحتقار والنظرِ من علُ ونظرةِ الاستكبار، متى فرضنا أنّه يزيّف صورة المحتقَر، سيظلّ أدنى بكثير من الزيف الذي يسلّطه الكرهُ المكظوم، ثأرُ العاجزين، على خصمه – طبعاً in effigie .وفي الواقع، فإنّ في الاحتقار يتواشج كثيرٌ من الإهمال وكثيرٌ من الاستخفاف، كثيرٌ من عدم الاكتراث ونفاد الصبر، بل كثيرٌ من الشعور الخاص بالغبطة، حتى يكون في موقف عنده هو يحوّل موضوعَه إلى صورة مشوّهة وفزّاعة. وعلى ذلك ليس للمرء أن يغفل عن ال nuances، المتلطّفة تقريبا، التي تبثّها أرستقراطية يونان، مثلاً، في كلّ الألفاظ التي بها تنماز عن الشعب الوضيع؛ كيف يتسرّب إليها دوماً ضربٌ من الإشفاق والمراعاة والمسامحة فإذا هي أشبه بالسكّر، حتى ينتهي الأمر إلى أنّ كلّ الألفاظ التي يُشار بها إلى الرجل العامّي، هي قد بقيت في آخر المطاف بوصفها عبارات فوق الحاجة للإشارة إلى "شقيّ" أو "أهل للشفقة" (قارن مثلا deilos ، deilaios ، ponèros ، mochtèros ، وهذان الأخيران على الخصوص يصفان الرجل العامّي من حيث هو عبدٌ للعمل وبهيمةُ أثقال) – وكيف أنّ "اللئيم" و "الوضيع" و"الشقيّ" هي، من جهة أخرى، ألفاظٌ لم تكفّ في أذن يونان عن التصادي في رنّة واحدة، بجَرْسٍ حيث اللون الغالب هو "الشقيّ" : ذلكم بعض ميراث من نمط التقويم الأرستقراطي القديم الأكرم محتِداً، الذي لا يتنكّر لنفسه حتى عند الشفقة – وليذّكّر فقهاء اللغة في أيّ معنى كانت مستعملة كلمات من قبيل oizyros ، anolbos ، tlèmôn ، dystychein ، xymphora ). إنّ "كرماء النسب" إنّما يشعرون فقط بأنّهم "السعداء"؛ وليس عليهم أن يصنعوا سعادتهم تكلّفاً وهم يختلسون النظر إلى أعدائهم، وليس عليهم، كما في بعض الأحيان، أن يقنعوا أنفسهم بذلك أو يكذبوا كِذّاباً ( كما تعوّد أن يفعل كلّ أصحاب الضغينة)؛ كذلك هم لم يكونوا يعرفون، بوصفهم أناساً كَمُلُوا وبالقوّة طفحوا وكانوا بالضرورة فاعلين، كيف يفصلوا السعادة عن الفعل، - أن يكون المرء فاعلا إنّما كان يُحتسَبُ عندهم في أمر السعادة ضرورةً (ومن هنا أخذت عبارة eu prattein مصدرها)- وهل كلّ ذلك إلاّ بعين الضدّ من "السعادة"التي على طبقة العاجزين والمقموعين والمتقرّحين الرازحين تحت المشاعر المسمومة والمضمرة العداء، الذين لا تأتي السعادة إليهم إلاّ خَدَراً وذهولاً وسكونًا وسَلْماً و"سَبْتاً" و استجمامًا للروح ومدًّا للأعضاء، وباختصار هي لا تأتيهم إلاّ انفعالاً. وبينما يعيش الإنسان النبيل ملء الثقة بنفسه مستقيماً ("كريم النسب" لفظة توكّد على ال nuance التي في "مستقيم" وربما في "ساذج")،فإنّ صاحب الضغينة لا هو مستقيم ولا هو ساذج، ولا هو صادق مع نفسه أصلا. إنّ نفسه حولاء ؛ وإنّ روحه لَتُحبّ الأوكار والطرق الملتوية والأبواب الخلفية، وكلُّ ما هو خبيئٌ يعجبه باعتباره عالمــه و أمانــه ومشفاه ؛ إنّه يحسن الصمت وعدم النسيان والانتظار، وكيف يصغّر نفسه لبعض الوقت وكيف يستكين. إنّ هكذا عرقاً بشريّا جعل من الضغينة خاصّته سوف يكون بالضرورة أكثر تعقّلا في نهاية الأمر من أيّ عرق نبيل، بل هو سوف يمجّد التعقّل بمقياس آخر تماما: أعني باعتباره شرطا للوجود من الدرجة الأولى، والحال أنّ التعقّل لدى الإنسان النبيل إنما يحمل في نفسه شيئا من الحسّ المرهف بالترف والتهذيب: - فهو في جوهره أقلّ ما يكون أهمّية عن الاشتغال المأمون للغرائز المعدّلة اللاّواعية أو حتى عن عدم التعقّل، من قبيل الاستبسال والجراءة ، أكان ذلك على الخطر أم كان على العدوّ، أو تلك الوثبة الحميّة من غضب أو حبّ أو عرفان أو ثأر، تلك التي بها تميّزت النفوس النبيلة في كلّ زمان. إنّ ضغينة الإنسان النبيل ذاته، متى طرأت عليه، إنّما شأنها أن تحدث وتنطفئ في محض انفعال وعلى عجل، فهي بذلك لا تسمّم [أحدا]: بل هي في ذات المرار لا تطرأ أصلا، حيث ما هي عند الضعفاء والعُجّز شيءٌ لا يمكن دفعُه. ألاّ يستطيع أحدٌ أن يأخذ أعداءَه وهزائمَه وحتّى مساوئه مأخذ الجدّ لمدّة طويلة – تلكمُ أمارةٌ على الطبائع العارمة والتامّة، تلك التي تفيض منها قوّة تشكيليّة، متجدّدة، شافية،وحتى باعثة على النسيان (وإنّ أفضل مثال على ذلك من العالم الحديث إنّما هو ميرابو، الذي لم تكن له ذاكرةٌ للشتائم والإهانات التي يقترفها الناس في حقّه، والذي لهذا السبب عينه لا يمكنه أن يصفح، من أجل أنّه – قد نسي). إنّ إنساناً هذه شاكلته إنّما شأنه أن ينفض عنه بدَفعة واحدة كثيرا من الهوامّ التي لدى غيره من الناس تنتقش انتقاشا؛وإنّما هنا فحسب يكون ممكنا، متى فرضنا على العموم أن يكون ممكنا على الأرض، "أن يحبّ المرء أعداءَه" حبّا صميماً. أيّ قدر من المهابة يكنّ الإنسان النبيل لأعدائه !– وهل هكذا مهابة إلاّ جسرٌ للمحبّة... فإنّما هو يطلب عدوّه لنفسه، كما تميّزٍ يخصّه، إذ هو لا يحتمل أيَّ عدوّ آخر غير ذاك الذي لاشيء فيه يُعابُ أمّا ما يُجلّ فكثيرُ ! والآن لنتمثّل "العدوّ" كما تصوّره إنسانُ الضغينة –فإنّما هاهنا مفخرته واختراعه الخاص: لقد ابتكر مفهوم "العدوّ الشرّير"، "الشرّير"، وعلى الحقيقة بوصفه المفهوم الأساسي، الذي منه انتحل أيضا، نسخةً منه ونقيضاً له، "خيّراً" ما- هو نفسه ! ...
2
تماماً بعين الضدّ ممّا هو الشأن لدى النبيل، الذي يتصوّر "الكريم" قبلاً وعفواً، بمعنى من ذات نفسه، ثمّ من بعدُ فحسب هو يخلق لنفسه تمثّلا ما عن "اللئيم" ! هذا "اللئيم" ذو الأصل الأرستقراطي وهذا "الشرّير" المخلوط في مرجل الكراهية التي ليس لظمأها مَسدّ – الأوّل ابتكارٌ يُلحق إلحاقاً، أمرٌ جانبيّ، لونٌ مكمّل، أمّا الثاني فهو الأصلُ، البدءُ، الفعلُ الصميمُ في تصوّر أخلاق العبيد – كم هما متباينان هذان اللفظان: "اللئيم" و"الشرّير"، اللّذان يقابلان في الظاهر عين المفهوم: [الرجل] "الخَيْر" ! لكنّ الأمر لا يتعلّق بمفهوم "الخَيْر" نفسه: فالأرجح أن يسأل المرء على الضدّ من ذلك، من هو "الشرّير" على الحقيقة، في معنى أخلاق الاضطغان.وبكلّ صرامة علينا أن نجيب: هو بالتحديد [الرجل] "الخَيْرُ" في الأخلاق الأخرى، بالتحديد هو النبيل، القادر، السائد، إنّما مفسوخ اللون فحسب، محرَّفاً عن معانيه فحسب، متفرَّساً فيه فحسب، عبر العين السامّة للاضطغان. ثمّة هنا شيء واحد نريد أن نكون آخر من ينكره: من لم يتعلّم أن يعرف هؤلاء "الأخيار" إلاّ أعداءً، هو لم يتعلّم أن يعرف إلاّ أعداءً أشراراً، وهؤلاء القوم أنفسهم، الذين لَشَدَّ ما هُمْ، inter pares ، مقيّدون بالعادات والبرّ و العرف والعرفان، وأكثر من ذلك بالاحتراس من بعضهم، بالغيرة والحميّة، والذين هم، من جهة أخرى، يثبتون كمْ هُمُ، في سلوكهم إزاء بعضهم البعض، حذّاقٌ في المراعاة والسيطرة على النفس والشعور باللطف والوفاء والفخر والصداقة،- هؤلاء همْ، فيما خرج عن ذلك، هاهنا حيث يبدأ الغريب، حيث يبدأ الـغرباء، ليسوا أفضل بكثير من الوحوش الضارية فُكّت قيودها.هاهنا هم يمتّعون بالحريّة من كلّ إكراه اجتماعي، هم يتعزّون بالغابة المقفرة عن التوتّر الذي يسبّبه سَجنٌ وحبسٌ طويل في سلام الجماعة، هم يرتدّون عودا على بدء إلى البراءة التي في ضمير-الوحش ،مثل جبابرة يمرحون، كأنّما انصرفوا على الأرجح من كوكبة مقيتة من القتل والحرق وانتهاك الحرمات والتعذيب، مع ضرب من الغرور الماجن واتّزان النفس، كما لو كان ذلك لا يعدوا أن يكون شيئا من عبث الطلبة، وهم على قناعة من أنّ الشعراء قد بات لديهم مرة أخرى، ولأمد طويل، شيءٌ ما يتغنّون به ويمجّدون. وفي عمق جميع هذه الأعراق النبيلة، ليس لأحد أن ينكر الوحش الكاسر، الدابّة الشقراء، الرائعة، الشرود، المتعطّشة للغنيمة والانتصار؛ وبين الفينة والأخرى يحتاج هذا العمق الدفين إلى شيء من الانفجار، فلابدّ للحيوان أن يطلّ برأسه مرة أخرى، لابدّ أن يعود إلى القفار الموحشة من جديد: - أكان النبلاء روماً أم عرباً، جرماناً أم يابانيين، أكانوا أبطالا هوميريين أم فايكنغ إسكاندينافيين- في هكذا حاجة هُمُ كانوا سواء. الأعراق النبيلة، هي تلك التي تركت مفهومَ "البربريّ" على جميع آثارها، أينما ذهبت؛ بل في أوج تحضّرها إنّما يفضحها وعيٌ بذلك وحتى كبرياءُ ( كمثل قول بريكلاس إلى الأثينيين، في ذلك التأبين الشهير: " إلى كلّ بلد وبحر شقّت لنا جرأتُنا طريقاً، وبكلّ أرض كان لنا في المعروف وفي المنكر معالـمَ لا تبلى"). "جرأةُ" الأعراق النبيلة، وهي لعمري جرأة مجنونة، عابثة، خاطفة، كما تعبّر عن نفسها، وما لا يُتوقَّع وما لا يُصدَّق في ما تأتي من أفعال جسام – وبريكلس قد خصّ بالذكر rhathymia / "راثيميا" الأثينيين- عدم اكتراثهم واستخفافهم بالأمن والجسد والحياة والترف، الصفاء المفزع وعمق اللذّة في كلّ دمار، في كلّ استمتاع بالنصر وبالقساوة- كلّ ذلك يُردّ عند الذين يألمون إلى صورة "البربريّ"، و"العدوّ الشرّير"، كحال "الغوط" و"الوندال". إنّ الذعر العميق والجليديّ الذي يثيره الألمانيّ ما إنْ يأتي إلى السلطة، كما هو الحال اليومَ مرة أخرى- إنّما هو دوماً رجعٌ لتلك الرهبة التي شهدتها أوروبا قروناً عدداً من هَوَج الدابة الجرمانية الشقراء ( وإنْ لا يكاد يوجد بين الجرمان القدامى ونحن الألمان قرابة في المفهوم، فما بالك في قرابة الدم). وقد نبّهت في موضع آخر على تردّد هزيود، حين ابتدع تعاقب عصور الحضارة وحاول أن يعبّر عنها بالذهب والفضة والحديد: هو لم يعرف كيف يأتي على التناقض الذي يرنو من عالم هوميروس، عالمٍ رائع ولكن جدُّ مروّع وجدُّ جائر، إلاّ بأن جعل من عصر واحد عصريْن، ثمّ عقّب أحدَهما بالآخر تَتْرَى – فمرّةً عصر الأبطال وأنصاف الآلهة من طروادة وطيبة، كما ذلك العالم الذي ترسّب في ذاكرة الأعراق النبيلة، التي كانت ترى فيهم أسلافها الأقدمين؛ ثمّ عصر المعادن، أي هذا العالم نفسه، كما كان يظهر لسلالة الذين استُضعفوا ونُهبوا ونُكّل بهم واستُجلبوا وبيعوا بيعاً ؛ وكما عصرٌ من حديد، مثلما قيل، صلدٌ، صَقِعٌ، قَسِيٌّ، لا رأفة له ولا ضمير، ساحقٌ كلَّ شيء سحقاً ومُخضِّبٌ بالدم كلّ شيء تخضيباً. لنفرض أنّ ذلك كان حقّا، وعلى كلّ هو شيء يُعتقَد اليوم أنّه "حقّ"، أنّ معنى كلّ ثقافة هو أن تستنبت من الحيوان "البشريّ" المتوحش حيوانا أليفاً متمدّناً، حيوانا داجناً، وبلا ريب قد يجب علينا أن نأخذ كلّ غرائز الارتكاس والاضطغان، تلك التي استُعملت في إلحاق العار بالأعراق النبيلة ومُثُلِها العليا ودحرها، باعتبارها أدوات الثقافة الحقيقيّة، على أنّ ذلك لا يعني بعدُ أنّ حاملي [تلك الغرائز] هم أنفسهم يمثّلون الثقافة. وعلى الأرجح فإنّ العكس ليس فقط أقرب إلى الظنّ- كلاّ ! إنّه اليوم واضح للعيان ! أولاء حمّالو الغرائز التي تنقض الظهر وتحدوها شهوة الثأر، سلالة كلّ عبوديّة، أوروبية كانت أم غير أوروبيّة، كلّ الشعوب قبل الآريّة على الخصوص- إنّما يمثّلون تخلّف الإنسانية ! إنّ "أدوات الثقافة" هذه إنّما هي وصمةُ عارٍ للإنسان، وبالحريّ هي تهمةٌ، حجّةٌ ضدّ "الثقافة" بعامة ! قد يكون المرء على حقّ في ألاّ يكفّ عن الخوف من الدابّة الشقراء التي في أعماق كلّ الأعراق النبيلة و أن يأخذ حذره: ولكن من لا يودّ أن يخاف مائة مرّة، إذا قُدّر له أن يستحسن ذلك، بدلاً من ألاّ يخاف ولكن لم يعد يستطيع أن يفلت من المنظر القَزَز لكلّ من أخفق في مسعاه واستُصغرت نفسه وذبل في منبته وخُدّر تخديرا ؟ أوليس هذا عاقبتُـنـا ؟ ما سبب اشتمزازنـا اليومَ من "الإنسان" ؟ - إذْ أنّنا نعاني من الإنسان، ليس في ذلك شكّ. – ليس ذلك بالخوف؛ بل على الأرجح، أنّه لم يعد لدينا شيءٌ يجعلنا نخاف من الإنسان؛ أنّ الدودة "إنسان" قد أخذ الصدارة وغصّت به الأرض؛ أنّ "الإنسان الأليف"، العاديّ، المُضجر، الميئوس منه، قد تعلّم بعدُ كيف يفاخر بنفسه وكأنّه هدفٌ وقمّة، وكأنّه معنى التاريخ، وكأنّه "الإنسان الأعلى"؛- أنّه يملك بعض الحقّ في أن يفاخر بنفسه على هذا النحو، وذلك بقدر ما يشعر أنّه على مسافة من زحمة الفاشلين والمرضى والذين سئموا وخمدت روحهم، أولاء الذين بدأت أوروبا تشمّ اليومَ نَتَنَهم، ومن ثمّ بأنّه على الأقلّ لائق بعض الشيء، على الأقلّ مازال قادرا على الحياة، على الأقلّ من الذين قالوا للحياة نعم...
3
- لن أكبت في هذا الموضع زفرةً وأملاً أخيرا. ولكن ما الشيء الذي هو عندي أنا بخاصة لا يُحتمَل تماما ؟ ما يكون ذاك الذي لا قِبَل لي به أبداً، ما الذي يشدّ على حلقي و يجعلني صَدِيًا ؟ الهواء العفن ! الهواء الوَخِم ! أنّ شيئا شَوَهاً قد أتى إلى جواري؛ أنّ عليّ أن أشتمّ أحشاء نفس شَوْهاء ! ... إذْ ما الذي لا يحتمله المرء فيما عدا ذلك من شدّة وعَوَز وجوّ عبوس وسقم وعناء وعزلة ؟ في الحقيقة، للمرء طاقةٌ على كلّ ذلك، متى كان قد وُلد من أجل وجود بعيد الغور ومحارب؛ فشأن المرء أن يعود دوماً من جديد إلى وضَح النور، شأن المرء أن يعيش دوما من جديد ساعته الذهبيّة وأن ينتصر،- ومن ثمّ أن ينتصب هناك، كما وُلد، غَير قابل للانكسار، متوتّرا، متأهّباً للجديد، للأمر الأعسر والأبعد، كما قوسٌ لا تزيدها الشدّة إلاّ انتصاباً.- ولكن جودوا عليّ بين الفينة والأخرى – متى فرضنا أنّ هاهنا رّبات تحمينا، ما وراء الخير والشرّ- بنظرةٍ، جودوا عليّ بنظرةٍ واحدة فقط على شيء مكتمل، لائق تماماً، سعيدٍ، مقتدر، منتصر، حيث لازال شيءٌ ما ينبغي خشيتُه ! على إنسانٍ، يبرّر الإنسانَ، على حُسْن طالع للإنسان، متمِّم له ومخلِّص، بفضله يمكننا أن نحافظ على الإيمان بالإنسان ! ... كذا هو الأمر: إنّ تصغير الإنسان الأوروبي وتسويته على سمت واحد لينطوي على أكبر الأخطار، ذلك بأنّ هذا المنظر مَتْعَبةٌ للخواطر... نحن لا نرى اليومَ شيئاً يريد أن يصير أعظمَ من نفسه، ونحن نتوجّس الأمر يسير حَدَراً، ولا يزال حَدَراً، نحو شيء أرقّ وأطيب وأرزن وأكثر ترفاً وأكثر عاميّةً وأقلّ اكتراثا، شيء صينيّ أكثر ومسيحيّ أكثر فأكثر – الإنسانُ، ليس في ذلك شكُّ، إنّما شأنه أن يصبح دائما "أفضل"... هاهنا يكمن قدر أوروبا المحتوم- مع الخوف من الإنسان، نحن فقدنا أيضا محبّة الإنسان، وتهيّبَ حرمته، والرجاءَ فيه، بل وإرادتَنا له. ألا إنّ بنا سأماً من منظر الإنسان - وما هي العدميّة اليوم، إن لم تكن هذا ؟... لقد سئمنا من الإنسان...



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيوغرافيا البؤس
- بيان الشهداء قصيد
- هوية الثورة (1)
- الثورة والهوية أو الحيوي قبل الهووي
- الثورة والهوية
- قصائد إلى الياسمين المحرَّم
- قصيدة الأرض
- قصيد القيامة أو نشيد الإله الأخير
- شفة تحمرّ من خزف ونار
- سارتر -كان معلّمي-
- الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-
- نثر في حديقة نفسي ، بعد ألف سنة مما تعدون


المزيد.....




- بيومي فؤاد يبكي بسبب محمد سلام: -ده اللي كنت مستنيه منك-
- جنرال أمريكي يرد على مخاوف نواب بالكونغرس بشأن حماية الجنود ...
- مسجد باريس يتدخل بعد تداعيات حادثة المدير الذي تشاجر مع طالب ...
- دورتموند يسعي لإنهاء سلسلة نتائج سلبية أمام بايرن ميونيخ
- الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو يطلب إذن المحكمة لتلبية دع ...
- الأردن يرحب بقرار العدل الدولية إصدار تدابير احترازية مؤقتة ...
- جهاز أمن الدولة اللبناني ينفذ عملية مشتركة داخل الأراضي السو ...
- بعد 7 أشهر.. أحد قادة كتيبة جنين كان أعلن الجيش الإسرائيلي ق ...
- إعلام أوكراني: دوي عدة انفجارات في مقاطعة كييف
- الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض هدف جوي فوق الأراضي اللبنانية


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه